نهج البلاغة - ج ٢

محمد عبده

نهج البلاغة - ج ٢

المؤلف:

محمد عبده


المحقق: محمّد محيى الدين عبد الحميد
الموضوع : الحديث وعلومه
المطبعة: مطبعة الإستقامة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٧١

لعظمته (١) ، وتجب القلوب من مخافته.

١٧٥ ـ ومن خطبة له عليه السّلام

فى ذم أصحابه

أحمد اللّه على ما قضى من أمر ، وقدّر من فعل ، وعلى ابتلائى بكم أيّتها الفرقة الّتى إذا أمرت لم تطع ، وإذا دعوت لم تجب ، إن أمهلتم خضتم (٢) وإن حوربتم خرتم! وإن اجتمع النّاس على إمام طعنتم ، وان أجئتم إلى مشاقّة نكصتم. لا أبا لغيركم (٣) ما تنظرون بنصركم ربّكم ، والجهاد على حقّكم :

الموت أو الذّلّ لكم! فو اللّه لئن جاء يومى ـ ولياتينّى ـ ليفرّقنّ بينى وبينكم

__________________

لفظ اللطيف إطلاقا للفظ السبب على المسبب ، وربما أطلق هذا الاسم عليه تعالى بمعنى أنه يفعل مع عباده الألطاف التى تقربهم من الطاعة وتبعدهم من المعصية بمنه وكرمه. والجفاء : الغلظ والخشونة (١) تعنو : تذل ، ووجب القلب يجب وجيبا ووجبانا : خفق واضطراب

(٢) أمهلتم : أخرتم ، ويروى فى مكانه «أهملتم» أى : خليتم وتركتم و «خضتم» أى : تفاوضتم وأخذتم ، أى : فى الكلام الباطل ، و «خرتم» أى : ضعفتم وجبنتم ، ويجوز أن يكون معنى «خرتم» صحتم ، وكان لكم خوار ، وفى التنزيل : «فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوٰارٌ» ويروى «جرتم» بالجيم بدل الخاء ، ومعناه عدلتم عن الحرب جبنا. وأجئتم : ألجئتم ، والمشاقة : المراد بها الحرب ، ونكصتم : رجعتم القهقرى.

(٣) المعروف فى التقريع «لا أبا لكم ، ولا أبا لك»! وهو دعاء بفقد الأب او تعيير بجهله ، فتلطف الامام بتوجيه الدعاء أو الذم لغيرهم

١٢١

وأنا لكم قال (١) وبكم غير كثير. للّه أنتم!! أما دين يجمعكم ، ولا حميّة تشحذكم (٢)؟ أوليس عجبا أنّ معاوية يدعو الجفاة الطّغام فيتّبعونه (٣) على غير معونة ولا عطاء ، وأنا أدعوكم وأنتم تريكة الإسلام (٤) ، وبقيّة النّاس إلى المعونة وطائفة من العطاء فتتفرّقون عنّى ، وتختلفون علىّ؟! إنّه لا يخرج إليكم من أمرى رضا فترضونه (٥) ولا سخط فتجتمعون عليه ، وإن أحبّ ما أنا لاق إلىّ الموت. قد دارستكم الكتاب (٦) وفاتحتكم الحجاج ، وعرّفتكم ما أنكرتم ، وسوّغتكم ما مججتم ، لو كان الأعمى يلحظ (٧) أو النّائم يستيقظ!! وأقرب بقوم من الجهل باللّه قائدهم معاوية ومؤدّبهم ابن النّابغة (٨)

__________________

(١) قال : أى كاره ، وغير كثير بكم : أى إنى أفارق الدنيا وأنا فى قلة من الأعوان وإن كنتم حولى كثيرين. ويدل عليه قوله فيما بعد : للّه أنتم

(٢) من شحذ السكين كمنع : أى حددها

(٣) الجفاة : جمع جاف أى غليظ ، والطغام بالفتح : أرذال الناس ، والمعونة : ما يعطى للجند لاصلاح السلاح وعلف الدواب زائدا على العطاء المفروض والأرزاق المعينة لكل منهم

(٤) التريكة كسفينة : بيضة النعامة بعد أن يخرج منها الفرخ تتركها فى مجثمها ، والمراد أنتم خلف الاسلام وعوض السلف.

(٥) يريد أنه لا يوافقكم منى شىء لا ما يرضى ولا ما يسخط!!

(٦) أى : قرأت عليكم القرآن تعليما وتفهيما ، وفاتحتكم : مجرده «فتح» بمعنى قضى ، فهو بمعنى فاضيتكم ، أى : حاكمتكم ، والحجاج : المحاجة ، أى : قاضيتكم عند الحجة حتى قضت عليكم بالعجز عن الخصام. وعرفتكم الحق الذى كنتم تجهلونه ، وسوغت لأذواقكم من مشرب الصدق ما كنتم تمجونه وتطرحونه

(٧) «لو» للتمنى ، كأنه يقول : ليت الأعمى الخ

(٨) «أقرب بهم» أى : ما أقربهم من الجهل ، وابن النابغة :

١٢٢

١٧٦ ـ ومن كلام له عليه السّلام

وقد أرسل رجلا من أصحابه يعلم له علم أحوال قوم من جند الكوفة قد هموا باللحاق بالخوارج ، وكانوا على خوف منه عليه السلام ، فلما عاد إليه الرجل قال له : أمنوا فقطنوا أم جبنوا فظعنوا (١)؟؟ فقال الرجل : بل ظعنوا يا أمير المؤمنين. فقال :

بعدا لهم كما بعدت ثمود ، أما لو أشرعت الأسنّة إليهم (٢) ، وصبّت السّيوف على هاماتهم! لقد ندموا على ما كان منهم ، إنّ الشّيطان اليوم قد استفلّهم (٣) وهو غدا متبرّئ منهم ، ومتخلّ عنهم ، فحسبهم بخروجهم من الهدى (٤) ، وارتكاسهم فى الضّلال والعمى ، وصدّهم (٥) عن الحقّ ، وجماحهم فى التّيه.

