نهج البلاغة - ج ١

محمد عبده

نهج البلاغة - ج ١

المؤلف:

محمد عبده


المحقق: محمّد محيى الدين عبد الحميد
الموضوع : الحديث وعلومه
المطبعة: مطبعة الإستقامة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٤٠

عارضة (١) ، ولا اعتورته فى تنفيذ الأمور وتدبير المخلوقين ملالة ولا فترة (٢) بل نفذ فيهم علمه وأحصاهم عدّه ، ووسعهم عدله ، وغمرهم فضله ، مع تقصيرهم عن كنه ما هو أهله.

اللّهمّ أنت أهل الوصف الجميل ، والتّعداد الكثير (٣) إن تؤمّل فخير مؤمّل ، وإن ترج فأكرم مرجوّ. اللّهمّ وقد بسطت لى فيما لا أمدح به غيرك ، ولا أثنى به على أحد سواك ، ولا أوجّهه إلى معادن الخيبة ومواضع الرّيبة (٤) وعدلت بلسانى عن مدائح الآدميّين والثّناء على المربوبين المخلوقين. اللّهمّ ولكلّ مثن على من أثنى عليه مثوبة (٥) من جزاء ، أو عارفة من عطاء ، وقد رجوتك دليلا على ذخائر الرّحمة وكنوز المغفرة. اللّهمّ وهذا مقام من أفردك بالتّوحيد الّذى هو لك ، ولم ير مستحقّا لهذه المحامد والممادح غيرك ، وبى فاقة إليك لا يجبر مسكنتها إلاّ فضلك ، ولا ينعش من خلّتها إلاّ منّك وجودك (٦) ، فهب لنا فى هذا المقام رضاك ، وأغننا عن مدّ الأيدى إلى سواك ، إنّك على كلّ شىء قدير.

__________________

(١) هى ما يعترض العامل فيمنعه عن عمله

(٢) اعتورته : تداولته وتناولته

(٣) المبالغة فى عد كمالاتك إلى ما لا ينتهى

(٤) هم المخلوقون

(٥) ثواب وجزاء

(٦) الخلة ـ بالفتح ـ : الفقر ، والمن : الاحسان

١٨١

٩٠ ـ ومن خطبة له عليه السّلام

لما أريد على البيعة بعد قتل عثمان رضى اللّه عنه

دعونى والتمسوا غيرى فإنّا مستقبلون أمرا له وجوه وألوان ، لا تقوم له القلوب ، ولا تثبت عليه العقول (١) وإنّ الآفاق قد أغامت (٢) ، والمحجّة قد تنكّرت ، واعلموا إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم ، ولم أصغ إلى قول القائل وعتب العاتب ، وإن تركتمونى فأنا كأحدكم ولعلّى أسمعكم وأطوعكم لمن ولّيتموه أمركم ، وأنا لكم وزيرا خير لكم منّى أميرا.

٩١ ـ ومن خطبة له عليه السّلام

أمّا بعد أيّها النّاس ، فأنا فقأت عين الفتنة (٣) ولم تكن ليجرؤ عليها أحد

__________________

(١) لا تصبر له ولا تطيق احتماله

(٢) أغامت : غطيت بالغيم ، والمحجة : الطريق المستقيمة. و «تنكرت» أى : تغيرت علائمها فصارت مجهولة ، وذلك أن الأطماع كانت قد تنبهت فى كثير من الناس ، على عهد عثمان رضى اللّه عنه ، بما نالوا من تفضيلهم بالعطاء ، فلا يسهل عليهم ـ فيما بعد ـ أن يكونوا فى مساواة مع غيرهم ، فلو تناولهم العدل انفلتوا منه ، وطلبوا طائشة الفتنة ، طمعا فى نيل رغباتهم ، وأولئك هم أغلب الرؤساء فى القوم ، فان أقرهم الامام على ما كانوا عليه من الامتياز فقد أتى ظلما ، وخالف شرعا ، والناقمون على عثمان قائمون على المطالبة بالنصفة : إن لم ينالوها تحرشوا للفتنة ، فأين المحجة للوصول إلى الحق على أمن من الفتن؟؟ وقد كان بعد بيعته ما تفرس به قبلها

