نهج البلاغة - ج ١

محمد عبده

نهج البلاغة - ج ١

المؤلف:

محمد عبده


المحقق: محمّد محيى الدين عبد الحميد
الموضوع : الحديث وعلومه
المطبعة: مطبعة الإستقامة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٤٠

مرتهن بذنبه ، والشّاخص عنكم متدارك برحمة من ربّه ، كأنّى بمسجدكم كجؤجؤ سفينة (١) قد بعث اللّه عليها العذاب من فوقها ومن تحتها وغرق من فى ضمنها وفى رواية : وايم اللّه لتغرقنّ بلدتكم حتّى كأنّى أنظر إلى مسجدها كجؤجؤ سفينة ، أو نعامة جاثمة (٢) وفى رواية : كجؤجؤ طير فى لجّة بحر وفى رواية أخرى : بلادكم أنتن بلاد اللّه تربة : أقربها من الماء وأبعدها من السّماء ، وبها تسعة أعشار الشّرّ ، المحتبس فيها بذنبه ، والخارج بعفو اللّه ، كأنّى أنظر إلى قريتكم هذه قد طبّقها الماء حتّى ما يرى منها إلاّ شرف المسجد كأنّه جؤجؤ طير فى لجّة بحر

١٤ ـ ومن كلام له عليه السّلام

فى مثل ذلك

أرضكم قريبة من الماء ، بعيدة من السّماء ، خفّت عقولكم وسفهت حلومكم

__________________

(١) الجؤجؤ : الصدر

(٢) من «جثم» إذا وقع على صدره ، أو تلبد بالأرض وقد وقع ما أوعد به أمير المؤمنين ، فقد غرقت البصرة ، جاءها الماء من بحر فارس من جهة الموضع المعروف بجزيرة الفرس ، ومن جهة الجبل المعروف بجبل السنام ولم يبق ظاهرا منها إلا مسجدها الجامع. ومعنى قوله «أبعدها من السماء» : أنها فى أرض منخفضة ، والمنخفض أبعد عن السماء من المرتفع بمقدار انخفاضه وارتفاع المرتفع.

٤١

فأنتم غرض لنابل (١) ، وأكلة لآكل ، وفريسة لصائل.

١٥ ـ ومن كلام له عليه السّلام

فيما رده على المسلمين من قطائع عثمان رضى اللّه عنه (٢)

واللّه لو وجدته قد تزوّج به النّساء ، وملك به الإماء ، لرددته فإنّ فى العدل سعة ، ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق (٣)

١٦ ـ ومن كلام له عليه السّلام

لما بويع بالمدينة

ذمّتى بما أقول رهينة (٤) وأنا به زعيم ، إنّ من صرّحت له العبر عمّا بين يديه من المثلات (٥) حجزته التّقوى عن تقحّم الشّبهات ، ألا وإنّ بليّتكم

__________________

(١) الغرض : ما ينصب ليرمى بالسهام. والنابل : الضارب بالنبل

(٢) قطائع عثمان : ما منحه للناس من الأراضى

(٣) أى : أن من عجز عن تدبير أمره بالعدل فهو عن التدبير بالجور أشد عجزا ، فان الجور مظنة أن يقاوم ويصد عنه. وهذه الخطبة رواها الكلبى مرفوعة إلى أبى صالح عن ابن عباس أن عليا خطب ثانى يوم من بيعته فى المدينة فقال : ألا إن كل قطيعة أقطعها عثمان ، وكل مال أعطاه من مال اللّه ، فهو مردود فى بيت المال فان الحق القديم لا يبطله شىء ، ولو وجدته قد تزوج الخ

(٤) الذمة : العهد ، تقول : هذا الحق فى ذمتى ، كما تقول فى عنقى. وذلك كناية عن الضمان والالتزام. والزعيم : الكفيل ، يريد أنه ضامن لصدق ما يقول ، كفيل بأنه الحق الذى لا يدافع

(٥) العبر ـ بكسر ففتح ـ جمع عبرة بمعنى الموعظة ، والمثلات : العقوبات ، أى : من كشف له النظر فى أحوال من سبق بين يديه وحقق له الاعتبار والاتعاظ أن العقوبات التى نزلت بالأمم والأجيال والافراد من ضعف وذل وفاقة وسوء حال

٤٢

قد عادت كهيئتها يوم بعث اللّه نبيّكم صلّى اللّه عليه وسلّم (١) والّذى بعثه بالحقّ لتبلبلنّ بلبلة ، ولتغربلنّ غربلة ولتساطنّ سوط القدر (٢) حتّى يعود أسفلكم أعلاكم وأعلاكم أسفلكم ، وليسبقنّ سابقون كانوا قصّروا ، وليقصّرنّ سبّاقون كانوا سبقوا (٣) واللّه ما كتمت وشمة (٤) ولا كذبت كذبة ،

__________________

إنما كانت بما كسبوا من ظلم وعدوان وما لبسوا من جهل وفساد أحوال ، ملكته التقوى وهى التحفظ من الوقوع فيما جلب تلك العقوبات لأهلها فمنعته عن تقحم الشبهات والتردى فيها ، فان الشبهة مظنة الخطيئة ، والخطيئة مجلبة العقوبة.

(١) إن بلية العرب التى كانت محيطة بهم يوم بعث اللّه نبيه محمدا صلّى اللّه عليه وسلم هى بلية الفرقة ، ومحنة الشتات : حيث كانوا متباغضين متنافرين ، يدعو كل إلى عصبيته ، وينادى نداء عشيرته ، يضرب بعضهم رقاب بعض ، فتلك الحالة التى هى مهلكة الأمم قد صاروا إليها بعد مقتل عثمان : بعثت العداوات التى كان قد قتلها الدين ، ونفخت روح الشحناء بين الأمويين والهاشميين وأتباع كل ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه.

(٢) «لتبلبلن» أى : لتخلطن من نحو «تبلبلت الألسن» اختلطت ، «ولتغربلن» أى : لتقطعن من : غربلت اللحم ، أى : قطعته و «لتساطن» من السوط ، وهو أن تجعل شيئين فى الاناء وتضربهما بيدك حتى يختلطا. وقوله «سوط القدر» أى : كما تختلط الأبزار ونحوها فى القدر عند غليانه فينقلب أعلاها أسفلها وأسفلها أعلاها ، وكل ذلك حكاية عما يؤولون إليه من الاختلاف وتقطع الأرحام وفساد النظام.

