نهج البلاغة - ج ٢

محمد عبده

نهج البلاغة - ج ٢

المؤلف:

محمد عبده


المحقق: محمّد محيى الدين عبد الحميد
الموضوع : الحديث وعلومه
المطبعة: مطبعة الإستقامة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٧١

صانعا؟ قال : كنت تاركهم ومخالفهم إلى الكلأ والماء ، (١). فقال عليه السلام :

فامدد إذا يدك! فقال الرجل : فو اللّه ما استطعت أن أمتنع عند قيام الحجة على ، فبايعته عليه السلام (والرجل يعرف بكليب الجرمى)

١٦٦ ـ ومن خطبة له عليه السّلام

لما عزم على لقاء القوم بصفين

اللّهمّ ربّ السّقف المرفوع ، والجوّ المكفوف (٢) ، الّذى جعلته مغيضا للّيل والنّهار ، ومجرى للشّمس والقمر ، ومختلفا للنّجوم السّيّارة ، وجعلت سكّانه سبطا من ملائكتك ، لا يسأمون من عبادتك ، وربّ هذه الأرض

__________________

(١) مساقط الغيث : جمع مسقط ، وهو المكان الذى يسقط فيه. والكلأ : النبت إذا طال وأمكن أن يرعى ، وأول ما يظهر يسمى الرطب ، فاذا طال قليلا فهو الخلا ، ثمّ إذا يبس فهو حشيش. والمعاطش : جمع معطش ، وهو مكان العطش. والمجادب : جمع مجدب ، وهو مكان الجدب ، وهو القحط والمحل

(٢) الجو : ما بين الأرض والأجرام العالية ، وفيه من مصنوعات اللّه ما لا يحصى ولا يعد جنسه ، وهو بحر تسبح فيه الكائنات الجوية ، ولكنها مكفوفة عن الأرض لا تسقط عليها ، حتى يريد اللّه إحداث أمر فيها ، و «جعلته مغيضا» : من «غاض الماء» إذا نقص ، كأن هذا الجو منبع الضياء والظلام ، وهو مغيضها كما يغيض الماء فى البئر ، والكلام الآتى صريح فى أن الكواكب السيارة كالشمس والقمر تختلف ، أى : يخلف بعضها بعضا فى الجو ، فهو مجال سيرها وميدان حركاتها. والسبط ـ بالكسر ـ : الأمة ، و «لا يسأمون» أى : لا يملون. و «قرارا للأنام» أى : موضع استقرارهم وسكونهم ، و «مدرجا للهوام» أى : موضعا لدروجهم وسيرهم وحركاتهم. والهوام : جمع هامة ، وهى ما يخاف من الأحناش والحشرات

١٠١

الّتى جعلتها قرارا للأنام ، ومدرجا للهوامّ والأنعام ، وما لا يحصى ممّا يرى وممّا لا يرى ، وربّ الجبال الرّواسى الّتى جعلتها للأرض أوتادا وللخلق اعتمادا (١) ـ إن أظهرتنا على عدوّنا فجنّبنا البغى ، وسدّدنا للحقّ ، وإن أظهرتهم علينا فارزقنا الشّهادة واعصمنا من الفتنة.

أين المانع للذّمار (٢) والغائر عند نزول الحقائق من أهل الحفاظ؟! العار وراءكم ، والجنّة أمامكم.

١٦٧ ـ ومن خطبة له عليه السّلام (٣)

الحمد للّه الّذى لا توارى عنه سماء سماء (٤) ولا أرض أرضا

منها : وقد قال قائل : إنّك على هذا الأمر يا ابن أبى طالب لحريص!

__________________

(١) «اعتمادا» أى : معتمدا ، أى : ملجأ يعتصمون بها إذا طردتهم الغارات من السهول ، وكما هى كذلك للانسان هى أيضا للحيوانات تعتصم بها

(٢) الذمار ـ ككتاب ـ : ما يلزم الرجل حفظه من أهله وعشيرته ، والغائر : من «غار على امرأته أو قرينته» أن يمسها أجنبى ، والحقائق : وصف لا اسم ، يريد النوازل الثابتة التى لا تدفع ، بل لا تقلع إلا بعازمات الهمم ، و «من أهل الحفاظ» : بيان للمانع والغائر ، والحفاظ. الوفاء ورعاية الذمم

(٣) قيل : قال على عليه السلام هذا الكلام يوم السقيفة بعد موت النبى صلى اللّه عليه وسلم ، والذى قال له «إنك على هذا الأمر لحريص» هو أبو عبيدة بن الجراح ، وقيل : بل قال هذا الكلام بعد مقتل عمر عند الشورى ، والقائل له «إنك ـ الخ» صعد بن أبى وقاص

(٤) لا توارى : لا تحجب

١٠٢

فقلت : بل أنتم واللّه لأحرص وأبعد ، وأنا أخصّ وأقرب! وإنّما طلبت حقّا لى وأنتم تحولون بينى وبينه ، وتضربون وجهى دونه (١) فلمّا قرعته بالحجّة فى الملأ الحاضرين هبّ كأنّه [بهت] لا يدرى ما يجيبنى به! اللّهمّ إنّى أستعينك على قريش ومن أعانهم (٢) فإنّهم قطعوا رحمى ، وصغّروا عظيم منزلتى ، وأجمعوا على منازعتى أمرا هولى ، ثمّ قالوا : ألا إنّ [فى] الحقّ أن تأخذه وفى الحقّ أن تتركه (٣)

منها فى ذكر أصحاب الجمل :

فخرجوا يجرّون حرمة رسول اللّه (٤) ، صلى اللّه عليه وآله ، كما تجرّ الأمة عند شرائها ، متوجّهين بها إلى البصرة : فحبسا نساءهما فى بيوتهما وأبرزا حبيس

