نهج البلاغة - ج ١

محمد عبده

نهج البلاغة - ج ١

المؤلف:

محمد عبده


المحقق: محمّد محيى الدين عبد الحميد
الموضوع : الحديث وعلومه
المطبعة: مطبعة الإستقامة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٤٠

أوعد عليه نيرانه ، أو صغير أرصد له غفرانه. وبين مقبول فى أدناه ، موسّع فى أقصاه (١)

منها فى ذكر الحج

وفرض عليكم حجّ بيته الحرام ، الّذى جعله قبلة للأنام ، يردونه ورود الأنعام ، ويألهون إليه ولوه الحمام (٢) جعله سبحانه علامة لتواضعهم لعظمته ، وإذعانهم لعزّته ، واحتار من خلقه سمّاعا أجابوا إليه دعوته ، وصدّقوا كلمته ، ووقفوا مواقف أنبيائه ، وتشبّهوا بملائكته المطيفين بعرشه : يحرزون الأرباح فى متجر عبادته ، ويتبادرون عند موعد مغفرته ، جعله سبحانه وتعالى للإسلام علما ، وللعائذين حرما ، فرض حجّه ، وأوجب حقّه ، وكتب عليكم وفادته (٣) فقال سبحانه : «وَلِلّٰهِ عَلَى اَلنّٰاسِ حِجُّ اَلْبَيْتِ مَنِ اِسْتَطٰاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اَللّٰهَ غَنِيٌّ عَنِ اَلْعٰالَمِينَ».

__________________

صغيرا رصد له غفرانه كالنظرة بشهوة ونحوها ، ومنهم من رواه «مباينا» منصوبا على أنه صفة من صفات الكتاب

(١) رجوع إلى تقسيم الكتاب ، والمقبول فى أدناه الموسع فى أقصاه كما فى كفارة اليمين يقبل فيها إطعام عشرة مساكين وموسع فى كسوتهم وعتق الرقبة

(٢) يألهون إليه : أى يفزعون إليه أو يلوذون به ، ويعكفون عليه ، وروى «يولهون» بفتح اللام ، من الوله ، وهو شدة الوجد حتى يكاد العقل يذهب.

(٣) الوفادة : الزيارة

٢١

٢ ـ ومن خطبة له بعد انصرافه من صفين (١)

أحمده استتماما لنعمته ، واستسلاما لعزّته ، واستعصاما من معصيته. وأستعينه فاقة إلى كفايته ، إنّه لا يضلّ من هداه ، ولا يئل من عاداه (٢) ، ولا يفتقر من كفاه ، فإنّه أرجح ما وزن (٣) ، وأفضل ما خزن. وأشهد أن لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له ، شهادة ممتحنا إخلاصها ، معتقدا مصاصها (٤) نتمسّك بها أبدا ما أبقانا ، وندّخرها لأهاويل ما يلقانا (٥) ، فإنّها عزيمة الإيمان ، وفاتحة الإحسان ، ومرضاة الرّحمن ، ومدحرة الشّيطان (٦). وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله ، أرسله بالدّين المشهور ، والعلم المأثور (٧) والكتاب المسطور ، والنّور السّاطع ، والضّياء اللاّمع ، والأمر الصّادع ، إزاحة للشّبهات ، واحتجاجا بالبيّنات ، وتحذيرا بالآيات ، وتخويفا بالمثلات (٨)

__________________

(١) صفين كسجين : محلة عدها الجغرافيون من بلاد الجزيرة (ما بين الفرات والدجلة) والمؤرخون من العرب عدوها من أرض سوريا ، وهى اليوم فى ولاية حلب الشهباء. وهذه الولاية كانت من أعمال سوريا

(٢) وأل يئل : خلص

(٣) الضمير فى «فانه» للحمد المفهوم من «أحمده»

(٤) مصاص كل شىء خالصه

(٥) الأهاويل : جمع أهوال ، وأهوال جمع هول ، فهى جمع الجمع

(٦) مدحرة الشيطان أى : تبعده وتطرده

(٧) العلم ـ بالتحريك ـ ما يهتدى به ، وهو هنا الشريعة الحقة ، والمأثور : المنقول عنه.

(٨) المثلات ، بفتح فضم : العقوبات ، جمع مثلة ـ بضم التاء وسكونها بعد الميم ـ وجمعها مثولات ومثلات ، وقد تسكن تاء الجمع تخفيفا

٢٢

والنّاس فى فتن انجذم فيها حبل الدّين (١) وتزعزعت سوارى اليقين (٢) واختلف النّجر (٣) وتشتّت الأمر ، وضاق المخرج وعمى المصدر (٤) فالهدى خامل ، والعمى شامل : عصى الرّحمن ، ونصر الشّيطان ، وخذل الإيمان ، فانهارت دعائمه (٥) ، وتنكّرت معالمه (٦) ودرست سبله (٧) وعفت شركه : أطاعوا الشّيطان فسلكوا مسالكه ، ووردوا مناهله (٨) ، بهم سارت أعلامه وقام لواؤه ، فى فتن داستهم بأخفافها ، ووطئتهم بأظلافها (٩) وقامت على سنابكها ، فهم فيها تائهون حائرون جاهلون مفتونون ، فى خير دار ، وشرّ

__________________

(١) انجذم : انقطع

(٢) السوارى : جمع سارية ، وهى : العمود والدعامة

(٣) النجر ـ بفتح النون وسكون الجيم ـ : الأصل ، أى : اختلفت الأصول فكل يرجع إلى أصل يظنه مرجع حق ، وما هو من الحق فى شىء.

(٤) مصادرهم فى أوهامهم وأهوائهم مجهولة غير معلومة ، خفية غير ظاهرة : فلا عن بينة يعتقدون ، ولا إلى غاية صالحة ينزعون.