(٣) ولقد سبق معاوية إلى مقام الخلافة وقد كان فى قصوره عنه بحيث لا يظن وصوله إليه ، وقصر آل بيت النبوة عن بلوغه وقد كانوا أسبق الناس إليه.

(٤) الوشمة : الكلمة ، وقد كان رضى اللّه عنه لا يكتم شيئا يحوك بنفسه : كان أمارا بالمعروف ، نهاء عن المنكر ، لا يحابى ، ولا يدارى ، ولا يكذب ، ولا يداجى وهذا القسم توطئة لقوله : ولقد نبئت بهذا المقام ، أى : أنه قد أخبر من قبل على لسان النبى صلّى اللّه عليه وسلم بأن سيقوم هذا المقام ويأتى عليه يوم مثل هذا اليوم

٤٣

ولقد نبّئت بهذا المقام وهذا اليوم ، ألا وإنّ الخطايا خيل شمس حمل عليها أهلها وخلعت لجمها فتقحّمت بهم فى النّار (١) ألا وإنّ التّقوى مطايا ذلل حمل عليها أهلها وأعطوا أزمّتها ، فأوردتهم الجنّة ، حقّ وباطل ، ولكلّ أهل (٢) فلئن أمر الباطل لقديما فعل ، ولئن قلّ الحقّ فلربّما ولعلّ ، ولقلّما أدبر شىء فأقبل (٣)

__________________

(١) الشمس ـ بضمتين وبضم فسكون ـ جمع شموس وهى من «شمس» كنصر أى منع ظهره أن يركب ، وفاعل الخطيئة إنما يقترفها لغاية زينت له يطلب الوصول إليها ، فهو شبيه براكب فرس يجرى به إلى غايته ، لكن الخطايا ليست إلى الغايات بمطايا ، فانها اعتساف عن السبيل واختباط فى السير ، لهذا شبهها بالخيل الشمس التى قد خلعت لجمها ، لأن من لم يلجم نفسه بلجام الشريعة أفلتت منه إلى حيث ترديه وتتقحم به فى النار. وتشبيه التقوى بالمطايا الذلل ظاهر ، فان التقوى تحفظ النفس من كل ما ينكها عن صراط الشريعة ، فصاحبها على الجادة لا يزال عليها حتى يوافى الغاية. والذلل : جمع ذلول ، وهى المروضة الطائعة السلسة القياد.

(٢) أى : أن ما يمكن أن يكون عليه الانسان ينحصر فى أمرين : الحق ، والباطل ، ولا يخلو العلم منهما. ولكل من الأمرين أهل : فللحق أقوام ، وللباطل أقوام ، ولئن أمر الباطل ـ أى : كثر بكثرة أعوانه ـ فلقد كان منه قديما لأن البصائر الزائغة عن الحقيقة أكثر من الثابتة عليها. ولئن كان الحق قليلا بقلة أنصاره فلربما غلبت قلته كثرة الباطل ، ولعله يقهر الباطل ويمحقه

(٣) هذه الكلمة صادرة من ضجر نفسه يستبعد بها أن تعود دولة لقوم بعد ما زالت عنهم. ومن هذا المعنى قول الشاعر : ـ

وقالوا يعود الماء فى النهر بعد ما

ذوى نبت جنبيه وجف المشارع

فقلت : إلى أن يرجع النهر جاريا

ويوشب جنباه تموت الضفادع

٤٤

قال الشريف : أقول : إنّ فى هذا الكلام الأدنى من مواقع الإحسان ما لا تبلغه مواقع الاستحسان ، وإنّ حظّ العجب منه أكثر من حظّ العجب به ، وفيه ـ مع الحال الّتي وصفنا ـ زوائد من الفصاحة لا يقوم بها لسان ، ولا يطّلع فجّها إنسان (١) ، ولا يعرف ما أقول إلاّ من ضرب فى هذه الصّناعة بحقّ ، وجرى فيها على عرق (٢) «وَمٰا يَعْقِلُهٰا إِلاَّ اَلْعٰالِمُونَ»

ومن هذه الخطبة

شغل من الجنّة والنّار أمامه (٣) ساع سريع نجا (٤) ، وطالب بطىء رجا ،

__________________

(١) «لا يطلع» من قولهم : اطلع الأرض ، أى : بلغها ، والفج : الطريق الواسع بين جبلين فى قبل من أحدهما

(٢) العرق : الأصل ، أى : سلك فى العمل بصناعة الفصاحة والصدور عن ملكتها على أصولها وقواعدها

(٣) «شغل» مبنى للمجهول نائب فاعله من ، والجنة والنار مبتدأ خبره أمامه ، والجملة صلة من ، أى : كفى شاغلا أن تكون الجنة والنار أمامك ومن كانت أمامه الجنة والنار ـ على ما وصف اللّه سبحانه ـ فحرى به أن تنفد أوقاته جميعها فى الاعداد للجنة والابتعاد عما عساه يؤدى إلى النار.

(٤) يقسم الناس الى ثلاثة أقسام : الأول : الساعى إلى ما عند اللّه السريع فى سعيه ، وهو الواقف عند حدود الشريعة لا يشغله فرضها عن نفلها ، ولا شاقها عن سهلها. والثانى : الطالب البطىء له قلب تعمره الخشية ، وله ميل إلى الطاعة ، لكن ربما قعد به عن السابقين ميل إلى الراحة فيكتفى من العمل بفرضه ، وربما انتظر به غير وقته ، وينال من الرخص حظه ، وربما كانت له هفوات ، ولشهوته نزوات على أنه رجاع إلى ربه ، كثير الندم على ذنبه ، فذلك الذى خلط عملا صالحا وآخر سيئا فهو يرجو أن يغفر له. والقسم الثالث : المقصر ، وهو الذى حفظ الرسم ونسى الاسم ، وقال بلسانه إنه مؤمن ، وربما شارك الناس فيما يأتون من أعمال ظاهرة كصوم وصلاة وما شابههما ، وظن أن ذلك كل ما يطلب منه ، ثم لا تورده شهوته

