نهج البلاغة - ج ٢

محمد عبده

نهج البلاغة - ج ٢

المؤلف:

محمد عبده


المحقق: محمّد محيى الدين عبد الحميد
الموضوع : الحديث وعلومه
المطبعة: مطبعة الإستقامة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٧١

١

١١٨ ـ ومن كلام له عليه السّلام

قاله للخوارج ، وقد خرج إلى معسكرهم وهم مقيمون على إنكار الحكومة فقال عليه السّلام : أكلّكم شهد معنا صفّين؟ فقالوا : منا من شهد ومنا من لم يشهد ، قال : فامتازوا فرقتين ، فليكن من شهد صفّين فرقة ، ومن لم يشهدها فرقة ، حتّى أكلّم كلاّ بكلامه ، ونادى النّاس فقال : أمسكوا عن الكلام ، وأنصتوا لقولى ، وأقبلوا بأفئدتكم إلىّ ، فمن نشدناه شهادة فليقل بعلمه فيها ثم كلمهم عليه السّلام بكلام طويل منه :

ألم تقولوا عند رفعهم المصاحف ـ حيلة ، وغيلة ، ومكرا ، وخديعة ـ إخواننا ، وأهل دعوتنا : استقالونا ، واستراحوا إلى كتاب اللّه سبحانه ، فالرّأى القبول منهم ، والتّنفيس عنهم؟ فقلت لكم : هذا أمر ظاهره إيمان وباطنه عدوان ، وأوّله رحمة ، وآخره ندامة ، فأقيموا على شأنكم ، والزموا طريقتكم ، وعضّوا على الجهاد بنواجذكم ، ولا تلتفتوا إلى ناعق نعق إن أجيب أضلّ ، وإن ترك ذلّ. وقد كانت هذه الفعلة ، وقد رأيتكم أعطيتموها (١) واللّه لئن أبيتها ما وجبت علىّ فريضتها ، ولا حمّلنى اللّه ذنبها ، وو اللّه إن جئتها

__________________

(١) أنتم الذين أعطيتم لها صورتها هذه التى صارت عليها برأيكم

٢

إنّى للمحقّ الّذى يتّبع ، وإنّ الكتاب لمعى : ما فارقته مذ صحبته : فلقد كنّا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ، وإنّ القتل ليدور على الآباء والأبناء والإخوان والقرابات فلا نزداد على كلّ مصيبة وشدّة إلاّ إيمانا ، ومضيّا على الحقّ ، وتسليما للأمر ، وصبرا على مضض الجراح ، ولكنّا إنّما أصبحنا نقاتل إخواننا فى الإسلام على ما دخل فيه من الزّيغ والاعوجاج والشّبهة والتّأويل ، فإذا طمعنا فى خصلة (١) يلمّ اللّه بها شعثنا ، ونتدانى بها إلى البقيّة فيما بيننا ، رغبنا فيها ، وأمسكنا عمّا سواها

١١٩ ـ ومن كلام له عليه السّلام

قاله لأصحابه فى ساعة الحرب

وأىّ امرىء منكم أحسّ من نفسه رباطة جأش عند اللّقاء (٢) ورأى من أحد من إخوانه فشلا ، فليذبّ عن أخيه (٣) بفضل نجدته الّتى فضّل بها عليه ، كما يذبّ عن نفسه. فلو شاء اللّه لجعله مثله. إنّ الموت طالب حثيث :

__________________

(١) المراد من الخصلة ـ بالفتح ـ هنا : الوسيلة ، ولم شعثه : جمع أمره ، ونتدانى : نتقارب إلى ما بقى بيننا من علائق الارتباط

(٢) أحس : علم ، ووجد ، ورباطة الجأش ـ ككتابة ـ قوة القلب عند لقاء الأعداء ، قال ابن أبى الحديد : والماضى «ربط» كأنه يربط نفسه عن الفرار ، والمروى «رباطة» بالكسر ، ولا أعرفه نقلا ، ولكن القياس لا يأباه ، مثل : عمر عمارة ، وخلب خلابة

(٣) الفشل : الضعف ، وقوله «فليذب» أى : فليدفع ، النجدة ـ بالفتح ـ الشجاعة

٣

لا يفوته المقيم ولا يعجزه الهارب. إنّ أكرم الموت القتل (١) والّذى نفس ابن أبى طالب بيده لألف ضربة بالسّيف أهون علىّ من ميتة على الفراش [فى غير طاعة اللّه] منها : وكأنّى أنظر إليكم تكشّون كشيش الضّباب (٢) لا تأخذون حقّا ، ولا تمنعون ضيما! قد خلّيتم والطّريق (٣). فالنّجاة للمقتحم والهلكة للمتلوّم

١٢٠ ـ ومن كلام له عليه السّلام

فى حث أصحابه على القتال

فقدّموا الدّراع (٤) ، وأخّروا الحاسر ، وعضّوا على الأضراس ، فإنّه

__________________

(١) الحثيث : السريع. قال الشارح : وفى بعض الروايات «فليذب» بالادغام ، وفى بعضها «فليذبب» بفكه. والميتة ـ بالكسر ـ هيئة الميت كالجلسة والركبة لهيئة الجالس والراكب ، ويقال : مات فلان ميتة حسنة ، والمروى فى أكثر الروايات بالكسر ، وقد روى «من موتة» بالفتح وهو المرة الواحدة ، وهو الأليق ، ليقع فى مقابلة «ألف ضربة» فى سبيل الحماية عن الحق ورد كيد الباطل عنه