__________________

عمرو بن العاص (وانظر ص ١٤٥ من الجزء الأول)

(١) أمنوا : اطمأنوا. وقطنوا : أقاموا ، وبابه نصر ، وظعنوا : رحلوا.

(٢) أشرعت : سددت وصوبت نحوهم ، وقوله «صبت السيوف الخ» استعارة من «صببت الماء» شبه وقع السيوف وسرعة اعتوارها الرءوس بصب الماء ، والهامات : الرءوس

(٣) استفلهم : دعاهم للتفلل : وهو الانهزام عن الجماعة.

(٤) حسبهم : كافيهم من الشر خروجهم الخ والباء زائدة ، وإن جعل «حسب» اسم فعل بمعنى اكتف كانت الباء فى موضعها ، أى : فليكتفوا من الشر والخطيئة بذلك فهو كفيل لهم بكل شقاء ، والارتكاس : الانقلاب والانتكاس

(٥) صدهم : إعراضهم ، والجماح والجموح : أن يغلب الفرس راكبه ، والمراد تناهيهم فى التيه ، أى : الضلال

١٢٣

١٧٠ ـ ومن خطبة له عليه السّلام

روى عن نوف البكالى (١) قال : خطبنا هذه الخطبة بالكوفة أمير المؤمنين عليه السلام وهو قائم على حجارة نصبها له جعدة بن هبيرة المخزومى ، وعليه مدرعة من صوف (٢) وحمائل سيفه ليف ، وفى رجليه نعلان من ليف ، وكأن جبينه ثفنة بعير (٣). فقال عليه السلام :

الحمد للّه الّذى إليه مصائر الخلق وعواقب الأمر ، نحمده على عظيم إحسانه ، ونيّر برهانه ، ونوامى فضله وامتنانه (٤) حمدا يكون لحقّه قضاء ، ولشكره

__________________

(١) هو نوف بن فضالة التابعى البكالى ، نسبة إلى بنى بكال ـ ككتاب ـ بطن من حمير ، وضبطه بعضهم بتشديد الكاف كشداد ، وجعدة بن هبيرة : هو ابن أخت أمير المؤمنين ، وأمه أم هانىء بنت أبى طالب ، كان فارسا ، مقداما ، فقيها.

(٢) المدرعة : ثوب يعرف عند بعض العامة بالدراعية : قميص ضيق الأكمام. قال فى القاموس : ولا يكون إلا من صوف ، وتدرع : لبس المدرعة ، وربما قالوا : تمدرع

(٣) الثفنة ـ بكسر بعد فتح ـ : ما يمس الأرض من البعير عند البرك ، ويكون فيه غلظ من ملاطمة الأرض ، وكذلك كان فى جبين أمير المؤمنين من كثرة السجود وكنوا بذى الثفنات عن على بن الحسين ، وعلى بن عبد اللّه بن العباس ، وعبد اللّه ابن وهب الراسبى رئيس الخوارج ، لأن طول السجود كان قد أثر فيهم. وقال دعبل الخزاعى : ـ

ديار على والحسين وجعفر

وحمزة والسجاد ذى الثفنات

(٤) مصائر الأمور : جمع مصير ، وهو مصدر «صار إلى كذا» ومعناه المرجع قال اللّه تعالى : «وَإِلَى اَللّٰهِ اَلْمَصِيرُ» وإنما جمع المصدر ههنا لأن الخلائق يرجعون إلى ربهم فى أحوال مختلفة ، وعواقب الأمور : جمع عاقبة ، وهى آخر الشىء. والنوامى : جمع نام ، بمعنى زائد

١٢٤

أداء ، وإلى ثوابه مقرّبا ، ولحسن مزبده موجبا. ونستعين به استعانة راج لفضله ، مؤمّل لنفعه ، واثق بدفعه ، معترف له بالطّول (١) ، مذعن له بالعمل والقول. ونؤمن به إيمان من رجاه موقنا ، وأناب إليه مؤمنا ، وخنع له مذعنا (٢) ، وأخلص له موحّدا ، وعظّمه ممجّدا ، ولاذ به راغبا مجتهدا : لم يولد سبحانه فيكون فى العزّ مشاركا (٣) ، ولم يلد فيكون مورثا هالكا ، ولم يتقدّمه وقت ولا زمان ، ولم يتعاوره زيادة ولا نقصان (٤) ، بل ظهر للعقول بما أرانا من علامات التّدبير المتقن ، والقضاء المبرم.

ومن شواهد خلقه خلق السّموات موطّدات بلا عمد (٥) ، قائمات بلا سند ، دعاهنّ فأجبن طائعات مذعنات ، غير متلكّئات ولا مبطئات (٦). ولو لا إقرارهنّ له بالرّبوبيّة وإذعانهنّ له بالطّواعية لما جعلهنّ موضعا لعرشه ولا

__________________

(١) الطول ـ بالفتح ـ : الفضل

(٢) أناب إليه : أقبل ، ورجع. وخنع : ذل وخضع ، و «مذعنا» اسم فاعل من «أذعن» أى : انقاد وأطاع

(٣) لأن أباه يكون شريكه فى العز ، بل أعز منه ، لأنه علة وجوده. وسر الولادة حفظ النوع ، فلو صح للّه أن يلد لكان فانيا يبقى نوعه فى أشخاص أولاده ، فيكون مورثا هالكا ، تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا

(٤) يتعاوره : يتداوله ويتبادل عليه

(٥) موطدات : مثبتات فى مداراتها على ثقل أجرامها.