(٣) شققتها وقلعتها : تمثيل لتغلبه عليها ، وذلك كان بعد انقضاء أمر النهروان وتغلبه على الخوارج

١٨٢

غيرى بعد أن ماج غيهبها (١) واشتدّ كلبها (٢) فاسألونى قبل أن تفقدونى ، فو الّذى نفسى بيده لا تسألونى عن شىء فيما بينكم وبين السّاعة ، ولا عن فئة تهدى مائة وتضلّ مائة إلاّ أنبأتكم بناعقها (٣) وقائدها ، وسائقها ، ومناخ ركابها ، ومحطّ رحالها ، ومن يقتل من أهلها قتلا ، ويموت منهم موتا ، ولو قد فقدتمونى ونزلت بكم كرائه الأمور (٤) وحوازب الخطوب (٥) لأطرق كثير من السّائلين ، وفشل كثير من المسئولين ، وذلك إذا قلصت حربكم (٦) وشمّرت عن ساق ، وضاقت الدّنيا عليكم ضيقا تستطيلون معه أيّام البلاء عليكم حتّى يفتح اللّه لبقيّة الأبرار منكم ، إنّ الفتن إذا أقبلت شبّهت (٧) وإذا أدبرت نبّهت (٨) : ينكرن مقبلات ، ويعرفن مدبرات ، يحمن حول الرّياح يصبن بلدا ويخطئن بلدا ، ألا إنّ أخوف الفتن عندى عليكم فتنة بنى أميّة ، فإنّها

__________________

(١) الغيهب : الظلمة ، وموجها : شمولها وامتدادها

(٢) الكلب ـ محركة ـ داء معروف يصيب الكلاب ، فكل من عضته أصيب به فجن ومات ، شبه به اشتداد الفتنة حتى لا تصيب أحدا إلا أهلكته

(٣) ناعقها : الداعى إليها ، مأخوذ من «نعق بغنمه» : إذا صاح بها لتجتمع

(٤) الكرائه : جمع كريهة

(٥) الحوازب : جمع حازب ، وهو الأمر الشديد ، تقول : «حزبه الأمر» إذا اشتد عليه

(٦) قلصت ـ بتشديد اللام ـ تمادت ، واستمرت ، وبتخفيفها : وثبت

(٧) اشتبه فيها الحق بالباطل.

(٨) لأنها تعرف بعد انقضائها ، وتكشف حقيقتها فتكون عبرة

١٨٣

فتنة عمياء مظلمة : عمّت خطّتها (١) وخصّت بليّتها ، وأصاب البلاء من أبصر فيها (٢) وأخطأ البلاء من عمى عنها ، وايم اللّه لتجدنّ بنى أميّة لكم أرباب سوء بعدى كالنّاب الضّروس (٣) : تعذم بفيها ، وتخبط بيدها ، وتزبن برجلها ، وتمنع درّها ، لا يزالون بكم حتّى لا يتركوا منكم إلاّ نافعا لهم أو غير ضائر بهم ، ولا يزال بلاؤهم حتّى لا يكون انتصار أحدكم منهم إلاّ كانتصار العبد من ربّه والصّاحب من مستصحبه (٤) ترد عليكم فتنتهم شوهاء مخشيّة (٥) وقطعا جاهليّة ليس فيها منار هدى ، ولا علم يرى (٦) نحن أهل البيت منها بمنجاة (٧) ولسنا فيها بدعاة ، ثمّ يفرّجها اللّه عنكم كتفريج الأديم (٨) : بمن يسومهم خسفا (٩) ويسوقهم عنفا ، ويسقيهم بكأس مصبّرة (١٠) لا يعطيهم إلاّ السّيف ، ولا يحلسهم إلاّ الخوف (١١) ، فعند ذلك تودّ قريش ، بالدّنيا وما فيها ، لو يروننى مقاما