(٢) كشيش الضباب : صوت احتكاك جلودها عند ازدحامها ، والمراد حكاية حالهم عند الهزيمة ، وقال الشارح : الكشيش. صوت يشوبه خور مثل الخشخشة ، وكشيش الأفعى صوتها من جلدها لا من فمها ، قال الراجز : كشيش أفعى أجمعت لعض وهى تحك بعضها ببعض

(٣) قد خلى بينكم وبين طريق الآخرة ، فمن اقتحم أخطار القتال ورمى بنفسه إليها فقد نجا ، ومن تلوم ـ أى : توقف وتباطأ ـ فقد هلك

(٤) الدارع : لابس الدرع ، والحاسر : من لا درع له. ولا مغفر ، وقد أمرهم

٤

أنبى للسّيوف عن الهام (١) والتووا فى أطراف الرّماح (٢) فإنّه أمور للأسنّة ، وغضّوا الأبصار فإنّه أربط للجأش ، وأسكن للقلوب ، وأميتوا الأصوات فإنّه أطرد للفشل ، ورايتكم فلا تميلوها ، ولا تخلّوها ، ولا تجعلوها إلاّ بأيدى شجعانكم والمانعين الذّمار منكم (٣) فإنّ الصّابرين على نزول الحقائق (٤) ، هم الّذين يحفّون براياتهم ، ويكتنفونها : حفافيها ، ووراءها ، وأمامها ، لا يتأخّرون عنها فيسلموها ، ولا يتقدّمون عليها فيفردوها.

أجزأ امرؤ قرنه (٥) وآسى أخاه بنفسه ، ولم يكل قرنه إلى أخيه فيجتمع عليه قرنه وقرن أخيه. وايم اللّه لئن فررتم من سيف العاجلة لا تسلموا من

__________________

بذلك لأن سورة الحرب تصادف الأول المتقدم

(١) «أنبى» من «نبا السيف» إذا وقفته الصلابة من موقعه فلم يقطع

(٢) إذا وصلت إليكم أطراف الرماح فانعطفوا وأميلوا جانبكم فتزلق ولا تنفذ فيكم أسنتها. «وأمور». أى : أشد فعلا للمور ، وهو الاضطراب الموجب للانزلاق وعدم النفوذ ، وإنما أمرهم بغض الأبصار فى الحرب لأن الغاض بصره فى الحرب أحرى ألا يدهش ولا يرتاع لهول ما ينظر. وإنما أمرهم باماتة الأصوات وإخفائها لأنه أطرد للفشل وأذهب للجبن والخوف ، كما قال ، وذلك لأن الجبان يرعد ويبرق والشجاع صامت لا يتكلم وإنما يفعل

(٣) الذمار ـ بالكسر ما يلزم الرجل حفظه وحمايته : من ماله ، وعرضه. أمرهم ألا يجعلوا رايتهم بيد الجبناء وذوى الهلع منهم لأن هؤلاء يخيمون ويجبنون فاذا فعلوا ذلك انهزم الجمع

(٤) جمع حاقة ، وهى النازلة الثابتة ، و «يحفون بالرايات» أى : يستديرون حولها ، ويكتنفونها : يحيطون بها. وحفافيها : جانبيها

(٥) «أجزأ» وما بعده : أفعال ماضية فى معنى الأمر ، أى : فليكف كل منكم قرنه ـ أى : كفؤه وخصمه ـ فيقتله ، وليواس أخاه ، آساه.

٥

سيف الآخرة ، وأنتم لهاميم العرب (١) والسّنام الأعظم. إنّ فى الفرار موجدة اللّه (٢) والذّلّ اللاّزم ، والعار الباقى ، وإنّ الفارّ لغير مزيد فى عمره ، ولا محجوز بينه وبين يومه. الرّائح إلى اللّه كالظّمآن يرد الماء ، الجنّة تحت أطراف العوالى (٣) ، اليوم تبلى الأخيار (٤) ، واللّه لأنا أشوق إلى لقائهم منهم إلى ديارهم. اللّهمّ فإن ردّوا الحقّ فافضض جماعتهم ، وشتّت كلمتهم ، وأبسلهم بخطاياهم (٥) ، إنّهم لن يزولوا عن مواقفهم دون طعن دراك (٦)

__________________

يواسيه : قواه ، رباعى ثلاثيه «أسى البناء» إذا قوى ، ومنه الأسية للمحكم من البناء والدعامة ، ولا يترك خصمه إلى أخيه فيتجمع على أخيه خصمان فيغلبانه ثم ينقلبان عليه فيهلكانه

(١) لهاميم : جمع لهميم ـ بالكسر ـ الجواد السابق من الانسان والخيل ، وقيل : الواحد لهموم ، وقوله «والسنام الأعظم» يريد شرفهم وعلو أنسابهم ، لأن السنام أعلى أعضاء البعير ، فهو على طريق الاستعارة

(٢) موجدته : غضبه وسخطه. وقوله «والذل اللازم» يروى بالزاى وبالذال ، وهما بمعنى واحد ، تقول : لذمت المكان ولزمته ، بمعنى

(٣) العوالى : الرماح ، وهذا المعنى مأخوذ من قوله صلّى اللّه عليه وسلم «الجنة تحت ظلال السيوف» ويروى أن رجلا من الأنصار سمع النبى يقول ذلك يوم أحد ، وكان فى يده تميرات يأكلها ، فقال : بخ بخ ، ليس بينى وبين الجنة سوى هذه التميرات ، ثم قاتل حتى قتل