(٥) انهارت : هوت وسقطت والدعائم : جمع دعامة ، وهى : ما يستند إليه الشىء ويقوم عليه. ودعامة السقف ، مثلا : ما يرتفع عليه من الأعمدة

(٦) التنكر : التغير من حال تسر إلى حال تكره ، أى : تبدلت علاماته وآثاره ، بما أعقب السوء وجلب المكروه

(٧) درست ، كاندرست ، أى : انطمست. والشرك قال بعضهم : جمع شراك ككتاب ، وهى الطريق. والذى يفهم من القاموس أنها بفتحات جواد الطريق أو ما لا يخفى عليك ولا يستجمع لك من الطرق اسم جمع لا مفرد له من لفظه ، وعفت : بمعنى درست

(٨) المناهل : جمع منهل ، وهو : مورد الشاربة من النهر.

(٩) الاظلاف : جمع ظلف ـ بالكسر ـ للبقر والشاة ، وشبههما ، كالخف للبعير والقدم للانسان. السنابك : جمع سنبك كقنفذ ، وهو : طرف الحافر

٢٣

جيران (١). نومهم سهاد ، وكحلهم دموع ، بأرض عالمها ملجم ، وجاهلها مكرّم.

ومنها يعنى آل النبى عليه الصلاة والسلام :

موضع سرّه ، ولجأ أمره (٢) ، وعيبة علمه (٣) ، وموئل حكمه ، وكهوف كتبه ، وجبال دينه : بهم أقام انحناء ظهره ، وأذهب ارتعاد فرائصه (٤)

ومنها يعنى قوما آخرين :

زرعوا الفجور ، وسقوه الغرور ، وحصدوا الثّبور (٥) ، لا يقاس بآل

__________________

(١) خير دار : هى مكة المكرمة ، وشر الجيران : عبدة الأوثان من قريش. وقوله «نومهم سهاد الخ» كما تقول فلان جوده بخل وأمنه مخافة ، فهم فى أحداث أبدلتهم النوم بالسهر والكحل بالدمع. والعالم ملجم لأنه لو قال حقا والجمهور على الباطل لا نتاشوه ونهشوه ، والجاهل مكرم لأنه على شاكلة العامة مشايع لهم فى أهوائهم : فمنزلته عندهم منزلة أوهامهم وعاداتهم ، وهى فى المقام الأعلى من نفوسهم ، وهذه الأوصاف كلها لتصوير حال الناس فى الجاهلية قبل بعثة النبى صلى اللّه عليه وسلم

(٢) اللجأ ـ محركة ـ : الملاذ وما تلتجىء إليه كالوزر ـ محركة ـ ما تعتصم به

(٣) العيبة ـ بالفتح ـ : الوعاء. والموئل : المرجع أى : أن حكمه وشرعه يرجع اليهم وهم حفاظ كتبه ـ يحوونها كما تحوى الكهوف والغيران ما يكون فيها. والكتب القرآن ، وجمعه لأنه فيما حواه كجملة ما تقدمه من الكتب ، ويزيد عليها ما خص اللّه به هذه الأمة

(٤) كنى بانحناء الظهر عن الضعف ، وباقامته عن القوة. وبهم آمنه من الخوف الذى ترتعد منه الفرائص

(٥) جعل ما فعلوا من القبائح كزرع زرعوه ، وما سكنت إليه نفوسهم من الامهال واغترارهم بذلك بمنزلة السقى ، فان الغرور يبعث على مداومة القبيح والزيادة فيه ، ثم كانت عاقبة أمرهم

٢٤

محمّد صلّى اللّه عليه وآله من هذه الأمّة أحد ، ولا يسوّى بهم من جرت نعمتهم عليه أبدا : هم أساس الدّين ، وعماد اليقين : إليهم يفىء الغالى ، وبهم يلحق التّالى (١) ولهم خصائص حقّ الولاية ، وفيهم الوصيّة والوراثة ، الآن إذ رجع الحقّ إلى أهله (٢) ونقل إلى منتقله

٣ ـ ومن خطبة له وهى المعروفة بالشقشقية (٣)

أما واللّه لقد تقمّصها فلان (٤) وإنّه ليعلم أنّ محلّى منها محلّ القطب من الرّحى : ينحدر عنّى السّيل (٥) ولا يرقى إلىّ الطّير ، فسدلت دونها ثوبا (٦) ،

__________________

هذا الثبور ، وهو الهلاك

(١) يريد أن سيرتهم صراط الدين المستقيم : فمن غلا فى دينه وتجاوز بالافراط حدود الجادة فانما نجاته بالرجوع إلى سيرة آل النبى وتفىء ظلال أعلامهم. وقوله «وبهم يلحق التالى» يقصد به أن المقصر فى عمله المتباطئ فى سيره الذى أصبح وقد سبقه السابقون إنما يتسنى له الخلاص بالنهوض ليلحق بآل النبى ويحذو حذوهم

(٢) «الآن» ظرف متعلق برجع ، و «إذ» زائدة للتوكيد ، سوغ ذلك ابن هشام فى نقله عن أبى عبيدة. أو أن «إذ» للتحقيق بمعنى قد ، كما نقله بعض النحاة

(٣) لقوله فيها : «إنها شقشقة هدرت ثم قرت» كما يأتى

(٤) الضمير يرجع إلى الخلافة ، وفلان كناية عن الخليفة الأول أبى بكر رضى اللّه عنه

(٥) تمثيل لسمو قدره كرم اللّه وجهه وقربه من مهبط الوحى ، وأن ما يصل إلى غيره من فيض الفضل فانما يتدفق من حوضه ثم ينحدر عن مقامه العالى فيصيب منه من شاء اللّه. وعلى ذلك قوله «ولا يرقى الخ» ، غير أن الثانية أبلغ من الأولى فى الدلالة على الرفعة

(٦) فسدلت الخ : كناية عن غض نظره عنها ، وسدل الثوب : أرخاه. وطوى عنها كشحا : مال عنها ، وهو مثل ، لأن من جاع فقد طوى كشحه ، ومن شبع فقد ملأه. فهو قد جاع عن الخلافة ، أى : لم يلتقمها

٢٥

وطويت عنها كشحا. وطفقت أرتئى بين أن أصول بيد جذّاء (١) أو أصبر على طخية عمياء (٢) يهرم فيها الكبير ، ويشيب فيها الصّغير ، ويكدح فيها مؤمن حتّى يلقى ربّه (٣) فرأيت أنّ الصّبر على هاتا أحجى (٤) فصبرت وفى العين قذى ، وفى الحلق شجا (٥) أرى تراثى نهبا ، حتّى مضى الأوّل لسبيله ، فأدلى بها إلى فلان بعده (٦) (ثمّ تمثّل بقول الأعشى) شتّان ما يومى على كورها ويوم حيّان أخى جابر (٧)

__________________

(١) وطفقت الخ : بيان لعلة الاغضاء ، والجذاء بالجيم والذال المعجمة وبالحاء المهملة والدال المهملة أيضا بدلا من الجيم والذال المعجمتين : بمعنى المقطوعة. ويقولون : رحم جذاء ، أى : لم توصل ، وسن جذاء أى متهتمة. والمراد هنا ليس ما يؤيدها. كأنه قال : تفكرت فى الأمر فوجدت الصبر أولى فسدلت دونها ثوبا وطويت عنها كشحا.