٤٥

ومقصّر فى النّار هوى ، اليمين والشّمال مضلّة ، والطّريق الوسطى هى الجادّة (١) عليها باقى الكتاب وآثار النّبوّة ، ومنها منفذ السّنّة ، وإليها مصير العاقبة ، هلك من ادّعى ، وخاب من افترى من أبدى صفحته للحقّ هلك (٢) وكفى بالمرء جهلا أن لا يعرف قدره ، لا يهلك على التّقوى سنخ أصل (٣) ، ولا يظمأ عليها

__________________

منهلا إلا عب منه ، ولا يميل به هواه إلى أمر إلا انتهى إليه ، فذلك عبد الهوى ، وجدير به أن يكون فى النار هوى

(١) اليمين والشمال مثال لما زاع عن جادة الشريعة والطريق الوسطى مثال للشريعة القويمة ، ثم أخذ يبين أن الجادة والطريق الوسطى هى سبيل النجاة ، جاء الكتاب هاديا إليها ، والسنة لا تنفذ إلا منها ، فمن خالف الكتاب ونبذ السنة ثم ادعى أنه على الجادة فقد كذب ، ولهذا يقول : خاب من ادعى ، أى : من ادعى دعوة وكذب فيها ولم يكن عنده مما يدعيه إلاّ مجرد الدعوى فقد هلك لأنه مائل عن الجادة

(٢) الرواية الصحيحة هكذا : من أبدى صفحته للحق هلك ، أى : من كاشف الحق مخاصما له مصارحا له بالعداوة هلك. ويروى من أبدى صفحته للحق هلك عند جهلة الناس. وعلى هذه الرواية يكون المعنى : من ظاهر الحق ونصره غلبته الجهلة بكثرتهم ـ وهم أعوان الباطل ـ فهلك

(٣) السنخ المثبت ، يقال : ثبتت السن فى سنخها ، أى : منبتها. والأصل لكل شىء : قاعدته وما قام عليه بقيته ، فأصل الجبل مثلا أسفله الذى يقوم عليه أعلاه وأصل النبات جذره الذاهب فى منبته ، وهلاك النسخ فساده حتى لا تثبت فيه أصول ما اتصل به ، ولا ينمو غرس غرس فيه. وكل عمل ذهبت أصوله فى أسناخ التقوى كان جديرا بأن تثبت أصوله وتنمو فروعه ويزكو بزكاء منبته ومغرس أصله ، وهو التقوى ، وكما أن التقوى سنخ لأصول الأعمال كذلك منها تستمد الأعمال غذاءها وتستقى ماءها من الأخلاص ، وجدير بزرع يسقى بماء التقوى أن لا يظمأ و «عليها» فى الموضعين : فى معنى معها. وقد يقال فى قوله سنخ أصل : إنه هو على نحو قول القائل : إذا خاض عينيه كرى النوم. والكرى هو النوى ، والسنخ هو الأصل. والأليق بكلام الامام ما قدمناه

٤٦

زرع قوم. فاستتروا ببيوتكم ، وأصلحوا ذات بينكم ، والتّوبة من ورائكم ، ولا يحمد حامد إلاّ ربّه ، ولا يلم لائم إلاّ نفسه.

١٧ ـ ومن كلام له عليه السّلام

فى صفة من يتصدى للحكم بين الأمة وليس لذلك بأهل

إنّ أبغض الخلائق إلى اللّه رجلان : رجل وكله اللّه إلى نفسه (١) فهو جائر عن قصد السّبيل ، مشغوف بكلام بدعة ، ودعاء ضلالة ، فهو فتنة لمن افتتن به ، ضالّ عن هدى من كان قبله ، مضلّ لمن اقتدى به فى حياته وبعد وفاته ، حمّال خطايا غيره ، رهن بخطيئته (٢) ، ورجل قمش جهلا (٣) موضع فى جهّال الأمّة (٤) عاد

__________________

(١) وكله اللّه إلى نفسه : تركه ونفسه ، وهو كناية عن ذهابه خلف هواه فيما يعتقد لا يرجع إلى حقيقة من الدين ولا يهتدى بدليل من الكتاب ، فهذا جائر عن قصد السبيل وعادل عن جادته. والمشغوف بشىء : المولع به ، وكلام البدعة : ما اخترعته الأهواء ولم يعتمد على ركن من الحق ركين.

(٢) هذا الضال المولع بتنميق الكلام لتزيين البدعة الداعى إلى الضلالة قد غرر بنفسه وأوردها هلكتها فهو رهن بخطيئته لا مخرج له منها ، وهو مع ذلك حامل لخطايا الذين أضلهم وأفسد عقائدهم بدعائه ، كما قال تعالى : «وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقٰالَهُمْ وَأَثْقٰالاً مَعَ أَثْقٰالِهِمْ»

(٣) قمش جهلا : جمعه ، والجهل هنا بمعنى المجهول ، كما يسمى المعلوم علما. بل قال قوم : إن العلم هو صورة الشىء فى العقل ، وهو المعلوم حقيقة ، كذلك يسمى المجهول جهلا بل الصورة التى اعتبرت مثالا لشىء وليست بمنطبقة عليه هى الجهل حقيقة بالمعنى المقابل للعلم بذلك التفسير السابق. فالجهل المجموع : هو المسائل والقضايا التى يظنها جامعها تحكى واقعا ولا واقع لها

(٤) «موضع فى جهال الأمة» مسرع فيهم بالغش والتغرير : وضع البعير أسرع ،

٤٧

فى أغباش الفتنة ، عم بما فى عقد الهدنة (١) قد سمّاه أشباه النّاس عالما وليس به ، بكّر فاستكثر من جمع ما قلّ منه خير ممّا كثر (٢) حتّى إذا ارتوى من آجن ، واكتنز من غير طائل (٣) ، جلس بين النّاس قاضيا ضامنا لتخليص ما التبس على غيره (٤) ، فإن نزلت به إحدى المبهمات هيّأ لها حشوا رثّا من رأيه ، ثمّ

__________________

وأوضعه راكبه فهو موضع به ، أى : مسرع به. وقوله «عاد فى أغباش الفتنة» الاغباش : الظلمات ، واحدها غبش بالتحريك ، وأغباش الليل بقايا ظلمته. وعاد : بمعنى مسرع فى مشيته ، أى : أنه ينتهز افتتان الناس بجهلهم وعماهم فى فتنتهم فيعدو إلى غايته من التصدر فيهم والسيادة عليهم بما جمع مما يظنه الجهلة علما وليس به ، ويروى «غار فى أغباش الفتنة» : من «غره يغره» إذا غشه وهو ظاهر

(١) عم : وصف من العمى ، أى : جاهل بما أودعه اللّه فى السكون والاطمئنان من المصالح ، وقد يراد بالهدنة إمهال اللّه له فى العقوبة وإملاؤه فى أخذه ، ولو عقل ما هيأ اللّه له من العقاب لأخذ من العلم بحقائقه ، وأوغل فى النظر لفهم دقائقه ، ونصح للّه ولرسوله وللمؤمنين.