(٦) التلكؤ : التوقف والتباطؤ

١٢٥

مسكنا لملائكته ، ولا مصعدا للكلم الطّيّب والعمل الصّالح من خلقه ، جعل نجومها أعلاما يستدلّ بها الحيران فى مختلف فجاج الأقطار ، لم يمنع ضوء نورها ادلهمام سجف اللّيل المظلم (١) ، ولا استطاعت جلابيب سواد الحنادس أن تردّ ما شاع فى السّموات من تلألؤ نور القمر ، فسبحان من لا يخفى عليه سواد غسق داج ، ولا ليل ساج (٢) فى بقاع الأرضين المتطأطئات ، ولا فى يفاع

__________________

(١) ادلهمام الظلمة : كثافتها وشدتها ، والسجف ـ بالكسر ، والفتح ـ : الستر ، والجلابيب : جمع جلباب ، وهو توب واسع تلبسه المرأة فوق ثيابها كأنه ملحفة. ووجه الاستعارة فيها ظاهر ، والحنادس : جمع حندس ـ بكسر الحاء ـ : وهو الليل المظلم

(٢) الساجى : الساكن ، ووصف الليل بالسكون وصف له بصفة المشمولين به ، فان الحيوانات تسكن بالليل وتطلب أرزاقها بالنهار. والمتطأطئات : المنخ‍.٣٠٣فضات ، واليفاع : التل ، أو المرتفع مطلقا من الأرض ، والسفع : جمع سفعاء ، وهى السوداء تضرب إلى الحمرة ، والمراد منها الجبال ، عبر عنها بلونها فيما يظهر للنظر على بعد ، وما يجلجل به الرعد : صوته ، والجلجلة : صوت الرعد ، وتلاشت : اضمحلت ، وأصله من «لشا» بمعنى خس بعد رفعة ، وما يضمحل عنه البرق هو الأشياء التى ترى عند لمعانه. والعواصف : الرياح الشديدة ، وإضافتها للأنواء من إضافة الشىء لمصاحبه عادة. والأنواء : جمع نوء ، وهو أحد منازل القمر ، يعدها العرب ثمانية وعشرين يغيب منها عن الأفق فى كل ثلاث عشرة ليلة منزلة ، ويظهر عليه أخرى. والمغيب والظهور عند طلوع الفجر ، وكانوا ينسبون المطر لهذه الأنواء فيقولون : «مطرنا بنوء كذا» لمصادفة : هبوب الرياح وهطول الأمطار فى أوقات ظهور بعضها حتى جاء الاسلام فأبطل الاعتقاد بتأثير الكواكب فى الحوادث الأرضية تأثيرا روحانيا

١٢٦

السّفع المتجاورات ، وما يتجلجل به الرّعد فى أفق السّماء ، وما تلاشت عنه بروق الغمام ، وما تسقط من ورقة تزيلها عن مسقطها عواصف الأنواء وانهطال السّماء (١) ، ويعلم مسقط القطرة ومقرّها ، ومسحب الذّرّة ومجرّها ، وما يكفى البعوضة من قوتها ، وما تحمل الأنثى فى بطنها.

الحمد للّه الكائن قبل أن يكون كرسىّ أو عرش ، أو سماء أو أرض ، أو جانّ أو إنس ، لا يدرك بوهم ، ولا يقدّر بفهم ، ولا يشغله سائل ، ولا ينقصه نائل (٢) ، ولا ينظر بعين ، ولا يحدّ بأين ، ولا يوصف بالأزواج ، ولا يخلق بعلاج ، ولا يدرك بالحواسّ ، ولا يقاس بالنّاس. الّذى كلّم موسى تكليما ، وأراه من آياته عظيما ، بلا جوارح ولا أدوات ، ولا نطق ولا لهوات (٣).

بل إن كنت صادقا أيّها المتكلّف لوصف ربّك (٤) ، فصف جبرائيل وميكائيل

__________________

(١) السماء هنا : المطر ، وانهطاله : انصبابه. ومسقط القطرة : موضع سقوطها ومقرها : موضع قرارها. ومسحب الذرة ومجرها : موضع سحبها وجرها ، والذرة : الصغيرة من النمل

(٢) النائل : العطاء ، والأين : المكان ، والأزواج : القرناء والأمثال. أى : لا يقال «ذو قرناء» ولا «هو قرين لشىء» ، والعلاج لا يكون إلا بين شيئين أحدهما يقاوم الآخر فيتغلب الآخر عليه ، واللّه لا يعالج شيئا ، بل يقول له «كن» فيكون!

(٣) اللهوات : جمع لهاة ، وهى اللحمة المشرفة على الحلق فى أقصى الفم

(٤) المتكلف : هو شديد التعرض لما لا يعنيه ، أى : إن كنت ـ أيها المتعرض ل

١٢٧

وجنود الملائكة المقرّبين فى حجرات القدس مرجحنّين (١) متولّهة عقولهم أن يحدّوا أحسن الخالقين. فإنّما يدرك بالصّفات ذوو الهيئات والأدوات ، ومن ينقضى إذا بلغ أمد حدّه بالفناء! فلا إله إلاّ هو أضاء بنوره كلّ ظلام ، وأظلم بظلمته كلّ نور.

