نهج البلاغة - ج ١

محمد عبده

نهج البلاغة - ج ١

المؤلف:

محمد عبده


المحقق: محمّد محيى الدين عبد الحميد
الموضوع : الحديث وعلومه
المطبعة: مطبعة الإستقامة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٤٠

وبصلاحهم فى بلادهم وفسادكم. فلو ائتمنت أحدكم على قعب لخشيت أن يذهب بعلاقته (١)! اللّهمّ إنّى قد مللتهم وسئمتهم وسئمونى ، فأبدلنى بهم خيرا منهم وأبدلهم بى شرّا منّى ، اللّهمّ مث قلوبهم كما يماث الملح فى الماء (٢) ، أما واللّه لوددت أنّ لى بكم ألف فارس من بنى فرس بن غنم (٣) نالك ، لو دعوت ، أتاك منهم فوارس مثل أرمية الحميم

ثم نزل عليه السّلام من المنبر. قال الشريف : أقول : الأرمية جمع رمى وهو السحاب ، والحميم ههنا : وقت الصيف ، وإنما خص الشاعر سحاب الصيف بالذكر لأنه أشد جفولا

__________________

لصاحبهم ، وأداؤهم الأمانة ، وإصلاحهم بلادهم. وهو يشير إلى أن هذا السبب متى وجد كان النصر والقوة معه ، ومتى فقد ذهبت القوة والعزة بذهابه. فالحق ضعيف بتفرق أنصاره ، والباطل قوى بتضافر أعوانه

(١) القعب ـ بالضم ـ القدح الضخم ـ وعلاقته ـ بكسر العين ـ ما يعلق منه من ليف أو نحوه.

(٢) مث قلوبهم : أذابها ، ماثه يميثه : دافه ، أى : أذابه

(٣) بنو فراس بن غنم بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر ، أو هم بنو فراس ابن غنم بن ثعلبة بن مالك بن كنانة حى مشهور بالشجاعة ، ومنهم علقمة بن فراس وهو جذل الطعان ، ومنهم ربيعة بن مكدم ، حامى الظعن حيا وميتا ، ولم يحم الحريم أحد وهو ميت غيره : عرض له فرسان من بنى سليم ومعه ظعائن من أهله يحميهن وحده فرماه أحد الفرسان بسهم أصاب قلبه فنصب رمحه فى الأرض واعتمد عليه وأشار إليهن بالمسير فسرن حتى بلغن بيوت الحى وبنو سليم قيام ينظرون إليه لا يتقدم أحد منهم نحوه خوفا منه حتى رموا فرسه بسهم فوثبت من تحته فسقط وقد كان ميتا

٦١

وأسرع خفوفا (١) لأنه لا ماء فيه. وإنما يكون السحاب ثقيل السير لامتلائه بالماء ، وذلك لا يكون فى الأكثر إلا زمان الشتاء ، وإنما أراد الشاعر وصفهم بالسرعة إذا دعوا ، والإغاثة إذا استغيثوا ، والدليل على ذلك قوله هنالك لو دعوت أتاك منهم

٢٦ ـ ومن خطبة له عليه السّلام

إنّ اللّه بعث محمّدا صلّى اللّه عليه وسلّم وآله نذيرا للعالمين ، وأمينا على التّنزيل ، وأنتم معشر العرب على شرّ دين ، وفى شرّ دار ، منيخون بين حجارة خشن ، وحيّات صمّ (٢) تشربون الكدر ، وتأكلون الجشب (٣) ، وتسفكون دماءكم ، وتقطعون أرحامكم ، الأصنام فيكم منصوبة ، والآثام بكم معصوبة (٤) ومنها. فنظرت فإذا ليس لى معين إلاّ أهل بيتى فضننت بهم عن الموت ، وأغضيت عن القذى ، وشربت على الشّجى ، وصبرت على أخذ

__________________

(١) مصدر غريب لخف بمعنى انتقل وارتحل مسرعا ، والمصدر المعروف خفا

(٢) الخشن : جمع خشناء من الخشونة ، ووصف الحيات بالصم لأنها أخبثها إذ لا تنزجر ، وبادية الحجاز وأرض العرب يغلب عليها القفر والغلظ ، فأكثر أراضيها حجارة خشنة ، غليظة ، ثم إنه يكثر فيها الأفاعى والحيات ، فأبدلهم اللّه منها الريف ولين المهاد من أرض العراق والشام ومصر وما شابهها

(٣) الجشب : الطعام الغليظ ، أو ما يكون منه بغير أدم

(٤) معصوبة : مشدودة تمثيل للزومها لهم وقد جمع فى وصف حالهم بين فساد المعيشة وفساد العقيدة والملة

٦٢

الكظم (١) وعلى أمرّ من طعم العلقم. ومنها : ولم يبايع حتّى شرط أن يؤتيه على البيعة ثمنا (٢) فلا ظفرت يد البائع ، وخزيت أمانة المبتاع ، فخذوا للحرب أهبتها ، وأعدّوا لها عدّتها ، فقد شبّ لظاها ، وعلا سناها ، واستشعروا الصّبر فانّه أدعى إلى النّصر

٢٧ ـ ومن خطبة له عليه السّلام

أمّا بعد ، فانّ الجهاد باب من أبواب الجنّة فتحه اللّه لخاصّة أوليائه ، وهو لباس التّقوى ، ودرع اللّه الحصينة ، وجنّته الوثيقة (٣) فمن تركه رغبة عنه ألبسه اللّه ثوب الذّلّ وشملة البلاء ، وديّث بالصّغار والقماء (٤) وضرب على قلبه بالأسداد (٥) ، وأديل الحقّ منه بتضييع الجهاد وسيم الخسف (٦) ومنع

__________________

(١) الكظم بالتحريك وبضم فسكون : الحلق ، أو الفم ، أو مخرج النفس ، والكل صحيح ههنا. والمراد أنه صبر على الاختناق ، وأغضيت : غضضت طرفى على قذى فى عينى ، وما أصعب أن يغمض الطرف على قذى فى العين. والشجا : ما يعترض فى الحلق. وكل هذا تمثيل للصبر على المضض الذى ألم به من حرمانه حقه وتألب القوم عليه

(٢) ضمير يبايع إلى عمرو بن العاص ، فانه شرط على معاوية أن يوليه مصر لو تم له الأمر

