نهج البلاغة - ج ١

محمد عبده

نهج البلاغة - ج ١

المؤلف:

محمد عبده


المحقق: محمّد محيى الدين عبد الحميد
الموضوع : الحديث وعلومه
المطبعة: مطبعة الإستقامة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٤٠

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

أما بعد حمد اللّه الذى جعل الحمد ثمنا لنعمائه ، ومعاذا من بلائه ، وسبيلا إلى جنانه (١) وسببا لزيادة إحسانه. والصلاة على رسوله نبى الرحمة ، وإمام الأئمة ، وسراج الأمة. المنتخب من طينة الكرم (٢) وسلالة المجد الأقدم. ومغرس الفخار المعرق (٣) وفرع العلاء المثمر المورق. وعلى أهل بيته مصابيح الظّلم ، وعصم الأمم (٤) ومنار الدين الواضحة ، ومثاقيل الفضل الراجحة. صلى اللّه عليهم أجمعين ، صلاة تكون إزاء لفضلهم (٥) ومكافأة لعملهم ، وكفاء لطيب فرعهم وأصلهم. ما أنار فجر ساطع ، وخوى نجم طالع (٦) ـ فإنى كنت فى عنفوان السن (٧) وغضاضة الغصن ، ابتدأت

__________________

(١) فى بعض النسخ ووسيلا وهو جمع وسيلة ، وهى : ما يتقرب به ، ورواية سبيلا أحسن.

(٢) طينة الكرم : أصله ، وسلالة المجد : فرعه

(٣) الفخار : قال بعضهم بالكسر ، ويغلط من يقرأ بالفتح لأنه مصدر فاخر ، والمصدر من فاعل الفعال بكسر أوله ، غير أنه لا يبعد أن يكون مصدر فخر ، والثلاثى إذا كانت عينه أو لامه حرف حلق جاء المصدر منه على فعال بالفتح نحو سمح سماحا

(٤) العصم جمع عصمة : وهو ما يعتصم به ، والمنار : الأعلام واحدها منارة ، والمثاقيل جمع مثقال وهو : مقدار وزن الشىء ، تقول : مثقال حبة ، ومثقال دينار ، فمثاقيل الفضل : زناته ، أى : أن الفضل يعرف بهم مقداره

(٥) إزاء لفضلهم : أى مقابلة له

(٦) خوى النجم : سقط ، وخوت النجوم : أمحلت فلم تمطر كأخوت وخوت بالتشديد

(٧) عنفوان السن : أولها

١

بتأليف كتاب فى خصائص الأئمة عليهم السلام : يشتمل على محاسن أخبارهم وجواهر كلامهم ، حدانى عليه غرض ذكرته فى صدر الكتاب ، وجعلته أمام الكلام ، وفرغت من الخصائص التى تخص أمير المؤمنين عليّا عليه السلام ، وعاقت عن إتمام بقية الكتاب محاجزات الزمان (١) ومماطلات الأيام ، وكنت قد بوبت ما خرج من ذلك أبوابا ، وفصلته فصولا ، فجاء فى آخرها فصل يتضمن محاسن ما نقل عنه عليه السلام من الكلام القصير فى الحكم والأمثال والآداب ، دون الخطب الطويلة ، والكتب المبسوطة. فاستحسن جماعة من الأصدقاء والإخوان ما اشتمل عليه الفصل المقدم ذكره معجبين ببدائعه ، ومتعجبين من نواصعه (٢) وسألونى عند ذلك أن أبدأ بتأليف كتاب يحتوى على مختار كلام مولانا أمير المؤمنين عليه السلام فى جميع فنونه ، ومتشعبات غصونه : من خطب ، وكتب ، ومواعظ ، وآداب. علما أن ذلك يتضمن من عجائب البلاغة ، وغرائب الفصاحة ، وجواهر العربية ، وثواقب الكلم الدينية والدنيوية ، ما لا يوجد مجتمعا فى كلام (٣) ولا مجموع الأطراف فى كتاب ، إذ كان أمير المؤمنين عليه السلام مشرع الفصاحة وموردها (٤) ومنشأ البلاغة ومولدها ، ومنه عليه السلام ظهر مكنونها ، وعنه أخذت قوانينها ، وعلى أمثلته حذا كل قائل خطيب (٥) ، وبكلامه

__________________

(١) محاجزات الزمان : ممانعاته. ومماطلات الأيام : مدافعاتها

(٢) النواصع : الخالصة ، وناصع كل شىء خالصه.

(٣) الثواقب : المضيئة ، ومنه الشهاب الثاقب. ومن الكلم ما يضىء لسامعها طريق الوصول إلى ما دلت عليه فيهتدى بها إليه.

(٤) المشرع : تذكير المشرعة. مورد الشاربة كالشريعة

(٥) حذا كل قائل : اقتفى واتبع

٢

استعان كل واعظ بليغ. ومع ذلك فقد سبق وقصّروا ، وتقدم وتأخروا ، ولأن كلامه عليه السلام الكلام الذى عليه مسحة من العلم الإلهى (١) وفيه عبقة من الكلام النبوى ، فأجبتهم إلى الابتداء بذلك عالما بما فيه من عظيم النفع ، ومنشور الذكر ، ومذخور الأجر. واعتمدت به أن أبين من عظيم قدر أمير المؤمنين عليه السلام فى هذه الفضيلة ، مضافة إلى المحاسن الدّثرة ، والفضائل الجمة (٢). وأنه ، عليه السلام ، انفرد ببلوغ غايتها عن جميع السلف الأولين الذين إنما يؤثر عنهم منها القليل النادر ، والشاذ الشارد (٣). وأما كلامه فهو من البحر الذى لا يساجل (٤) والجم الذى لا يحافل (٥) وأردت أن يسوغ لى التمثل فى الافتخار به عليه السلام ، بقول الفرزدق : ـ أولئك آبائى فجئنى بمثلهم إذا جمعتنا ، يا جرير ، المجامع

ورأيت كلامه عليه السلام يدور على أقطاب ثلاثة : أولها : الخطب والأوامر ، وثانيها : الكتب والرسائل ، وثالثها : الحكم والمواعظ ، فأجمعت بتوفيق اللّه تعالى على الابتداء باختيار محاسن الخطب ، (٦) ثم محاسن الكتب ، ثم محاسن الحكم والأدب. مفردا لكل صنف من ذلك بابا ، ومفصّلا فيه

__________________

(١) عليه مسحة من جمال مثلا ، أى : شىء منه. وكأنه يريد بهاء منه وضياء ، والعبقة : الرائحة.