(٤) تبلى : تمتحن أخبار كل امرىء عما فى قلبه من دعوى الشجاعة والصدق فى الايمان فيتبين الصادق من الكاذب ، وهذا مأخوذ مما فى التنزيل : «وَنَبْلُوَا أَخْبٰارَكُمْ»

(٥) أبسله : أسلمه للهلكة ، فهو مبسل ، وقال اللّه تعالى : «أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ» .. «أُولٰئِكَ اَلَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمٰا كَسَبُوا» أى : أسلموا للهلاك لأجل ما اكتسبوه من الأثم. قال الشارح : وهذه الألفاظ كلها لا يتلو بعضها بعضا وإنما هى منتزعة من كلام طويل : انتزعها الرضى واطرح ما عداها

(٦) دراك ـ ككتاب ـ متتابع متوال ، يفتح فى أبدانهم أبوابا يمر منها النسيم

٦

يخرج منه النّسيم ، وضرب يفلق الهام ، ويطيح العظام ، ويندر السّواعد والأقدام (١) ، وحتّى يرموا بالمناسر تتبعها المناسر (٢) ، ويرجموا بالكتائب تقفوها الحلائب (٣) وحتّى يجرّ ببلادهم الخميس يتلوه الخميس ، وحتّى تدعق الخيول فى نواحر أرضهم (٤) وبأعنان مساربهم ومسارحهم (٥) قال الشريف : أقول : الدعق : الدق ، أى : تدق الخيول بحوافرها أرضهم ، ونواحر أرضهم : متقابلاتها ، يقال : منازل بنى فلان تتناحر ، أى : تتقابل

١٢١ ـ ومن كلام له عليه السّلام

فى التحكيم

إنّا لم نحكّم الرّجال ، وإنّما حكّمنا القرآن ، وهذا القرآن إنّما هو خطّ مستور بين الدّفّتين (٦) لا ينطق بلسان ، ولا بدّ له من ترجمان ، وإنّما ينطق عنه الرّجال. ولمّا دعانا القوم إلى أن نحكّم بيننا القرآن لم نكن الفريق

__________________

(١) «يندرها» ـ بوزن يهلكها ـ أى : يسقطها

(٢) المناسر : جمع منسر ـ كمجلس ـ القطعة من الجيش تكون أمام الجيش الأعظم

(٣) الكتائب : جمع كتيبة ، وهى من المائة إلى الألف ، والحلائب : جمع حلبة وهى ـ على ما فى القاموس ـ الجماعة من الخيل تجتمع من كل صوب للنصرة ، والخميس : الجيش العظيم ، وقيل : من أربعة آلاف إلى اثنى عشر ألفا.

(٤) دعق الطريق ـ كمنع ـ وطئه وطئا شديدا ، ودعق الغارة : بثها

(٥) أعنان الشىء : أطرافه ، والمسارب : المذاهب للرعى

(٦) الدفتان : صفحتان من جلد تحويان ورق المصحف ، والترجمان ـ بفتح التاء وسكون الراء وضم الجيم ، وربما ضموا التاء إتباعا لضم الجيم ـ هو من يفسر اللغة بلسان آخر ، قال الراجز كالترجمان لقى الأنباطا وقال الآخر قد أحوجت سمعى إلى ترجمان يقول عليه السّلام : لا اعتراض على فى التحكيم ، وقول الخوارج «حكمت الرجال» كلام غير صحيح ، لأننى إنما حكمت القرآن ، ولكن القرآن لا ينطق بنفسه ، فلا بد له ممن يترجم عنه.

٧

المتولّى على كتاب اللّه تعالى ، وقد قال اللّه سبحانه : «فَإِنْ تَنٰازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اَللّٰهِ وَاَلرَّسُولِ» فردّه إلى اللّه : أن نحكم بكتابه ، وردّه إلى الرّسول أن نأخذ بسنّته ، فإذا حكم بالصّدق فى كتاب اللّه فنحن أحقّ النّاس به (١) ، وإن حكم بسنّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ، فنحن أولاهم به

وأمّا قولكم : لم جعلت بينكم وبينهم أجلا فى التّحكيم ، فإنّما فعلت ذلك ليتبيّن الجاهل ، ويتثبّت العالم ، ولعلّ اللّه أن يصلح فى هذه الهدنة أمر هذه الأمّة ، ولا تؤخذ بأكظامها (٢) فتعجل عن تبيّن الحقّ ، وتنقاد لأوّل الغىّ إنّ أفضل النّاس عند اللّه من كان العمل بالحقّ أحبّ إليه وإن نقصه وكرثه (٣) من الباطل وإن جرّ إليه فائدة وزاده ، أين يتاه بكم؟ من أين

__________________

(١) يريد أنه لما دعى إلى التحكيم لم يرد أن يكون من الذين قال اللّه عز وجل فى شأنهم : «وَإِذٰا دُعُوا إِلَى اَللّٰهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذٰا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ» بل أجاب عملا بما ذكره من النص ، ولو حكموا بالحق فى هذه الواقعة لوجدوه أحق بتدبير أمر الأمة.