__________________

(١) ضرب الوجه : كناية عن الرد والمنع ، و «وقرعته بالحجة» : من «قرعه بالعصا» ضربه بها ، وهب : من هبب التيس ـ أى : صياحه ـ أى : كان يتكلم بالمهمل مع سرعة حمل عليها الغضب كأنه مخبول لا يدرى ما يقول

(٢) أستعينك : استنصرك وأطلب منك المعونة ، ويروى فى مكانه «أستعديك» أى : أطلب منك أن تعدينى عليهم وأن تنتصف لى منهم

(٣) «ثم قالوا ـ الخ» أى : إنهم اعترفوا بفضله ، وأنه أجدرهم بالقيام به ففى الحق أن يأخذه ، ثم لما اختار المقدم فى الشورى غيره عقدوا له الأمر ، وقالوا للامام : فى الحق أن تتركه ، فتناقض حكمهم بالحقية فى القضيتين ، ولا يكون الحق فى الأخذ إلا لمن توافرت فيه شروطه

(٤) «حرمة رسول اللّه» كناية عن زوجته ، وأراد بها عائشة أم المؤمنين رضى اللّه عنها ، ولا تزال هذه الكناية مستعملة إلى اليوم ، وكذلك قوله «حبيس رسول اللّه» كناية عنها

١٠٣

رسول اللّه ، صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ، لهما ولغيرهما (١) فى جيش ما منهم رجل إلاّ وقد أعطانى الطّاعة ، وسمح لى بالبيعة ، طائعا غير مكره ، فقدموا على عاملى بها وخزّان بيت مال المسلمين (٢) وغيرهم من أهلها : فقتلوا طائفة صبرا (٣) وطائفة غدرا! فو اللّه لو لم يصيبوا من المسلمين إلاّ رجلا واحدا معتمدين لقتله (٤) ، بلا جرم جرّه ، لحلّ لى قتل ذلك الجيش كلّه ، إذ حضروه فلم ينكروا ، ولم يدفعوا عنه بلسان ولا بيد. دع ما أنّهم قد قتلوا من المسلمين مثل العدّة الّتى دخلوا بها عليهم (٥)

١٦٨ ـ ومن خطبة له عليه السّلام

أمين وحيه ، وخاتم رسله ، وبشير رحمته ، ونذير نقمته أيّها النّاس ، إنّ أحقّ النّاس بهذا الأمر أقواهم عليه ، وأعلمهم بأمر اللّه فيه ،

__________________

(١) حبيس : فعيل بمعنى مفعول ، يستوى فيه المذكر والمؤنث ، وأم المؤمنين كانت محبوسة لرسول اللّه لا يجوز لأحد أن يمسها بعده كأنها فى حياته

(٢) خزان : جمع خازن

(٣) القتل صبرا : أن تحبس الشخص ثم ترميه حتى يموت

(٤) معتمدين : قاصدين

(٥) قوله ع «ما أنهم» أى : يحل لى قتلهم بقتل مسلم واحد عمدا. فدع من أعمالهم ما زاد على ذلك ، وهو أنهم قتلوا من المسلمين عدد جيشهم ، فذلك مما يستحقون عليه عقابا فوق حل دمائهم ، و «ما» فى قوله «ما أنهم» مثل «لو» فى قولهم «يعجبنى لو أن فلانا يتكلم» أو مثلها فى قوله تعالى : «إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مٰا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ» فهى زائدة ، أو مساعدة على سبك الجملة بالمصدر

١٠٤

فإن شغب شاغب استعتب (١) فإن أبى قوتل. ولعمرى لئن كانت الإمامة لا تنعقد حتّى تحضرها عامّة النّاس فما إلى ذلك سبيل ، ولكن أهلها يحكمون على من غاب عنها ، ثمّ ليس للشّاهد أن يرجع ، ولا للغائب أن يختار.

ألا وإنّى أقاتل رجلين : رجلا ادّعى ما ليس له ، وآخر منع الّذى عليه.

أوصيكم عباد اللّه بتقوى اللّه ، فإنّها خير ما تواصى العباد به ، وخير عواقب الأمور عند اللّه ، وقد فتح باب الحرب بينكم وبين أهل القبلة (٢) ولا يحمل هذا العلم إلاّ أهل البصر والصّبر (٣) والعلم بمواقع الحقّ ، فامضوا لما تؤمرون به ، وقفوا عند ما تنهون عنه ، ولا تعجلوا فى أمر حتّى تتبيّنوا ، فانّ لنا مع كلّ أمر تنكرونه غيرا (٤)

__________________

(١) الشغب : تهييج الفساد. واستعتب : طلب منه الرضا بالحق

(٢) أهل القبلة : من يعتقد باللّه ، وصدق ما جاء به محمد ، صلى اللّه عليه وسلم ، ويصلى معنا إلى قبلة واحدة

(٣) أى : لا يحمل علم الحرب ورايتها لقتال أهل القبلة إلا أهل العقل والمعرفة بالشرع ، وهم الامام ومن معه ، أى : ليس حملنا لهذا العلم عن جهل أو غفلة عن أحكام اللّه

(٤) أى : إذا اتفق أهل الحل والعقد من المسلمين على إنكار شىء عدلنا إلى حكمهم ، وغيرنا حكمنا ، متى كان اتفاقهم لا يخالف نصا شرعيا ، فالغير ـ بكسر ففتح ـ : اسم للتغيير أو التغير