(٢) بكر : بادر إلى الجمع كالجاد فى عمله يبكر إليه من أول النهار ، فاستكثر : أى : احتاز كثيرا «من جمع» بالتنوين ، أى : مجموع قليله خير من كثيره ، إن جعلت ما موصولة ، فان جعلتها مصدرية كان المعنى : قلته خير من كثرته. ويروى جمع بغير تنوين ولا بد من حذف على تلك الرواية ، أى : من جمع شىء قلته خير من كثرته

(٣) الماء الآجن : الفاسد المتغير الطعم واللون ، شبه به تلك المجهولات التى ظنها معلومات ، وهى تشبه العلم فى أنها صور قائمة بالذهن فكأنها من نوعه ، كما أن الآجن من نوع الماء ، لكن الماء الصافى ينقع الغلة ويطفىء من الأوار. والآجن يجلب العلة ويفضى بشاربه إلى البوار. واكتنز : أى عد ما جمعه كنزا ، وهو غير طائل ، أى دون ، خسيس.

(٤) التخليص : التبيين ، والتبس على غيره : اشتبه عليه

٤٨

قطع به (١) ، فهو من لبس الشّبهات فى مثل نسج العنكبوت (٢) : لا يدرى أصاب أم أخطأ : فإن أصاب خاف أن يكون قد أخطأ ، وإن أخطأ رجا أن يكون قد أصاب ، جاهل خبّاط جهالات. عاش ركّاب عشوات (٣) لم يعضّ على العلم بضرس قاطع (٤) يذرى الرّوايات إذراء الرّيح الهشيم (٥)

__________________

(١) المبهمات. المشكلات لأنها أبهمت عن البيان ، كالصامت الذى لم يجعل على ما فى نفسه دليلا. ومنه قيل لما لا ينطق من الحيوان بهيمة. والحشو : الزائد الذى لا فائدة فيه. والرث : الخلق البالى ضد الجديد ، أى : أنه يلاقى المبهمات برأى ضعيف لا يصيب من حقيقتها شيئا ، بل هو حشو لا فائدة له فى تبينها ، ثم يزعم بذلك أنه بينها

(٢) الجاهل بالشىء : من ليس على بينة منه فاذا أثبته عرضت له الشبهة فى نفيه وإذا نفاه عرضت له الشبهة فى إثباته. فهو فى ضعف حكمه فى مثل نسخ العنكبوت ضعفا ، ولا بصيرة له فى جوه الخطأ والاصابة فاذا حكم لم يقطع بأنه مصيب أو مخطىء وقد جاء الامام فى تمثيل حاله بأبلغ ما يمكن من التعبير عنه.

(٣) خباط : صيغة مبالغة من خبط الليل إذا سار فيه على غير هدى ، ومنه خبط عشواء. وشبه الجهالات بالظلمات التى يخبط فيها السائر ، وأشار إلى التشبيه بالخبط والعاشى : الأعمى أو ضعيف البصر أو الخابط فى الظلام ، فيكون كالتأكيد لما قبله والعشوات : جمع عشوة مثلثة الأول ، وهى ركوب الأمر على غير هدى.

(٤) من عادة عاجم العود ـ أى : مختبره ليعلم صلابته من لينه ـ أن يعضه فلهذا ضرب المثل فى الخبرة بالعض بضرس قاطع. أى : أنه لم يأخذ العلم اختبارا بل تناوله كما سول الوهم وصور الخيال ، ولم يعرض على محض الخبرة ليتبين أحق هو أم باطل

(٥) الهشيم : ما يبس من النبت وتفتت ، وأذرته الريح إذراء : أطارته ففرقته. ويروى يذرو الروايات كما تذرو الريح الهشيم ، وهى أفصح ، قال اللّه تعالى : «فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ اَلرِّيٰاحُ» وكما أن الريح فى حمل الهشيم وتبديده لا تبالى بتمزيقه واختلال نسقه ، كذلك هذا الجاهل يفعل فى الروايات ما تفعل الريح بالهشيم (٤ ـ ن ـ ج ـ ١)

٤٩

لاملىء واللّه بإصدار ما ورد عليه ، ولا هو أهل لما فوّض إليه (١) لا يحسب العلم فى شىء ممّا أنكره ، ولا يرى أنّ من وراء ما بلغ مذهبا لغيره ، وإن أظلم أمر اكتتم به (٢) لما يعلم من جهل نفسه ، تصرخ من جور قضائه الدّماء ، وتعجّ منه المواريث (٣) إلى اللّه أشكو من معشر يعيشون جهّالا (٤) ويموتون ضلاّلا ليس فيهم سلعة أبور من الكتاب إذا تلى حقّ تلاوته (٥) ولا سلعة أنفق بيعا ولا أغلى ثمنا من الكتاب إذا حرّف عن مواضعه ، ولا عندهم أنكر من المعروف ، ولا أعرف من المنكر.

١٨ ـ ومن كلام له عليه السّلام

فى ذم اختلاف العلماء فى الفتيا

ترد على أحدهم القضيّة فى حكم من الأحكام فيحكم فيها برأيه ، ثمّ ترد

__________________

(١) الملىء بالقضاء : من يحسنه ويجيد القيام عليه ، وهذا لا ملىء باصدار القضايا التى ترد عليه وإرجاعها عنه مفصولا فيها النزاع ، مقطوعا فيها الحكم. أى : غير قيم بذلك ، ولا غناء فيه لهذا الأمر الذى تصدر له. وروى ابن قتيبة بعد قوله لا ملىء واللّه باصدار ما ورد عليه (ولا أهل لما قرظ به) أى : مدح به ـ بدل ولا هو أهل لما فوض إليه

(٢) اكتتم به : أى كتمه وستره

(٣) العج : رفع الصوت. وصراخ الدماء وعج المواريث تمثيل لحدة الظلم وشدة الجور

(٤) إلى اللّه متعلق بأشكو ، وفى رواية إسقاط لفظ أشكو فيكون إلى اللّه متعلقا بتعج. وقوله من معشر : يشير إلى أولئك الذين قمشوا جهلا