(٢) اعتمدت : قصدت ، والدثرة بفتح فسكون : الكثيرة

(٣) يؤثر : أى ينقل عنهم ويحكى.

(٤) لا يغالب فى الامتلاء وكثرة الماء.

(٥) لا يغالب فى الكثرة ، من قولهم : ضرع حافل ، أى : ممتلىء كثير اللبن.

(٦) أجمع عليه : عزم ، والمحاسن : جمع حسن على غير قياس.

٣

أوراقا ، لتكون مقدمة لاستدراك ما عساه يشذ عنى عاجلا ، ويقع إلىّ آجلا ، وإذا جاء شىء من كلامه عليه السلام الخارج فى أثناء حوار (١) أو جواب سؤال ، أو غرض آخر من الأغراض ـ فى غير الأنحاء التى ذكرتها ، وقررت القاعدة عليها ـ نسبته إلى أليق الأبواب به ، وأشدها ملامحة لغرضه (٢). وربما جاء فيما أختاره من ذلك فصول غير متّسقة ، ومحاسن كلم غير منتظمة ، لأنى أورد النكت واللّمع ، ولا أقصد التتالى والنسق. ومن عجائبه ، عليه السلام ، التى انفرد بها ، وأمن المشاركة فيها ، أن كلامه عليه السلام ، الوارد فى الزهد والمواعظ ، والتذكير والزواجر ، إذا تأمله المتأمل ، وفكر فيه المتفكر ، وخلع من قلبه أنه كلام مثله ممن عظم قدره ، ونفذ أمره ، وأحاط بالرقاب ملكه ، لم يعترضه الشك فى أنه من كلام من لاحظ له فى غير الزّهادة ، ولا شغل له بغير العبادة ، قد قبع فى كسر بيت (٣) أو انقطع فى سفح جبل ، لا يسمع إلا حسّه ، ولا يرى إلا نفسه ، ولا يكاد يوقن بأنه كلام من ينغمس فى الحرب مصلتا سيفه (٤) فيقطّ الرقاب ، ويجدّل

__________________

(١) بالفتح وبالكسر : المحاورة.

(٢) الملامحة : الابصار والنظر ، والمراد هنا المناسبة ، لأن من ينظر إلى شىء ويبصره كان كأنه يميل إليه ويلائمه.

(٣) قبع القنفذ ، كمنع : أدخل رأسه فى جلده ، والرجل أدخل رأسه فى قميصه أراد منه : انزوى. وكسر البيت : جانب الخباء ، وسفح الجبل : أسفله.

(٤) أصلت سيفه : جرده من غمده ، ويقط الرقاب : يقطعها عرضا. فان كان القطع طولا ، قيل : يقد. قال ابن عائشة : كانت ضربات على أبكارا إن اعتلى قد وإن اعترض قط. ومنه قط القلم

٤

الأبطال (١) ويعود به ينطف دما ، ويقطر مهجا. وهو مع تلك الحال زاهد الزهاد ، وبدل الأبدال (٢). وهذه من فضائله العجيبة ، وخصائصه اللطيفة ، التى جمع بها بين الأضداد وألف بين الأشتات (٣). وكثيرا ما أذكر الإخوان بها ، وأستخرج عجبهم منها ، وهى موضع للعبرة بها ، والفكرة فيها وربما جاء فى أثناء هذا الاختيار اللفظ المردّد ، والمعنى المكرر. والعذر فى ذلك أن روايات كلامه تختلف اختلافا شديدا : فربما اتفق الكلام المختار فى رواية فنقل على وجهه ، ثم وجد بعد ذلك فى رواية أخرى موضوعا غير وضعه الأول : إما بزيادة مختارة ، أو بلفظ أحسن عبارة ، فتقتضى الحال أن يعاد ، استظهارا للاختيار ، وغيرة على عقائل الكلام (٤) وربما بعد العهد أيضا بما اختير أوّلا فأعيد بعضه سهوا أو نسيانا ، لا قصدا واعتمادا.

__________________

(١) يجدل الأبطال : يلقيهم على الجدالة كسحابة : وهى وجه الأرض وينطف من نطف كنصر وضرب ، نطفا وتنطافا : سال ، والمهج : جمع مهجة ، وهى : دم القلب

(٢) الأبدال : قوم صالحون لا تخلو الأرض منهم ، إذا مات منهم واحد ابدل؟؟؟ اللّه مكانه آخر.

(٣) موضع العجب أن أهل الشجاعة والاقدام والمغامرة والجرأة يكونون فى العادة أقسياء فتاكا متمردين جبارين. والغالب على أهل الزهد وأعداء الدنيا وهاجرى ملاذها المشتغلين بالوعظ والنصيحة والتذكير أن يكونوا ذوى رقة ولين وضعف قلوب وخور طباع ، وهاتان حالتان متضادتان فاجتماعهما فى أمير المؤمنين على كرم اللّه وجهه مما يوجب العجب : فكان كرم اللّه وجهه أشجع الناس وأعظمهم إراقة للدم ، وأزهدهم وأبعدهم عن ملاذ الدنيا ، وأكثرهم وعظا وتذكيرا وأشدهم اجتهادا فى العبادة ، وكان أكرم الناس أخلاقا وأسفرهم وجها وأوفاهم هشاشة وبشاشة حتى عيب بالدعابة

(٤) عقائل الكلام : كرائمه. وعقيلة الحى : كريمته

٥

ولا أدعى ـ مع ذلك ـ أنى أحيط باقطار جميع كلامه عليه السلام (١) حتى لا يشذ عنى منه شاذ ، ولا يند ناد. بل لا أبعد أن يكون القاصر عنى فوق الواقع إلىّ ، والحاصل فى ربقتى دون الخارج من يدى (٢) وما علىّ إلا بذل الجهد ، وبلاغ الوسع ، وعلى اللّه سبحانه وتعالى نهج السبيل (٣) ورشاد الدليل ، إن شاء اللّه. ورأيت من بعد تسمية هذا الكتاب ب‍ «نهج البلاغة» إذ كان يفتح للناظر فيه أبوابها ، ويقرب عليه طلابها ، فيه حاجة العالم والمتعلم ، وبغية البليغ والزاهد. ويمضى فى أثنائه من الكلام فى التوحيد والعدل ، وتنزيه اللّه سبحانه وتعالى عن شبه الخلق ، ما هو بلال كل غلة (٤) وجلاء كل شبهة ومن اللّه سبحانه أستمد التوفيق والعصمة ، وأتنجز التسديد والمعونة ، وأستعيذه من خطأ الجنان ، قبل خطأ اللسان ، ومن زلة الكلام ، قبل زلة القدم وهو حسبى ونعم الوكيل.