١٠٥

ألا وإنّ هذه الدّنيا الّتى أصبحتم تتمنّونها وترغبون فيها ، وأصبحت تغضبكم وترضيكم ، ليست بداركم ولا منزلكم الّذى خلقتم له ولا الّذى دعيتم إليه ، ألا وإنّها ليست بباقية لكم ، ولا تبقون عليها ، وهى وإن غرّتكم منها فقد حذّرتكم شرّها. فدعوا غرورها لتحذيرها ، وإطماعها لتخويفها ، وسابقوا فيها إلى الدّار الّتى دعيتم إليها ، وانصرفوا بقلوبكم عنها ولا يخنّنّ أحدكم خنين الأمة على ما زوى عنه منها (١) ، واستتمّوا نعمة اللّه عليكم بالصّبر على طاعة اللّه ، والمحافظة على ما استحفظكم من كتابه. ألا وإنّه لا يضرّكم تضييع شىء من دنياكم بعد حفظكم قائمة دينكم. ألا وإنّه لا ينفعكم بعد تضييع دينكم شىء حافظتم عليه من امر دنياكم ، أخذ اللّه بقلوبنا وقلوبكم إلى الحقّ وألهمنا وإيّاكم الصّبر.

__________________

(١) الخنين ـ بالخاء المعجمة ـ : ضرب من البكاء يتردد به الصوت فى الأنف ، وأضافه إلى الأمة لأن الاماء كثيرا ما يضربن فيبكين ويسمع منهن الخنين ، ولأن الحرة تأنف من البكاء والخنين. و «زوى» أى : قبض

١٠٦

١٦٩ ـ ومن كلام له عليه السّلام

فى طلحة بن عبيد اللّه (١)

قد كنت وما أهدّد بالحرب ، ولا أرهب بالضّرب ، وأنا على ما قد وعدنى ربّى من النّصر ، واللّه ما استعجل متجرّدا للطّلب بدم عثمان (٢) إلاّ خوفا من أن يطالب بدمه لأنّه مظنّته ، ولم يكن فى القوم أحرص عليه منه (٣) فأراد أن يغالط بما أجلب فيه ليلبس الأمر (٤) ويقع الشّكّ! وو اللّه ما صنع فى أمر عثمان واحدة من ثلاث : لئن كان ابن عفّان ظالما ، كما كان يزعم ، لقد كان ينبغى له أن يؤازر قاتليه (٥) أو أن ينابذ ناصريه ، ولئن كان مظلوما لقد كان ينبغى له أن يكون من المنهنهين عنه (٦) والمعذرين فيه (٧) ولئن كان فى

__________________

(١) فى جميع النسخ المطبوعة من الكتاب «طلحة بن عبد اللّه» وفى النسخة التى شرح عليها بن أبى الحديد «طلحة بن عبيد اللّه» وهذا هو الموافق لما فى كتب الصحابة فى ترجمة طلحة رضى اللّه عنه ، فانه طلحة بن عبيد اللّه بن عثمان بن عمرو بن كعب ابن تيم بن مرة : أحد العشرة ، وأحد رجال الشورى الستة ، وأحد الثمانية الذين سبقوا إلى الاسلام ، مات يوم الجمل

(٢) متجردا : كأنه سيف تجرد من غمده

(٣) «أحرص عليه» أى : دم عثمان ، بمعنى سفكه

(٤) يلبس : رباعى من قولهم «أمر ملبس» أى : مشتبه

(٥) يؤازر : ينصر ويعين ، والمنابذة : المراماة ، والمراد المعارضة والمدافعة

(٦) نهنه عن الأمر : كفه وزجره عن إتيانه

(٧) المعذرين فيه : المعتذرين عنه فيما نقم منه

١٠٧

شكّ من الخصلتين لقد كان ينبغى له أن يعتزله ويركد جانبا (١) ويدع النّاس معه ، فما فعل واحدة من الثّلاث ، وجاء بأمر لم يعرف بابه ، ولم تسلم معاذيره.

١٧٠ ـ ومن خطبة له عليه السّلام

أيّها الغافلون غير المغفول عنهم ، والتّاركون المأخوذ منهم (٢) ما لى أراكم عن اللّه ذاهبين ، وإلى غيره راغبين؟ كأنّكم نعم أراح بها سائم إلى مرعى وبىّ ، ومشرب دوىّ (٣)!! إنّما هى كالمعلوفة للمدى ، لا تعرف ما ذا يراد بها : إذا أحسن إليها تحسب يومها دهرها (٤) وشبعها أمرها ، واللّه لو شئت أن أخبر كلّ رجل منكم بمخرجه ومولجه وجميع شأنه لفعلت (٥) ولكن أخاف

__________________

(١) ويركد جانبا : يسكن فى جانب عن القاتلين والناصرين

(٢) «التاركون ـ الخ» أى : إن التاركين لما أمروا به المأخوذة منهم أعمارهم تطويها عنهم يد القدرة ساعة بعد ساعة ، فالمأخوذ منهم صفة للتاركين.

(٣) النعم ـ محركة ـ الابل ، أو هى والغنم ، و «أراح بها» : ذهب بها ، وأصل الاراحة : الانطلاق فى الريح فاستعمله فى مطلق الانطلاق ، والسائق : الراعى ، والوبى : الردى ، يجلب الوباء ، والدوى : الوبيل ، يفسد الصحة أصله من الدوا ـ بالقصر ـ أى : المرض. والمدى : جمع مدية ، وهى السكين ، أى : معلوفة للذبح

(٤) «تحسب يومها دهرها» أى : لا تنظر إلى عواقب أمورها فلا تعد شيئا لما بعد يومها ، ومتى شبعت ظنت أنه لا شأن لها بعد هذا الشبع. هذا كلام كأنه ثوب فصل على أقدار أهل هذا الزمان

(٥) «بمخرجه ـ الخ» أى : من أين يخرج ، وأين يلج : أى يدخل :

١٠٨

أن تكفروا فىّ برسول اللّه ، صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ، ألا وإنّى مفضيه إلى الخاصّة ممّن يؤمن ذلك منه (١). والّذى بعثه بالحقّ واصطفاه على الخلق ، ما أنطق إلاّ صادقا ، وقد عهد إلىّ بذلك كلّه ، وبمهلك من يهلك ، ومنجى من ينجو ، ومآل هذا الأمر ، وما أبقى شيئا يمرّ على رأسى إلاّ أفرغه فى أدنىّ وأفضى به إلىّ.