(٢) طخية ـ بطاء فخاء بعدها ياء ، ويثلث أولها ـ أى : ظلمة ، ونسبة العمى اليها مجاز عقلى ، وإنما يعمى القائمون فيها إذ لا يهتدون إلى الحق ، وهو تأكيد لظلام الحال واسودادها.

(٣) يكدح : يسعى سعى المجهود.

(٤) أحجى : ألزم ، من حجى به كرضى : أولع به ولزمه. ومنه هو حجى بكذا أى : جدير ، وما أحجاه وأحج به ، أى : أخلق به ، وأصله من الحجا بمعنى العقل فهى أحجى أى أقرب إلى العقل ، وهاتا بمعنى هذه ، أى : رأى الصبر على هذه الحالة التى وصفها أولى بالعقل من الصولة بلا نصير.

(٥) الشجا : ما اعترض فى الحلق من عظم ونحوه. والتراث : الميراث

(٦) أدلى بها : ألقى بها إليه.

(٧) الكور بالضم : الرحل أو هو مع أداته ، والضمير راجع إلى الناقة المذكورة

٢٦

فيا عجبا!! بينا هو يستقيلها فى حياته (١) إذ عقدها لآخر بعد وفاته ، لشدّ

__________________

فى الأبيات قبل فى قوله : ـ

وقد أسلى الهم إذ يعترى

بجسرة دوسرة عاقر

والجسرة : العظيم من الابل ، والدوسرة : الناقة الضخمة. وحيان : كان سيدا فى بنى حنيفة مطاعا فيهم ، وكان ذا حظوة عند ملوك فارس ، وله نعمة واسعة ورفاهية وافرة ، وكان الأعشى ينادمه ، والأعشى هذا : هو الأعشى الكبير أعشى قيس ، وهو أبو بصير ميمون بن قيس بن جندل وأول القصيدة : ـ علقم ما أنت إلى عامر الناقض الأوتار والواتر وجابر : أخو حيان أصغر منه ، ومعنى البيت أن فرقا بعيدا بين يومه فى سفره وهو على كور ناقته وبين يوم حيان فى رفاهيته ، فان الأول كثير العناء شديد الشقاء ، والثانى وافر النعيم وافى الراحة. ويتلو هذا البيت أبيات منها : ـ فى مجدل شيد بنيانه يزل عنه ظفر الطائر ما يجعل الجد الظنون الذى جنب صوب اللجب الماطر مئل الفراتى إذا ما طما يقذف بالبوصى والماهر (المجدل ، كمنبر : القصر ، والجد بضم أوله : البئر القليلة الماء ، والظنون : البئر لا يدرى أفيه ماء أم لا. واللجب : المراد منه السحاب لاضطرابه وتحركه ، والفراتى : الفرات. وزيادة الياء للمبالغة. والبوصى : ضرب من السفن معرب بوزى. والماهر السابح المجيد) ووجه تمثل الامام بالبيت ظاهر بأدنى تأمل.

(١) رووا أن أبا بكر قال بعد البيعة «أقيلونى فلست بخيركم» وأنكر الجمهور هذه الرواية عنه ، والمعروف عنه : «وليتكم ولست بخيركم»

٢٧

ما تشطّرا ضرعيها (١) فصيّرها فى حوزة خشناء يغلظ كلامها (٢) ، ويخشن مسّها ، ويكثر العثار فيها ، والاعتذار منها ، فصاحبها كراكب الصّعبة (٣) إن أشنق لها خرم ، وإن أسلس لها تقحّم ، فمنى النّاس لعمر اللّه ـ بخبط وشماس (٤) وتلوّن واعتراض ، فصبرت على طول المدّة ، وشدّة المحنة ، حتّى

__________________

(١) لشد ما تشطر ضرعيها : جملة شبه قسمية اعترضت بين المتعاطفين فالفاء فى فصيرها عطف على عقدها. وتشطر مسند إلى ضمير التثنية. وضرعيها تثنية ضرع وهو للحيوانات مثل الثدى للمرأة. قالوا : إن للناقة فى ضرعها شطرين كل خلفين شطر. ويقال : شطر بناقته تشطيرا ، صر خلفيها وترك خلفين. والشطر أيضا : أن تحلب شطرا وتترك شطرا ، فتشطرا أى : أخذ كل منهما شطرا. وسمى شطرى الضرع ضرعين مجازا : وهو ههنا من أبلغ أنواعه حيث إن من ولى الخلافة لا ينال الأمر إلا تاما ، ولا يجوز أن يترك منه لغيره سهما ، فأطلق على تناول الأمر واحدا بعد واحد اسم التشطر والاقتسام ، كأن أحدهما ترك منه شيئا للآخر ، وأطلق على كل شطر اسم الضرع نظرا لحقيقة ما نال كل

(٢) الكلام ـ بالضم ـ الأرض الغليظة وفى نسخة كلمها. وإنما هو بمعنى الجرح كأنه يقول : خشونتها تجرح جرحا غليظا