(٥) تلى حق تلاوته : أخذ على وجهه وما يدل عليه فى جملته وفهم كما كان النبى وأصحابه صلّى اللّه عليه وسلّم يفهمونه. وأبور من بارت السلعة : كسدت. وأنفق من النفاق ـ بالفتح ـ وهو الرواج. وما أشبه حال هذا المعشر بالمعاشر من أهل هذا الزمان

٥٠

تلك القضيّة بعينها على غيره فيحكم فيها بخلافه ، ثمّ يجتمع القضاة بذلك عند الإمام الّذى استقضاهم (١) فيصوّب آراءهم جميعا ، وإلههم واحد! ونبيّهم واحد! وكتابهم واحد! أفأمرهم اللّه تعالى بالاختلاف فأطاعوه؟ أم نهاهم عنه فعصوه؟ أم أنزل اللّه دينا ناقصا فاستعان بهم على إتمامه؟ أم كانوا شركاءه فلهم أن يقولوا وعليه أن يرضى؟ أم أنزل اللّه سبحانه دينا تامّا فقصّر الرّسول صلّى اللّه عليه وآله وسلّم عن تبليغه وأدائه ، واللّه سبحانه يقول : (مٰا فَرَّطْنٰا فِي اَلْكِتٰابِ مِنْ شَيْءٍ) وقال : (فِيهِ تِبْيَانٌ لِكُلِّ شَىْءٍ) وذكر أنّ الكتاب يصدّق بعضه بعضا ، وأنّه لا اختلاف فيه فقال سبحانه : (وَلَوْ كٰانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اَللّٰهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اِخْتِلاٰفاً كَثِيراً). وإنّ القرآن ظاهره أنيق (٢) وباطنه عميق ، لا تفنى عجائبه ، ولا تكشف الظّلمات إلاّ به.

١٩ ـ ومن كلام له عليه السّلام

قاله للأشعث بن قيس وهو على منبر الكوفة يخطب ، فمضى فى بعض كلامه شىء اعترضه الأشعث فقال : يا أمير المؤمنين هذه عليك لا لك (٣) فخفض عليه السّلام إليه بصره ثم قال : ما يدريك ما علىّ ممّا لى؟ عليك لعنة اللّه ولعنة اللاّعنين ، حائك بن

__________________

(١) الامام الذى استقضاهم : الخليفة الذى ولاهم القضاء

(٢) أنيق : حسن معجب وآنقنى الشىء : أعجبنى

(٣) كان أمير المؤمنين يتكلم فى أمر الحكمين

٥١

حائك (١) منافق ابن كافر (٢) واللّه لقد أسرك الكفر مرّة والإسلام أخرى (٣). فما فداك من واحدة منهما مالك ولا حسبك ، وإنّ امرءا دلّ

__________________

فقام رجل من أصحابه وقال : نهيتنا عن الحكومة ثم أمرتنا بها فلم ندر أى الأمرين أرشد؟ فصفق باحدى يديه على الأخرى ، وقال : هذا جزاء من ترك العقدة ، فقال الأشعث ما قال ، وأمير المؤمنين يريد هذا جزاؤكم فيما تركتم الحزم وشغبتم وألجأتمونى لقبول الحكومة

(١) قيل : إن الحائكين أنقص الناس عقلا : وأهل اليمن يعيرون بالحياكة. والأشعث يمنى من كندة. قال خالد بن صفوان فى ذم اليمانيين : ليس فيهم إلا حائك برد ، أو دابغ جلد ، أو سائس قرد ، ملكتهم امرأة وأغرقتهم فأرة ، ودل عليهم هدهد.

(٢) كان الأشعث فى أصحاب على كعبد اللّه بن أبى بن سلول فى أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كل منهما رأس النفاق فى ذمته.

(٣) أسر مرتين : مرة وهو كافر فى بعض حروب الجاهلية ، وذلك أن قبيلة مراد قتلت قيسا الأشج أبا الأشعث فخرج الأشعث طالبا بثار أبيه فخرجت كندة متساندين إلى ثلاثة ألوية على أحدها كبش بن هانىء ، وعلى أحدها القشعم ابن الأرقم ، وعلى أحدها الأشعث فأخطأوا مرادا ووقعوا على بنى الحارث بن كعب فقتل كبش والقشعم وأسر الأشعث ، وفدى بثلاثة آلاف بعير لم يفد بها عربى قبله ولا بعده ، فمعنى قول أمير المؤمنين «فما فداك» لم يمنعك من الأسر. وأما أسر الاسلام له فذلك أن بنى وليعة لما ارتدوا بعد موت النبى صلّى اللّه عليه وسلّم وقاتلهم زياد بن لبيد البياضى الأنصارى لجأوا إلى الأشعث مستنصرين به فقال : لا أنصركم حتى تملكونى ، فتوجوه كما يتوج الملك من قحطان ، فخرج معهم مرتدا يقاتل المسلمين وأمد أبو بكر زيادا بالمهاجر بن أبى أمية فالتقوا بالأشعث فتحصن منهم فحاصروه أياما ثم نزل إليهم على أن يؤمنوه وعشرة من أقاربه حتى يأتى أبا بكر فيرى فيه رأيه ، وفتح لهم الحصن فقتلوا كل من فيه من قوم الأشعث إلا العشرة الذين عزلهم وكان المقتولون ثمانمائة ثم حملوه أسيرا مغلولا إلى أبى بكر فعفا عنه وعمن كان معه وزوجه أخته أم فروة بنت أبى قحافة.