أوصيكم عباد اللّه بتقوى اللّه الّذى ألبسكم الرّياش (٢) وأسبغ عليكم المعاش ولو أنّ أحدا يجد إلى البقاء سلّما أو إلى دفع الموت سبيلا لكان ذلك سليمان ابن داود عليه السّلام : الّذى سخّر له ملك الجنّ والإنس مع النّبوّة وعظيم الزّلفة ، فلمّا استوفى طعمته (٣) واستكمل مدّته ، رمته قسىّ الفناء بنبال الموت ، وأصبحت الدّيار منه خالية ، والمساكن معطّلة ، وورثها قوم آخرون ، وإنّ لكم فى القرون السّالفة لعبرة! أين العمالقة وأبناء العمالقة؟ أين الفراعنة وأبناء الفراعنة؟ أين أصحاب مدائن الرّسّ الّذين قتلوا النّبيّين. وأطفأوا سنن

__________________

ما لا يعنيك من وصف ربك ـ صادقا فى دعوى القدرة على وصفه فصف أحد مخلوقاته! فاذا عجزت فأنت عن وصف الخالق أشد عجزا

(١) الحجرات : جمع حجرة ـ بضم الحاء ـ : الغرفة. والمرجحن ـ كالمقشعر ـ المائل لثقله والمتحرك يمينا وشمالا ، تقول : ارجحن الحجر ـ على وزان اطمأن واقشعر ـ إذا مال هاويا. كناية عن انحنائهم لعظمة اللّه واهتزازهم لهيبته. و «متولهة» أى : حائرة ، أو متخوفة

(٢) الرياش : اللباس الفاخر. وأسبغ : أوسع

(٣) الطعمة ـ بالضم ـ : المأكلة ، أى : ما يؤكل ، والمراد رزقه المقسوم

١٢٨

المرسلين ، وأحيوا سنن الجيّارين (١)؟ أين الّذين ساروا بالجيوش ، وهزموا بالألوف ، وعسكروا العساكر ، ومدّنوا المدائن؟! منها : قد لبس للحكمة جنّتها (٢) ، وأخذ [ها] بجميع أدبها : من الإقبال عليها ، والمعرفة بها ، والتّفرّغ لها ، وهى عند نفسه ضالّته الّتى يطلبها ، وحاجته الّتى يسأل عنها ، فهو مغترب إذا اغترب الإسلام (٣) وضرب بعسيب ذنبه

__________________

(١) سئل أمير المؤمنين عن أصحاب مدائن الرس ـ فيما رواه الرضى عن آبائه إلى جده الحسين ـ فقال : إنهم كانوا يسكنون فى مدائن لهم على نهر يسمى الرس من بلاد المشرق (هو نهر أرس فى بلاد أذربيجان) وكانوا يعبدون شجرة صنوبر مغروسة على شفير عين تسمى دوشاب (يقال : غرسها يافث بن نوح) وكان اسم الصنوبرة «ساه درخت» وعدة مدائنهم اثنتى عشرة مدينة : اسم الأولى أبان ، والثانية آذر ، والثالثة دى ، والرابعة بهمن ، والخامسة اسفندارمز ، والسادسة فروردين ، والسابعة اردى بهشت ، والثامنة خرداد ، والتاسعة مرداد ، والعاشرة تير ، والحادية عشرة مهر ، والثانية عشرة شهر نور. فبعث اللّه لهم نبيا ينهاهم عن عبادة الشجرة ويأمرهم بعبادة اللّه ، فبغوا عليه وقتلوه أشنع قتل : حيث أقاموا فى العين أنابيب من رصاص بعضها فوق بعض كالبرابخ ، ثم نزعوا منها الماء ، واحتفروا حفرة فى قعرها ، وألقوا نبيهم فيها حيا ، واجتمعوا يسمعون أنينه وشكواه ، حتى مات ، فعاقبهم اللّه بارسال ريح عاصفة ملتهبة سلقت أبدانهم ، وقذفت عليهم الأرض مواد كبريتية متقدة فذابت أجسادهم وهلكوا وانقلبت مدائنهم

(٢) جنة الحكمة : ما يحفظها على صاحبها من الزهد والورع ، والكلام فى العارف مطلقا

(٣) هو مع الاسلام : فاذا صار الاسلام غريبا اغترب معه لا يضل عنه. عسيب الذنب : أصله ، والضمير فى «ضرب» للاسلام ، وهذا كناية عن التعب والأعياء ، يريد أنه ضعف ، والجران ـ ككتاب ـ : مقدم عنق البعير من المذبح إلى المنحر

١٢٩

وألصق الأرض بجرانه ، بقيّة من بقايا حجّته (١) ، خليفة من خلائف أنبيائه.

ثم قال عليه السلام :

أيّها النّاس ، إنّى قد بثثت لكم المواعظ الّتى وعظ الأنبياء بها أممهم ، وأدّيت [إليكم] ما أدّت الأوصياء إلى من بعدهم ، وأدّبتكم بسوطى فلم تستقيموا ، وحدوتكم بالزّواجر فلم تستوسقوا (٢)!! للّه أنتم ، أتتوقّعون إماما غيرى يطأ بكم الطّريق ، ويرشدكم السّبيل؟! ألا إنّه قد أدبر من الدّنيا ما كان مقبلا ، وأقبل منها ما كان مدبرا ، وأزمع التّرحال عباد اللّه الأخيار ، وباعوا قليلا من الدّنيا لا يبقى بكثير من الآخرة لا يفنى ، ما ضرّ إخواننا الّذين سفكت دماؤهم وهم بصفّين أن لا يكونوا اليوم أحياء يسيغون الغصص ، ويشربون الرّنق (٣)؟! قد ـ واللّه ـ لقوا اللّه فوفّاهم أجورهم ، وأحلّهم دار الأمن بعد خوفهم ، أين إخوانى الّذين ركبوا

__________________

، «٩ ـ ن ـ ج ـ ٢» والبعير أقل ما يكون نفعه عند بروكه ، وإلصاق جرانه بالأرض : كناية عن الضعف كسابقه.