(٣) الصعبة من الابل : ما ليست بذلول ، وأشنق البعير ، وشنقة : كفه بزمامه حتى ألصق ذفراه (العظم الناتىء خلف الأذن) بقادمة الرحل ، أو رفع رأسه وهو راكبه ، واللام هنا زائدة للتحلية ولتشاكل أسلس. وأسلس : أرخى ، وتقحم : رمى بنفسه فى الفحمة ، أى : الهلكة ، وسيأتى معنى هذه العبارة فى الكتاب ، وراكب الصعبة : إما أن يشنقها فيخرم أنفها ، وإما أن يسلس لها فترمى به فى مهواة تكون فيها هلكته

(٤) منى الناس : ابتلوا وأصيبوا ، والشماس ـ بالكسر ـ إباء ظهر الفرس عن الركوب ، والنفار والخبط : السير على غير جادة. والتلون : التبدل والاعتراض : السير على غير خط مستقيم ، كأنه يسير عرضا فى حال سيره طولا يقال : بعير عرضى ، يعترض فى سيره لأنه لم يتم رياضته ، وفى فلان عرضية ، أى. عجرفة وصعوبة

٢٨

إذا مضى لسبيله جعلها فى جماعة زعم أنّى أحدهم ، فياللّه وللشّورى (١) متى

__________________

(١) إجمال القصة أن عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه لما دنا أجله وقرب مسيره إلى ربه استشار فيمن يوليه الخلافة من بعده فأشير عليه بابنه عبد اللّه فقال : لا يليها (أى الخلافة) اثنان من ولد الخطاب ، حسب عمر ما حمل! ثم رأى أن يكل الأمر إلى رأى ستة قال : إن النبى صلّى اللّه عليه وسلم مات وهو راض عنهم وإليهم بعد التشاور أن يعينوا واحدا منهم يقوم بأمر المسلمين والستة رجال الشورى هم : على ابن أبى طالب ، وعثمان بن عفان ، وطلحة بن عبيد اللّه ، والزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف ، وسعد بن أبى وقاص ، رضى اللّه عنهم. وكان سعد من بنى عم عبد الرحمن كلاهما من بنى زهرة ، وكان فى نفسه شىء من على كرم اللّه وجهه من قبل أخواله لأن أمه حمنة بنت سفيان بن أمية بن عبد شمس ، ولعلى فى قتل صناديدهم ما هو معروف مشهور. وعبد الرحمن كان صهرا لعثمان ، لأن زوجته أم كلثوم بنت عقبة بن أبى معيط كانت أختا لعثمان من أمه ، وكان طلحة ميالا لعثمان لصلات بينهما ، على ما ذكره بعض رواة الأثر. وقد يكفى فى ميله إلى عثمان انحرافه عن على لأنه تيمى وقد كان بين بنى هاشم وبنى تيم مواجد لمكان الخلافة فى أبى بكر وبعد موت عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه اجتمعوا وتشاوروا فاختلفوا ، وانضم طلحة فى الرأى إلى عثمان ، والزبير إلى على ، وسعد إلى عبد الرحمن. وكان عمر قد أوصى بأن لا تطول مدة الشورى فوق ثلاثة أيام ، وأن لا يأتى الرابع إلا ولهم أمير وقال : إذا كان خلاف فكونوا مع الفريق الذى فيه عبد الرحمن. فأقبل عبد الرحمن على على وقال : عليك عهد اللّه وميثاقه لتعملن بكتاب اللّه وسنة رسوله وسيرة الخليفتين من بعده. فقال على : أرجو أن أفعل وأعمل على مبلغ علمى وطاقتى ، ثم دعا عثمان وقال له مثل ذلك ، فأجابه بنعم. فرفع عبد الرحمن رأسه إلى سقف المسجد حيث كانت المشورة وقال : اللهم اسمع واشهد. اللهم إنى جعلت ما فى رقبتى من ذلك فى رقبة عثمان ، وصفق بيده فى يد عثمان. وقال : السلام عليك يا أمير المؤمنين وبايعه. قالوا : وخرج الامام على واجدا ، فقال المقداد بن الأسود لعبد الرحمن واللّه لقد تركت عليا وإنه من الذين يقضون بالحق وبه يعدلون. فقال : يا مقداد لقد تقصيت الجهد للمسلمين. فقال المقداد : واللّه إنى لأعجب من قريش ، إنهم تركوا

٢٩

اعترض الرّيب فىّ مع الأوّل منهم حتّى صرت أقرن إلى هذه النّظائر (١)!! لكنّى أسففت إذ أسفّوا (٢) وطرت إذ طاروا ، فصغى رجل منهم لضغنه (٣) ومال الآخر لصهره (٤) مع هن وهن (٥) إلى أن قام ثالث القوم نافجا حضنيه (٦) بين نثيله ومعتلفه ، وقام معه بنو أبيه يخضمون مال اللّه خضمة الإبل نبتة الرّبيع (٧) إلى أن انتكث فتله ، وأجهز عليه عمله (٨) وكبت به

__________________

رجلا ما أقول ولا أعلم أن رجلا أقضى بالحق ولا أعلم به منه. فقال عبد الرحمن : يا مقداد ، إنى أخشى عليك الفتنة فاتق اللّه. ثم لما حدث فى عهد عثمان ما حدث من قيام الأحداث من أقاربه على ولاية الأمصار ووجد عليه كبار الصحابة روى أنه قيل لعبد الرحمن : هذا عمل يديك ، فقال : ما كنت أظن هذا به! ولكن للّه على أن لا أكلمه أبدا ، ثم مات عبد الرحمن وهو مهاجر لعثمان ، حتى قيل : إن عثمان دخل عليه فى مرضه يعوده فتحول إلى الحائط لا يكلمه! واللّه أعلم ، والحكم للّه يفعل ما يشاء

(١) المشابه بعضهم بعضا دونه

(٢) أسف الطائر : دنا من الأرض ، يريد أنه لم يخالفهم فى شىء

(٣) صغى صغيا وصغا صغوا : مال ، والضغن : الضغينة يشير إلى سعد

(٤) يشير إلى عبد الرحمن

(٥) يشير إلى أغراض أخرى يكره ذكرها

(٦) يشير إلى عثمان وكان ثالثا بعد انضمام كل من طلحة والزبير وسعد إلى صاحبه كما تراه فى خبر القضية. ونافجا حضنيه : رافعا لهما ، والحضن : ما بين الابط والكشح. يقال للمتكبر : جاء نافجا حضنيه. ويقال مثله لمن امتلأ بطنه طعاما والنثيل : الروث. والمعتلف : من مادة علف موضع العلف وهو معروف ، أى : لا هم له إلا ما ذكر