(٣) جنته ـ بالضم ـ وقايته

(٤) ديث مبنى للمفعول من ديثه ، أى : ذلله ، وقمؤ الرجل كجمع وككرم قمأة وقماءة بزنة رحمة وسحابة ـ أى : ذل وصغر

(٥) الأسداد جمع سد ، يريد الحجب التى تحول دون بصيرته والرشاد. قال اللّه «وَجَعَلْنٰا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنٰاهُمْ فَهُمْ لاٰ يُبْصِرُونَ» ويروى بالاسهاب وهو ذهاب العقل أو كثرة الكلام ، أى : حيل بينه وبين الخير بكثرة الكلام بلا فائدة

(٦) أديل الحق منه ، أى : صارت الدولة للحق بدله ،

٦٣

النّصف ، ألا وإنّى قد دعوتكم إلى قتال هؤلاء القوم ليلا ونهارا ، وسرّا وإعلانا ، وقلت لكم : أغزوهم قبل أن يغزوكم فو اللّه ما غزى قوم فى عقر دارهم إلاّ ذلّوا (١) فتواكلتم ، وتخاذلتم حتّى شنّت الغارات عليكم ، وملكت عليكم الأوطان. وهذا أخو غامد وقد وردت خيله الأنبار (٢) وقد قتل حسّان بن حسّان البكرىّ وأزال خيلكم عن مسالحها (٣) ولقد بلغنى أنّ الرّجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة ، والأخرى المعاهدة ، فينتزع حجلها وقلبها وقلائدها ورعاثها (٤) ما تمنع منه إلاّ بالاسترجاع والاسترحام (٥) ثمّ انصرفوا

__________________

وسيم الخسف ، أى : أولى الخسف وكلفه ، والخسف : الذل والمشقة أيضا. والنصف بالكسر وبالتحريك ـ العدل ومنع مجهول ، أى : حرم العدل بأن يسلط اللّه عليه من يغلبه على أمره فيظلمه

(١) عقر الدار ـ بالضم ـ وسطها وأصلها. وتواكلتم وكل كل منكم الأمر إلى صاحبه ، أى : لم يتوله أحد منكم. بل أحاله كل على الآخر ومنه يوصف الرجل بالوكل ، أى : العاجز ، لأنه يكل أمره إلى غيره. وشنت الغارات : فرقت عليكم من كل جانب كما يشن الماء متفرقا دفعة بعد دفعة. وما كان إرسالا غير متفرق يقال فيه : سن بالمهملة

(٢) أخو غامد : هو سفيان بن عوف ، من بنى غامد ، قبيلة من اليمن من أزد شنوءة ، بعثه معاوية لشن الغارات على أطراف العراق تهويلا على أهله ، والأنبار : بلدة على الشاطىء الشرقى للفرات ويقابلها على الجانب الغربى هبت

(٣) جمع مسلحة ـ بالفتح ـ وهى الثغر والمرقب حيث يخشى طروق الأعداء ، وفى الحديث : «كان أدنى مسالح مسالح فارس إلى العرب العذيب»

(٤) المعاهدة الذمية ، والحجل ، بالكسر ، وبالفتح وبكسرتين ـ خلخالها ، والقلب ، بالضم كقفل : سوارها. والرعاث : جمع رعثة ـ بالفتح ويحرك ـ بمعنى القرط. ويروى رعثها ـ بضم الراء والعين ـ جمع رعاث ، وجمع رعثة

(٥) الاسترجاع : ترديد الصوت بالبكاء. والاسترحام : أن تناشده الرحم

٦٤

وافرين (١) ما نال رجلا منهم كلم ، ولا أريق لهم دم ، فلو أنّ امرءا مسلما مات من بعد هذا أسفا ما كان به ملوما ، بل كان به عندى جديرا ، فيا عجبا ـ واللّه ـ يميت القلب ويجلب الهمّ اجتماع هؤلاء القوم على باطلهم وتفرّقكم عن حقّكم فقبحا لكم وترحا (٢) حين صرتم غرضا يرمى : يغار عليكم ولا تغيرون ، وتغزون ولا تغزون ، ويعصى اللّه وترضون ، فاذا أمرتكم بالسّير إليهم فى أيّام الصّيف قلتم هذه حمارّة القيظ (٣) أمهلنا يسبّخ عنّا الحرّ (٤) وإذا أمرتكم بالسّير إليهم فى الشّتاء قلتم : هذه صبارّة القرّ (٥) أمهلنا ينسلخ عنّا البرد ، كلّ هذا فرارا من الحرّ والقرّ ، فأنتم واللّه من السّيف أفرّ ، يا أشباه الرّجال ولا رجال! حلوم الأطفال ، وعقول ربّات الحجال (٦) لوددت أنّى لم أركم ولم أعرفكم!

__________________

(١) وافرين : تامين على كثرتهم لم ينقص عددهم ، والكلم ـ بالفتح ـ الجرح

(٢) ترحا ـ بالتحريك ـ أى : هما وحزنا أو فقرا ، والغرض : ما ينصب ليرمى بالسهام ونحوها. فقد صاروا بمنزلة الهدف يرميهم الرامون وهم نصب لا يدفعون وقوله «ويعصى اللّه» : يشير إلى ما كان يفعله قواد جيش معاوية من السلب والنهب والقتل فى المسلمين والمعاهدين. ثم أهل العراق راضون بذلك إذ لو غضبوا لهموا بالمدافعة

(٣) حمارة القيظ ـ بتشديد الراء ، وربما خففت فى ضرورة الشعر ـ شدة الحر

(٤) التسبيخ ـ بالخاء المعجمة ـ التخفيف والتسكين

(٥) صبارة الشتاء بتشديد الراء : شدة برده ، والقر ـ بالضم ـ البرد ، وقيل : هو برد الشتاء خاصة ، أما البرد فعام فيه وفى الصيف ، وتقول : قر يومنا ـ من باب ضرب ـ أى : برد ، وتقول قر فلان ـ مبنى لما لم يسم فاعله ـ قرا ـ بفتح القاف وكسرها ـ إذا أصابه القر وهو البرد

(٦) حجال : جمع حجلة وهى القبة ، وموضع يزين بالستور ، والثياب (٥ ـ ن ـ ح ـ ١) للعروس ، وربات الحجال : النساء

٦٥

معرفة واللّه جرّت ندما ، وأعقبت سدما (١) قاتلكم اللّه!! لقد ملأتم قلبى قيحا ، وشحنتم صدرى غيظا ، وجرّعتمونى نغب التّهمام أنفاسا (٢) وأفسدتم علىّ رأيى بالعصيان والخذلان ، حتّى قالت قريش : إنّ ابن أبى طالب رجل شجاع ، ولكن لا علم له بالحرب. للّه أبوهم!! وهل أحد منهم أشدّ لها مراسا ، وأقدم فيها مقاما منّى (٣)؟! لقد نهضت فيها وما بلغت العشرين ، وها أنا ذا قد ذرّفت على السّتّين (٤) ، ولكن لا رأى لمن لا يطاع!!