(٢) الأكظام : جمع كظم ـ محركة ـ وهو مخرج النفس ، والأخذ بالأكظام : المضايقة والاشتداد بسلب المهلة ، يقول : كرهت أن أعجل القوم عن التبين والاهتداء ، فيكون إرهاقى لهم وتركى التنفيس عن خناقهم أدعى إلى فسادهم وأحرى أن يحملهم على ركوب متن الغى وألا يقلعوا عماهم عليه من القبيح

(٣) كرثه ـ كنصره وضربه ـ اشتد عليه الغم بحكم الحق ، فان الحزن بالحق

٨

أتيتم؟ استعدّوا للمسير فى قوم حيارى عن الحقّ لا يبصرونه ، وموزعين بالجور (١) لا يعدلون به! جفاة عن الكتاب ، نكّب عن الطّريق (٢) ، ما أنتم بوثيقة يعلق بها (٣) ولا زوافر عزّ يعتصم إليها (٤) ، لبئس حشّاش نار الحرب أنتم (٥) أفّ لكم ، لقد لقيت منكم برحا (٦)!! يوما أناديكم ، ويوما أناجيكم! فلا أحرار صدق عند النّداء ، ولا إخوان ثقة عند النّجاء (٧)

__________________

مسرة لديه ، والمسرة بالباطل زهرة ثمرتها الغم الدائم. وقوله «من الباطل» متعلق بأحب

(١) «أين يتاه بكم» معناه أين تذهبون فى التيه ، يعنى فى الحيرة ، ويروى «فأنى يتاه بكم» وقوله «ومن أين أتيتم؟» معناه من أى المداخل دخل عليكم الشيطان أو الشبهة؟ ومن أى الموالج ولج التلبيس إليكم؟ وقوله «موزعين» : من «أوزعه» أى : أغراه ، وقوله «لا يعدلون به» أى : لا يستبدلونه بالعدل

(٢) الجفاة : جمع جاف ، وهو النابى البعيد عن الشىء ، أى : قد تباعدوا عن الكتاب فلا هو يلائمهم ولا هم يجنحون إليه ، ونكب : جمع ناكب ، وهو الحائد عن الطريق

(٣) أى : بعروة وثيقة يستمسك بها. وقال الشارح «أى : بذى وثيقة ، فحذف المضاف ، والوثيقة : الثقة ، يقال : قد أخذت فى أمر فلان بالوثيقة ، أى : بالثقة ، والثقة مصدر» اه‍

(٤) زافرة الرجل : أنصاره وأعوانه

(٥) الحشاش : جمع حاش ، من «حش النار» أى : أوقدها ، أى : لبئس الموقدون لنار الحرب أنتم ، وروى حشاش ـ بزنة غراب ـ وهو ما توقد به النار ، وروى حشاش ـ بفتح الحاء كسحاب ـ وهو الحطب الذى يلقى فى النار قبل الحطب الجزل ، قاله ابن أبى الحديد

(٦) برحا ـ بالفتح ـ : شرا أو شدة

(٧) النجاء : الأفضاء بالسر والتكلم مع شخص بحيث لا يسمع الآخر. وهو مصدر ناجيته ، مثل قاتلته وناديته

٩

١٢٢ ـ ومن كلام له عليه السّلام

لما عوتب على التسوية فى العطاء

أتأمرونّى أن أطلب النّصر بالجور فيمن ولّيت عليه؟ واللّه ما أطور به ما سمر سمير (١) وما أمّ نجم فى السّماء نجما (٢) لو كان المال لى لسوّيت بينهم ، فكيف وإنّما المال مال اللّه!؟ ألا وإنّ إعطاء المال فى غير حقّه تبذير وإسراف ، وهو يرفع صاحبه فى الدّنيا ، ويضعه فى الآخرة ، ويكرمه فى النّاس ، ويهينه عند اللّه ، ولم يضع امرؤ ماله فى غير حقّه ولا عند غير أهله إلاّ حرمه اللّه شكرهم ، وكان لغيره ودّهم ، فإن زلّت به النّعل يوما فاحتاج إلى معونتهم فشرّ خدين (٣) وألأم خليل.

__________________

(١) ما أطور به : من «طار يطور حول الشىء» أى : ما آمر به ، ولا أقاربه ، مبالغة فى الابتعاد عن العمل بما يقولون. و «ما سمر سمير» أى : مدى الدهر. وهو مثل ، والمشهور فيه «ما سمر ابنا سمير» قالوا : السمير هو الدهر وابناه الليل والنهار ، وقيل : السمير هو السمر ، وجعل الليل والنهار ابنيه لأنه يسمر فيهما ، وربما قالوا : «لا أفعله السمر والقمر» أى : ما دام الناس يسمرون فى ليالى القمر ، وقد يقولون «لا أفعله سمير الليالى» ومنه قول الشنفرى فى بعض رواياته : ـ

هنالك لا أرجو حياة تسرنى

سمير الليالى مبسلا بالجرائر

(٢) أى : ما قصد نجم نجما

(٣) خدين : صديق ، وأصل هذه المسألة أن أبا بكر الصديق رضى اللّه عنه كان يسوى بين المسلمين فى قسمة الفىء والصدقات ، فلما أفضت الخلافة إلى أبى حفص عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه فضل السابقين من المهاجرين على غيرهم ، وجمهور المهاجرين على الأنصار ، والعرب على العجم ، فلما كان عهد