__________________

(١) الخطة ـ بالضم ـ الأمر ، أى : شمل أمرها ، لأنها رآسة عامة ، وخصت بليتها آل البيت ، لأنها اغتصاب لحقهم

(٢) من عرف الحق فيها نزل به بلاء الانتقام من بنى أمية

(٣) الناب : الناقة المسنة ، والضروس : السيئة الخلق تعض حالبها ، وتعذم : من «عذم الفرس» إذا أكل بخفاء أو عض ، و «تزبن» أى : تضرب ، ودرها : لبنها ، والمراد خيرها

(٤) التابع من متبوعه ، أى : انتصار الأذلاء ، وما هو بانتصار

(٥) شوهاء : قبيحة المنظر ، ومخشية : مخوفة مرعبة

(٦) دليل يهتدى به

(٧) بمكان النجاة من إثمها

(٨) كما يسلخ الجلد عن اللحم

(٩) يلزمهم ذلا ، وقوله «بمن» متعلق بيفرجها

(١٠) مملوءة إلى أصبارها ، جمع صبر ـ بالضم ، والكسر ـ بمعنى الحرف ، أى : إلى رأسها

(١١) من «أحلس البعير» إذا ألبسه الحلس ـ بكسر الحاء المهملة ـ وهو : كساء يوضع فوق ظهره تحت البرذعة ، أى : لا يكسوهم إلا خوفا

١٨٤

واحدا ، ولو قدر جزر جزور (١) لأقبل منهم ما أطلب اليوم بعضه فلا يعطوننى

٩٢ ـ ومن خطبة له عليه السّلام

فتبارك اللّه الّذى لا يبلغه بعد الهمم ، ولا يناله حسن الفطن ، الأوّل الّذى لا غاية له فينتهى ، ولا آخر له فينقضى.

منها فى وصف الأنبياء :

فاستودعهم فى أفضل مستودع ، وأقرّهم فى خير مستقرّ ، تناسختهم كرائم الأصلاب (٢) إلى مطهّرات الأرحام ، كلّما مضى منهم سلف قام منهم بدين اللّه خلف ، حتّى أفضت كرامة اللّه سبحانه إلى محمّد ، صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ، فأخرجه من أفضل المعادن منبتا (٣) وأعزّ الأرومات مغرسا (٤) من الشّجرة الّتى صدع منها أنبياءه (٥) ، وانتخب منها أمناءه (٦) عترته خير العتر (٧) وأسرته خير الأسر ، وشجرته خير الشّجر ، نبتت فى حرم ، وبسقت فى كرم (٨)

__________________

(١) الجزور : الناقة المجزورة ، أو هو البعير مطلقا : والشاة المذبوحة ، أى : ولو مدة ذبح البعير أو الشاة

(٢) تناسختهم : تناقلتهم

(٣) كمجلس : موضع النبات ينبت فيه.

(٤) الأرومات جمع أرومة : وهى الأصل ، والمغرس : موضع الغرس.

(٥) صدع فلانا : قصده لكرمه ، أى : اختصهم بالنبوة من بين فروعها ، وهى شجرة إبراهيم عليه السلام

(٦) انتخب : اختار

(٧) عترته : آل بيته ، وأسرة الرجل : رهطه الأدنون

(٨) بسقت : ارتفعت

١٨٥

لها فروع طوال ، وثمرة لا تنال ، فهو إمام من اتّقى ، وبصيرة من اهتدى ، سراج لمع ضوءه ، وشهاب سطع نوره ، وزند برق لمعه ، سيرته القصد (١) وسنّته الرّشد ، وكلامه الفصل ، وحكمه العدل ، على حين فترة من الرّسل (٢) وهفوة عن العمل (٣) وغباوة من الأمم ، اعملوا ، رحمكم اللّه ، على أعلام بيّنة ، فالطّريق نهج (٤) يدعو إلى دار السّلام وأنتم فى دار مستعتب على مهل وفراغ (٥) ، والصّحف منشورة ، والأقلام جارية ، والأبدان صحيحة ، والألسن مطلقة ، والتّوبة مسموعة والأعمال مقبولة