(٧) الخضم ، على ما فى القاموس : الأكل مطلقا ، أو بأقصى الاضراس ، أو ملء الفم بالمأكول ، أو خاص بالشىء الرطب. والقضم : الأكل بأطراف الأسنان أخف من الخضم. والنبتة ـ بكسر النون ـ كالنبات فى معناه

(٨) انتكث فتله : انتقض. وأجهز عليه عمله : تمم قتله ، تقول : أجهزت على الجريح ، وذففت عليه

٣٠

بطنته (١) فما راعنى إلاّ والنّاس كعرف الضّبع إلىّ (٢) ينثالون علىّ من كلّ جانب ، حتّى لقد وطىء الحسنان ، وشقّ عطفاى ، مجتمعين حولى كربيضة الغنم (٣) فلمّا نهضت بالأمر نكثت طائفة ، ومرقت أخرى ، وقسط آخرون (٤) كأنّهم لم يسمعوا كلام اللّه حيث يقول : «تِلْكَ اَلدّٰارُ اَلْآخِرَةُ نَجْعَلُهٰا لِلَّذِينَ لاٰ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي اَلْأَرْضِ وَلاٰ فَسٰاداً وَاَلْعٰاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ» بلى! واللّه لقد سمعوها ووعوها ، ولكنّهم حليت الدّنيا فى أعينهم (٥) وراقهم زبرجها ، أما والّذى فلق الحبّة ، وبرأ النّسمة (٦) لو لا حضور الحاضر (٧)

__________________

(١) البطنة ـ بالكسر ـ البطر والأشر والكظة (أى : التخمة والاسراف فى الشبع) ، وكبت به : من كبا الجواد إذا سقط لوجهه

(٢) عرف الضبع : ما كثر على عنقها من الشعر ، وهو ثخين ، يضرب به المثل فى الكثرة والازدحام. وينثالون : يتتابعون مزدحمين ، والحسنان : ولداه الحسن والحسين وشق عطفاه : خدش جانباه من الاصطكاك. وفى رواية «شق عطافى» والعطاف الرداء. وكان هذا الازدحام لأجل البيعة على الخلافة.

(٣) ربيضة الغنم : الطائفة الرابضة من الغنم ، يصف ازدحامهم حوله وجثومهم بين يديه.

(٤) الناكثة : أصحاب الجمل ، والمارقة : أصحاب النهروان. والقاسطون ـ أى الجائرون ـ أصحاب صفين.

(٥) حليت الدنيا : من حليت المرأة إذا تزينت بحليها. والزبرج : الزينة من وشى أو جوهر.

(٦) النسمة ـ محركة ـ الروح ، وبرأها : خلقها.

(٧) من حضر لبيعته ، ولزوم البيعة لذمة الامام بحضوره

٣١

وقيام الحجّة بوجود النّاصر ، وما أخذ اللّه على العلماء أن لا يقارّوا على كظّة ظالم ، ولا سغب مظلوم (١) ، لألقيت حبلها على غاربها (٢) ، ولسقيت آخرها بكأس أوّلها ، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندى من عفطة عنز (٣). قالوا : وقام إليه رجل من أهل السواد (٤) عند بلوغه إلى هذا الموضع من خطبته فناوله كتابا ، فأقبل ينظر فيه ، قال له ابن عباس رضى اللّه عنهما : يا أمير المؤمنين ، لو اطردت خطبتك من حيث أفضيت فقال : هيهات يابن عبّاس ، تلك شقشقة (٥) هدرت ثمّ قرّت قال ابن عباس : فو اللّه ما أسفت على كلام قط كأسفى على هذا الكلام أن لا يكون أمير المؤمنين عليه السلام بلغ منه حيث أراد

__________________

(١) والناصر : الجيش الذى يستعين به على إلزام الخارجين بالدخول فى البيعة الصحيحة ، والكظة : ما يعترى الآكل من امتلاء البطن بالطعام ، والمراد استئثار الظالم بالحقوق. والسغب : شدة الجوع ، والمراد منه هضم حقوقه

(٢) الغارب : الكاهل ، والكلام تمثيل للترك وإرسال الأمر

(٣) عفطة العنز : ما تنثره من أنفها ، تقول : عفطت تعفط من باب ضرب ، غير أن أكثر ما يستعمل ذلك فى النعجة. والأشهر فى العنز النفطة بالنون ، يقال : ما له عافط ولا نافط ، أى : نعجة ولا عنز. كما يقال : ما له ثاغية ولا راغية. والعفطة الحبقة أيضا ، لكن الأليق بكلام أمير المؤمنين هو ما تقدم

(٤) السواد : العراق ، وسمى سوادا لخضرته بالزرع والأشجار ، والعرب تسمى الأخضر أسود. قال اللّه تعالى «مُدْهٰامَّتٰانِ» يريد الخضرة ، كما هو ظاهر

(٥) الشقشقة ـ بكسر فسكون فكسر ـ شىء كالرئة يخرجه البعير من فيه إذا هاج ، وصوت البعير بها عند إخراجها هدير ، ونسبة الهدير إليها نسبة إلى الآلة ، قال فى القاموس : والخطبة الشقشقية العلوية ، وهى هده

٣٢

(قوله «كراكب الصعبة إن أشنق لها خرم وإن أسلس لها تقحم» يريد أنه إذا شدد عليها فى جذب الزمام وهى تنازعه رأسها خرم أنفها ، وإن أرخى لها شيئا مع صعوبتها تقحمت به فلم يملكها : يقال : أشنق الناقة ، إذا جذب رأسها بالزمام فرفعه ، وشنقها أيضا ، ذكر ذلك ابن السكيت فى إصلاح المنطق : وإنما قال : «أشنق لها» ولم يقل «أشنقها» لأنه جعله فى مقابلة قوله «أسلس لها» فكأنه عليه السلام قال : إن رفع لها رأسها بمعنى أمسكه عليها)