(١) «بقية» : تابع «لمغترب» ، وضمير «حجته ، وأنبيائه» للّه المعلوم من الكلام

(٢) استوسقت الأبل : اجتمعت وانضم بعضها إلى بعض

(٣) الرنق ـ بكسر النون ، وفتحها ، وسكونها ـ : الكدر ، ويقال : ماء رنق ، أى : كدر. وتقول : رنق الماء يرنق رنقا ـ مثل فرح يفرح فرحا ، ومثل نصر ينصر نصرا ـ وجاء مصدره على رنوق مثل جلوس ـ وكذلك ترنق ، أى : كدر وأرنقته أنا ورنقته ، أى : كدرته

١٣٠

الطّريق ومضوا على الحقّ؟ أين عمّار (١)؟ وأين ابن التّيّهان؟ وأين ذو الشّهادتين؟ وأين نظراؤهم من إخوانهم الّذين تعاقدوا على النّيّة ، وأبرد برءوسهم إلى الفجرة؟! قال : ثم ضرب بيده على لحيته الشريفة الكريمة فأطال البكاء ، ثم قال عليه السلام :

أوه على إخوانى الّذين قرأوا القرآن فأحكموه (٢) ، وتدبّروا الفرض فأقاموه ، أحيوا السّنّة ، وأماتوا البدعة ، دعوا للجهاد فأجابوا ، ووثقوا بالقائد فاتّبعوه

__________________

(١) عمار بن ياسر من السابقين الأولين ، وهو عمار بن ياسر بن عامر بن كنانة بن قيس ، العنسى ـ بالنون بعد العين المهملة ـ المذحجى ، حليف بنى مخزوم ، وكنيته أبو اليقظان. وكان عمار رضى اللّه عنه ممن عذب فى اللّه تعالى هو وأبوه وأخوه وأمه فى بدء دعوة النبى صلّى اللّه عليه وآله وسلم ، وقد مر بهم النبى وهم يعذبون فبشرهم بالجنة وقال لهم «صبرا آل ياسر» وفى عمار نزل قوله تعالى : «إِلاّٰ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمٰانِ» وقد روى خالد بن الوليد عن النبى صلّى اللّه عليه وآله وسلم «من أبغض عمارا أبغضه اللّه» وأبو الهيثم مالك بن التيهان ـ بتشديد الياء وكسرها ـ من أكابر الصحابة ، ذكر أبو نعيم وابن عبد البر أن أبا الهيثم مالك بن التيهان ـ وهو عمرو بن الحارث ـ شهد صفين واستشهد بها. وأنكر ذلك ابن قتيبة وذو الشهادتين : خزيمة بن ثابت بن الفاكه بن ثعلبة الخطمى الأنصارى من بنى خطمة من الأوس قبل النبى شهادته بشهادة رجلين فى قصة مشهورة ، كلهم قتلوا فى صفين. وأبرد برؤسهم ، أى : أرسلت مع البريد بعد قتلهم إلى البغاة للتشفى منهم رضى اللّه عنهم

(٢) أوه ـ بفتح الهمزة وسكون الواو وكسر الهاء ـ كلمة توجع.

١٣١

ثم نادى باعلى صوته :

الجهاد الجهاد عباد اللّه!! ألا وإنّى معسكر فى يومى هذا ، فمن أراد الرّواح إلى اللّه فليخرج.

قال نوف : وعقد للحسين ـ عليه السلام ـ فى عشرة آلاف ، ولقيس بن سعد رحمه اللّه فى عشرة آلاف ، ولأبى أيوب الأنصارى فى عشرة آلاف ، ولغيرهم على أعداد أخر ، وهو يريد الرجعة إلى صفين ، فما دارت الجمعة حتى ضربه الملعون ابن ملجم لعنه اللّه ، فتراجعت العساكر فكنا كأغنام فقدت راعيها تختطفها الذئاب من كل مكان.

١٧٨ ـ ومن خطبة له عليه السّلام

الحمد للّه المعروف من غير رؤية ، الخالق من غير منصبة (١) خلق الخلائق بقدرته ، واستعبد الأرباب بعزّته ، وساد العظماء بجوده. وهو الّذى أسكن الدّنيا خلقه ، وبعث إلى الجنّ والإنس رسله ، ليكشفوا لهم عن غطائها ، وليحذّروهم من ضرّائها ، وليضربوا لهم أمثالها ، وليهجموا عليهم بمعتبر من تصرّف مصاحّها وأسقامها (٢) ، وليبصروهم عيوبها وحلالها وحرامها ، وما

__________________

(١) المنصبة ـ كمصطبة ـ : التعب ، وفعله نصب ينصب نصبا ـ مثل تعب يتعب تعبا ، وزنا ومعنى ـ و «هم ناصب» أى : ذو نصب ، مثل تامر ولابن ، وهو فى قول النابغة كلينى لهم يا أميمة ناصب وقيل هو فاعل بمعنى مفعول فيه ، لأنه ينصب فيه ويتعب ، مثل قولهم نهار صائم وليل نائم ويوم عاصف

(٢) هجم عليه ـ كنصر ـ : دخل غفلة ، والمعتبر : مصدر ميمى بمعنى الاعتبار والاتعاظ ، والتصرف : التبدل ، والمصاح : جمع مصحة ـ بكسر الصاد وفتحها ـ بمعنى الصحة والعافية. كان الناس فى غفلة عن سر تعاقب الصحة والمرض على بدن الانسان حتى نبهتهم رسل اللّه إلى أن هذا ابتلاء منه سبحانه ليعرف الانسان عجزه ، وأن أمره بيد خالقه

١٣٢

أعدّ اللّه للمطيعين منهم والعصاة من جنّة ونار وكرامة وهوان.