٩٣ ـ ومن خطبة له عليه السّلام

بعثه والنّاس ضلاّل فى حيرة ، وخابطون فى فتنة ، قد استهوتهم الأهواء واستزلّتهم الكبرياء (٦) واستخفّتهم الجاهليّة الجهلاء (٧). حيارى فى زلزال

__________________

(١) الاستقامة

(٢) الفترة : الزمان بين الرسولين

(٣) هفوة : زلة وانحراف من الناس عن العمل بما أمر اللّه على ألسنة الأنبياء السابقين

(٤) واضح ، قويم ، ويدعو إلى دار السلام : يوصل إليها

(٥) مستعتب ـ بفتح التاءين ـ طلب العتبى ، أى : الرضا من اللّه بالأعمال النافعة

(٦) استزلتهم : أدت بهم للزلل والسقوط فى المضار ، وتأنيث الفعل على تأويل أن الكبرياء صفة ، وفى رواية «واستزلهم الكبراء» أى : أضلهم كبراؤهم وسادتهم

(٧) استخفتهم : طيشتهم ، والجاهلية : حالة العرب قبل نور العلم الاسلامى ، والجهلاء : وصف لها للمبالغة

١٨٦

من الأمر ، وبلاء من الجهل ، فبالغ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم فى النّصيحة ، ومضى على الطّريقة ، ودعا إلى الحكمة والموعظة الحسنة

٩٤ ـ ومن خطبة أخرى

الحمد للّه الأوّل فلا شىء قبله ، والآخر فلا شىء بعده ، والظّاهر فلا شىء فوقه ، والباطن فلا شىء دونه.

منها فى ذكر الرسول صلّى اللّه عليه وآله وسلم :

مستقرّه خير مستقرّ ، ومنبته أشرف منبت ، فى معادن الكرامة ، ومماهد السّلامة (١) قد صرفت نحوه أفئدة الأبرار ، وثنيت إليه أزمّة الأبصار (٢) ، دفن به الضّغائن (٣) ، وأطفأ به الثّوائر (٤) ، ألّف به إخوانا ، وفرّق به أقرانا (٥) أعزّ به الذّلّة (٦) ، وأذلّ به العزّة ، كلامه بيان ، وصمته لسان

__________________

(١) المماهد : جمع ممهد ـ كمقعد ـ ما يمهد ، أى : يبسط ، فيه الفراش ونحوه ، أى : إنه ولد فى أسلم موضع وأنقاه من دنس السفاح

(٢) الأزمة ـ كأئمة ـ جمع زمام ، وانثناء الأزمة إليه عبارة عن تحولها نحوه

(٣) الأحقاد ، فهو رسول الألفة ، وأهل دينه المتآلفون المتعاونون على الخير ، ومن لم يكن فى عروة الألفة منهم فهو ـ واللّه أعلم ـ خارج عنهم

(٤) جمع ثائرة : وهى العداوة الواثبة بصاحبها على أخيه ليضره إن لم يقتله

(٥) وفرق به أقران الألفة على الشرك

(٦) ذلة الضعفاء من أهل الفضل المستترين بحجب الخمول ، وأذل به عزة الشرك والظلم والعدوان