٤ ـ ومن خطبة له عليه السّلام

بنا اهتديتم فى الظّلماء ، وتسنّمتم العلياء (١) ، وبنا انفجرتم عن السّرار. وقر سمع لم يفقه الواعية (٢) وكيف يراعى النّبأة من أصمّته الصّيحة (٣). ربط

__________________

(١) تسنمتم العلياء : ركبتم سنامها وارتقيتم الى أعلاها ، والسرار ـ كسحاب وكتاب ـ آخر ليلة من الشهر يختفى فيها القمر. وانفجرتم : دخلتم فى الفجر ، والمراد كنتم فى ظلام حالك ، وهو ظلام الشرك والضلال ، فصرتم إلى ضياء ساطع بهدايتنا وارشادنا ، والضمير لمحمد صلّى اللّه عليه وسلم ، والامام ابن عمه ونصيره فى دعوته ، ويروى «أفجرتم» بدل «انفجرتم» وهو أفصح وأوضح ، لأن انفعل لا يأتى لغير المطاوعة إلا نادرا ، أما أفعل فيأتى لصيرورة الشىء إلى حال لم يكن عليها ، كقولهم : أجرب الرجل : إذا صارت إبله جربى ، وأمثاله كثير.

(٢) الواعية : الصاخة والصارخة والصراخ نفسه ، والمراد هنا العبر والمواعظ الشديدة الأثر ، ووقرت أذنه فهى موقورة ، ووقرت كسمعت : صمت ، دعاء بالصمم على من لم يفهم الزواجر والعبر

(٣) الصيحة هنا : الصوت الشديد ، والنبأة : أراد منها الصوت الخفى ، أى : من أصمته الصيحة فلم يسمعها كيف يمكن أن يسمع النبأة فيراعيها ، ويشير بالصيحة إلى زواجر كتاب اللّه ومقال رسوله. وبالنبأة إلى ما يكون منه رضى اللّه عنه. وقد رأينا هذا أقرب مما أشرنا إليه فى الطبعة السابقة (٣ ـ ن ـ ج ـ ١)

٣٣

جنان لم يفارقه الخفقان (١) ما زلت أنتظر بكم عواقب الغدر ، وأتوسّمكم بحلية المغترّين (٢) سترنى عنكم جلباب الدّين (٣) وبصّرنيكم صدق النّيّة ، أقمت لكم على سنن الحقّ فى جوادّ المضلّة (٤) حيث تلتقون ولا دليل ، وتحتفرون ولا تميهون (٥) اليوم أنطق لكم العجماء ذات البيان (٦) غرب رأى امرئ تخلّف عنّى (٧) ما شككت فى الحقّ مذ أريته ، لم يوجس موسى عليه السّلام

__________________

(١) ربط جأشه رباطة بكسر الراء : اشتد قلبه ، ومثله رباطة الجنان ، أى : القلب ، وهو دعاء للقلب الذى لازمه الخفقان والاضطراب خوفا من اللّه بأن يثبت ويستمسك

(٢) ينتظر بهم الغدر : يترقب غدرهم ثم كان يتفرس فيهم الغرور والغفلة وأنهم لا يميزون بين الحق والباطل ، ولهذا لا يبعد أن يجهلوا قدره فيتركوه إلى من ليس من الحق على مثل حاله ، والحلية هنا : الصفة

(٣) جلباب الدين : ما لبسوه من رسومه الظاهرة ، أى : أن الذى عصمكم منى هو ما ظهرتم به من الدين وإن كان صدق نيتى قد بصرنى ببواطن أحوالكم وما تكنه صدوركم ، وصاحب القلب الطاهر تنفذ فراسته إلى سرائر النفوس فتستخرجها

(٤) المضلة ـ بكسر الضاد وفتحها ـ الأرض يضل سالكها ، وللضلال طرق كثيرة ، لأن كل ما جاز عن الحق فهو باطل وللحق طريق واحد مستقيم وهو الوسط بين طرق الضلال ، لهذا قال : أقمت لكم على سنن الحق ، وهو طريقه الواضح فيما بين جواد المضلة وطرقها المتشعبة حيث يلاقى بعضكم بعضا وكلكم تائهون ، فلا فائدة فى التقائكم حيث لا يدل أحدكم صاحبه لعدم علمه بالدليل

(٥) تميهون : تجدون ماء ، من أماهوا أركيتهم : أنبطوا ماءها : أو تستقون ، من أماهوا دوابهم : سقوها

(٦) أراد من العجماء رموزه وإشاراته ، فانها وإن كانت غامضة على من لا بصيرة لهم لكنها جلية ظاهرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ، لهذا سماها ذات البيان مع أنها عجماء

(٧) غرب : غاب ، أى : لا رأى لمن تخلف عنى ولم يطعنى

٣٤

خيفة على نفسه (١) أشفق من غلبة الجهّال ودول الضّلال. اليوم توافقنا على سبيل الحقّ والباطل ، من وثق بماء لم يظمأ

٥ ـ ومن خطبة له عليه السّلام

لما قبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلم وخاطبه العباس وأبو سفيان ابن حرب فى أن يبايعا له بالخلافة أيّها النّاس ، شقّوا أمواج الفتن بسفن النّجاة ، وعرّجوا عن طريق المنافرة وضعوا تيجان المفاخرة (٢) أفلح من نهض بجناح ، أو استسلم فأراح (٣) ، هذا ماء آجن (٤) ولقمة يغصّ بها آكلها. ومجتنى الثّمرة لغير وقت إيناعها

__________________

(١) يتأسى بموسى عليه السلام ، إذ رموه بالخيفة ، ويفرق بين الواقع وبين ما يزعمون ، فانه لا يخاف على حياته ولكنه يخاف من غلبة الباطل ، كما كان من نبى اللّه موسى ، وهو أحسن تفسير لقوله تعالى : (فأوجس فى نفسه خيفة موسى) وأفضل تبرئة لنبى اللّه من الشك فى أمره