٢٨ ـ ومن خطبة له عليه السّلام

أمّا بعد ، فإنّ الدّنيا قد أدبرت ، وآذنت بوداع ، (٥) وإنّ الآخرة قد

__________________

(١) السدم ـ محركة ـ الهم مع أسف أو غيظ وفعله كفرح ، والقيح : ما فى القرحة من الصديد ، وفعله كباع ، وشحنتم صدرى : ملأتموه

(٢) النغب : جمع نغبة كجرعة وجرع لفظا ومعنى ، والتهمام ـ بالفتح ـ الهم ، وكل تفعال فهو بالفتح ، إلا التبيان والتلقاء فانهما بالكسر. وأنفاسا : أى جرعة بعد جرعة

(٣) مراسا : مصدر مارسه ممارسة ومراسا ، أى : عالجه ، وزاوله وعاناه

(٤) ذرفت على الستين : زدت عليها ، وروى المبرد «نيفت» وهو بمعناه وفى الخطبة روايات أخرى لا تختلف عن رواية الشريف فى المعنى ، وإن اختلفت عنها فى بعض الألفاظ ، انظر الكامل للمبرد

(٥) آذنت : أعلمت ، وإيذانها بالوداع إنما هو بما أودع فى طبيعتها من التقلب والتحول ، فأول نظرة من العاقل إليها تحصل له اليقين بفنائها وانقضائها ، وليس وراء الدنيا إلا الآخرة ، فان كانت الأولى مودعة فالأخرى مشرفة ، والاطلاع : من «اطلع فلان علينا» أتانا فجأة.

٦٦

أشرفت باطّلاع ، ألا وإنّ اليوم المضمار (١) وغدا السّباق ، والسّبقة الجنّة (٢) والغاية النّار ، أفلا تائب من خطيئته قبل منيّته؟ ألا عامل لنفسه قبل يوم بؤسه (٣)؟ ألا وإنّكم فى أيّام أمل (٤) من ورائه أجل ، فمن عمل فى أيّام أمله قبل حضور أجله نفعه عمله ، ولم يضرره أجله ، ومن قصّر فى أيّام أمله قبل حضور أجله فقد خسر عمله وضرّه أجله ، ألا فاعملوا فى الرّغبة كما تعملون فى الرّهبة (٥) ، ألا وإنّى لم أر كالجنّة نام طالبها ، ولا كالنّار نام هاربها (٦) ،

__________________

(١) المضمار : الموضع والزمن الذى تضمر فيه الخيل ، وتضمير الخيل أن تربط ويكثر علفها وماؤها حتى تسمن ، ثم يقال علفها وماؤها وتجرى فى الميدان حتى تهزل. وقد يطلق التضمير على العمل الأول أو الثانى ، وإطلاقه على الأول لأنه مقدمة للثانى ، وإلا فحقيقة التضمير : إحداث الضمور ، وهو الهزال وخفة اللحم ، وإنما يفعل ذلك بالخيل لتخف فى الجرى يوم السباق ، كما أننا نعمل اليوم فى الدنيا للحصول على السعادة فى الأخرى

(٢) السبقة ـ بالتحريك ـ الغاية التى يجب على السابق أن يصل إليها وبالفتح المرة من السبق. والشريف رواها فى كلام الامام بالتحريك أو الفتح وفسرها بالغاية المحبوبة ، أو المرة من السبق. وهو مطلوب لهذا ، وروى الضم بصيغة رواية أخرى. ومن معانى السبقة ـ بالتحريك ـ الرهن الذى يوضع من المتراهنين فى السباق ، أى : الجعل الذى يأخذه السابق. إلا أن الشريف فسرها بما تقدم

(٣) البؤس بالضم : اشتداد الحاجة ، وسوء الحالة ، ويوم البؤس : يوم الجزاء مع الفقر من الأعمال الصالحة ، والعامل له هو الذى يعمل الصالح لينجو من البؤس فى ذلك اليوم

(٤) يريد الأمل فى البقاء واستمرار الحياة.

(٥) الرهبة ـ بالفتح ـ هى مصدر رهب الرجل ـ من باب علم ـ رهبا ، بالفتح وبالتحريك ورهبانا ـ بالتحريك وبالضم ـ ومعناه : خاف ، أى : اعملوا للّه فى السراء كما تعملون له فى الضراء لا تصرفكم النعم عن خشيته والخوف منه

(٦) من أعجب العجائب الذى لم ير له مثيل أن ينام طالب الجنة فى عظمها

٦٧

ألا وإنّه من لا ينفعه الحقّ يضرره الباطل (١) ، ومن لم يستقم به الهدى يجرّ به الضّلال إلى الرّدى ، ألا وإنّكم قد أمرتم بالظّعن (٢) ، ودللتم على الزّاد ، وإنّ أخوف ما أخاف عليكم اتّباع الهوى وطول الأمل ، تزوّدوا من الدّنيا ما تحرزون أنفسكم به غدا (٣) قال الشريف : أقول : لو كان كلام يأخذ بالأعناق إلى الزهد فى الدنيا ويضطر إلى عمل الآخرة لكان هذا الكلام ، وكفى به قاطعا لعلائق الآمال ، وقادحا زناد الاتعاظ والازدجار ، ومن أعجبه قوله عليه السلام «ألا وإنّ اليوم المضمار وغدا السّباق والسّبقة الجنّة والغاية النّار» فإن فيه ـ مع فخامة اللفظ ، وعظم قدر المعنى ، وصادق التمثيل ، وواقع التشبيه ـ سرا عجيبا ، ومعنى لطيفا ، وهو قوله عليه السلام : «والسبقة الجنة ، والغاية النار» فخالف بين اللفظين لاختلاف المعنيين ، ولم يقل «السبقة النار» كما قال «السبقة الجنة» ، لأن