١٨٧

٩٥ ـ ومن خطبة له عليه السّلام

ولئن أمهل الظّالم فلن يفوت أخذه (١) وهو له بالمرصاد على مجاز طريقه ، وبموضع الشّجى من مساغ ريقه (٢) أما والّذى نفسى بيده ليظهرنّ هؤلاء القوم عليكم ، ليس لأنّهم أولى بالحقّ منكم ، ولكن لإسراعهم إلى باطل صاحبهم وإبطائكم عن حقّى. ولقد أصبحت الأمم تخاف ظلم رعاتها ، وأصبحت أخاف ظلم رعيّتى : استنفرتكم للجهاد فلم تنفروا ، وأسمعتكم فلم تسمعوا ، ودعوتكم سرّا وجهرا فلم تستجيبوا ، ونصحت لكم فلم تقبلوا. أشهود كغيّاب (٣) وعبيد كأرباب؟؟!! أتلو عليكم الحكم فتنفرون منها ، وأعظكم بالموعظة البالغة فتتفرّقون عنها ، وأحثّكم على جهاد أهل البغى فما آتى على آخر القول حتّى أراكم متفرّقين أيادى سبا (٤) ترجعون إلى مجالسكم وتتخادعون عن مواعظكم ، أقوّمكم غدوة وترجعون إلىّ عشيّة كظهر الحيّة (٥) عجز المقوّم ، وأعضل المقوّم (٦).

__________________

(١) لا يذهب عنه أن يأخذه

(٢) الشجى : ما يعترض فى الحلق من عظم وغيره ، ومساغ الريق : ممره من الحلق ، والكلام تمثيل لقرب السطوة الالهية من الظالمين.

(٣) شهود : جمع شاهد ، بمعنى الحاضر ، وغياب : جمع غائب

(٤) قالوا : إن سبا هو أبو عرب اليمن ، كان له عشرة أولاد : جعل منهم ستة يمينا له ، وأربعة شمالا : تشبيها لهم باليدين ، ثم تفرق أولئك الأولاد أشد التفرق

(٥) أراد القوس لأنه معوج

(٦) أعضل : استعصى ، واستعصب ، وأعيا

١٨٨

أيّها الشّاهدة أبدانهم ، الغائبة عقولهم ، المختلقة أهواؤهم ، المبتلى بهم أمراؤهم صاحبكم يطيع اللّه وأنتم تعصونه ، وصاحب أهل الشّام يعصى اللّه وهم يطيعونه؟! لوددت واللّه أنّ معاوية صارفنى بكم صرف الدّينار بالدّرهم ، فأخذ منّى عشرة منكم وأعطانى رجلا منهم ، يا أهل الكوفة ، منيت منكم بثلاث واثنتين : صمّ ذوو أسماع ، وبكم ذوو كلام ، وعمى ذوو أبصار ، لا أحرار صدق عند اللّقاء (١) ، ولا إخوان ثقة عند البلاء ، يا أشباه الإبل غاب عنها رعاتها ، كلّما جمعت من جانب تفرّقت من جانب آخر ، واللّه لكأنّى بكم فيما إخال (٢) أن لو حمس الوغى ، وحمى الضّراب ، وقد انفرجتم عن ابن أبى طالب انفراج المرأة عن قبلها (٣) وإنّى لعلى بيّنة من ربّى ، ومنهاج من نبيّى ، وإنّى لعلى الطّريق الواضح ألقطه لقطا (٤) انظروا أهل بيت نبيّكم فالزموا سمتهم (٥) واتّبعوا أثرهم ، فلن يخرجوكم من هدى ،

__________________

(١) هاته وما بعدها هما الثنتان ، وما قبلها هى الثلاثة

(٢) إخال : أظن ، وحمس ـ كفرح ـ اشتد ، والوغى : الحرب

(٣) انفراج المرأة عن قبلها عند الولادة ، أو عند ما يشرع عليها سلاح ، والمشابهة فى العجز والدناءة فى العمل.

(٤) اللقط : أخذ الشىء من الأرض ، وإنما سمى اتباعه لمنهاج الحق لقطا لأن الحق واحد ، والباطل الوان مختلفة ، فهو يلتقط الحق من بين ضروب الباطل

(٥) السمت ـ بالفتح ـ طريقهم ، وحالهم ، أو قصدهم.