أيّها النّاس ، إنّى واللّه ما أحثّكم على طاعة إلاّ أسبقكم إليها ولا أنهاكم عن معصية إلاّ أتناهى قبلكم عنها.

١٧١ ـ ومن خطبة له عليه السّلام

انتفعوا ببيان اللّه ، واتّعظوا بمواعظ اللّه ، واقبلوا نصيحة اللّه. فإنّ اللّه قد أعذر إليكم بالجليّة (٢) ، وأخذ عليكم الحجّة ، وبيّن لكم محابّه من الأعمال

__________________

(١) مفضية : أصله من «أفضى إليه» إذا خلا به ، أو «إلى الأرض» إذا مسها ، والمراد أنى موصله إلى أهل اليقين ممن لا تخشى عليهم الفتنة

(٢) «أعذر إليكم بالجلية» أى : بالأعذار الجلية ، والعذر هنا مجاز عن سبب العقاب فى المؤاخذة عند مخالفة الأوامر الالهية ، فان اللّه تعالى قد مكنهم من العلم اليقينى ، وأوجب عليهم ذلك فى عقولهم ، وشرحه لهم على لسان نبيه ، وبينه فى كتابه ، فاذا تركوا ما أمروا باتيانه ، أو أتوا ما أمروا بتركه ، ساغ له فى الحكمة تعذيبهم وعقوبتهم ، فكأنه قد أبان لهم عذره أن لو قال قائل منهم : لم تعذبنا؟. ومحابه من الأعمال : هى الطاعات التى أمر الشارع باتيانها ، وحبه لها : رضاه عن فاعلها. ومكارهه منها : المعاصى التى نهى الشارع عن إتيانها ، وكراهيته له : غضبه على فاعلها

١٠٩

ومكارهه منها ، لتتّبعوا هذه وتجتنبوا هذه ، فإنّ رسول اللّه ، صلّى اللّه عليه وآله وسلم ، كان يقول : «حفّت الجنّة بالمكاره وحفّت النّار بالشّهوات». واعلموا أنّه ما من طاعة اللّه شىء إلاّ يأتى فى كره (١) ، وما من معصية اللّه شىء إلاّ يأتى فى شهوة. فرحم اللّه رجلا نزع عن شهوته (٢) وقمع هوى نفسه ، فإنّ هذه النّفس أبعد شىء منزعا ، وإنّها لا تزال تنزع إلى معصية فى هوى. واعلموا عباد اللّه أن المؤمن لا يمسى ولا يصبح إلاّ ونفسه ظنون عنده (٣) فلا يزال زاريا عليها ، ومستزيدا لها. فكونوا كالسّابقين قبلكم والماضين أمامكم ، قوّضوا من الدّنيا تقويض الرّاحل (٤) ، وطووها طىّ المنازل. واعلموا

__________________

(١) أى : لا شىء من طاعة اللّه إلا وفيه مخالفة لهوى النفس البهيمية فتكره إتيانه ولا شىء من معصية اللّه إلا وهو موافق لميل حيوانى فتشتهى النفوس إتيانه

(٢) نزع عنه : انتهى وأقلع ، فان عدى بألى كان بمعنى : اشتاق ، و «أبعد منزعا» أى : نزوعا ، بمعنى الانتهاء والكف عن المعاصى

(٣) ظنون ـ كصبور ـ : هو الضعيف والقليل الحيلة ، فيريد أن المؤمن يظن فى نفسه النقص والتقصير فى الطاعة ، أو هو من البئر الظنون التى لا يدرى أفيها ماء أم لا ، فتكون هنا بمعنى متهمة ، فهو لا يثق بنفسه إذا وسوست له بأنها أدت حق ما فرض عليها ، فالمؤمن هو الذى لا يصبح ولا يمسى إلا على حذر من نفسه معتقدا فيها التقصير والتضجيع فى الطاعة ، غير قاطع بصلاحها وسلامة عاقبتها ، وقوله «زاريا عليها» أى : عائبا ، تقول : زريت عليه أزرى زراية ، مثل حكيت أحكى حكاية ، إذا عبته ، وكذلك تزرى عليه ، وقال أبو عمرو : الزارى على الانسان : الذى لا يعده شيئا وينكر عليه فعله. وقوله «ومستزيدا» أى : طالبا لها الزيادة من طيبات الأعمال

(٤) التقويض : نزع أعمدة الخيمة وأطنابها ، والمراد أنهم ذهبوا بمساكنهم وطووا مدة الحياة كما يطوى المسافر منازل سفره ، أى : مراحله ومسافاته