__________________

واستكمال أسباب السعادة فيها ، وأن ينام الهارب من النار فى هولها واستجماعها أسباب الشقاء

(١) النفع الصحيح كله فى الحق. فان قال قائل : إن الحق لم ينفعه فالباطل أشد ضررا له ، ومن لم يستقم به الهدى المرشد إلى الحق ـ أى : لم يصل به إلى مطلوبه من السعادة ـ جرى به الضلال إلى الردى والهلاك

(٢) الظعن ـ بالفتح ، وبالتحريك ـ الرحيل عن الدنيا ، وفعله كقطع ، وأمرنا به أمر تكوين ، أى كما خلقنا اللّه خلق فينا أن نرحل عن حياتنا الأولى لنستقر فى الأخرى ، والزاد الذى دلنا عليه : هو عمل الصالحات ، وترك السيئات.

(٣) تحرزون أنفسكم : تحفظونها من الهلاك الأبدى ، ويقال : حرز نفسه ـ كنصر ـ أو هذا إبدال والأصل حرس بالسين فأبدلت زايا ، وتقول : حرز فلان ككرم ، إذا تحصن ، وحرز كفرح ، إذا كثر ورعه.

٦٨

الاستباق إنما يكون إلى أمر محبوب ، وغرض مطلوب ، وهذه صفة الجنة وليس هذا المعنى موجودا فى النار نعوذ باللّه منها ، فلم يجز أن يقول «والسبقة النار» بل قال «والغاية النار» ، لأن الغاية ينتهى إليها من لا يسره الانتهاء ومن يسره ذلك ، فصلح أن يعبر بها عن الأمرين معا ، فهى فى هذا الموضع كالمصير والمآل ، قال اللّه تعالى : «قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى اَلنّٰارِ» ولا يجوز فى هذا الموضع أن يقال : سبقتكم ـ بسكون الباء ـ إلى النار ، فتأمل ذلك فباطنه عجيب وغوره بعيد. وكذلك أكثر كلامه عليه السلام ، وفى بعض النسخ ، وقد جاء فى رواية أخرى «والسبقة الجنة» ـ بضم السين ـ والسبقة عندهم : اسم لما يجعل للسابق إذا سبق من مال أو عرض ، والمعنيان متقاربان لأن ذلك لا يكون جزاء على فعل الأمر المذموم ، وإنما يكون جزاء على فعل الأمر المحمود.

٢٩ ـ ومن خطبة له عليه السّلام

أيّها النّاس المجتمعة أبدانهم ، المختلفة أهواؤهم (١) ، كلامكم يوهى الصّمّ الصّلاب (٢) وفعلكم يطمع فيكم الأعداء! تقولون فى المجالس : كيت

__________________

(١) أهواؤهم : آراؤهم وما تميل إليه قلوبهم والأهواء : جمع هوى ، بالقصر ـ وأصله إرادة النفس وما تميل إليه محمودا كان أو مذموما ، ثم غلب فى الاستعمال على غير المحمود

(٢) الصم : جمع أصم ، وهو من الحجارة الصلب المصمت ، والصلاب : جمع صليب ، والصليب : الشديد ، وبابه ظريف وظراف وضعيف وضعاف. ويوهيها : يضعفها ويفتتها. يقال : وهى الثوب ووهى يهى وهيا ـ من باب ضرب وحسب ـ تخرق وانشق ، وأوهاه يوهيه إيهاء : شقه وخرقه : أى : تقولون من الكلام ما يفلق الحجر بشدته وقوته ، ثم يكون فعلكم ، من الضعف والاختلال

٦٩

وكيت ، فإذا جاء القتال قلتم : حيدى حياد (١)! ما عزّت دعوة من دعاكم ، ولا استراح قلب من قاساكم (٢) أعاليل بأضاليل ، دفاع ذى الدّين المطول (٣) لا يمنع الضّيم الذّليل. ولا يدرك الحقّ إلاّ بالجدّ ، أىّ دار بعد داركم تمنعون ومع أىّ إمام بعدى تقاتلون؟ المغرور واللّه من غررتموه ، ومن فاز بكم فقد فاز واللّه بالسّهم الأخيب (٤) ، ومن رمى بكم فقد رمى بأفوق ناصل (٥)

__________________

بحيث يطمع فيكم العدو!!

(١) كيت وكيت بكسر آخرهما ـ كلمتان لا تستعملان إلا مكررتين : إما مع واو العطف ، وإما بدونها. وأصل تائهما هاء ، وربما قيل «كيه كيه» ومعناهما كذا وكذا ، وقيل : كيت كيت كناية عن الحديث وذيت ذيت كناية عن الفعل ، وكذا كذا كناية عن العدد ، تقول : قال فلان كيت كيت ، وفعل ذيت ذيت ، وأخذ كذا كذا درهما. وحيدى حياد : كلمة يقولها الهارب ، كأنه يسأل الحرب أن تتنحى عنه ، من الحيدان ، وهو الميل والانحراف عن الشىء ، وحياد : مبنى على الكسر كما فى قولهم : فيحى فياح ، أى : اتسعى ، وحمى حمام : للداهية ، أى : أنهم يقولون فى المجلس : سنفعل بالأعداء ما نفعل ، فاذا جاء القتال فروا وتقاعدوا

(٢) أى : من دعاهم وحملهم بالترغيب على نصرته لم تعز دعوته لتخاذلهم ، فان قاساهم وقهرهم انتقضوا عليه فأتعبوه. والأعاليل : إما جمع إعلال جمع علل جمع علة ، أو جمع أعلولة. كما أن الأضاليل جمع أضلولة. والأضاليل متعلقة بالأعاليل ، أى : أنكم تتعللون بالأباطيل التى لا جدوى لها

(٣) أى ، أنكم تدافعون الحرب اللازمة لكم كما يدافع المدين المطول غريمه ، والمطول : الكثير المطل ، وهو تأخير أداء الدين بلا عذر. وقوله «لا يمنع الضيم ـ الخ» أى : أن الذليل الضعيف البأس الذى لا منعة له لا يمنع ضيما ، إنما يمنع الضيم القوى العزيز

(٤) فاز بكم : من «فاز بالخير» إذا ظفر به ، أى : من ظفر بكم وكنتم نصيبه فقد ظفر بالسهم الأخيب ، وهو من سهام الميسر الذى لا حظ له

(٥) الأفوق من السهام : مكسور الفوق ، والفوق ، موضع الوتر من السهم ،

٧٠

أصبحت واللّه لا أصدّق قولكم ، ولا أطمع فى نصركم ، ولا أوعد العدوّ بكم ما بالكم! ما دواؤكم! ما طبّكم! القوم رجال أمثالكم! أقولا بغير علم؟ وغفلة من غير ورع؟ وطمعا فى غير حقّ؟!