باب المختار من خطب أمير المؤمنين عليه السلام وأوامره

. ويدخل فى ذلك المختار من كلامه الجارى مجرى الخطب فى المقامات المحصورة ، والمواقف المذكورة والخطوب الواردة

__________________

(١) أقطار الكلام : جوانبه. والناد. المنفرد.

(٢) الربقة : عروة حبل يجعل فيها رأس البهيمة.

(٣) نهج السبيل : إبانته وإيضاحه.

(٤) الغلة : العطش ، وبلالها : ما تبل به وتروى

٦

١ ـ فمن خطبة له عليه السّلام

يذكر فيها ابتداء خلق السماء والأرض ، وخلق آدم. وفيها ذكر الحج

الحمد للّه الّذى لا يبلغ مدحته القائلون ، ولا يحصى نعماءه العادّون ، ولا يؤدّى حقّه المجتهدون ، الّذى لا يدركه بعد الهمم (١) ولا يناله غوص الفطن (٢) الّذى ليس لصفته حدّ محدود (٣) ولا نعت موجود ، ولا وقت معدود ، ولا أجل ممدود : فطر الخلائق بقدرته ، ونشر الرّياح برحمته ، ووتّد بالصّخور ميدان أرضه (٤) أوّل الدّين معرفته (٥) وكمال معرفته التّصديق به ، وكمال

__________________

(١) أى. أن همم النظار وأصحاب الفكر ، وإن علت وبعدت ، فانها لا تدركه تعالى ولا تحيط به علما.

(٢) والفطن : جمع فطنة ، وغوصها : استغراقها فى بحر المعقولات لتلتقط درر الحقيقة وهى وإن بعدت فى الغوص لا تنال حقيقة الذات الأقدس.

(٣) فرغ من الكلام فى الذات وامتناعها على العقول إدراكا ، ثم هو الآن فى تقديس صفاته عن مشابهة الصفات الحادثة ، فكل صفات الممكن لها فى أثرها حد تنقطع إليه ، كما نجده فى قدرتنا وعلمنا مثلا ، فان لكل طورا لا يتعداه. أما قدرة اللّه وعلمه فلا حد لشمولهما ، وكذا يقال فى باقى الصفات الكمالية. والنعت يقال لما يتغير ، وصفاتنا لها نعوت ، فحياتنا مثلا لها أطوار : من طفولية ، وصبا ، وما بعدهما ، وقوة ، وضعف ، وتوسط ، وقدرتنا كذلك. وعلمنا له أدوار نقص وكمال ، وغموض ووضوح. أما صفاته تعالى فهى منزهة عن هذه النعوت وأشباهها. ثم هى أزلية أبدية ، لا تعد الأوقات لوجودها واتصاف ذاته بها ، ولا تضرب لها الآجال

(٤) الميدان : الحركة ، ووتد بالتخفيف والتشديد أى : ثبت ، أى : سكن الأرض بعد اضطرابها بما رسخ من الصخور الجامدة فى أديمها ، وهو يشير إلى أن الأرض كانت مائدة مضطربة قبل جمودها

(٥) أساس الدين معرفة اللّه ، وهو قد يعرف بأنه صانع العالم ، وليس منه

٧

التّصديق به توحيده ، وكمال توحيده الإخلاص له ، وكمال الإخلاص له نفى الصّفات عنه ، لشهادة كلّ صفة أنّها غير الموصوف ، وشهادة كلّ موصوف أنّه غير الصّفة : فمن وصف اللّه سبحانه فقد قرنه ، ومن قرنه فقد ثنّاه ، ومن ثنّاه فقد جزّأه ، ومن جزّأه فقد جهله (١) ومن جهله فقد أشار إليه ، ومن أشار إليه فقد حدّه (٢) ، ومن حدّه فقد عدّه ، ومن قال «فيم؟» فقد ضمّنه ،

__________________

، بدون تنزيه ، وهى معرفة ناقصة ، وكمالها التصديق به ذاته : بصفته الخاصة التى لا يشركه فيها غيره ، وهى وجوب الوجود ، ولا يكمل هذا التصديق حتى يكون معه لازمه وهو التوحيد ، لأن الواجب لا يتعدد كما عرف فى فن الالهيات والكلام ولا يكمل التوحيد إلا بتمحيض السر له دون ملامحة لشىء من شؤون الحوادث فى التوجه إليه واستشراق نوره. ولا يكون هذا الاخلاص كاملا حتى يكون معه نفى الصفات الظاهرة فى التعينات المشهودة فى المشخصات ، لأن معرفة الذات الأقدس فى نحو تلك الصفات اعتبار للذات ولشىء آخر مغاير لها معها ، فيكون قد عرف مسمى اللّه مؤلفا لا متوحدا ، فالصفات المنفية بالاخلاص صفات المصنوعين ، وإلا فللامام على كلام قد ملئ بصفاته سبحانه ، بل هو فى هذا الكلام يصفه أكمل الوصف

(١) جهله : أى : جهل أنه منزه عن مشابهة الماديات ، مقدس عن مضارعة المركبات ، وهذا الجهل يستلزم القول بالشخص الجسمانى ، وهو يستلزم صحة الاشارة إليه ، تعالى اللّه عن ذلك.