١١٠

أنّ هذا القرآن هو النّاصح الّذى لا يغشّ ، والهادى الّذى لا يضلّ ، والمحدّث الّذى لا يكذب ، وما جالس هذا القرآن أحد إلاّ قام عنه بزيادة أو نقصان : زيادة فى هدى ، ونقصان من عمى. واعلموا أنّه ليس على أحد بعد القرآن من فاقة (١) ولا لأحد قبل القرآن من غنى ، فاستشفوه من أدوائكم ، واستعينوا به على لأوائكم (٢) فإنّ فيه شفاء من أكبر الدّاء ، وهو الكفر والنّفاق والغىّ والضّلال. فاسألوا اللّه به (٣) وتوجّهوا إليه بحبّه ، ولا تسألوا به خلقه. إنّه ما توجّه العباد إلى اللّه بمثله ، واعلموا أنّه شافع ومشفّع ، وقائل ومصدّق ، وأنّه من شفع له القرآن يوم القيامة شفّع فيه (٤) ومن محل به القرآن يوم القيامة صدق عليه ، فإنّه ينادى مناد يوم القيامة : «ألا إنّ كلّ حارث مبتلى فى حرثه وعاقبة عمله غير حرثة القرآن» فكونوا من حرثته وأتباعه ،

__________________

(١) أى : فقر وحاجة إلى هاد سواه يرشد إلى مكارم الأخلاق وفضائل الأعمال ، وسائق إلى شرف المنازل وغايات المجد والرفعة

(٢) اللأواه : الشدة

(٣) فاطلبوا من اللّه ما تحبون من سعادة الدنيا والآخرة باتباعه ، وأقبلوا على اللّه بالرغبة فى اقتفاء هديه ، وهو المراد من حبه ، ولا تجعلوه آلة لنيل الرغبات من الخلق ، لأنه ما تقرب العباد إلى اللّه بمثل احترامه والأخذ به كما أنزل اللّه.

(٤) شفاعة القرآن : نطق آياته بانطباقها على عمل العامل ، ومحل به ـ مثلث الحاء ـ كاده بتبيين سيئاته عند السلطان ، كناية عن مباينة أحكامه لما أتاه العبد من أعماله.

١١١

واستدلّوه على ربّكم ، واستنصحوه على أنفسكم ، واتّهموا عليه آراءكم (١) ، واستغشّوا فيه أهواءكم ، العمل العمل ، ثمّ النّهاية النّهاية والاستقامة الاستقامة ثمّ الصّبر الصّبر (٢) ، والورع الورع ، إنّ لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم ، وإنّ لكم علما فاهتدوا بعلمكم (٣) ، وإنّ للإسلام غاية فانتهوا إلى غايته ، واخرجوا إلى اللّه بما افترض عليكم من حقّه (٤) وبيّن لكم من وظائفه. أنا شهيد لكم وحجيج يوم القيامة عنكم (٥).

__________________

(١) الحارث : المكتسب ، والحرث : الكسب. وحرثة القرآن : المتاجرون به وقوله «استنصحوه على أنفسكم» أى : إذا أشار عليكم بأمر وأشارت عليكم أنفسكم بأمر يخالفه فاقبلوا مشورة القرآن دون مشورة أنفسكم ، وقوله «واتهموا عليه آراءكم» مثله ، أى : إذا خالفت آراؤكم القرآن فاتهموها بالخطأ واستغشوا أهواءكم ، أى : ظنوا فيها الغش وارجعوا إلى القرآن

(٢) النصب فى هذه الأسماء على الأغراء ، وحقيقته الحث على أمر محمود ليفعله ، وحكمه تقدير فعل ـ أى : الزموا العمل ـ وإنما يكرر الاسم لينوب أحدهما عن ذكر الفعل ، ومن أجل أن أحد الاسمين بدل من التلفظ بالفعل لم يجز ذكر الفعل إذا تكرر

(٣) العلم ـ محركا ـ : يريد به القرآن

(٤) «خرج إلى فلان من حقه» أداه ، فكأنه كان حبيسا فى مؤاخذته فانطلق ، إلا أن «من حقه» فى العبارة بيان لما اقترض ، ومعمول «اخرجوا» مقدر مثله. والوظائف : ما قدر اللّه لنا من الأعمال المخصصة بالأوقات والأحوال كالصوم والصلاة والزكاة.

(٥) حجيج : من «حج» إذا أقنع بحجته ، فهو فعيل بمعنى فاعل. والامام ـ كرم اللّه وجهه ـ بعلو منزلته من اللّه يشهد للمحسنين ويقوم بالحجة عن المخلصين

١١٢

ألا وإنّ القدر السّابق قد وقع ، والقضاء الماضى قد تورّدّ (١) وإنّى متكلّم بعدة اللّه وحجّته ، قال اللّه تعالى : «إِنَّ اَلَّذِينَ قٰالُوا رَبُّنَا اَللّٰهُ ثُمَّ اِسْتَقٰامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ اَلْمَلاٰئِكَةُ أَلاّٰ تَخٰافُوا وَلاٰ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ اَلَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ» وقد قلتم ربّنا اللّه ، فاستقيموا على كتابه وعلى منهاج أمره ، وعلى الطّريقة الصّالحة من عبادته ، ثمّ لا تمرقوا منها ، ولا تبتدعوا فيها ، ولا تخالفوا عنها ، فإنّ أهل المروق منقطع بهم عند اللّه يوم القيامة ، ثمّ إيّاكم وتهزيع الأخلاق وتصريفها (٢) واجعلوا اللّسان واحدا ، وليخزن الرّجل لسانه (٣) فإنّ هذا اللّسان جموح بصاحبه ، واللّه ما أرى عبدا يتّقى تقوى تنفعه حتّى يخزن لسانه ، وإنّ لسان المؤمن من وراء قلبه (٤) ، وإنّ قلب المنافق من وراء لسانه ، لأنّ

__________________

(١) تورد : هو تفعل كتنزل ، أى : ورد شيئا بعد شىء. والمراد من القضاء الماضى ما قدر حدوثه من حادثة الخليفة الثالث وما تبعها من الحوادث ، وعدة اللّه ـ بكسر ففتح مخفف ـ : هى وعده ، أى : لا تخرجوا منها.