٣٠ ـ ومن كلام له عليه السّلام

فى معنى قتل عثمان

لو أمرت به لكنت قاتلا ، أو نهيت عنه لكنت ناصرا (١) غير أنّ من

__________________

والناصل : العارى عن النصل ، أى : من رمى بهم فكأنما رمى بسهم لا يثبت فى الوتر حتى يرمى ، وإن رمى به لم يصب مقتلا إذ لا نصل له. وهذه الخطبة خطبها أمير المؤمنين عند إغارة الضحاك بن قيس ، فان معاوية لما بلغه فساد الجند على أمير المؤمنين دعا الضحاك بن قيس وقال له : سر حتى تمر بناحية الكوفة ، وترتفع عنها ما استطعت ، فمن وجدت من الأعراب فى طاعة على فأغر عليه ، وإن وجدت له خيلا أو مسلحة فأغر عليها ، وإذا أصبحت فى بلدة فأمس فى أخرى. ولا تقيمن لخيل بلغك أنها قد سرحت إليك لتلقاها فتقاتلها. وسرحه فى ثلاثة آلاف ، فأقبل الضحاك فنهب الأموال ، وقتل من لقى من الأعراب ، ثم لقى عمر بن عميس بن مسعود الذهلى فقتله ـ وهو ابن أخى عبد اللّه بن مسعود ـ ونهب الحاج ، وقتل منهم وهم على طريقهم عند القطقطانة ، فساء ذلك أمير المؤمنين ، وأخذ يستنهض الناس إلى الدفاع عن ديارهم ، وهم يتخاذلون ، فوبخهم بما تراه فى هذه الخطبة ، ثم دعا بحجر بن عدى فسيره إلى الضحاك فى أربعة آلاف ، فقاتله ، فانهزم فارا إلى الشام يفتخر بأنه قتل ونهب

(١) يقول : إنه لم يأمر بقتل عثمان ، وإلا كان قاتلا له ، مع أنه برىء من قتله ، ولم ينه عن قتله ـ أى : لم يدافع عنه بسيفه ، ولم يقاتل دونه ـ وإلا كان ناصرا له. أما نهيه عن قتله بلسانه فهو ثابت ، وهو الذى أمر الحسن والحسين أن يذبا الناس عنه

٧١

نصره لا يستطيع أن يقول : خذله من أنا خير منه ، ومن خذله لا يستطيع أن يقول : نصره من هو خير منّى (١) وأنا جامع لكم أمره : استأثر فأساء الأثرة وجزعتم فأسأتم الجزع (٢) وللّه حكم واقع فى المستأثر والجازع.

٣١ ـ ومن كلام له عليه السّلام

لابن العباس لما أرسله إلى الزبير يستفيئه إلى طاعته قبل حرب الجمل (٣)

لا تلقينّ طلحة فإنّك إن تلقه تجده كالثّور عاقصا قرنه (٤) يركب الصّعب ويقول : هو الذّلول. ولكن الق الزّبير فإنّه ألين عريكة (٥) فقل له : يقول لك

__________________

(١) أى : أن الذين نصروه ليسوا بأفضل من الذين خذلوه ، لهذا لا يستطيع ناصره أن يقول : إنى خير من الذى خذله ، ولا يستطيع خاذله أن يقول : إن الناصر خير منى ، يريد أن القلوب متفقة على أن ناصريه لم يكونوا فى شىء من الخير الذى يفضلون به على خاذليه

(٢) أى : أنه استبد عليكم فأساء الاستبداد ، وكان عليه أن يخفف منه حتى لا يزعجكم ، وجزعتم لاستبداده فأسأتم الجزع ، أى : لم ترفقوا فى جزعكم ، ولم تقفوا عند الحد الأولى بكم. وكان عليكم أن تقتصروا على الشكوى ولا تذهبوا فى الاساءة إلى حد القتل. وللّه حكمه فى المستأثر وهو عثمان ، وفى الجازع وهو أنتم : فاما آخذه وآخذكم ، أو عفا عنه وعفا عنكم ، والأثرة ـ بفتحات ـ الاسم من قولهم «استأثر بالشىء» إذا استبد به وخص نفسه به.

(٣) «يستفيئه» أى : يسترجعه.

(٤) ويروى «إن تلقه تلفه» الأولى بالقاف والثانية بالفاء من «ألفاه يلفيه» ، وهى بمعنى تجده. و «عاقصا قرنه» من «عقص الشعر» إذا ضفره وفتله ولواه ، وهو تمثيل له فى تغطرسه وكبره وعدم انقياده و «يركب الصعب» يستهين به ويزعم أنه ذلول سهل

(٥) العريكة : الطبيعة ، وعرفه بالحجاز : أطاعه فيه حيث عقد له البيعة. وأنكره

٧٢

ابن خالك : عرفتنى بالحجاز وأنكرتنى بالعراق ، فما عدا ممّا بدا (١) قال الشريف : أقول : هو أول من سمعت منه هذه الكلمة ، أعنى «فما عدا مما بدا»

٣٢ ـ ومن خطبة له عليه السّلام

أيّها النّاس ، إنّا قد أصبحنا فى دهر عنود ، وزمن كنود (٢) يعدّ فيه المحسن مسيئا ، ويزداد الظّالم عتوّا ، لا ننتفع بما علمنا ، ولا نسأل عمّا جهلنا ، ولا نتخوّف قارعة حتّى تحلّ بنا (٣) فالنّاس على أربعة أصناف : منهم من لا يمنعهم الفساد إلا مهانة نفسه ، وكلالة حدّه ، ونضيض وفره (٤) ، ومنهم المصلت لسيفه ، والمعلن بشرّه ، والمجلب بخيله ورجله ، قد أشرط نفسه ، وأوبق دينه ، لحطام ينتهزه ، أو مقنب يقوده ، أو منبر يفرعه (٥). ولبئس