(٢) إنما تشير إلى شىء إذا كان منك فى جهة ، فأنت تتوجه إليها باشارتك وما كان فى جهة فهو منقطع عن غيرها ، فيكون محدودا ـ أى : له طرف ينتهى إليه ـ فمن أشار إليه فقد حده ، ومن حد فقد عد ـ أى : أحصى وأحاط بذلك المحدود ـ لأن الحد حاصر لمحدوده. وإذا قلت لشىء «فيم هو» فقد جعلته فى ضمن شىء ، ثم تسأل عن تعيين ذلك الذى تضمنه. وإذا قلت «على أى شىء» فأنت ترى انه مستعل على شىء بعينه وما عداه خال منه

٨

ومن قال «علام؟» فقد أخلى منه. كائن لا عن حدث (١) موجود لا عن عدم ، مع كلّ شىء لا بمقارنة ، وغير كلّ شىء لا بمزايلة (٢) فاعل لا بمعنى الحركات والآلة ، بصير إذ لا منظور إليه من خلقه (٣) متوحّد إذ لا سكن يستأنس به ولا يستوحش لفقده (٤) أنشأ الخلق إنشاء ، وابتدأه ابتداء ، بلا رويّة أجالها (٥) ولا تجربة استفادها ، ولا حركة أحدثها ، ولا همامة نفس اضطرب فيها (٦) أحال الأشياء لأوقاتها (٧) ولأم بين مختلفاتها (٨) وغرّز

__________________

(١) الحدث : الابداء ، أى : هو موجود لكن لا عن إبداء وإيجاد موجد. والفقرة الثانية لازمة لهذه ، لأنه إن لم يكن وجوده عن إيجاد موجد فهو غير مسبوق الوجود بالعدم.

(٢) المزايلة : المفارقة والمباينة.

(٣) أى : بصير بخلقه قبل وجودهم.

(٤) العادة والعرف على انه لا يقال «متوحد» إلا لمن كان له من يستأنس بقربه ويستوحش لبعده ، فانفرد عنه. واللّه متوحد مع التنزه عن السكن.

(٥) الروية : الفكر ، وأجالها : أدارها ورددها. وفى نسخة : أحالها ـ بالمهملة ـ أي : صرفها.

(٦) همامة النفس ـ بفتح الهاء ـ : اهتمامها بالأمر ، وقصدها إليه.

(٧) حولها من العدم إلى الوجود فى أوقاتها ، أو هو من «حال فى متن فرسه» أى : وثب. وأحاله غيره : أوثبه. ومن أقر الأشياء فى أحيانها صار كمن أحال غيره على فرسه.

(٨) كما قرن النفس الروحانية بالجسد المادى

٩

غرائزها (١) وألزمها أشباحها (٢) عالما بها قبل ابتدائها ، محيطا بحدودها وانتهائها عارفا بقرائنها وأحنائها (٣) ثمّ أنشأ سبحانه فتق الأجواء (٤) وشقّ الأرجاء ، وسكائك الهواء (٥) فأجرى فيها ماء متلاطما تيّاره (٦) متراكما زخّاره. حمله

__________________

(١) الغرائز : جمع غريزة ، وهى : الطبيعة وغرز الغرائز كضوأ الأضواء ، أى : جعلها غرائز ، والمراد أودع فيها طبائعها.

(٢) الضمير فى «أشباحها» للغرائز ، أى : ألزم الغرائز أشباحها ، أى : أشخاصها لأن كل مطبوع على غريزة فانها تلازمه : فالشجاع لا يكون خوارا مثلا.

(٣) جمع حنو بالكسر ، أى : الجانب. أو ما اعوج من الشىء بدنا كان أو غيره كناية عما خفى. أو من قولهم أحناء الأمور ، أى : مشتبهاتها ، وقرائنها : ما يقترن بها من الأحوال المتعلقة بها والصادرة عنها.

(٤) ثم أنشأ الخ الترتيب والتراخى فى قول الامام لا فى الصنع الالهى ، كما لا يخفى والأجواء : جمع جو ، وهو هذا الفضاء العالى بين السماء والأرض. واستفيد من كلامه أن الفضاء مخلوق ، وهو مذهب قوم ، كما استفيد منه أن اللّه خلق فى الفضاء ماء حمله على متن ريح فاستقل عليها حتى صارت مكانا له ، ثم خلق فوق ذلك الماء ريحا أخرى سلطها عليه فموجته تمويجا شديدا حتى ارتفع فخلق منه الأجرام العليا وإلى هذا يذهب قوم من الفلاسفة منهم تالسين الاسكندرى ، يقولون : إن الماء ـ أى : الجوهر السائل ـ أصل كل الأجسام كثيفها من متكاثفه ، ولطيفها من شفائفه. والأرجاء : الجوانب واحدها رجا

(٥) السكائك : جمع سكاكة ـ بالضم ـ وهى : الهواء الملاقى عنان السماء وبابها نحو ذوابة وذوائب.

(٦) التيار : الموج ، والمتراكم : ما يكون بعضه فوق بعض ، والزخار : الشديد الزخر ـ أى : الامتداد والارتفاع ـ والريح العاصفة الشديدة الهبوب ، كأنها تهلك الناس بشدة هبوبها ، وكذلك الزعزع ، كأنها تزعزع كل ثابت ، وتقصف ـ أى : تحطم كل قائم

١٠

على متن الرّيح العاصفة ، والزّعزع القاصفة. فأمرها بردّه (١) وسلّطها على شدّه ، وقرنها إلى حدّه. الهواء من تحتها فتيق (٢) والماء من فوقها دفيق. ثمّ أنشأ سبحانه ريحا اعتقم مهبّها (٣) وأدام مربّها ، وأعصف مجراها ، وأبعد منشأها ، فأمرها بتصفيق الماء الزّخّار (٤) وإثارة موج البحار ، فمخضته مخض السّقاء ، وعصفت به عصفها بالفضاء. تردّ أوّله إلى آخره ، وساجيه إلى مائره (٥). حتّى عبّ عبابه. ورمى بالزّبد ركامه ، فرفعه فى هواء منفتق

__________________

(١) امرها برده ، أى : منعه من الهبوط ، لأن الماء ثقيل وشأن الثقيل الهوى والسقوط ، وسلطها على شده ، أى : وثاقه ، كأنه سبحانه أوثقه بها أو منعه من الحركة إلى السفل التى هى من لوازم طبعه ، وقرنها إلى حده ، أى : جعلها مكانا له أى : جعل حد الماء المذكور ، وهو سطحه الأسفل ، مماسا لسطح الريح التى تحمله أو أراد من الحد المنع ، أى : جعل من لوازمها ذلك.