٥٢

على قومه السّيف ، وساق إليهم الحتف ، لحرىّ أن يمقته الأقرب ، ولا يأمنه الأبعد (١)

٢٠ ـ ومن كلام له عليه السّلام

فإنّكم لو عاينتم ما قد عاين من مات منكم لجزعتم ووهلتم (٢) وسمعتم وأطعتم ولكن محجوب عنكم ما قد عاينوا ، وقريب ما يطرح الحجاب (٣) ولقد بصّرتم إن أبصرتم ، وأسمعتم إن سمعتم ، وهديتم إن اهتديتم ، بحقّ أقول لكم لقد جاهرتكم العبر (٤) وزجرتم بما فيه مزدجر. وما يبلّغ عن اللّه بعد

__________________

(١) دلالة السيف ـ على قوله ـ وسوق الحنف إليهم تسليمهم لزياد بن لبيد ، وفتح الحصن عليهم حتى قتلهم كما تقدم وإن كان الذى ينقل عن الشريف الرضى أن ذلك إشارة إلى وقعة جرت بين الأشعث وخالد بن الوليد فى حرب المرتدين باليمامة ، وإن الأشعث دل خالدا على مكامن قومه ومكربهم حتى أوقع بهم خالد فان ما نقله الشريف لا يتم إلا إذا قلنا إن بعض القبائل من كندة كانت انتقلت من اليمن إلى اليمامة. وشاركت أهل الردة فى حروبهم وفعل بهم الأشعث ما فعل. وعلى كل حال فقد كان الأشعث ملوما على ألسنة المسلمين والكافرين ، وكان نساء قومه يسمينه عرف النار ، وهو اسم للغادر عندهم

(٢) الوهل : الخوف ، من وهل يوهل

(٣) ما مصدرية ، أى قريب طرح الحجاب ، وذلك عند نهاية الأجل ، ونزول المرء فى أول منازل الآخرة.

(٤) جاهرتكم العبر : انتصبت لتنبهكم جهرا وصرحت لكم بعواقب أموركم ، والعبر : جمع عبرة ، والعبرة : الموعظة ، لكنه أطلق اللفظ وأراد ما به الاعتبار مجازا ، فان العبر التى جاهرتهم إما قوارع الوعيد المنبعثة عليهم من ألسنة الرسل الالهيين وخلفائهم. وإما ما يشهدونه من تصاريف القدرة الربانية ومظاهر العزة الالهية

٥٣

رسل السّماء إلاّ البشر (١)

٢١ ـ ومن خطبة له عليه السّلام

فإنّ الغاية أمامكم (٢) وإنّ وراءكم السّاعة تحدوكم ، تخفّفوا تلحقوا (٣) فإنّما تنتظر بأوّلكم آخركم (٤) قال الشريف أقول : إن هذا الكلام لو وزن ، بعد كلام اللّه سبحانه وبعد كلام رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ، بكل كلام لمال به راجحا ، وبرّز عليه سابقا. فأما قوله عليه السّلام «تخففوا تلحقوا» فما سمع كلام أقل منه مسموعا ولا أكثر محصولا وما أبعد غورها من كلمة ، وأنقع نطفتها من حكمة (٥) ، وقد نبهنا فى كتاب الخصائص على عظم قدرها وشرف جوهرها

__________________

(١) رسل السماء : الملائكة ، أى : إن قلتم لم يأتنا عن اللّه شىء فقد أقيمت عليكم الحجة بتبليغ رسول اللّه وإرشاد خليفته.

(٢) الغاية : الثواب أو العقاب ، والنعيم والشقاء. فعليكم أن تعدوا للغاية ما يصل بكم إليها ، ولا تستبطئوها فان الساعة التى تصيبونها فيها ـ وهى يوم القيامة ـ آزفة إليكم فكأنها ـ فى تقربها نحوكم وتقليل المسافة بينها وبينكم ـ بمنزلة سائق يسوقكم إلى ما تسيرون إليه

(٣) سبق سابقون بأعمالهم إلى الحسنى ، فمن أراد اللحاق بهم فعليه أن يتخفف من أثقال الشهوات وأوزار العناء فى تحصيل اللذات ، ويحفز بنفسه عن هذه الفانيات فيلحق بالذين فازوا بعقبى الدار. وأصله الرجل يسعى وهو غير مثقل بما يحمله يكون أجدر أن يلحق الذين سبقوه

(٤) أى : أن الساعة لا ريب فيها ، وإنما ينتظر بالأول مدة لا يبعث فيها حتى يرد الآخرون وينقضى دور الانسان من هذه الدنيا ولا يبقى على وجه الأرض أحد فتكون الساعة بعد هذا ، وذلك يوم يبعثون

(٥) من قولهم ماء ناقع ونقيع أى ناجع ، أى إطفاء العطش. والنطفة : الماء الصافى

٥٤

٢٢ ـ ومن خطبة له عليه السّلام

ألا وإنّ الشّيطان قد ذمر حزبه (١) ، واستجلب جلبه. ليعود الجور إلى أوطانه ، ويرجع الباطل إلى نصابه (٢). واللّه ما أنكروا علىّ منكرا ، ولا جعلوا بينى وبينهم نصفا (٣) ، وإنّهم ليطلبون حقّا هم تركوه ، ودما هم سفكوه ، فلئن كنت شريكهم فيه فإنّ لهم لنصيبهم منه ، ولئن كانوا ولّوه دونى فما التّبعة إلاّ عندهم ، وإنّ أعظم حجّتهم لعلى أنفسهم! يرتضعون أمّا قد فطمت (٤) ويحيون بدعة قد أميتت ، يا خيبة الدّاعى!! من دعا؟ وإلام أجيب؟ (٥) وإنّى لراض بحجّة اللّه عليهم ، وعلمه فيهم ، فإن أبوا أعطيتهم حدّ السّيف وكفى به شافيا من الباطل ، وناصرا للحقّ ، ومن العجب بعثهم إلىّ أن أبرز للطّعان! وأن أصبر للجلاد ، هبلتهم الهبول (٦) لقد كنت وما أهدّد بالحرب ، ولا

__________________

(١) حثهم : وحضهم من قولهم «ذمر فلانا بكذا» من بابى ضرب ونصر ، إذا أغراه به والجلب ـ بالتحريك ـ ما يجلب من بلد إلى بلد ، وهو فعل بمعنى مفعول مثل سلب بمعنى مسلوب ، وجمع الجلب أجلاب.

(٢) النصاب ـ بكسر النون ـ الأصل ، أو المنبت وأول كل شىء

(٣) النصف ـ بالكسر ـ العدل أو المنصف ، أى : لم يحكموا العدل بينى وبينهم ، أو لم يحكموا عادلا

(٤) إذا فطمت الأم ولدها فقد انقضى إرضاعها وذهب لبنها ، يمثل به طلب الأمر بعد فواته

(٥) من : استفهامية ، وما المحذوفة الألف لدخول إلى عليها كذلك ، وهذا استفهام عن الداعى ودعوته تحقيرا لهما ، والكلام فى أصحاب الجمل. والداعى هو أحد الثلاثة الذين تقدم ذكرهم فى قصة الجمل عند الكلام فى ذم البصرة

(٦) هبلتهم : ثكلتهم ، والهبول ـ بالفتح ـ

٥٥

أرهب بالضّرب ، وإنّى لعلى يقين من ربّى ، وغير شبهة من دينى.