(٢) قلب قصد به المبالغة ، والقصد ضعوا تيجان المفاخرة رءوسكم. وكأنه يقول : طأطئوا رءوسكم تواضعا ، ولا ترفعوها بالمفاخرة إلى حيث تصيبها تيجانها. ويروى وضعوا تيجان المفاخرة بدون لفظ «عن» وهو ظاهر ، وعرج عن الطريق : مال عنه وتنكبه

(٣) المفلح أحد رجلين : إما ناهض للأمر بجناح ، أى : بناصر ومعين يصل بمعونته إلى ما نهض إليه ، وإما مستسلم يريح الناس من المنازعة بلا طائل ، وذلك عند عدم الناصر. وهذا ينحو نحو قول عنترة لما قيل له : إنك أشجع العرب ، فقال : لست بأشجعهم ، ولكنى أقدم إذا كان الاقدام عزما ، وأحجم إذا كان الاحجام حزما

(٤) الآجن : المتغير الطعم واللون لا يستساغ ، والاشارة إلى الخلافة ، أى : أن الامرة على الناس والولاية على شئونهم مما لا يهنأ لصاحبه ، بل ذلك أمر يشبه تناوله تناول الماء الآجن ، ولا تحمد عواقبه : كاللقمة يغص بها آكلها فيموت بها

٣٥

كالزّارع بغير أرضه (١) فإن أقل يقولوا : حرص على الملك ، وإن أسكت يقولوا : جزع من الموت (٢) هيهات بعد اللّتيا والّتى (٣) واللّه لابن أبى طالب آنس بالموت من الطّفل بثدى أمّه ، بل اندمجت على مكنون علم لو تحت به لاضطربتم اضطراب الأرشية فى الطّوىّ البعيدة (٤)

٦ ـ ومن كلام له لما أشير عليه بأن لا يتبع طلحة والزبير

ولا يرصد لهما القتال (٥)

واللّه لا أكون كالضّبع : تنام على طول اللّدم (٦) ، حتّى يصل إليها طالبها ،

__________________

(١) يشير إلى أن ذلك لم يكن الوقت الذى يسوغ فيه طلب الأمر ، فلو نهض إليه كان كمجتنى الثمرة قبل إيناعها ونضجها ، وهو لا ينتفع بما جنى ، كما أن الزارع فى غير أرضه لا ينتفع بما زرع

(٢) إن تكلم بطلب الخلافة رماه من لا يعرف حقيقة قصده بالحرص على السلطان ، وإن سكت ـ وهم يعلمونه أهلا للخلافة ـ يرمونه بالجزع من الموت فى طلب حقه

(٣) أى : بعد ظن من يرمينى بالجزع بعد ما ركبت الشدائد وقاسيت المخاطر صغيرها وكبيرها ، قيل : إن رجلا تزوج بقصيرة سيئة الخلق فشقى بعشرتها ، ثم طلقها وتزوج أخرى طويلة ، فكان شقاؤه بها أشد ، فطلقها ، وقال : لا أتزوج بعد اللتيا والتى ، يشير بالأولى إلى الصغيرة وبالثانية إلى الكبيرة ، فصارت مثلا فى الشدائد والمصاعب صغيرها وكبيرها. وقوله «هيهات الخ» : نفى لما عساهم يظنون من جزعه من الموت عند سكوته

(٤) أدمجه : لفه فى ثوب ، فاندمج ، أى : انطويت على علم والتففت عليه ، والأرشية : جمع رشاء ، بمعنى الحبل. والطوى : جمع طوية ، وهى البئر. والبعيدة بمعنى العميقة ، أو هى بفتح الطاء كعلى بمعنى السقاء : ويكون البعيدة نعتا سببيا ، أى : البعيدة مقرها من البئر : أو نسبة البعد إليها فى العبارة مجاز عقلى

(٥) يرصد : يترقب ، أو هو رباعى من الارصاد بمعنى الاعداد أى : ولا يعد لهما القتال

(٦) اللدم : الضرب بشىء ثقيل يسمع صوته : قال

٣٦

ويختلها راصدها ، ولكنّى أضرب بالمقبل إلى الحقّ المدبر عنه ، وبالسّامع المطيع العاصى المريب أبدا ، حتّى يأتى علىّ يومى. فو اللّه ما زلت مدفوعا عن حقّى مستأثرا علىّ منذ قبض اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه وسلّم حتّى يوم النّاس هذا

٧ ـ ومن خطبة له عليه السّلام

اتّخذوا الشّيطان لأمرهم ملاكا (١) واتّخذهم له أشراكا ، فباض وفرّخ فى صدورهم (٢) ودبّ ودرج فى حجورهم (٣) فنظر بأعينهم ، ونطق بألسنتهم ، فركب بهم الزّلل وزيّن لهم الخطل (٤) فعل من قد شرّكه الشّيطان فى سلطانه ونطق بالباطل على لسانه.

__________________

أبو عبيد : يأتى صائد الضبع فيضرب بعقبه الأرض عند باب جحرها ضربا غير شديد ، وذلك هو اللدم ، ثم يقول : خامرى أم عامر ، بصوت ضعيف ، يكررها مرارا ، فتنام الضبع على ذلك ، فيجعل فى عرقوبها حبلا ويجرها فيخرجها ، وخامرى أى : استترى فى جحرك. ويقال : خامر الرجل منزله ، اذا لزمه.

(١) ملاك الشىء ـ بالفتح ، ويكسر ـ قوامه الذى يملك به ، والأشراك : جمع شريك كشريف وأشراف ، فجعلهم شركاءه أو جمع شرك. وهو ما يصاد به ، فكأنهم آلة الشيطان فى الاضلال

(٢) باض وفرخ : كناية عن توطنه صدورهم وطول مكثه فيها ، لأن الطائر لا يبيض إلا فى عشه ، وفراخ الشيطان : وساوسه

(٣) دب ودرج الخ : أى أنه تربى فى حجورهم كما يربى الطفل فى حجر والديه حتى يبلغ فتوته ويملك قوته

(٤) الخطل : أقبح الخطأ. والزلل : الغلط والخطأ

٣٧

٨ ـ ومن كلام له عليه السّلام

يعنى به الزبير فى حال اقتضت ذلك

يزعم أنّه قد بايع بيده ولم يبايع بقلبه ، فقد أقرّ بالبيعة ، وادّعى الوليجة (١) فليأت عليها بأمر يعرف ، وإلاّ فليدخل فيما خرج منه