(٢) الفتيق : المفتوق ، والدفيق : المدفوق.

(٣) اعتقم مهبها : جعل هبوبها عقيما ، والريح العقيم التى لا تلقح سحابا ولا شجرا وكذلك كانت هذه ، لأنها أنشئت لتحريك الماء ليس غير ، والمرب مصدر ميمى من «أرب بالمكان» مثل ألب به ، أى : لازمه ، فأدام مربها ، أى : ملازمتها أو أن أدام من أدمت الدلو ملأتها ، والمرب ، بكسر أوله : المكان والمحل.

(٤) تصفيقه : تحريكه وتقليبه ، ومخضته : حركته بشدة كما يمخض السقاء بما فيه من اللبن ليستخرج زبده ، والسقاء : جلد السخلة يجذع فيكون وعاء للبن والماء جمعه أسقية وأسقيات وآساق. و «عصفت به الخ» الريح إذا عصفت بالفضاء الذى لا أجسام فيه كانت شديدة لعدم المانع. وهذه الريح عصفت بهذا الماء ذلك العصف الذى يكون لها لو لم يكن مانع.

(٥) الساجى : الساكن ، والمائر : الذى يذهب ويجىء ، أو المتحرك مطلقا. وعب

١١

وجوّ منفهق (١) فسوّى منه سبع سموات جعل سفلاهنّ موجا مكفوفا (٢) وعلياهنّ سقفا محفوظا ، وسمكا مرفوعا ، بغير عمد يدعمها ، ولا دسار ينظمها (٣) ثمّ زيّنها بزينة الكواكب ، وضياء الثّواقب (٤) وأجرى فيها سراجا مستطيرا (٥) وقمرا منيرا : فى فلك دائر ، وسقف سائر ، ورقيم مائر (٦) ثمّ فتق ما بين السّموات العلا ، فملأهنّ أطوارا من ملائكته (٧) منهم سجود لا يركعون ،

__________________

عبابه : ارتفع علاه. وركامه : ثبجه ، وهضبته ، وما تراكم منه بعضه على بعض

(١) المنفهق : المفتوح الواسع.

(٢) المكفوف : الممنوع من السيلان ، ويدعمها : يسندها ويحفظها من السقوط.

(٣) الدسار : واحد الدسر ، وهى المسامير ، أو الخيوط تشد بها ألواح السفينة من ليف ونحوه.

(٤) الثواقب : المنيرة المشرقة.

(٥) مستطيرا : منتشر الضياء ، وهو الشمس.

(٦) الرقيم : اسم من أسماء الفلك : سمى به لأنه مرقوم بالكواكب ، ومائر : متحرك ، ويفسر الرقيم باللوح ، وشبه الفلك باللوح لأنه مسطح فيما يبدو للنظر.

(٧) جعل الملائكة أربعة أقسام : الأول : أرباب العبادة ، ومنهم الراكع ، والساجد ، والصاف ، والمسبح. وقوله «صافون» أى : قائمون صفوفا. لا يتزايلون أى : لا يتفارقون. والقسم الثانى : الأمناء على وحى اللّه لأنبيائه ، والألسنة الناطقة فى أفواه رسله ، والمختلفون بالأقضية إلى العباد : بهم يقضى اللّه على من شاء بما شاء. والقسم الثالث : حفظة العباد ، كأنهم قوى مودعة فى أبدان البشر ونفوسهم ، يحفظ اللّه الموصولين بها من المهالك والمعاطب ، ولو لا ذلك لكان العطب ألصق بالانسان من السلامة ، ومنهم سدنة الجنان ، جمع سادن : وهو الخادم ، والخادم يحفظ ما عهد إليه وأقيم على خدمته. والقسم الرابع : حملة العرش ، كأنهم القوة العامة التى أفاضها اللّه فى العالم الكلى ، فهى الماسكة له ، الحافظة لكل جزء منه :

١٢

وركوع لا ينتصبون ، وصافّون لا يتزايلون ، ومسبّحون لا يسأمون. لا يغشاهم نوم العين ، ولا سهو العقول ، ولا فترة الأبدان ، ولا غفلة النّسيان. ومنهم أمناء على وحيه ، وألسنة إلى رسله ، ومختلفون بقضائه وأمره ، ومنهم الحفظة لعباده ، والسّدنة لأبواب جنانه. ومنهم الثّابتة فى الأرضين السّفلى أقدامهم ، والمارقة من السّماء العليا أعناقهم ، والخارجة من الأقطار أركانهم ، والمناسبة لقوائم العرش أكتافهم. ناكسة دونه أبصارهم (١) متلفّعون تحته بأجنحتهم ، مضروبة بينهم وبين من دونهم حجب العزّة ، وأستار القدرة. لا يتوهّمون ربّهم بالتّصوير ، ولا يجرون عليه صفات المصنوعين ، ولا يحدّونه بالأماكن ، ولا يشيرون إليه بالنّظائر

صفة خلق آدم عليه السلام

ثمّ جمع سبحانه من حزن الأرض وسهلها ، وعذبها وسبخها (٢) تربة

__________________

مركزه؟؟؟ ، وحدود مسيره فى مداره ، فهى المخترقة له ، النافذة فيه ، الآخذة من أعلاه إلى أسفله ، ومن أسفله إلى أعلاه. وقوله «المارقة من السماء» : المروق الخروج ، وقوله «الخارجة من الأقطار أركانهم» : الأركان الأعضاء والجوارح ، والتمثيل فى الكلام لا يخفى على أهل البصائر.

(١) الضمير فى «دونه» للعرش كالضمير فى «تحته» ، ومتلفعون : من تلفعت بالثوب ، إذا التحفت به.

(٢) الحزن ـ بفتح فسكون ـ : الغليظ الخشن ، والسهل ما يخالفه ، والسبخ :

١٣

سنّها بالماء حتّى خلصت. ولاطها بالبلّة حتّى لزبت (١) فجبل منها صورة ذات أحناء ووصول (٢) وأعضاء وفصول : أجمدها حتّى استمسكت وأصلدها حتّى صلصلت (٣) لوقت معدود ، وأمد معلوم ، ثمّ نفخ فيها من روحه فمثلت إنسانا ذا أذهان يجيلها (٤) ، وفكر يتصرّف بها ، وجوارح يختدمها (٥) ،

__________________

ما ملح من الأرض. وأشار باختلاف الأجزاء التى جبل منها الانسان إلى أنه مركب من طباع مختلفة ، وفيه استعداد للخير والشر ، والحسن والقبيح.