٢٣ ـ ومن خطبة له عليه السّلام

أمّا بعد فانّ الأمر ينزل من السّماء إلى الأرض كقطرات المطر : إلى كلّ نفس بما قسم لها من زيادة ونقصان ، فإذا رأى أحدكم لأخيه غفيرة فى أهل أو مال أو نفس (١) فلا تكوننّ له فتنة ، فإنّ المرء المسلم ما لم يغش دناءة تظهر فيخشع لها إذا ذكرت وتغرى بها لئام النّاس ، كان كالفالج الياسر (٢) الّذى ينتظر أوّل فوزة من قداحه توجب له المغنم ، ويرفع بها عنه المغرم ، وكذلك المرء المسلم البرىء من الخيانة ينتظر من اللّه إحدى الحسنيين إمّا داعى اللّه فما عند اللّه خير له ، وإمّا رزق اللّه فإذا هو ذو أهل ومال ، ومعه دينه وحسبه ، إنّ المال والبنين حرث الدّنيا ، والعمل الصّالح حرث الآخرة ، وقد

__________________

من النساء التى لا يبقى لها ولد ، وهو دعاء عليهم بالموت ، لعدم معرفتهم بأقدار أنفسهم ، فالموت خير لهم من حياة جاهلية

(١) غفيرة : زيادة وكثرة

(٢) الفالج : الظافر ، فلج يفلج ـ كنصر ينصر ـ ظفر وفاز. ومنه المثل : من يأت الحكم وحده يفلج ، والياسر : الذى يلعب بقداح الميسر أى : المقامر. وفى الكلام تقديم وتأخير ، ونسقه كالياسر الفالج كقوله تعالى «وَغَرٰابِيبُ سُودٌ» ، وحسنه ان اللفظتين صفتان وإن كانت إحداهما إنما تأتى بعد الأخرى إذا صاحبتها ، يريد أن المسلم إذا لم يأت فعلا دنيئا يخجل لظهوره وذكره ، ويبعث لئام الناس على التكلم به ، فقد فاز بشرف الدنيا وسعادة الآخرة ، فهو شبيه بالمقامر الفائز فى لعبه لا ينتظر إلا فوزا. أى : أن المسلم إذا برىء من الدناءات لا ينتظر إلا إحدى الحسنيين : إما نعيم الآخرة ، أو نعيم الدارين ، فجدير به أن لا يأسف على فوت حظ من الدنيا. فانه إن فاته ذلك لم يفته نصيبه من الآخرة ، وهو يعلم أن الأرزاق بتقدير رزاقها ، فهو أرفع من أن يحسد أحدا على رزق ساقه اللّه اليه. وقوله «فاحذروا ما حذركم اللّه من نفسه» : يريد احذروا الحسد ، فان مبعثه انتقاص صنع اللّه تعالى واستهجان بعض أفعاله ، وقد حذرنا اللّه من الجرأة على عظمته فقال : «وَإِيّٰايَ فَارْهَبُونِ» «وَإِيّٰايَ فَاتَّقُونِ».) وما يفوق الكثرة من الآيات الدالة على ذلك

٥٦

يجمعهما اللّه لأقوام ، فاحذروا من اللّه ما حذّركم من نفسه ، واخشوه خشية ليست بتعذير (١) واعملوا فى غير رياء ولا سمعة ، فإنّه من يعمل لغير اللّه يكله اللّه لمن عمل له (٢) نسأل اللّه منازل الشّهداء ، ومعايشة السّعداء ، ومرافقة الأنبياء. أيّها النّاس إنّه لا يستغنى الرّجل ، وإن كان ذا مال ، عن عشيرته ، ودفاعهم عنه بأيديهم وألسنتهم ، وهم أعظم النّاس حيطة من ورائه (٣) وألمّهم لشعثه ، وأعطفهم عليه عند نازلة إذا نزلت به. ولسان الصّدق يجعله اللّه للمرء فى النّاس خير له من المال يورّثه (٤) غيره. ومنها : ألا لا يعدلن عن القرابة يرى بها الخصاصة أن يسدّها بالّذى

__________________

(١) مصدر عذر تعذيرا لم يثبت له عذر ، أى : خشية لا يكون فيها تقصير يتعذر معه الاعتذار

(٢) العامل لغير اللّه لا يرجو ثواب عمله من اللّه وإنما يطلبه ممن عمل له ، فكأن اللّه قد تركه إلى من عمل له وجعل أمره اليه

(٣) حيطة كبيعة أى : رعاية وكلاءة ، ويروى حيطة ـ بكسر الحاء كبنية ، وسكون الياء مخففة ـ مصدر حاطه يحوطه. أى : صانه ، وتعطف ، عليه وتحنن ، والشعث ـ بالتحريك ـ : التفرق والانتشار

(٤) لسان الصدق : حسن الذكر بالحق ،

٥٧

لا يزيده إن أمسكه ، ولا ينقصه إن أهلكه (١) ، ومن يقبض يده عن عشيرته فإنّما تقبض منه عنهم يد واحدة ، وتقبض منهم عنه أيد كثيرة ، ومن تلن حاشيته يستدم من قومه المودّة. قال الشريف : أقول : الغفيرة ههنا الزيادة والكثرة ، من قولهم للجمع الكثير : الجم الغفير ، والجماء الغفير. ويروى «عفوة من أهل أو مال» والعفوة الخيار من الشىء ، يقال : أكلت عفوة الطعام ، أى : خياره ، وما أحسن المعنى الذى أراده عليه السّلام بقوله : «ومن يقبض يده عن عشيرته إلى تمام الكلام ، فإنّ الممسك خيره عن عشيرته إنّما يمسك نفع يد واحدة فاذا احتاج إلى نصرتهم واضطرّ إلى مرافدتهم (٢) قعدوا عن نصره ، وتثاقلوا عن صوته فمنع ترافد الأيدى الكثيرة ، وتناهض الأقدام الجمّة.