__________________

بالعراق حيث خرج عليه وجمع لقتاله

(١) عداه الأمر : صرفه ، وبدا : ظهر ، و «من» هنا بمعنى عن. نقل ابن قتيبة «حدثنى فلان من فلان» أى : عنه ، و «نهيت من كذا» أى : عنه ، أى : ما الذى صرفك عما كان بدا وظهر منك

(٢) العنود : الجائر من «عند يعند» كنصر ، جار عن الطريق وعدل : والكنود : الكفور ، ويروى «وزمن شديد» أى : بخيل كما فى قوله تعالى «وَإِنَّهُ لِحُبِّ اَلْخَيْرِ لَشَدِيدٌ» أى : إن الانسان ـ لأجل حبه للمال ـ بخيل. والوصف لأهل الزمن والدهر كما هو ظاهر ، وسوء طباع الناس يحملهم على عد المحسن مسيئا.

(٣) القارعة : الخطب يقرع من ينزل به ، أى : يصيبه

(٤) القسم الأول من يقعد به عن طلب الامارة والسلطان حقارة نفسه ، فلا يجد معينا ينصره ، وكلالة حده ، أى : ضعف سلاحه عن القطع فى أعدائه يقال : كل السيف كلالة ، إذا لم يقطع. والمراد إعوازه من السلاح ، أو لضعفه عن استعماله ونضيض وفره : قلة ماله. وكان مقتضى النسق أن يقول : ونضاضة وفره ، لكنه عدل إلى الوصف تفننا ، والنضيض : القليل ، والوفر : المال

(٥) القسم الثانى الذى

٧٣

المتجر أن ترى الدّنيا لنفسك ثمنا ، وممّا لك عند اللّه عوضا ، ومنهم من يطلب الدّنيا بعمل الآخرة ، ولا يطلب الآخرة بعمل الدّنيا : قد طامن من شخصه ، وقارب من خطوه ، وشمّر من ثوبه ، وزخرف من نفسه للأمانة ، واتّخذ ستر اللّه ذريعة إلى المعصية (١) ، ومنهم من أبعده عن طلب الملك ضؤولة نفسه (٢) ، وانقطاع سببه ، فقصرته الحال على حاله ، فتحلّى باسم القناعة ، وتزيّن بلباس أهل الزّهادة ، وليس من ذلك فى مراح ولا مغدى. وبقى رجال غضّ أبصارهم ذكر المرجع (٣) ، وأراق دموعهم خوف المحشر ، فهم

__________________

يطلب الامارة وما هى من حقه ، ويجهر بذلك فهو مصلت لسيفه ـ أى : سال له ـ على أعناق الذين لا يسمعون لسلطان الباطل ، والمعلن : المظهر ، والمجلب بخيله : من «أجلب القوم» أى : جلبوا وتجمعوا من كل أوب للحرب ، والرجل : جمع راجل ، كالركب جمع راكب والصحب جمع صاحب ، وهو قليل ، و «أشرط نفسه» أى : هيأها وأعدها للشر والفساد فى الأرض ، أو للعقوبة وسوء العاقبة و «أوبق دينه» أهلكه. والحطام : المال ، وأصله ما تكسر من اليبس. ينتهزه : يغتنمه أو يختلسه ، والمقنب : طائفة من الخيل ما بين الثلاثين إلى الأربعين ، وإنما يطلب قود المقنب تعززا على الناس وكبرا ، وفرع المنبر ـ بالفاء ـ أى علاه وفى علو المنبر والخطبة على الناس من الرفعة ما يبعث على الطلب فهذا القسم قد أضاع دينه وأفسد الناس فى طلب هذه الشهوات المذكورة.

(١) الذريعة : الوسيلة ، وهذا قسم ثالث

(٢) الضؤولة ـ بالضم ـ : الضعف ، وهذا هو القسم الرابع ، وليس من الزهادة فى ذهاب ولا إياب ، أى : لا فعل ولا ترك

(٣) هذا قسم خامس للناس مطلقا ، والأقسام الأربعة للناس المعروفين الواقعين تحت نظر العامة. فقوله فيما سبق : «فالناس أربعة أصناف» إنما يريد به الذين يعرفهم النظر الجلى ناسا ، أما الرجال الذين غضوا

٧٤

بين شريد نادّ (١) ، وخائف مقموع ، وساكت مكعوم ، وداع مخلص ، وثكلان موجع. قد أخملتهم التّقيّة (٢) وشملتهم الذّلّة ، فهم فى بحر أجاج ، أفواههم ضامزة (٣) ، وقلوبهم قرحة ، وقد وعظوا حتّى ملّوا (٤) ، وقهروا حتّى ذلّوا ، وقتلوا حتّى قلّوا. فلتكن الدّنيا فى أعينكم أصغر من حثالة القرظ وقراضة الجلم (٥) واتّعظوا بمن كان قبلكم ، قبل أن يتّعظ بكم من بعدكم ، وارفضوها ذميمة ، فإنّها رفضت من كان أشغف بها منكم (٦)

__________________

أبصارهم عن مطامع الدنيا خوفا من الآخرة وتذكرا لمعادهم فهؤلاء لا يعرفون عند العامة ، وإنما يتعرف أحوالهم أمثالهم ، فكأنهم فى نظر الناس ليسوا بناس.

(١) الناد : الهارب من الجماعة إلى الوحدة ، والمقموع : المقهور. والمكعوم : من «كعم البعير» شد فاه لئلا يأكل أو يعض ، وما يشد به كعام ككتاب. والثكلان : الحزين

(٢) أخمله : أسقط ذكره حتى لم يعد له بين الناس نباهة. والتقية : اتقاء الظلم باخفاء الحال ، والأجاج : الملح : أى : أنهم فى الناس كمن وقع فى البحر الملح لا يجد ما يطفىء ظمأه أو ينقع غلته

(٣) ضامزة : ساكنة ، من «ضمز يضمز» بالزاى المعجمة ـ كنصر وضرب ـ سكت يسكت. والقرحة ـ بفتح فكسر ـ المجروحة