أحمده إلى نفسه كما استحمد إلى خلقه (١) ، وجعل لكلّ شىء قدرا ، ولكلّ قدر أجلا ، ولكلّ أجل كتابا.

منها : [فى ذكر القرآن] : فالقرآن آمر زاجر ، وصامت ناطق ، حجّة اللّه على خلقه : أخذ عليهم ميثاقه ، وارتهن عليه أنفسهم (٢) ، أتمّ نوره ، وأكمل به دينه ، وقبض نبيّه ، صلّى اللّه عليه وآله ، وقد فرغ إلى الخلق من أحكام الهدى به ، فعظّموا منه سبحانه ما عظّم من نفسه ، فإنّه لم يخف عنكم شيئا من دينه ، ولم يترك شيئا رضيه أو كرهه ، إلاّ وجعل له علما باديا ، وآية محكمة

__________________

(١) أى : كما طلب من خلقه أن يحمدوه

(٢) جعل القرآن آمرا زاجرا لما كان اللّه تعالى آمرا به زاجرا ، فأسند الأمر والزجر إليه كما تقول سيف قاطع وقاتل ، وإنما القاطع والقاتل الضارب به ، وجعله صامتا ناطقا باعتبارين ، فانه من حيث هو حروف وأصوات صامت ، إذ كان يستحيل أن تكون الحروف ناطقة ، وهو من حيث تضمنه الاخبار والأمر والنهى والنداء وغير ذلك من أقسام الكلام التى ينطق بها كأنه ناطق ، لأنه الفهم يقع عنده ، وهذا من باب المجاز ، كما تقول : هذه ربوع ناطقة ، وأخبرتنى الديار بعد رحيلهم كذا ، وما أشبه ذلك ، وقوله «ارتهن عليه أنفسهم» حبس نفوسهم فى ضنك المؤاخذة حتى يؤدوا حق القرآن من العمل به ، فان لم يفعلوا لم يخلصوا بل يهلكوا.

١٣٣

تزجر عنه أو تدعو إليه ، فرضاه فيما بقى واحد ، وسخطه فيما بقى واحد.

واعلموا أنّه لن يرضى عنكم بشىء سخطه على من كان قبلكم ، ولن يسخط عليكم بشىء رضيه ممّن كان قبلكم ، وإنّما تسيرون فى أثر بيّن ، وتتكلّمون برجع قول قد قاله الرّجال من قبلكم ، قد كفاكم مؤونة دنياكم ، وحثّكم على الشّكر ، وافترض من ألسنتكم الذّكر ، وأوصاكم بالتّقوى وجعلها منتهى رضاه وحاجته من خلقه ، فاتّقوا اللّه الّذى أنتم بعينه (١) ، ونواصيكم بيده ، وتقلّبكم فى قبضته : إن أسررتم علمه ، وإن أعلنتم كتبه ، قد وكّل بكم حفظة كراما ، لا يسقطون حقّا ، ولا يثبتون باطلا ، واعلموا أنّ من يتّق اللّه يجعل له مخرجا من الفتن ، ونورا من الظّلم ، ويخلده فيما اشتهت نفسه ، وينزله منزلة الكرامة عنده ، فى دار اصطنعها لنفسه : ظلّها عرشه ، ونورها بهجته ، وزوّارها ملائكته ، ورفقاؤها رسله. فبادروا المعاد ، وسابقوا الآجال ، فإنّ النّاس يوشك أن ينقطع بهم الأمل ، ويرهقهم الأجل (٢) ، ويسدّ عنهم باب التّوبة ، فقد أصبحتم فى مثل ما سأل إليه الرّجعة من كان قبلكم (٣) ، وأنتم

__________________

(١) يقال «فلان بعين فلان» إذا كان بحيث لا يخفى عليه منه شىء

(٢) أى : يغشاهم بالمنية

(٣) أى : إنكم فى حالة يمكنكم فيها العمل لآخرتكم ، وهى الحالة التى ندم المهملون على فواتها وسألوا الرجعة إليها ، كما حكى اللّه عنهم إذ يقول الواحد منهم : «رَبِّ اِرْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صٰالِحاً فِيمٰا تَرَكْتُ»

١٣٤

بنو سبيل على سفر من دار ليست بداركم ، وقد أوذنتم منها بالارتحال ، وأمرتم فيها بالزّاد ، واعلموا أنّه ليس لهذا الجلد الرّقيق صبر على النّار ، فارحموا نفوسكم فإنّكم قد جرّبتموها فى مصائب الدّنيا. أفرأيتم جزع أحدكم من الشّوكة تصيبه والعثرة تدميه ، والرّمضاء تحرقه؟ فكيف إذا كان بين طابقين من نار ، ضجيع حجر ، وقرين شيطان (١)؟! أعلمتم أنّ مالكا إذا غضب على النّار حطم بعضها بعضا لغضبه (٢) ، وإذا زجرها توثّبت بين أبوابها جزعا من زجرته؟؟!! أيّها اليفن الكبير (٣) الّذى قد لهزه القتير! كيف أنت إذا التحمت أطواق النّار بعظام الأعناق ، ونشبت الجوامع (٤) حتّى أكلت لحوم السّواعد؟!