١٠

١٢٥ ـ ومن كلام له عليه السّلام

فإن أبيتم أن تزعموا إلاّ أنّى أخطأت وضللت فلم تضلّلون عامّة أمّة محمّد ، صلّى اللّه عليه وآله ، بضلالى ، وتأخذونهم بخطئى وتكفّرونهم بذنوبى؟! سيوفكم على عواتقكم تضعونها مواضع البرء والسّقم وتخلطون من أذنب بمن لم يذنب ، وقد علمتم أنّ رسول اللّه ، صلّى اللّه عليه وآله ، رجم الزّانى ثمّ صلّى عليه ، ثمّ ورّثه أهله ، وقتل القاتل وورّث ميراثه أهله ، وقطع السّارق وجلد الزّانى غير المحصن ثمّ قسم عليهما من الفىء ، ونكحا المسلمات فأخذهم رسول اللّه ، صلّى اللّه عليه وآله ، بذنوبهم ، وأقام حقّ اللّه فيهم ، ولم يمنعهم سهمهم من الإسلام ، ولم يخرج أسماءهم من بين أهله (١) ثمّ أنتم شرار النّاس ، ومن رمى به الشّيطان مراميه ، وضرب به تيهه (٢) وسيهلك فىّ صنفان : محبّ مفرط يذهب به الحبّ إلى غير الحقّ ، ومبغض مفرط يذهب به البغض إلى غير الحقّ ، وخير النّاس فىّ حالا النّمط الأوسط فالزموه ، والزموا السّواد الأعظم ، فإنّ يد اللّه على الجماعة. وإيّاكم

__________________

الامام على رجع إلى سنة أبى بكر.

(١) كان من زعم الخوارج أن من أخطأ وأذنب فقد كفر ، فأراد الامام أن يقيم الحجة على بطلان زعمهم بما رواه عن النبى صلّى اللّه عليه وآله وسلم

(٢) سلك به فى بادية ضلاله

١١

والفرقة فإنّ الشّاذّ من النّاس للشّيطان ، كما أنّ الشّاذّ من الغنم للذّئب! ألا من دعا إلى هذا الشّعار فاقتلوه ، ولو كان تحت عمامتى هذه (١).

وإنّما حكّم الحكمان ليحييا ما أحيا القرآن ، ويميتا ما أمات القرآن ، وإحياؤه الاجتماع عليه ، وإماتته الافتراق عنه : فان جرّنا القرآن إليهم اتّبعناهم وإن جرّهم إلينا اتّبعونا ، فلم آت ـ لا أبا لكم ـ بجرا (٢) ولا ختلتكم عن أمركم (٣) ولا لبّسته عليكم ، إنّما اجتمع رأى ملئكم على اختيار رجلين أخذنا عليهما أن لا يتعدّيا القرآن فتاها عنه ، وتركا الحقّ وهما يبصرانه ، وكان الجور هواهما فمضيا عليه ، وقد سبق استثناؤنا عليهما فى الحكومة بالعدل ، والصّمد للحقّ ، سوء رأيهما (٤) وجور حكمهما.

__________________

(١) الشعار : علامة القوم فى الحرب والسفر ، وهو ما يتنادون به ليعرف بعضهم بعضا. قيل : كان شعار الخوارج «لا حكم إلا للّه» ، وقيل : المراد بهذا الشعار هو ما امتازوا به من الخروج عن الجماعة. فيريد الامام أن كل خارج عن رأى الجماعة مستبد برأيه عامل على التصرف بهواه ، فهو واجب القتل ، وإلا كان أمره فتنة وتفريقا بين المؤمنين

(٢) البجر ـ بالضم ـ : الشر ، والأمر العظيم

(٣) ختلتكم : خدعتكم ، والتلبيس خلط الأمر وتشبيهه حتى لا يعرف وجه الحق فيه

(٤) الصمد : القصد ، «وسوء» مفعول لاستثناؤنا

١٢

١٢٤ ـ ومن خطبة له عليه السّلام

فيما يخبر به عن الملاحم بالبصرة (١)

يا أحنف ، كأنّى به وقد سار بالجيش الّذى لا يكون له غبار ولا لجب (٢) ولا قعقعة لجم ، ولا حمحمة خيل (٣) يثيرون الأرض بأقدامهم كأنّها أقدام النّعام.

قال الشريف : يومىء بذلك إلى صاحب الزنج. ثم قال عليه السّلام : ويل لسكككم العامرة (٤) ، والدّور المزخرفة الّتى لها أجنحة كأجنحة النّسور (٥) وخراطيم كخراطيم الفيلة. من أولئك الّذين لا يندب قتيلهم (٦) ولا يفتقد

__________________

(١) الملاحم : جمع ملحمة ، وهى الواقعة العظيمة

(٢) اللجب : الصياح ، واللجم : جمع لجام. وقعقعتها : ما يسمع من صوت اضطرابها بين أسنان الخيل

(٣) الحمحمة : صوت البرذون عند الشعير ، ومر الفرس ـ أى : صوته ـ عند ما يقصر من الصهيل ويستعين بنفسه

(٤) جمع سكة ، وهى الطريق المستوى ، وهو إخبار عما يصيب تلك الطرق من تخريب ما حواليها من البنيان على يد صاحب الزنج ، وقد تقدم خبره فى قيامه وسقوطه فراجعه

(٥) أجنحة الدور : رواشنها على التشبيه بأجنحة الطير ، وقيل : إن الجناح والروشن يشتركان فى إخراج الخشب من حائط الدار إلى الطريق بحيث لا يصل إلى جدار آخر يقابله ، وإلا فهو الساباط ويختلفان فى أن الجناح يوضع له أعمدة من الطريق بخلاف الروشن ، وخراطيمها : ما يعمل من الأخشاب والبوارى بارزة عن السقوف لوقاية الغرف عن الأمطار وشعاع الشمس. أو الخراطيم : هى الميازيب تطلى بالقار على طول نحو خمسة أذرع أو أزيد

(٦) أولئك أصحاب الزنجى ، وإنما لا يندب من يقتل منهم لأن أكثرهم

١٣

غائبهم؟ أنا كابّ الدّنيا لوجهها ، وقادرها بقدرها ، وناظرها بعينها.