(١) سن الماء : صبه. والمراد صب عليها ، أو «سنها» هنا بمعنى ملسها كما قال : ـ

ثم خاصرتها إلى القبة الخض

راء تمشى فى مرمر مسنون

وقوله «حتى خلصت» أى : صارت طينة خالصة ، وفى بعض النسخ «حتى خضلت» بتقديم الضاد المعجمة على اللام ، أى : ابتلت ولعلها أظهر : لاطها : خلطها وعجنها ، أو هو من لاط الحوض بالطين : ملطه وطينه به ، والبلة ـ بالفتح ـ من البلل. ولزب ـ ككرم ـ : تداخل بعضه فى بعض وصلب ، ومن باب نصر بمعنى التصق وثبت واشتد.

(٢) الأحناء : جمع حنو وهو ـ بالكسر والفتح ـ : كل ما فيه اعوجاج من البدن كعظم الحجاج ، واللحى ، والضلع ، أو هى الجوانب مطلقا. وجبل : أى خلق.

(٣) أصلدها : جعلها صلبة ملساء متينة ، وصلصلت : يبست حتى كانت تسمع لها صلصلة إذا هبت عليها رياح ، وذلك هو الصلصال ، واللام فى قوله «لوقت» متعلقة بمحذوف ، كأنه قال : حتى يبست وجفت معدة لوقت معلوم. ويمكن أن تكون متعلقة بجبل ، أى : جبل من الأرض هذه الصورة ولا يزال يحفظها لوقت معدود ينتهى يوم القيامة.

(٤) مثل ، ككرم : قام منتصبا. والأذهان : قوى التعقل ، ويجيلها : يحركها فى المعقولات.

(٥) يختدمها : يجعلها فى مآربه وأوطاره كالخدم الذين تستعملهم فى خدمتك

١٤

وأدوات يقلّبها ، ومعرفة يفرق بها بين الحقّ والباطل والأذواق والمشامّ ، والألوان والأجناس ، معجونا بطينة الألوان المختلفة (١) والأشباه المؤتلفة ، والأضداد المتعادية والأخلاط المتباينة ، من الحرّ والبرد ، والبلّة والجمود ، واستأدى اللّه سبحانه الملائكة وديعته لديهم (٢) وعهد وصيّته إليهم ، فى الإذعان بالسّجود له ، والخشوع لتكرمته ، فقال سبحانه : «اُسْجُدُوا لِآدَمَ» فسجدوا إلاّ إبليس اعترته الحميّة وغلبت عليه الشّقوة (٣) وتعزّز بخلقة النّار واستهون خلق الصّلصال ، فأعطاه اللّه النّظرة استحقاقا للسّخطة ، واستتماما

__________________

فى شؤونك كلها ، والأدوات : جمع أداة ، وهى الآلة ، وتقليبها : تحريكها فى العمل بها فيما خلقت له.

(١) معجونا صفة «إنسانا» ، والألوان المختلفة : الضروب والفنون ، وتلك الألوان هى التى ذكره من الحر والبرد والبلة والجمود.

(٢) استأدى الملائكة وديعته : طلب منهم أداءها ، والوديعة هى عهده إليهم بقوله : «إِنِّي خٰالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذٰا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سٰاجِدِينَ» ويروى الخنوع بالنون بدل الخشوع وهو بمعنى الخضوع. وقوله «فقال اسجدوا الخ» عطف على استأدى.

(٣) الشقوة ـ بكسر الشين وفتحها ـ ما حتم عليه من الشقاء. والشقاء : ضد السعادة ، وهو النصب الدائم والألم الملازم ، وتعززه بخلقة النار : استكباره مقدار نفسه بسبب أنه خلق من جوهر لطيف ومادة أعلى من مادة الصلصال ، والصلصال : الطين الحر خلط بالرمل ، أو الطين ما لم يجعل خزفا. والمراد من الصلصال هنا مادة الأرض التى خلق آدم عليه السلام منها ، وجوهر ما خلق منه الجن ـ وهم من الجواهر اللطيفة ـ أعلى من جوهر ما خلق منه الانسان ، وهو مجبول من عناصر الارض ، والنظرة ـ بفتح فكسر ـ : الانتظار به حيا ، ما دام الانسان عامرا

١٥

للبليّة ، وإنجازا للعدة ، فقال (إنَّكَ مِنَ اَلْمُنْظَرِينَ إِلىٰ يَوْمِ اَلْوَقْتِ اَلْمَعْلُومِ) ثمّ أسكن سبحانه آدم دارا أرغد فيها عيشه ، وآمن فيها محلّته ، وحذّره إبليس وعداوته ، فاغترّه عدوّه نفاسة عليه بدار المقام ومرافقة الأبرار (١) فباع اليقين بشكّه ، والعزيمة بوهنه ، واستبدل بالجذل وجلا (٢) ، وبالاغترار ندما ثمّ بسط اللّه سبحانه له فى توبته ، ولقّاه كلمة رحمته ، ووعده المردّ إلى جنّته ، وأهبطه إلى دار البليّة (٣) وتناسل الذّرّيّة (٤) ، واصطفى سبحانه من ولده

__________________

للأرض متمتعا بالوجود ، فيكون من الشيطان فى هذا الأمد ما يستحق به سخط اللّه وما تتم به بلية الشقاء عليه ، ويكون اللّه جل شأنه قد أنجز وعده فى قوله : (إنك لمن المنظرين).

(١) اغتر آدم عدوه الشيطان ، أى : انتهز منه غرة فأغواه ، وكان الحامل للشيطان على غواية آدم حسده له على الخلود فى دار المقام ، ومرافقته الأبرار من الملائكة الأطهار.