__________________

(١) الرمضاء : الأرض للشديدة الحرارة. والرمض ـ بفتح الراء والميم ـ شدة وقع الشمس على الرمل وغيره. وقد رمض يومنا يرمض رمضا ـ مثل طرب يطرب طربا ـ أى : اشتد حره. ورمضت قدمه : احترقت بالرمضاء. والطابق ـ بفتح الياء ـ الآجرة الكبيرة ، وهو فارس معرب. وقوله «ضجيع حجر» يشير به إلى قوله تعالى «وَقُودُهَا اَلنّٰاسُ وَاَلْحِجٰارَةُ» وقوله «وقرين شيطان» يشير به إلى قوله تعالى : «قٰالَ قَرِينُهُ رَبَّنٰا مٰا أَطْغَيْتُهُ»

(٢) مالك : هو الموكل بالجحيم ، و «حطم بعضها بعضا» معناه كسره أو أكله والحطمة : من أسماء النار لأنها تحطم ما تلاقيه ، ومنه سمى الرجل الكثير الأكل حطمة

(٣) اليفن ـ بالتحريك ـ : الشيخ المسن ، و «لهزه» أى : خالطه ، والقتير : الشيب ، ويقال : ملهوز ، ثم أشمط ، ثم أشيب

(٤) نشبت ـ كفرحت ـ علقت ، والجوامع : جمع جامعة ، وهى الغل والكيل ، لأنها تجمع اليدين إلى العنق

١٣٥

فاللّه اللّه ، معشر العباد ، وأنتم سالمون فى الصّحّة قبل السّقم!! وفى الفسحة قبل الضّيق ، فاسعوا فى فكاك رقابكم من قبل أن تغلق رهائنها (١) : أسهروا عيونكم. وأضمروا بطونكم ، واستعملوا أقدامكم ، وأنفقوا أموالكم ، وخذوا من أجسادكم فجدّدوا بها على أنفسكم ولا تبخلوا بها عنها ، فقد قال اللّه سبحانه : «إِنْ تَنْصُرُوا اَللّٰهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدٰامَكُمْ» وقال تعالى : «مَنْ ذَا اَلَّذِي يُقْرِضُ اَللّٰهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضٰاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ» ، فلم يستنصركم من ذلّ ، ولم يستقرضكم من قلّ ، استنصركم وله جنود السّموات والأرض وهو العزيز الحكيم ، واستقرضكم وله خزائن السّموات والأرض وهو الغنىّ الحميد ، [وإنّما] أراد أن يبلوكم (٢) أيّكم أحسن عملا ، فبادروا بأعمالكم تكونوا مع جيران اللّه فى داره رافق بهم رسله ، وأزارهم ملائكته ، وأكرم أسماعهم أن تسمع حسيس نار أبدا (٣) وصان أجسادهم أن تلقى لغوبا ونصبا (٤)

__________________

(١) غلق الرهن ـ كفرح ـ استحقه صاحب الحق ، وذلك إذا لم يمكن فكاكه فى الوقت المشروط.

(٢) يختبركم

(٣) الحسيس : الصوت الخفى

(٤) لغب ـ كسمع ، ومنع ، وكرم ـ لغبا ولغوبا : أعيى أشد الأعياء ، والنصب التعب أيضا

١٣٦

«ذٰلِكَ فَضْلُ اَللّٰهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشٰاءُ وَاَللّٰهُ ذُو اَلْفَضْلِ اَلْعَظِيمِ». أقول ما تسمعون ، واللّه المستعان على نفسى وأنفسكم. وهو حسبى ونعم الوكيل.

١٧٩ ـ ومن كلام له عليه السّلام

قاله للبرج بن مسهر الطائى (١) وقد قال له بحيث يسمعه :

«لا حكم إلا للّه» ، وكان من الخوارج اسكت! قبّحك اللّه يا أثرم (٢) فو اللّه لقد ظهر الحقّ فكنت فيه ضئيلا شخصك ، خفيّا صوتك ، حتّى إذا نعر الباطل نجمت نجوم قرن الماعز

١٨٠ ـ ومن خطبة له عليه السّلام (٣)

الحمد للّه الّذى لا تدركه الشّواهد ، ولا تحويه المشاهد ، ولا تراه النّواظر ، ولا تحجبه السّواتر ، الدّالّ على قدمه بحدوث خلقه ، وبحدوث خلقه على

__________________

(١) أحد شعراء الخوارج وهو البرج بن مسهر ـ بضم الميم وكسر الهاء بينهما سين ساكنة ـ بن الجلاس بن وهب بن قيس بن عبيد بن طريف بن مالك بن جدعاء بن ذهل

(٢) «قبحك اللّه» أى : نحاك وأبعدك عن الخير ، أو فل حدتك وكسر شوكتك نقول : قبحت الجوزة ـ من باب فتح ـ إذا كسرتها. والثرم ـ محركا ـ سقوط الثنية من الأسنان ، وكان البرج ساقط الثنية فأهانه بأن دعاه به كما يهان الأعور بأن يقال له يا أعور. والضئيل : النحيف المهزول ، كناية عن الضعف. ونعر : أى صاح. ونجمت : ظهرت وبرزت ، والتشبيه بقرن الماعز فى الظهور على غير شور

(٣) من هنا إلى آخر الجزء الثانى من هذه المطبوعة اختلف ترتيب النسخ بتقديم بعض الخطب على بعض ، وقد قوبلت كل خطبة على النسخ المتعددة كما صنع بسائر الكتاب

١٣٧

وجوده ، وباشتباههم على أن لا شبه له ، الّذى صدق فى ميعاده ، وارتفع عن ظلم عباده ، وقام بالقسط فى خلقه ، وعدل عليهم فى حكمه ، مستشهد بحدوث الأشياء على أزليّته ، وبما وسمها به من العجز على قدرته ، وبما اضطرّها إليه من الفناء على دوامه. واحد لا بعدد ، دائم لا بأمد (١) ، وقائم لا بعمد.