(٤) أى : أنهم أكثروا من وعظ الناس حتى ملهم الناس وسئموا من كلامهم

(٥) الحثالة ـ بالضم ـ : القشارة وما لا خير فيه ، وأصله ما يسقط من قشر الشعير والأرز والتمر وكل ذى قشر إذا نقى. والقرظ ـ محركة ـ ورق السلم أو ثمر السنط يدبغ به ، والجلم ـ بالتحريك ـ مقراض يجز به الصوف ، وقراضته : ما يسقط منه عند القرض والجز. وإنما طالبهم باحتقار الدنيا بعد التقسيم المتقدم لما ثبت من أن الدنيا لم تصف إلا للأشرار. أما المتقون الذين ذكرهم فانهم لم يصيبوا منها إلا العناء ، وكل ما كان من شأنه أن يأوى إلى الأشرار ويجافى الأخيار فهو أجدر بالاحتقار

(٦) أى : من كان أشد تعلقا بها منكم

٧٥

قال الشريف : أقول : هذه الخطبة ربما نسبها من لا علم له إلى معاوية ، وهى من كلام أمير المؤمنين عليه السّلام الذى لا يشك فيه ، وأين الذهب من الرغام (١) والعذب من الأجاج؟ وقد دل على ذلك الدليل الخرّيت (٢) ونقده الناقد البصير عمرو بن بحر الجاحظ ، فإنه ذكر هذه الخطبة فى كتاب البيان والتبيين ، وذكر من نسبها إلى معاوية ، ثم قال : هى بكلام على عليه السّلام أشبه وبمذهبه فى تصنيف الناس ، وبالإخبار عما هم عليه من القهر والإذلال ، ومن التقية والخوف ـ أليق (٣) قال : ومتى وجدنا معاوية فى حال من الأحوال يسلك فى كلامه مسلك الزهاد ، ومذاهب العباد؟؟!!

٣٣ ـ ومن خطبة له عليه السّلام

عند خروجه لقتال أهل البصرة (٤)

قال عبد اللّه بن العباس : دخلت على أمير المؤمنين عليه السّلام بذى قار (٥) وهو يخصف نعله (٦) فقال لى : ما قيمة هذه النعل؟ فقلت : لا قيمة لها. فقال عليه السّلام : واللّه لهى أحب إلى من إمرتكم إلا أن أقيم حقا ، أو أدفع باطلا ، ثم خرج فخطب الناس فقال : ـ

__________________

(١) الرغام ـ بالفتح ـ : التراب ، وقيل : هو الرمل المختلط بالتراب

(٢) الخريت ـ بوزن سكيت ـ الحاذق فى الدلالة ، وفعله كفرح

(٣) تصنيف الناس : تقسيمهم ، وتبيين أصنافهم

(٤) فى وقعة الجمل.

(٥) بلد بين واسط والكوفة ، وهو قريب من البصرة ، وكانت فيه الحرب بين العرب والفرس ونصرت فيه العرب قبل الاسلام

(٦) يخصف نعله : يخرزها

٧٦

إنّ اللّه بعث محمّدا صلّى اللّه عليه وآله وليس أحد من العرب يقرأ كتابا ، ولا يدّعى نبوّة ، فساق النّاس حتّى بوّأهم محلّتهم ، وبلّغهم منجاتهم (١) فاستقامت قناتهم (٢) ، واطمأنّت صفاتهم. أما واللّه إن كنت لفى ساقتها (٣) حتّى ولت بحذافيرها : ما ضعفت ولا جبنت وإنّ مسيرى هذا لمثلها (٤) فلأنقبنّ الباطل حتّى يخرج الحقّ من جنبه (٥) مالى ولقريش! واللّه لقد قاتلتهم كافرين

__________________

(١) بوأهم محلتهم ، أى : أنزلهم منزلتهم ، فالناس قبل الاسلام كأنهم كانوا غرباء مشردين والاسلام هو منزلهم الذى يسكنون فيه ويأمنون من المخاوف ، فالنبى صلّى اللّه عليه وسلم ساق الناس حتى أوصلهم إلى منزلهم من الاسلام الذين كانوا قد ضلوا عنه وبلغهم بذلك مكان نجاتهم من المهالك

(٢) القناة : العود ، والرمح ، والكلام تمثيل لاستقامة أحوالهم ، والصفاة : الحجر الصلد الضخم ، وأراد به مواطئ أقدامهم. والكلام تصوير لاستقرارهم على راحة كاملة وخلاصهم مما كان يرجف قلوبهم ويزلزل أقدامهم

(٣) «إن كنت الخ». إن هذه هى المخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير الشأن محذوف ، والأصل «إنه كنت الخ» والمعنى قد كنت ، والساقة : مؤخر الجيش السائق لمقدمه ، و «ولت بحذافيرها» : بجملتها وأسرها ، ويقال : «أخذه بحذفاره» بكسر الحاء وسكون الذال ـ و «أخذه بحذفوره» ـ بضم فسكون ـ و «أخذه بحذافيره» والضمائر فى «ساقتها» و «ولت بحذافيرها» عائدة إلى الحادثة المفهومة من الحديث وهى ما أنعم اللّه به من بعثة النبى صلّى اللّه عليه وسلم ليخرجهم من الظلمات إلى النور ، ومن الذلة للعزة. وقال الشارح ابن أبى الحديد : الضمائر للجاهلية المفهومة من الكلام ، وكونه فى ساقتها أنه طارد لها. ويضعفه أن ساقة الجيش منه لا من مقاتليه ، فلو كان فى ساقة الجاهلية لكان من جيشها ، نعوذ باللّه ، ويمكن تصحيح كلام الشارح يجعل الساقة جمع سائق ، أى : كنت فى الذين يسوقونها طردا حتى ولت

(٤) أى : أنه يسير إلى الجهاد فى سبيل الحق

(٥) الباطل يبادو الاوهام

٧٧

ولأقاتلنّهم مفتونين ، وإنّى لصاحبهم بالأمس ، كما أنا صاحبهم اليوم!