(٢) أدخل الشيطان عليه الشك فى أن ما تناول منه سائغ التناول بعد أن كان فى نهى اللّه له عن تناوله ما يوجب له اليقين بحظره عليه ، وكانت العزيمة فى الوقوف عند ما أمر اللّه فاستبد بها الوهن الذى أفضى إلى المخالفة ، والجذل ـ بالتحريك ـ الفرح ، وقد كان فى راحة الأمن بالاخبات إلى اللّه وامتثال الأمر ، فلما سقط فى المخالفة تبدل ذلك بالوجل والخوف من حلول العقوبة ، وقد ذهبت عنه الغرة ، وانتبه إلى عاقبة ما اقترف ، فاستشعر الندم بعد الاغترار.

(٣) أهبطه من مقام مرشده فيه الالهام الالهى الخالص من الشوائب لانسياق قواه إلى مقتضى الفطرة السليمة الأولى ، إلى مقر قد خلط له فيه الخير والشر ، واختط له فيه الطريقان ، ووكل إلى نظره العقلى ، وابتلى بالتمييز بين النجدين. واختيار أى الطريقين ، وهو العناد الذى تكدر به صفو هذه الحياة على الآدميين.

(٤) تناسل الذرية من خصائص تلك المنزلة الثانية التى أنزل اللّه فيها آدم ، وهو

١٦

أنبياء أخذ على الوحى ميثاقهم (١) ، وعلى تبليغ الرّسالة أمانتهم ، لمّا بدّل أكثر خلقه عهد اللّه إليهم (٢) فجهلوا حقّه واتّخذوا الأنداد معه (٣) واجتالتهم الشّياطين عن معرفته (٤) واقتطعتهم عن عبادته ، فبعث فيهم رسله ، وواتر إليهم أنبياءه (٥) ليستأدوهم ميثاق فطرته (٦) ويذكّروهم منسىّ نعمته ، ويحتجّوا عليهم بالتّبليغ ، ويثيروا لهم دفائن العقول (٧) ويروهم الآيات المقدّرة : من سقف فوقهم

__________________

مما ابتلى به الانسان امتحانا لقوته على التربية ، واقتداره على سياسة من يعولهم ، والقيام بحقوقهم ، وإلزامهم بتأدية ما يحق عليهم.

(١) أخذ عليهم الميثاق أن يبلغوا ما أوحى إليهم ، ويكون ما بعده بمنزلة التأكيد له. وأخذ عليهم ألا يشرعوا للناس إلا ما يوحى إليهم.

(٢) عهد اللّه إلى الناس هو ما سيأتى يعبر عنه بميثاق الفطرة.

(٣) الأنداد : الأمثال ، وأراد المعبودين من دونه سبحانه وتعالى.

(٤) اجتالتهم ـ بالجيم ـ صرفتهم عن قصدهم الذى وجهوا إليه بالهداية المغروزة فى فطرهم ، وأصله من الدوران ، كأن الذى يصرفك عن قصدك يصرفك تارة هكذا وأخرى هكذا ، تقول : اجتال فلان فلانا ، واجتاله عن كذا ، واجتاله على كذا ، أى : أداره عليه ، يحسن له فعله ، ويغريه به ، ويزينه له.

(٥) واتر إليهم أنبياءه : أرسلهم وبين كل نبى ومن بعده فترة ، لا بمعنى أرسلهم تباعا بعضهم يعقب بعضا.

(٦) كأن اللّه تعالى ـ بما أودع فى الانسان من الغرائز والقوى ، وبما أقام له من الشواهد وأدلة الهدى ـ قد أخذ عليه ميثاقا بأن يصرف ما أوتى من ذلك فيما خلق له ، وقد كان يعمل على ذلك الميثاق ولا ينقضه ، لو لا ما اعترضه من وساوس الشهوات ، فبعث إليه النبيين ليطلبوا من الناس أداء ذلك الميثاق ، أى : ليطالبوهم بما تقتضيه فطرتهم ، وما ينبغى أن تسوقهم إليه غرائزهم.

(٧) دفائن العقول : أنوار العرفان التى تكشف للانسان أسرار الكائنات

١٧

مرفوع ، ومهاد تحتهم موضوع ، ومعايش تحييهم وآجال تفنيهم ، وأوصاب تهرمهم (١) وأحداث تتابع عليهم ، ولم يخل سبحانه خلقه من نبىّ مرسل ، أو كتاب منزل ، أو حجّة لازمة ، أو محجّة قائمة (٢) : رسل لا تقصّر بهم قلّة عددهم ، ولا كثرة المكذّبين لهم : من سابق سمّى له من بعده ، أو غابر عرّفه من قبله (٣) : على ذلك نسلت القرون (٤) ، ومضت الدّهور ، وسلفت الآباء وخلفت الأبناء ، إلى أن بعث اللّه سبحانه محمّدا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لإنجاز عدته (٥) وتمام نبوّته ، مأخوذا على النّبيّين ميثاقه ، مشهورة سماته (٦)

__________________

وترتفع به إلى الايقان بصانع الموجودات ، وقد تحجب هذه الأنوار غيوم من الأوهام ، وحجب من الخيال ، فيأتى النبيون لاثارة تلك المعارف الكامنة ، وإبراز تلك الأسرار الباطنة. (٣ ـ ن ـ ج ـ (١)

(١) السقف المرفوع : السماء ، والمهاد الموضوع : الأرض ، والأوصاب : المتاعب

(٢) المحجة : الطريق القويمة الواضحة

(٣) من سابق : بيان للرسل ، وكثير من الأنبياء السابقين سميت لهم الأنبياء الذين يأتون بعدهم فبشروا بهم كما ترى ذلك فى التوراة ، وفى القرآن الكريم أن عيسى عليه السلام بشر بخاتم الرسل صلى اللّه عليه وسلم والغابر : الذى يأتى بعد أن يبشر به السابق ، جاء معروفا بتعريف من قبله.

(٤) نسلت ـ بالبناء للمجهول ـ ولدت ، وبالبناء للفاعل : مضت متتابعة.