منها : ويومئ بذلك إلى وصف التتار :

كأنّى أراهم قوما كأنّ وجوههم المجانّ المطرقة (١) ، يلبسون السّرق والدّيباج (٢) ويعتقبون الخيل العتاق (٣) ويكون هناك استحرار قتل حتّى (٤) يمشى المجروح على المقتول ، ويكون المفلت أقلّ من المأسور.

__________________

كانوا عبيدا لدهاقين البصرة ، ولم يكونوا ذوى زوجات وأولاد ، بل كانوا على هيئة الشطار عزابا فلا نادبة لهم. وقوله «ولا يفتقد غائبهم» يريد أنهم كثير فكلما قتل منهم قتيل سد غيره مسده ، فلا يظهر أثر فقده. وقوله «أنا كاب الدنيا لوجهها» قد روى مثل ذلك عن عيسى ابن مريم عليه السّلام قال «أنا الذى كببت الدنيا على وجهها ، ليس لى زوجة تموت ، ولا بيت يخرب ، وسادى الحجر ، وفراشى المدر ، وسراجى القمر» والعبارة كناية عن الزهادة فى الدنيا والصدف عنها

(١) المجان : جمع مجن ـ بكسر الميم ـ وهو الترس ، وإنما سمى مجنا لأنه يستتر به ، والجنة ـ بالضم ـ السترة ، وجمعها جنن بوزان غرفة وغرف ـ والمطرقة ـ بسكون الطاء وفتح الراء ـ التى أطرق بعضها إلى بعض أى : صمت طبقاتها فجعل بعضها يتلو بعضا ، ويقال : جاءت الابل مطاريق ، أى : يتلو بعضها بعضا. وقال الشيخ الامام رضى اللّه عنه : فى القاموس «أى : التى يطرق بعضها على بعض كالنعل المطرقة ـ أى : المخصوفة ـ وهو عجز عن التعبير ، والأحسن أن يقال : أى التى أزلق بها الطراق ـ ككتاب ـ وهو جلد يقور على مقدار الترس ثم يلزق به.

(٢) السرق ـ بالتحريك ـ : شقق الحرير الأبيض ، أو هو الحرير عامة. واحدتها سرقة

(٣) يعتقبون : يحتبسون كرائم الخيل يمنعونها غيرهم ، وقال ابن أبى الحديد : «يعتقبون الخيل ، أى : يجنبونها لينتقلوا من غيرها إليها» اه‍

(٤) استحرار القتل : اشتداده. وتقول : حر القتل ، واستحر ، وهما بمعنى واحد ، قال ابن الزبعرى : ـ حيث ألقت بقباء بركها واستحر القتل فى عبد الأشل

١٤

فقال له بعض أصحابه : لقد أعطيت يا أمير المؤمنين علم الغيب! فضحك عليه السّلام ، وقال للرجل وكان كلبيا :

يا أخا كلب ، ليس هو بعلم غيب وإنّما هو تعلّم من ذى علم! وإنّما علم الغيب علم السّاعة ، وما عدّد اللّه بقوله : «إِنَّ اَللّٰهَ عِنْدَهُ عِلْمُ اَلسّٰاعَةِ» الآية فيعلم سبحانه ما فى الأرحام : من ذكر وأنثى ، وقبيح أو جميل ، وسخىّ أو بخيل ، وشقىّ أو سعيد ، ومن يكون فى النّار حطبا أو فى الجنان للنّبيّين مرافقا ، فهذا علم الغيب الّذى لا يعلمه أحد إلاّ اللّه ، وما سوى ذلك فعلم علّمه اللّه نبيّه فعلّمنيه ، ودعا لى بأن يعيه صدرى ، وتضطمّ عليه جوانحى (١).

١٢٥ ـ ومن خطبة له عليه السّلام

فى ذكر المكاييل

عباد اللّه ، إنّكم وما تأملون من هذه الدّنيا أثوياء مؤجّلون ، (٢) ومدينون

__________________

(١) تضطم : هو افتعال من الضم ، أى : وتنضم عليه جوانحى ، والجوانح : الأضلاع تحت الترائب مما يلى الصدر ، وانضمامها عليه : اشتمالها على قلب يعيها.

(٢) أثوياء : جمع ثوى ـ كغنى ـ وهو الضيف ، و «مؤجلون» مؤخرون إلى أجل معلوم ، و «مدينون» مقرضون ، تقول : دنت الرجل ، أى : أقرضته ، فهو مدين ، وربما قيل مديون على الأصل المهجور فى الفصيح ، وتقول : دنت ، بمعنى استقرضت وصار عليك دين فأنت دائن ، قال الشاعر : ـ ندين ويقضى اللّه عنا ، وقد نرى مصارع قوم لا يدينون ضيعا وقوله «مقتضون» هو جمع مقتضى ـ اسم مفعول من اقتضى ـ أى : مطالبون بأداء الدين