(٢) تهزيع الشىء : تكسيره ، والصادق إذا كذب فقد انكسر صدقه ، والكريم إذا لؤم فقد انثلم كرمه. فهو نهى عن حطم الكمال بمعول النقص. و «تصريف الأخلاق» : من «صرفته» إذا قلبته ، نهى عن النفاق والتلون فى الأخلاق ، وهو معنى الأمر بجعل اللسان واحدا

(٣) ليخزن ـ كينصر ـ أى : ليحفظ لسانه ، والجموح : من «جمح الفرس» إذا غلب فارسه فيوشك أن يطرح به فى مهلكة فيرديه.

(٤) لسان المؤمن تابع لاعتقاده لا يقول إلا ما يعتقد ، والمنافق يقول ما ينال به غايته الخبيثة ، فاذا قال شيئا أخطره على قلبه حتى لا ينساه فيناقضه مرة أخرى «٨ ـ ن ـ ج ـ ٢» فيكون قلبه تابعا للسانه

١١٣

المؤمن إذا أراد أن يتكلّم بكلام تدبّره فى نفسه : فإن كان خيرا أبداه ، وإن كان شرّا واراه ، وإنّ المنافق يتكلّم بما أتى على لسانه : لا يدرى ما ذا له ، وما ذا عليه!! ولقد قال رسول اللّه ، صلّى اللّه عليه وآله وسلّم : «لا يستقيم إيمان عبد حتّى يستقيم قلبه ، ولا يستقيم قلبه حتّى يستقيم لسانه» فمن استطاع منكم أن يلقى اللّه وهو نقىّ الرّاحة من دماء المسلمين وأموالهم ، سليم اللّسان من أعراضهم ، فليفعل.

واعلموا ، عباد اللّه ، أنّ المؤمن يستحلّ العام ما استحلّ عاما أوّل ، ويحرّم العام ما حرّم عاما أوّل (١) ، وإنّ ما أحدث النّاس لا يحلّ لكم شيئا ممّا حرّم عليكم (٢) ، [و] لكن الحلال ما أحلّ اللّه ، والحرام ما حرّم اللّه ، فقد جرّبتم الأمور وضرّستموها (٣) ووعظتم بمن كان قبلكم ، وضربت لكم الأمثال ،

__________________

(١) يريد أن الأحكام الشرعية إذا ثبتت بطريق النص لم يجز أن تنقض بالاجتهاد ، بل كل ما ورد فيه نص يتبع معه مورد النص فيه ، فما كان لك حلالا عاما أول من هذا الطريق فهو لك حلال فى هذا العام ، وكذلك القول فى التحريم ، وهذا معنى قول علماء الأصول «إن النص مقدم على الاجتهاد» و «أول» فى كلامه لا ينصرف للوصفية ووزن الفعل

(٢) البدع التى أحدثها الناس لا تغير شيئا من حكم اللّه

(٣) ضرسته الحرب : جربته ، أى : جربتموها.

١١٤

ودعيتم إلى الأمر الواضح ، فلا يصمّ عن ذلك إلاّ أصمّ (١) ولا يعمى عن ذلك إلاّ أعمى!! ومن لم ينفعه اللّه بالبلاء والتّجارب لم ينتفع بشىء من العظة ، وأتاه التّقصير من أمامه (٢) حتّى يعرف ما أنكر وينكر ما عرف ، فإنّ النّاس رجلان : متّبع شرعة ، ومبتدع بدعة ، ليس معه من اللّه برهان سنّة ، ولا ضياء حجّة ، وإنّ اللّه سبحانه لم يعظ أحدا بمثل هذا القرآن ، فإنّه حبل اللّه المتين ، وسببه الأمين (٣) ، وفيه ربيع القلب ، وينابيع العلم ، وما للقلب جلاء (٤) غيره ، مع أنّه قد ذهب المتذكّرون ، وبقى النّاسون أو المتناسون. فإذا رأيتم خيرا فأعينوا عليه ، وإذا رأيتم شرّا فاذهبوا عنه ، فإنّ رسول اللّه ، صلّى اللّه

__________________

(١) «يصم» يجوز فيه ضم حرف المضارعة وفتحه ، وهما بمعنى واحد ، تقول أصمه اللّه فصم يصم ـ مثل ظل يظل وتقول أيضا : أصمه اللّه فأصم يصم ، فذو الهمز يكون لازما ومتعديا ، وغير ذى الهمز يكون لازما ليس غير

(٢) الاتيان من الامام : كناية عن الظهور ، كأن التقصير عدو قوى يأتى مجاهرة لا يخدع ، ولا يفر ، فيأخذه أخذ العزيز المقتدر ، عند ذلك يعرف من الحق ما كان أنكر وينكر من الباطل ما كان عرف

(٣) جعل القرآن حبل اللّه لأن الحبل ينجو من تعلق به من الهوى المردية والقرآن ينجو من تعلق به من الضلال. و «المتين» القوى ، لأنه لا انقطاع له أبدا وتقول : متن الشىء ـ بضم التاء ـ أى : صلب وقوى واشتد

(٤) «ربيع القلب» لأنه يحيا كما تحيا الأنعام برعى الربيع ، والينابيع : جمع ينبوع ـ بوزان يعفور ، بفتح أوله ـ وهو عين الماء ، قال اللّه تعالى : «حَتّٰى تَفْجُرَ لَنٰا مِنَ اَلْأَرْضِ يَنْبُوعاً» والجلاء ـ بكسر الجيم ـ مصدر «جلوت السيف ونحوه» أى : صقله