(٥) الضمير فى «عدته» للّه تعالى ، لأن اللّه وعد بارسال محمد صلى اللّه عليه وسلم على لسان أنبيائه السابقين ، وكذلك الضمير فى «نبوته» لأن اللّه تعالى أنبأبه وأنه سيبعث وحيا لأنبيائه ، فهذا الخبر الغيبى قبل حصوله يسمى نبوة : ولما كان اللّه هو المخبر به أضيفت النبوة إليه ، هكذا نسب للامام ، ولكن الأظهر أن الضمير فى «نبوته» عائد إلى النبى صلى اللّه عليه وسلم

(٦) سماته : علاماته التى ذكرت فى كتب الأنبياء السابقين الذين بشروا به

١٨

كريما ميلاده. وأهل الأرض يومئذ ملل متفرّقة ، وأهواء منتشرة وطوائف متشتّتة ، بين مشبّه للّه بخلقه أو ملحد فى اسمه ، أو مشير إلى غيره (١) ، فهداهم به من الضّلالة ، وأنقذهم بمكانه من الجهالة. ثمّ اختار سبحانه لمحمّد صلّى اللّه عليه وسلّم لقاءه ، ورضى له ما عنده ، وأكرمه عن دار الدّنيا ، ورغب به عن مقارنة البلوى ، فقبضه إليه كريما صلّى اللّه عليه وآله وخلّف فيكم ما خلّفت الأنبياء فى أممها ـ إذ لم يتركوهم هملا : بغير طريق واضح ، ولا علم قائم (٢) كتاب ربّكم فيكم : مبيّنا حلاله وحرامه (٣) وفرائضه وفضائله ، وناسخه

__________________

(١) الملحد فى اسم اللّه : الذى يميل به عن حقيقة مسماه ، فيعتقد فى اللّه صفات يجب تنزيهه عنها ، والمشير إلى غيره : الذى يشرك معه فى التصرف إلها آخر فيعبده ويستعينه

(٢) العلم ـ بفتحتين ـ ما يوضع ليهتدى به ، أى : أن الأنبياء لم يهملوا أممهم مما يرشدهم بعد موت أنبيائهم ، وقد كان من محمد صلى اللّه عليه وسلم مثل ما كان منهم ، فانه خلف فى أمته كتاب اللّه تعالى حاويا لجميع ما يحتاجون إليه فى دينهم.

(٣) حلاله كالأكل من الطيبات ، وحرامه كأكل أموال الناس بالباطل ، وفرائضه كالزكاة أخت الصلاة ، وفضائله كنوافل الصدقات التى يعظم الأجر فيها ولا حرج على من لا يؤديها ، وناسخه : ما جاء قاضيا بمحو ما كان عليه الضالون من العقائد ، أو إزالة السابق من الأحكام لحكمة إلهية اقتضت تغييره وإن خفيت على بعض العقول كقوله تعالى : «قُلْ لاٰ أَجِدُ فِي مٰا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلىٰ طٰاعِمٍ يَطْعَمُهُ» الآية ، ومنسوخه ما كان حكاية عن تلك الأحكام كقوله : «وَعَلَى اَلَّذِينَ هٰادُوا حَرَّمْنٰا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ» الآية ، ورخصه كقوله : «فَمَنِ اُضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ» وعزائمه كقوله : «وَلاٰ تَأْكُلُوا مِمّٰا لَمْ يُذْكَرِ اِسْمُ اَللّٰهِ عَلَيْهِ» وخاصه كقوله : «وَاِمْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهٰا» الآية ، وكقوله «يٰا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مٰا أَحَلَّ اَللّٰهُ لَكَ» وعامه ،

١٩

ومنسوخه ، ورخصه وعزائمه ، وخاصّه وعامّه ، وعبره وأمثاله ، ومرسله ومحدوده ، ومحكمه ومتشابهه ، مفسّرا مجمله ، ومبيّنا غوامضه ، بين مأخوذ ميثاق فى علمه ، وموسّع على العباد فى جهله ، وبين مثبت فى الكتاب فرضه ومعلوم فى السّنّة نسخه ، وواجب فى السّنّة أخذه ، ومرخّص فى الكتاب تركه ، وبين واجب بوقته ، وزائل فى مستقبله ، ومباين بين محارمه (١) : من كبير

__________________

كقوله : «يٰا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ إِذٰا طَلَّقْتُمُ اَلنِّسٰاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ». والعبر كالآيات التى تخبر عما أصاب الأمم الماضية من النكال ، وعما نزل بهم من العذاب لما حادوا عن الحق وركبوا طرق الظلم والعدوان ، والأمثال كقوله «ضَرَبَ اَللّٰهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً» ، الآية ، وقوله : «كَمَثَلِ اَلَّذِي اِسْتَوْقَدَ نٰاراً» ، وأشباه ذلك كثيرة ، والمرسل : المطلق ، والمحدود : المقيد ، والمحكم كآيات الأحكام والأخبار الصريحة فى معانيها ، والمتشابه كقوله : «يَدُ اَللّٰهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ» ، والموسع على العباد فى جهله كالحروف المفتتحة بها السور نحو الم والر ، والمثبت فى الكتاب فرضه مع بيان السنة لنسخه نحو قوله تعالى : «فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي اَلْبُيُوتِ حَتّٰى يَتَوَفّٰاهُنَّ اَلْمَوْتُ» فانه نسخ بما سنه عليه السلام من رجم الزانى المحصن. وكالصلاة ، فانها فرضت على الذين من قبلنا ، غير أن السنة بينت لنا الهيئة التى اختصنا اللّه بها ، وكلفنا أن نؤدى الصلاة عليها ، فالفرض فى الكتاب ، وتبيين نسخه لما كان قبله فى السنة ، والمرخص فى الكتاب تركه ما لم يكن منصوصا على عينه ، بل ذكر فى الكتاب ما يشتمله وغيره كقوله : «فَاقْرَؤُا مٰا تَيَسَّرَ مِنْهُ» ، وقد عينته السنة بسورة مخصوصة فى كل ركعة فوجب الأخذ بما عينته السنة ، ولو بقينا عند مجمل الكتاب لكان لنا أن نقرأ فى الصلاة غير الفاتحة جوازا لا مؤاخذة معه ، والواجب بوقته الزائل فى مستقبله كصوم رمضان يجب فى جزء من السنة ولا يجب فى غيره

(١) و «مباين بين محارمه» ، بالرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف وليس مجرورا بالعطف على الأقسام التى سبق تفصيلها ، أى : والكتاب قد فرق بين المحارم التى حظرها : فمنها كبير أوعد عليه نيرانه كالزنا وقتل النفس ، ومنها

٢٠