١٥

مقتضون ، أجل منقوص ، وعمل محفوظ ، فربّ دائب مضيّع (١) وربّ كادح خاسر. وقد أصبحتم فى زمن لا يزداد الخير فيه إلاّ إدبارا ، والشّرّ فيه إلاّ إقبالا ، والشّيطان فى هلاك النّاس إلاّ طمعا. فهذا أوان قويت عدّته (٢) وعمّت مكيدته ، وأمكنت فريسته (٣). اضرب بطرفك حيث شئت من النّاس : هل تبصر إلاّ فقيرا يكابد فقرا ، أو غنيّا بدّل نعمة اللّه كفرا ، أو بخيلا اتّخذ البخل بحقّ اللّه وفرا ، (٤) أو متمرّدا كأنّ بأذنه عن سمع المواعظ وقرا؟ أين خياركم وصلحاؤكم؟ وأحراركم وسمحاؤكم؟ وأين المتورّعون فى مكاسبهم؟ والمتنزّهون فى مذاهبهم؟ أليس قد ظعنوا جميعا عن هذه الدّنيا الدّنيّة والعاجلة المنغّصة؟ وهل خلقتم إلاّ فى حثالة (٥) لا تلتقى بذمّهم الشّفتان

__________________

(١) الدائب : المداوم فى العمل ، والكادح : الساعى لنفسه بجهد ومشقة ، والمراد من يقصر سعيه على جمع حطام الدنيا

(٢) الضمير للشيطان

(٣) «أمكنت الفريسة» أى : سهلت وتيسرت

(٤) «اضرب بطرفك» أى : انظر فى عامة ما يحيط بك من النواحى ، ومثله قول الشاعر : ـ اضرب بطرفك حيث شئ‍ ت فلن ترى إلاّ بخيلا والوفر ـ بفتح فسكون ـ المال الكثير. والوقر ـ بالقاف المثناة ـ ثقل الأذن ، وقلة سمعها ، قال الشاعر : ـ أحب الفتى ينفى الفواحش سمعه كأن به عن كل فاحشة وقرا

(٥) الحثالة ـ بالضم ـ الردىء من كل شىء ، والمراد أقزام الناس ، وصغار النفوس

١٦

استصغارا لقدرهم ، وذهابا عن ذكرهم ، فإنّا للّه وإنّا إليه راجعون : ظهر الفساد فلا منكر متغيّر ، ولا زاجر مزدجر! أفبهذا تريدون أن تجاوروا اللّه فى دار قدسه؟ وتكونوا أعزّ أوليائه عنده؟! هيهات! لا يخدع اللّه عن جنّته ولا تنال مرضاته إلاّ بطاعته. لعن اللّه الآمرين بالمعروف التّاركين له ، والنّاهين عن المنكر العاملين به.

١٢٦ ـ ومن كلام له عليه السّلام

لأبى ذر رحمه اللّه لما خرج إلى الربذة (١)

يا أبا ذرّ ، إنّك غضبت للّه فارج من غضبت له. إنّ القوم خافوك على

__________________

(١) الربذة ـ محركة ـ موضع على قرب من المدينة المنورة فيه قبر أبى ذر الغفارى رضى اللّه عنه ، والذى أخرجه إليه الخليفة الثالث رضى اللّه عنه ، قال ابن أبى الحديد : واقعة أبى ذر وإخراجه إلى الربذة أحد الأحداث التى نقمت على عثمان رضى اللّه عنه. وقد روى هذا الكلام أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهرى فى كتاب السقيفة عن عبد الرزاق عن أبيه عن عكرمة عن ابن عباس قال : لما أخرج أبو ذر إلى الربذة أمر عثمان فنودى فى الناس ألا لا يكلم أحد أبا ذر ولا يشيعه ، وأمر مروان بن الحكم أن يخرج به ، فخرج به مروان ، وتحاماه الناس ، إلا على بن أبى طالب وعقيلا أخاه وحسنا وحسينا ولديه وعمارا ، فانهم خرجوا معه يشيعونه ، فجعل الحسن يكلم أبا ذر ، فقال له مروان : إيها يا حسن ، ألا تعلم أن أمير المؤمنين قد نهى عن كلام هذا الرجل ، فان كنت لا تعلم فاعلم ذلك ، فحمل على رضى اللّه عنه على مروان : فضرب بالسوط بين أذنى راحلته ، وقال له : تنح لحاك اللّه إلى النار ، فرجع مروان مغضبا إلى عثمان ، فأخبره الخبر ، فتلظى على على ، ووقف أبو ذر فودعه الناس ، فقال له على : يا أبا ذر ، إنك غضبت للّه ـ الخ «٢ ـ ن ـ ج ـ ٢»

١٧

دنياهم ، وخفتهم على دينك ، فاترك فى أيديهم ما خافوك عليه ، واهرب بما خفتهم عليه ، فما أحوجهم إلى ما منعتهم ، وما أغناك عمّا منعوك! وستعلم من الرّابح غدا ، والأكثر حسّدا؟؟! ولو أنّ السّموات والأرض كانتا على عبد رتقا ثمّ اتّقى اللّه لجعل اللّه له منهما مخرجا ، لا يؤنسنّك إلاّ الحقّ ولا يوحشنّك إلاّ الباطل ، فلو قبلت دنياهم لأحبّوك ، ولو قرضت منها لأمنوك (١)

١٢٧ ـ ومن كلام له عليه السّلام

أيّتها النّفوس المختلفة ، والقلوب المتشتّتة ، الشّاهدة أبدانهم ، والغائبة عنهم عقولهم! أظأركم على الحقّ (٢) وأنتم تنفرون عنه نفور المعزى من وعوعة الأسد! هيهات أن أطلع بكم سرار العدل (٣) ، أو أقيم اعوجاج الحقّ.

__________________

(١) لو قرضت منها جزءا وخصصت به نفسك : أى لو رضيت أن تنال منها.