٣٤ ـ ومن خطبة له عليه السّلام

فى استنفار الناس إلى أهل الشام

أفّ لكم ، لقد سئمت عتابكم!! أرضيتم بالحياة الدّنيا من الآخرة عوضا؟ وبالذّلّ من العزّ خلفا؟ إذا دعوتكم إلى جهاد عدوّكم دارت أعينكم كأنّكم من الموت فى غمرة (١) ، ومن الذّهول فى سكرة ، يرتج عليكم حوارى فتعمهون (٢). فكأنّ قلوبكم مألوسة (٣) فأنتم لا تعقلون ، ما أنتم لى بثقة سجيس اللّيالى (٤) وما أنتم بركن يمال بكم ، ولا زوافر عزّ يفتقر إليكم (٥)

__________________

فيشغلها عن الحق ، ويقوم حجابا مانعا للبصيرة عن الحقيقة ، فكأنه شىء اشتمل على الحق فستره ، وصار الحق فى طيه ، والكلام تمثيل لحال الباطل مع الحق ، وحال الامام فى كشف الباطل وإظهار الحق

(١) دوران الأعين : اضطرابها من الجزع ، ومن غمره الموت يدور بصره ، فانهم يريدون من غمرة الموت الشدة التى تنتهى إليه ، يشير إلى قوله تعالى : «يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ اَلْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ اَلْمَوْتِ»

(٢) الحوار ـ بالفتح وربما كسر ـ هو مراجعة الكلام. و «يرتج» بمعنى يغلق ، وتقول : رتج الباب ـ كضرب ـ أى : أغلقه ، أى : لا تهتدون لفهمه ، فتعمهون : مضارع عمه ـ كعلم وقطع ـ أى : تتحيرون وتترددون

(٣) المألوسة : المخلوطة بمس الجنون

(٤) سجيس ـ بفتح فكسر ـ كلمة تقال بمعنى أبدا ، وسجيس : أصله من «سجس الماء» بمعنى تغير وكدر ، وكان أصل الاستعمال ما دامت الليالى بظلامها ، أى : ما دام الليل ليلا. ويقال : سجيس الأوجس ـ بفتح الجيم وضمها ـ و «سجيس عجيس» مصغرا ، كل ذلك بمعنى أبدا أى : أنهم ليسوا بثقاة عنده يركن إليهم أبدا

(٥) الزافرة من البناء : ركنه ، ومن الرجل عشيرته. وقوله «يمال بكم» أى : يمال على العدو بعزكم وقوتكم

٧٨

ما أنتم إلاّ كإبل ضلّ رعاتها ، فكلّما جمعت من جانب انتشرت من آخر ، لبئس ـ لعمر اللّه ـ سعر نار الحرب أنتم (١) تكادون ولا تكيدون ، وتنقص أطرافكم فلا تمتعضون (٢) لا ينام عنكم وأنتم فى غفلة ساهون ، غلب واللّه المتخاذلون ، وايم (٣) اللّه إنّى لأظنّ بكم ، أن لو حمس الوغى واستحرّ الموت قد انفرجتم عن ابن أبى طالب انفراج الرّأس (٤). واللّه إنّ امرأ يمكّن عدوّه من نفسه يعرق لحمه (٥) ، ويهشم عظمه ، ويفرى جلده ، لعظيم عجزه ، ضعيف ما ضمّت عليه جوانح صدره (٦) أنت فكن ذاك إن شئت (٧) فأمّا

__________________

(١) السعر : أصله مصدر سعر النار ـ من باب نفع ـ أوقدها ، أى : لبئس ما توقد به الحرب أنتم ، ويقال : إن «سعر» جمع ساعر كشرب جمع شارب وركب جمع راكب

(٢) امتعض : غضب

(٣) غلب ـ مبنى للمجهول ـ والمتخاذلون الذين يخذل بعضهم بعضا ولا يتناصرون.

(٤) حمس ـ كفرح ـ اشتد وصلب فى دينه فهو حمس كفرح وحذر ، والوغى : الحرب ، واستحر : بلغ فى النفوس غاية حدته ، وقوله «انفراج الرأس» أى : انفراجا لا التئام بعده ، فان الرأس إذا انفرج عن البدن أو انفرج أحد شقيه عن الآخر لم يعد للالتئام

(٥) يأكل لحمه حتى لا يبقى منه شىء على العظم ، وفراه يفريه : مزقه يمزقه

(٦) ما ضمت عليه الجوانح : هو القلب وما يتبعه من الأوعية الدموية ، والجوانح : الضلوع تحت الترائب ، والترائب : ما يلى الترقوتين من عظم المصدر ، أو ما بين الثديين والترقوتين ، يريد ضعيف القلب

(٧) يمكن أن يكون خطابا عاما لكل من يمكن عدوه من نفسه. ويروى أنه خطاب للأشعث بن قيس عند ما قال له «هلا فعلت فعل ابن عفان» فأجابه بقوله : إن فعل ابن عفان لمخزاة على من لا دين له ، وإن امرا الخ

٧٩

أنا فو اللّه دون أن أعطى ذلك ضرب بالمشرفيّة تطير منه فراش الهام ، وتطيح السّواعد والأقدام (١) ويفعل اللّه بعد ذلك ما يشاء. أيّها النّاس ، إنّ لى عليكم حقّا ، ولكم علىّ حقّ : فأمّا حقّكم علىّ فالنّصيحة لكم ، وتوفير فيئكم عليكم ، (٢) وتعليمكم كيلا تجهلوا ، وتأديبكم كيما تعلّموا ، وأمّا حقّى عليكم فالوفاء بالبيعة ، والنّصيحة فى المشهد والمغيب ، والإجابة حين أدعوكم ، والطّاعة حين آمركم.

٣٥ ـ ومن خطبة له عليه السّلام

بعد التحكيم

الحمد للّه وإن أتى الدّهر بالخطب الفادح (٣) والحدث الجليل. وأشهد أن لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له ليس معه إله غيره ، وأنّ محمّدا عبده ورسوله صلّى اللّه عليه وآله.

__________________

(١) أى : لا يمكن عدوه من نفسه حتى يكون دون ذلك ضرب بالمشرفية ، وهى السيوف التى تنسب إلى مشارف ، وهى قرى من أرض العرب تدنو من الريف. ولا يقال فى النسبة إليها مشارفى ، لأن الجمع ينسب إلى واحده ، ويقال : إن المشرفية نسبة إلى موضع فى بلاد اليمن لا إلى مشارف الشام ، وفراش الهام : العظام الرقيقة التى تلى القحف ، و «تطيح السواعد» أى : تسقط وفعله كباع وقال

(٢) الفىء : الخراج وما يحويه بيت المال

(٣) من فدحه الدين ـ كقطع ـ أى : أثقله وعاله وبهظه ، والحدث ـ بالتحريك ـ الحادث

٨٠