١١٥

عليه وآله وسلم ، كان يقول : «يا ابن آدم اعمل الخير ودع الشّرّ فإذا أنت جواد قاصد (١)» ألا وإنّ الظّلم ثلاثة : فظلم لا يغفر ، وظلم لا يترك ، وظلم مغفور لا يطلب : فأمّا الظّلم الّذى لا يغفر فالشّرك باللّه ، قال اللّه : «إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ» وأمّا الظّلم الّذى يغفر فظلم العبد نفسه عند بعض الهنات (٢) ، وأمّا الظّلم الّذى لا يترك فظلم العباد بعضهم بعضا ، القصاص هناك شديد! ليس هو جرحا بالمدى (٣) ولا ضربا بالسّياط ، ولكنّه ما يستصغر ذلك معه (٤). فإيّاكم والتّلوّن فى دين اللّه ، فإنّ جماعة فيما تكرهون من الحقّ خير من فرقة فيما تحبّون من الباطل (٥) وإنّ اللّه سبحانه لم يعط أحدا بفرقة خيرا : ممّن مضى ولا ممّن بقى.

يا أيّها النّاس ، طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب النّاس ، وطوبى لمن

__________________

(١) مستقيم أو قريب من اللّه والسعادة. وأصل الجواد القاصد السهل السير الذى ليس بالسريع فيتعب راكبه ولا البطىء فيفوت غرض صاحبه ببطئه

(٢) بفتح الهاء جمع هنة ـ محركة ـ : وهى الشىء اليسير والعمل الحقير ، والمراد به صغائر الذنوب

(٣) جمع مدية : وهى السكين ، والسياط : جمع سوط

(٤) ولكنه العذاب الذى يعد الجرح والضرب صغيرا بالنسبة إليه

(٥) من يحافظ على نظام الألفة والاجتماع ـ وإن ثقل عليه أداء بعض حقوق الجماعة ، وشق عليه ما تكلفه به من الحق ـ فذلك الجدير بالسعادة ، دون من يسعى للشقاق وهدم نظام الجماعة وإن نال بذلك حقا باطلا وشهوة وقتية ، فقد يكون فى حظه الوقتى شقاؤه الأبدى. ومتى كانت الفرقة عم الشقاق ، وأحاطت العداوات واصبح كل واحد عرضة لشرور سواه ، فمحيت الراحة ، وفسدت حال المغيشة

١١٦

لزم بيته وأكل قوته ، واشتغل بطاعة ربّه ، وبكى على خطيئته (١) فكان من نفسه فى شغل ، والنّاس منه فى راحة!

١٧٢ ـ ومن كلام له عليه السّلام

فى معنى الحكمين

فأجمع رأى ملئكم على أن اختاروا رجلين ، فأخذنا عليهما أن يجعجعا عند القرآن (٢) ولا يجاوزاه ، وتكون ألسنتهما معه ، وقلوبهما تبعه ، فتاها عنه ، وتركا الحقّ وهما يبصرانه ، وكان الجور هواهما ، والاعوجاج رأيهما ، وقد سبق استثناؤنا عليهما فى الحكم بالعدل والعمل بالحقّ سوء رأيهما (٣) ، وجور حكمهما! والثّقة فى أيدينا لأنفسنا (٤) حين خالفا سبيل الحقّ ، وأتيا بما

__________________

(١) قوله «لمن لزم بيته» : ترغيب فى العزلة عن إثارة الفتن واجتناب الفساد ، وليس ترغيبا فى الكسالة وترك العامة وشأنهم ، فقد حث أمير المؤمنين ـ فى غير هذا الموضع ـ على مقاومة المفاسد والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر

(٢) الملأ : الجماعة. و «يجعجعا» : من «جعجع البعير» إذا برك ولزم الجعجاع ـ أى : الأرض ـ أى : أن يقيما عند القرآن. والتبع ـ محركا ـ : التابع ، للواحد والجمع. و «تاها» أى : ضلا.

(٣) «سوء» مفعول «سبق» ، أى. إن استثناءنا ، وقت التحكيم ، حيث قلنا : لا تحكموا إلا بالعدل ، كان سابقا على سوء الرأى وجور الحكم ، فهما المخالفان لما شرط عليهما لا نحن. ويصح أن يكون «سوء» مفعول استثناؤنا ، والمعنى أننا استثنينا عليهم فيما سبق أن لا يسيئا رأيا ولا يجورا حكما ، فيقبل حكمهما إلا أن يجورا ويسيئا

(٤) عبر بالثقة عن الحجة القويمة والسبب المتين فى رفض حكمهما

١١٧

لا يعرف من معكوس الحكم

١٧٣ ـ ومن خطبة له عليه السّلام

لا يشغله شأن ، ولا يغيّره زمان ، ولا يحويه مكان (١) ، ولا يصفه لسان لا يعزب عنه عدد قطر الماء (٢) ولا نجوم السّماء ، ولا سوافى الرّيح فى الهواء ، ولا دبيب النّمل على الصّفا ، ولا مقيل الذّرّ فى اللّيلة الظّلماء. يعلم مساقط الأوراق ، وخفىّ طرف الأحداق (٣) وأشهد أن لا إله إلاّ اللّه غير معدول به (٤) ولا مشكوك فيه ، ولا مكفور دينه ، ولا مجحود تكوينه (٥) شهادة من صدقت نيّته ، وصفت دخلته (٦) ، وخلص يقينه ، وثقلت موازينه

__________________

(١) شأن : أمر ، ولا يشغله أمر لأن الحى الذى تشغله الأشياء هو العالم ببعض الأشياء دون بعض القادر على بعضها دون بعض ، فأما من لا يغيب عنه شىء أصلا ، ولا يعجز عن شىء أصلا ، ولا يمنعه من إيجاد مقدوره إذا أراد مانع أصلا ، فكيف يشغله شأن؟ وكذلك «لا يغيره زمان» لأنه واجب الوجود ، و «لا يحويه مكان» لأنه ليس بجسم ، و «لا يصفه لسان» لأن كنه ذاته غير معلوم ، وإنما المعلوم إضافات أو سلوب