(٢) أظأركم : أعطفكم ، وتقول : ظأرت الناقة أظأرها وهى ناقة مظؤرة ، إذا عطفتها على ولد غيرها ، وفى أمثالهم «الطعن يظأره» أى : يعطفه على الصلح ، وتقول أيضا : ظأرت الناقة تظأر ، إذا عطفت على البو ، فهو فعل يتعدى ويلزم. والوعوعة : الصوت وكذلك الوعواع

(٣) السرار ـ كسحاب وكتاب ـ فى الأصل : آخر ليلة من الشهر ، والمراد الظلمة ، أى أن أطلع بكم شارفا يكشف عما عرض على العدل من الظلمة ، كما يدل على هذا قوله «وأقيم اعوجاج الحق» فان الحق لا اعوجاج فيه ولكن قوما خلطوه بالباطل فهذا ما أصابه من اعوجاج. قال ابن أبى الحديد : ويمكن عندى أن يفسر على وجه آخر ، وهو أن يكون السرار ههنا بمعنى السرر ، وهى خطوط مضيئة فى الجبهة ، وقد نص أهل اللغة على أنه يجوز فيها سرر وسرار ، فيكون معنى كلامه عليه السّلام : هيهات أن تلمع بكم لوامع العدل وتنجلى أرصاده ، ويبرق

١٨

اللّهمّ إنّك تعلم أنّه لم يكن الّذى كان منّا منافسة فى سلطان ، ولا التماس شىء من فضول الحطام ، ولكن لنرد المعالم من دينك ، ونظهر الإصلاح فى بلادك ، فيأمن المظلومون من عبادك ، وتقام المعطّلة من حدودك.

اللّهمّ إنّى أوّل من أناب وسمع وأجاب : لم يسبقنى إلاّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ، بالصّلاة.

وقد علمتم أنّه لا ينبغى أن يكون الوالى على الفروج ، والدّماء ، والمغانم والأحكام ، وإمامة المسلمين البخيل ، فتكون فى أموالهم نهمته (١) ولا الجاهل فيضلّهم بجهله ، ولا الجافى فيقطعهم بجفائه ، ولا الحائف للدّول (٢) فيتّخذ قوما دون قوم ، ولا المرتشى فى الحكم فيذهب بالحقوق ، ويقف بها دون المقاطع (٣) ، ولا المعطّل للسّنّة فيهلك الأمّة

__________________

وجهه. ويمكن فيه وجه آخر ، وهو أن ينصب سرار ههنا على الظرفية ويكون التقدير : هيهات أن أطلع بكم الحق زمان استسرار العدل واستخفائه ، وفيه حذف المفعول ، وحذفه أكثر من أن يرشد إليه

(١) النهمة ـ بالفتح ـ إفراط الشهوة والمبالغة فى الحرص

(٢) الحائف : من الحيف ، أى : الجور والظلم ، والدول جمع دولة ـ بالضم ـ : وهى المال ، لأنه يتداول ـ أى : ينتقل من يد ليد وفى التنزيل : «كَيْ لاٰ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ اَلْأَغْنِيٰاءِ مِنْكُمْ» ـ والمراد من يحيف فى قسم الأموال فيفضل قوما فى العطاء على قوم بلا موجب للتفضيل

(٣) المقاطع : الحدود التى عينها اللّه لها

١٩

١٢٨ ـ ومن خطبة له عليه السّلام

نحمده على ما أخذ وأعطى ، وعلى ما أبلى وابتلى (١) الباطن لكلّ خفيّة (٢) والحاضر لكلّ سريرة ، العالم بما تكنّ الصّدور ، وما تخون العيون ، ونشهد أن لا إله غيره ، وأنّ محمّدا نجيبه وبعيثه (٣) شهادة يوافق فيها السّرّ الإعلان والقلب اللّسان.

منها : فإنّه واللّه الجدّ لا اللّعب ، والحقّ لا الكذب ، وما هو إلاّ الموت قد أسمع داعيه (٤) وأعجل حاديه ، فلا يغرّنّك سواد النّاس من نفسك (٥)

__________________

(١) الابلاء : الاحسان والانعام ، تقول : قد أبلاه اللّه بلاء حسنا ، أى : أعطاه ، وقال زهير بن أبى سلمى المزنى : ـ جزى اللّه بالاحسان ما فعلا بكم وأبلاهما خير البلاء الذى يبلو والابتلاء : الامتحان ، وأصل الابتلاء إنزال مضرة بالانسان على سبيل الاختبار كالمرض والفقر ، وقد يكون الابتلاء الاختبار بالخير ، إلا أن أكثر ما يستعمل فى الشر ، وقال اللّه تعالى : «وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَاَلْخَيْرِ فِتْنَةً»

(٢) الباطن : العالم ، تقول : بطنت الأمر ، أى : خبرته وعرفت بواطنه

(٣) مصطفاه ومبعوثه

(٤) أى : إن الداعى إلى الموت قد أسمع بصوته كل حى ، فلا حى إلاّ هو يعلم أنه يموت و «أعجل حاديه» أى : إن الحادى لسير المنايا إلى منازل الأجسام ـ لاخلائها من سكنة الأرواح. ـ قد أعجل المدبرين عن تدبيرهم وأخذهم قبل الاستعداد لرحيلهم ، و «من» فى قوله «فلا يغرنك سواد الناس من نفسك» إما أن تكون بمعنى الباء ، أى : لا يغرنك الناس بنفسك وصحتك وشبابك فتستبعد الموت اغترارا بذلك ، فتكون حينئذ متعلقة بيغر ، وإما أن تكون على أصلها وحينئذ فهى متعلقة بمحذوف تقديره متمكنا من نفسك وراكنا إليها

(٥) لا تغتر بكثرة الأحياء

٢٠