٢٤ ـ ومن خطبة له عليه السّلام

ولعمرى ما علىّ من قتال من خالف الحقّ ، وخابط الغىّ ، من إدهان ولا

__________________

وهو فى القرابة أولى وأحق

(١) الخصاصة : الفقر والحاجة الشديدة ، وهى مصدر خص الرجل ـ من باب علم ـ خصاصا ، وخصاصة ، وخصاصاء ـ بفتح الخاء فى الجميع ـ إذا احتاج وافتقر ، قال تعالى : «وَيُؤْثِرُونَ عَلىٰ أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كٰانَ بِهِمْ خَصٰاصَةٌ» وقال الشاعر : واذا تصبك خصاصة فتحمل ينهى أمير المؤمنين عن إهمال القريب إذا كان فقيرا ، ويحث على سد حاجته بالمال وأنواع المعاونة. فان ما يبذله فى سد حاجة القريب لو لم يصرفه فى هذا السبيل وأمسكه لنفسه لم يزده فى غناه أو فى جاهه شيئا ، ولو بذله لم ينقصه من ذلك كذلك. ومعنى أهلكه : بذله

(٢) المرافدة : المعاونة

٥٨

إيهان (١) فاتّقوا اللّه عباد اللّه ، وامضوا فى الّذى نهجه لكم ، وقوموا بما عصبه بكم (٢). فعلىّ ضامن لفلجكم آجلا ، إن لم تمنحوه عاجلا (٣)

٢٥ ـ ومن خطبة له عليه السّلام

وقد تواترت (٤) عليه الأخبار باستيلاء أصحاب معاوية على البلاد وقدم عليه عاملاه على اليمن ، وهما عبيد اللّه بن عباس وسعيد بن نمران لما غلب عليهما بسر بن أبى أرطاة (٥) فقام عليه السّلام على المنبر ضجرا بتثاقل أصحابه

__________________

(١) الادهان : المنافقة والمصانعة ، ولا تخلو من مخالفة الظاهر للباطن والغش. والايهان : الدخول فى الوهن ، وهو من الليل نحو نصفه وهو هنا عبارة عن التستر والمخاتلة ، وقد يكون مصدر أوهنته بمعنى أضعفته ، أى : لا يعرض على فيه ما يضعفنى. وخابط الغى والغى يخبطه وهو أشد اضطرابا ممن يخبط فى الغى

(٢) عصبه بكم من باب ضرب ربطه بكم أى : كلفكم به ، وألزمكم أداءه. ونهجه لكم : أوضحه وبينه

(٣) لفلجكم ، أى لظفركم وفوزكم

(٤) تواترت عليه الأخبار : مثل ترادفت وتواصلت وتتابعت ، ومن الناس من زعم أن التواتر لا يكون إلا مع فترات بين أوقات الاتيان ، وزعم أن قوله تعالى «ثُمَّ أَرْسَلْنٰا رُسُلَنٰا تَتْرٰا» يدل على ذلك لأنه بين كل نبيين فترة

(٥) يقال بسر بن أبى أرطاة وبسر بن أرطاة ، وهو عامرى من بنى عامر بن لؤى بن غالب ، سيره معاوية إلى الحجاز بعسكر كثيف ، فأراق دماء غزيرة ، واستكره الناس على البيعة لمعاوية. وفر من بين يديه والى المدينة أبو أيوب الأنصارى. ثم وجه واليا على اليمن فتغلب عليها ، وانتزعها من عبيد اللّه بن العباس ، وفر عبيد اللّه ناجيا من شره ، فأتى بسر بيته فوجد له ولدين صبيين فذبحهما ، وباء باثمهما ، قبح اللّه القسوة وما تفعل ، ويروى أنهما ذبحا فى بنى كنانة أخوالهما ، وكان أبوهما تركهما هناك ، وفى ذلك تقول زوجة عبيد اللّه : ـ

يا من أحس بابنى اللذين هما

كالدرتين تشطى عنهما الصدف

يا من أحس بابنى اللذين هما

قلبى وسمعى ، فقلبى اليوم مختطف

من ذل والهة حيرى مدلهة

على صبيين ذلا ، إذ غدا السلف

٥٩

عن الجهاد ومخالفتهم له فى الرأى ، فقال : ـ ما هى إلاّ الكوفة أقبضها وأبسطها (١) ، إن لم تكونى إلاّ أنت تهبّ أعاصيرك (٢) فقبّحك اللّه وتمثل بقول الشاعر [لعمر أبيك الخير يا عمرو إنّنى على وضر من ذا الإناء قليل (٣)

ثم قال عليه السّلام :

أنبئت بسرا قد اطّلع اليمن (٤) وإنّى واللّه لأظنّ أنّ هؤلاء القوم سيدالون منكم : باجتماعهم على باطلهم ، وتفرّقكم عن حقّكم (٥) ، وبمعصيتكم إمامكم فى الحقّ ، وطاعتهم إمامهم فى الباطل ، وبأدائهم الأمانة إلى صاحبهم وخيانتكم

__________________

خبرت بسرا وما صدقت ما زعموا

من إفكهم ومن القول الذى اقترفوا

أنحى على ودجى ابنى مرهفة

مشحوذة ، وكذاك الاثم يقترف

وتروى هذه الأبيات بروايات شتى فيها تغيير وزيادة ونقص

(١) أقبضها وأبسطها ، أى : أتصرف فيها كما يتصرف صاحب الثوب فى ثوبه يقبضه أو يبسطه

(٢) الأعاصير : جمع إعصار ، وهى ريح تهب وتمتد من الأرض نحو السماء كالعمود ، أو كل ريح فيها العصار : وهو الغبار الكثير. إن لم يكن لى ملك الكوفة على ما فيها من الفتن والآراء المختلفة فأبعدها اللّه ، وشبه الاختلاف والشقاق بالأعاصير لاثارتها التراب وإفسادها الأرض

(٣) الوضر ـ بالتحريك ـ : غسالة السقاء والقصعة ، وبقية الدسم فى الاناء وتقول. وضر الاناء ـ من باب طرب ـ إذا اتسخ بالدسم أو اللبن

(٤) اطلع اليمن : بلغها وتمكن منها وغشيها بجيشه

(٥) سيدالون منكم : ستكون لهم الدولة بدلكم ، بذلك السبب القوى ، وهو اجتماع كلمتهم ، وطاعتهم

٦٠