٩ ـ ومن كلام له عليه السّلام

وقد أرعدوا وأبرقوا ، ومع هذين الأمرين الفشل ، ولسنا نرعد حتّى نوقع (٢) ولا نسيل حتّى نمطر

١٠ ـ ومن خطبة له عليه السّلام

ألا وإنّ الشّيطان قد جمع حزبه ، واستجلب خيله ورجله ، وإنّ معى لبصيرتى : ما لبّست على نفسى ، ولا لبّس علىّ. وايم اللّه لا أفرطنّ لهم حوضا أنا ماتحه (٣) لا يصدرون عنه ، ولا يعودون إليه (٤)

__________________

(١) الوليجة : الدخيلة ، وما يضمر فى القلب ويكتم ، والبطانة

(٢) وإذا أوقعنا بعدو أوعدنا آخر بأن يصيبه ما أصاب سابقه ، وإذا أمطرنا أسلنا ، أما أولئك الذين يقولون نفعل ونفعل وما هم بفاعلين فهم بمنزلة من يسيل قبل المطر ، وهو محال غير موجود ، فهم كالعدم فيما به يوعدون.

(٣) أفرطه : ملأه حتى فاض ، والماتح : من متح الماء ، أى : نزعه ، أى : أنا نازع ماءه من البئر فمالىء به الحوض ، وهو حوض البلاء والفناء ، أو أنا الذى أسقيهم منه.

(٤) أى : أنهم سيردون الحرب فيموتون عندها ، ولا يصدرون عنها ، ومن نجا منهم فلن يعود إليها

٣٨

١١ ـ ومن كلام له عليه السّلام

لابنه محمد بن الحنفية لما أعطاه الراية يوم الجمل

تزول الجبال ولا تزل! عضّ على ناجذك (١) ، أعر اللّه جمجمتك ، تد فى الأرض قدمك (٢) ، ارم ببصرك أقصى القوم ، وغضّ بصرك (٣) واعلم أنّ النّصر من عند اللّه سبحانه

١٢ ـ ومن كلام له عليه السّلام

لما أظفره اللّه باصحاب الجمل ، وقد قال له بعض أصحابه : وددت أن أخى فلانا كان شاهدنا ليرى ما نصرك اللّه به على أعدائك فقال له عليه السّلام : أهوى أخيك معنا (٤)؟ فقال : نعم. قال : فقد شهدنا ولقد شهدنا فى عسكرنا هذا أقوام فى أصلاب الرّجال وأرحام النّساء ،

__________________

(١) النواجذ : أقصى الأضراس ، أو كلها ، أو الأنياب ، والناجذ واحدها ، قيل : إذا عض الرجل على أسنانه اشتدت أعصاب رأسه وعظامه ولهذا يوصى به عند الشدة ليقوى ، والصحيح أن ذلك كناية عن الحمية ، فان من عادة الانسان إذا حمى واشتد غيظه على عدوه عض على أسنانه. وأعر : أمر من أعار ، أى : ابذل جمجمتك للّه تعالى ، كما يبذل المعير ماله للمستعير

(٢) أى : ثبتها ، من وتد يتد

(٣) ارم ببصرك الخ ، أى : أحط بجميع حركاتهم ، وغض النظر عما يخيفك منهم ، أى : لا يهولنك منهم هائل

(٤) هوى اخيك : أى : ميله ومحبته

٣٩

سيرعف بهم الزّمان (١) ويقوى بهم الإيمان

١٣ ـ ومن كلام له عليه السّلام

فى ذم أهل البصرة كنتم جند المرأة ، وأتباع البهيمة (٢) : رغا فأجبتم ، وعقر فهربتم ، أخلاقكم دقاق (٣) وعهدكم شقاق ، ودينكم نفاق ، وماؤكم زعاق (٤) والمقيم بين أظهركم

__________________

(١) يرعف بهم ، أى : سيجود بهم الزمان كما يجود الأنف بالرعاف : يأتى بهم على غير انتظار

(٢) يريد الجمل. ومجمل القصة أن طلحة والزبير بعد ما بايعا أمير المؤمنين فارقاه فى المدينة وأتيا مكة مغاضبين ، فالتقيا بعائشة زوج النبى صلّى اللّه عليه وسلم ، فسألتهما الأخبار ، فقالا : إنا تحملنا هربا من غوغاء العرب بالمدينة ، وفارقنا قومنا حيارى لا يعرفون حقا ، ولا ينكرون باطلا ، ولا يمنعون أنفسهم. فقالت : ننهض إلى هذه الغوغاء أو نأتى الشام؟ فقال أحد الحاضرين : لا حاجة لكم فى الشام قد كفاكم أمرها معاوية فلنأت البصرة ، فان لأهلها هوى مع طلحة ، فعزموا على المسير ، وجهزهم يعلى بن منبه ، وكان واليا لعثمان على اليمن وعزله على كرم اللّه وجهه ، وأعطى للسيدة عائشة جملا اسمه عسكر ، ونادى مناديها فى الناس بطلب ثار عثمان ، فاجتمع نحو ثلاثة آلاف ، فسارت فيهم إلى البصرة ، وبلغ الخبر عليا فأوسع لهم النصيحة وحذرهم الفتنة ، فلم ينجح النصح ، فتجهز لهم وأدركهم بالبصرة ، وبعد محاولات كثيرة منه يبغى بها حقن الدماء نشبت الحرب بين الفريقين واشتد القتال ، وكان الجمل يعسوب البصريين : قتل دونه خلق كثير من الفئتين ، وأخذ خطامه سبعون قرشيا ما نجا منهم أحد. وانتهت الموقعة بنصر على كرم اللّه وجهه بعد عقر الجمل ، وفيها قتل طلحة والزبير ، وقتل سبعة عشر ألفا من أصحاب الجمل ، وكانوا ثلاثين ألفا ، وقتل من أصحاب على ألف وسبعون

(٣) دقة الأخلاق : دناءتها مالح

(٤) مالح

٤٠