(٢) لا يعزب : لا يخفى عليه ، ولا يفوته علمها ، وسوافى الريح : جمع سافية ، من «سفت الريح التراب والورق» أى : حملته وذرته ، والصفا ـ مقصورا ـ : جمع صفاة ، وهى الحجر الأملس الضخم ، و «دبيب النمل» أى : حركته عليه فى غاية الخفاء لا يسمع لها حس ، والذر : صغار النمل ، ومقيلها : محل استراحتها ومبيتها

(٣) طرف الحدقة : تحريك جفنيها ، والحدقة هنا : العين

(٤) «عدل باللّه» : جعل له مثلا وعديلا

(٥) خلقه للخلق جميعا

(٦) دخلته ـ بالكسر باطنه ـ :

١١٨

وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله المجتبى من خلائقه (١) ، والمعتام لشرح حقائقه والمختصّ بعقائل كراماته ، والمصطفى لكرائم رسالاته ، والموضّحة به أشراط الهدى (٢) والمجلوّ به غربيب العمى.

أيّها النّاس ، إنّ الدّنيا تغرّ المؤمّل لها ، والمخلد إليها (٣) ، ولا تنفس بمن نافس فيها ، وتغلب من غلب عليها. وايم اللّه ما كان قوم قطّ فى غضّ نعمة من عيش فزال عنهم إلاّ بذنوب اجترحوها (٤) ، لأنّ اللّه ليس بظلاّم للعبيد.

ولو أنّ النّاس ـ حين تنزل بهم النّقم وتزول عنهم النّعم ـ فزعوا إلى ربّهم بصدق من نيّاتهم ووله من قلوبهم ، لردّ عليهم كلّ شارد ، وأصلح لهم كلّ فاسد. وإنّى لأخشى عليكم أن تكونوا فى فترة (٥) وقد كانت أمور مضت

__________________

(١) المجتبى : المصطفى ، والعيمة ـ بكسر العين ـ : المختار من المال ، واعتام : أخذها ، فالمعتام : المختار لبيان حقائق توحيده وتنزيهه ، والعقائل : الكرائم ، والكرامات : ما أكرم اللّه به نبيه من معجزات ومنازل فى النفوس عاليات

(٢) أشراط الهدى : علاماته ودلائله ، وغربيب الشىء ـ كعفريت ـ : أشده سوادا. فغربيب العمى : أشد الضلال ظلمة.

(٣) المخلد : الراكن المائل ، وفى التنزيل : «وَلٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى اَلْأَرْضِ» ونفس ـ كفرح ـ : ضن ، أى : لا تضن الدنيا بمن يبارى غيره فى اقتنائها وعدها من نفائسه ، ولا تحرص عليه ، بل تهلكه

(٤) الغض : الناضر الطرى. واجترح الذنب : اكتسبه وارتكبه

(٥) كنى بالفترة عن جهالة الغرور ، أو أراد فى فترة من عذاب ينتظر بكم عقابا على انحطاط هممكم وتباطؤكم عن جهاد عدوكم

١١٩

ملتم فيها ميلة كنتم فيها عندى غير محمودين ، ولئن ردّ عليكم أمركم إنّكم لسعداء وما علىّ إلاّ الجهد! ولو أشاء أن أقول لقلت ، عفا اللّه عمّا سلف.

١٧٤ ـ ومن كلام له عليه السّلام

وقد ساله ذعلب اليمانى (١) فقال : هل رأيت ربك يا أمير المؤمنين؟ فقال عليه السلام : أفأعبد ما لا أرى؟ فقال : وكيف تراه؟ فقال :

لا تدركه العيون بمشاهدة العيان ، ولكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان قريب من الأشياء غير ملامس (٢) ، بعيد منها غير مباين ، متكلّم لا برويّة ، مريد لا بهمّة ، صانع لا بجارحة ، لطيف لا يوصف بالخفاء ، كبير لا يوصف بالجفاء (٣) ، بصير لا يوصف بالحاسّة ، رحيم لا يوصف بالرّقّة. تعنو الوجوه

__________________

(١) الذعلب ـ بكسرتين بينهما سكون ـ فى الأصل الناقة السريعة ، ومثله الذعلبة ثم نقل إلى العلمية كما نقلوا بكرا من الفتى من الابل ، ونحو ذلك كثير ، و «اليمانى» بياء واحدة مخففة ، ولا تشدد إلا فى ضرورة الشعر ، ومثله الشآمى ، وأصلهما بمنى وشأمى ، نسبة إلى اليمن والشأم ، فحذفوا إحدى الياءين وعوضوا منها ألفا بعد حرفين من الكلمة

(٢) الملامسة والمباينة على معنى البعد المكانى من خواص المواد ، وذات اللّه مبرأة من المادة وخواصها ، فنسبة الأشياء إليها سواء ، وهى فى تعاليها ، فهى مع كل شىء ، وهى أعلى من كل شىء ، فالبعد : بعد المكانة من التنزيه ، والروية : التفكر والهمة : الاهتمام بالأمر بحيث لو لم يفعل لجر نقصا وأوجب هما وحزنا ، والجارحة : العضو البدنى

(٣) إذا وصفت العرب شيئا باللطافة فانما تعنى أنه صغير الحجم واللّه سبحانه لطيف لكن بمعنى غير هذا المعنى ، فهو لطيف بمعنى أنه لا تراه العيون لعدم صحة رؤيتها إياه ، فلما شابه اللطيف من الاجسام فى استحالة رؤيته أطلق عليه

١٢٠