تتلقّاه الأذهان لا بمشاعرة (٢) ، وتشهد له المرائى لا بمحاضرة. لم تحط به الأوهام بل تجلّى لها وبها امتنع منها ، وإليها حاكمها (٣) ليس بذى كبر امتدّت به النّهايات فكبّرته تجسيما ، ولا بذى عظم تناهت به الغايات فعظّمته تجسيدا ، بل كبر شأنا ، وعظم سلطانا.

وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله الصّفىّ وأمينه الرّضىّ ، صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ، أرسله بوجوب الحجج (٤) وظهور الفلج ، وإيضاح المنهج ، فبلّغ الرّسالة

__________________

(١) الأمد : الغاية

(٢) المشاعرة : انفعال إحدى الحواس بما تحسه من جهة عروض شىء منه عليها والمرائى : جمع مرآة ـ بالفتح ـ وهى المنظر ، أى : تشهد له مناظر الأشياء لا بحضوره فيها شاخصا للأبصار

(٣) أى : إنه بعد ما تجلى للأوهام بآثاره فعرفته امتنع عليها بكنه ذاته ، وحاكمها إلى نفسها حيث رجعت بعد البحث حاسئة وحسيرة معترفة بالعجز عن الوصول إليه

(٤) أى : ليلزم العباد بالحجج البينة على ما دعاهم اليه من الحق ، والفلج : الظفر والفوز ، وهو بفتح فسكون ، وتقول : فلج على خصمه ـ من باب نصر ـ وفى المثل «من يأت الحكم وحده يفلج» وتقول : أفلجه اللّه عليه ، أى : أظفره. والاسم الفلج ، بوزن القفل ، وظهور الفلج : علو كلمة الدين

١٣٨

صادعا بها ، وحمل على المحجّة دالاّ عليها ، وأقام أعلام الاهتداء ، ومنار الضّياء ، وجعل أمراس الإسلام متينة (١) ، وعرى الإيمان وثيقة.

منها : فى صفة [عجيب] خلق أصناف من الحيوانات :

ولو فكّروا فى عظيم القدرة ، وجسيم النّعمة ، لرجعوا إلى الطّريق ، وخافوا عذاب الحريق ، ولكنّ القلوب عليلة ، والبصائر مدخولة! ألا ينظرون إلى صغير ما خلق كيف أحكم خلقه ، وأتقن تركيبه ، وفلق له السّمع والبصر ، وسوّى له العظم والبشر (٢)؟

أنظروا إلى النّملة فى صغر جثّتها ، ولطافة هيئتها ، لا تكاد تنال بلحظ البصر ، ولا بمستدرك الفكر ، كيف دبّت على أرضها ، وصبت على رزقها! تنقل الحبّة إلى جحرها ، وتعدّها فى مستقرّها ، تجمع فى حرّها لبردها ، وفى ورودها لصدرها (٣) مكفولة برزقها ، مرزوقة بوفقها ، لا يغفلها المنّان ، ولا يحرمها

__________________

(١) الأمراس : جمع مرس ـ بالتحريك ـ وهو جمع مرسة ـ بالتحريك ـ : وهو الحبل

(٢) جمع بشرة : وهى ظاهر الجلد الانسانى

(٣) الصدر ـ محركا ـ : الرجوع بعد الورود. وقوله «بوفقها» بكسر الواو أو فتحها ، مع سكون الفاء فيهما ـ أى : بما يوافقها من الرزق ويلائم طبعها ، أو بما هو قدر كفايتها منه

١٣٩

الدّيّان ، ولو فى الصّفا اليابس ، والحجر الجامس (١) ، ولو فكّرت فى مجارى أكلها ، فى علوها وسفلها ، وما فى الجوف من شراسيف بطنها (٢) وما فى الرّأس من عينها وأذنها ، لقضيت من خلقها عجبا ، ولقيت من وصفها تعبا ، فتعالى الّذى أقامها على قوائمها ، وبناها على دعائمها! لم يشركه فى فطرتها فاطر ، ولم يعنه فى خلقها قادر. ولو ضربت فى مذاهب فكرك لتبلغ غاياته ما دلّتك الدّلالة إلاّ على أنّ فاطر النّملة هو فاطر النّخلة ، لدقيق تفصيل كلّ شىء (٣) وغامض اختلاف كلّ حىّ!! وما الجليل واللّطيف ، والثّقيل والخفيف ، والقوىّ والضّعيف ، فى خلقه إلاّ سواء!! وكذلك السّماء والهواء ، والرّياح والماء.

فانظر إلى الشّمس والقمر ، والنّبات والشّجر ، والماء والحجر ، واختلاف هذا اللّيل والنّهار ، وتفجّر هذه البحار ، وكثرة هذه الجبال ، وطول هذه

__________________

(١) الجامس : الجامد

(٢) الشراسيف : مقاط الأضلاع ، وهى أطرافها التى تشرف على البطن ، والواحد شرسوف ـ بزنة عصفور ـ أو الشرسوف : غضروف معلق بكل عضو مثل غضروف الكتف ، وقال ابن الأعرابى : الشرسوف : رأس الضلع مما يلى البطن ، وقال أعشى بأهلة يرثى أخاه لأمه المنتشر بن وهب الباهلى : ـ

لا يتأرى لما فى القدر يرقبه

ولا يعض على شرسوفه الصفر

(لا يتأرى : لا يتحبس. والصفر : الجوع ، وقيل : دابة تعض الضلوع والشراسيف)

(٣) أى : إن دقة التفصيل فى النملة ـ على صغرها ـ والنخلة ـ على طولها ـ تدلك على أن الصانع واحد

١٤٠