١٨٩

ولن يعيدوكم فى ردى. فإن لبدوا فالبدوا (١) ، وإن نهضوا فانهضوا ، ولا تسبقوهم فتضلّوا ، ولا تتأخّروا عنهم فتهلكوا ، لقد رأيت أصحاب محمّد صلّى اللّه عليه وآله ، فما أرى أحدا منكم يشبههم! لقد كانوا يصبحون شعثا غبرا (٢) وقد باتوا سجّدا وقياما ، يراوحون بين جباههم وخدودهم (٣) ويقفون على مثل الجمر من ذكر معادهم! كأنّ بين أعينهم ركب المعزى (٤) من طول سجودهم! إذا ذكر اللّه هملت أعينهم حتّى تبلّ جيوبهم ، ومادوا كما يميد الشّجر يوم الرّيح العاصف ، خوفا (٥) من العقاب ، ورجاء للثّواب.

٩٦ ـ ومن كلام له عليه السّلام

واللّه لا يزالون حتّى لا يدعوا للّه محرّما إلاّ استحلّوه (٦) ولا عقدا إلاّ حلّوه

__________________

(١) لبد ـ كنصر ـ أقام ، أى : إن أقاموا فأقيموا

(٢) شعثا : جمع أشعث ، وهو المغبر الرأس ، والغبر : جمع أغبر ، والمراد أنهم كانوا متقشفين

(٣) المراوحة بين العملين : أن يعمل هذا مرة وهذا مرة ، وبين الرجلين : أن يقوم على كل منهما مرة ، وبين جباههم وخدودهم : أن يضعوا الخدود مرة والجباه أخرى على الأرض ، خضوعا للّه وسجودا

(٤) ركب : جمع ركبة ، وهى موصل الساق من الرجل بالفخذ ، وإنما خص ركب المعزى ليبوستها واضطرابها من كثرة الحركة ، أى : إنهم لطول سجودهم يطول سهودهم ، وكان بين أعينهم جسم خشن يدور فيها فيمنعهم النوم والاستراحة

(٥) مادوا : اضطربوا ، وارتعدوا

(٦) الكلام فى بنى أمية ، والمحرم : ما حرمه اللّه ، واستحلاله : استباحته

١٩٠

وحتّى لا يبقى بيت مدر ولا وبر إلاّ دخله ظلمهم (١) ونبا به سوء رعيهم (٢) وحتّى يقوم الباكيان يبكيان : باك يبكى لدينه ، وباك يبكى لدنياه ، وحتّى تكون نصرة أحدكم من أحدهم كنصرة العبد من سيّده : إذا شهد أطاعه ، وإذا غاب اغتابه ، وحتّى يكون أعظمكم فيها عناء أحسنكم باللّه ظنّا ، فإن أتاكم اللّه بعافية فأقبلوا ، وإن ابتليتم فاصبروا ، فإنّ العاقبة للمتّقين

٩٧ ـ ومن خطبة له عليه السّلام

نحمده على ما كان ، ونستعينه من أمرنا على ما يكون ، ونسأله المعافاة فى الأديان ، كما نسأله المعافاة فى الأبدان. عباد اللّه ، أوصيكم بالرّفض لهذه الدّنيا التّاركة لكم ، وإن لم تحبّوا تركها والمبلية لأجسامكم ، وإن كنتم تحبّون تجديدها ، فإنّما مثلكم ومثلها كسفر سلكوا سبيلا فكأنّهم قد قطعوه (٣) ، وأمّوا علما (٤) فكأنّهم قد بلغوه ، وكم

__________________

(١) بيوت المدر : المبنية من طوب وحجر ونحوها وبيوت الوبر : الخيام

(٢) أصله من «نبا به المنزل» إذا لم يوافقه فارتحل عنه ، وإن البيوت يستولى عليها سوء الحكمة فتكون عنها بمنجاة فيخسر العمران ، ولا تتبوأ الحكومة الظالمة إلا خرابا تنعق فيه فلا يجيبها إلا صدى نعيقها

(٣) السفر ـ بفتح فسكون ـ جماعة المسافرين ، أى : إنكم فى مسافة العمر كالمسافرين فى مسافة الطريق ، فلا يلبثون أن يأتوا على نهايتها ، لأنها محدودة

(٤) أموا : قصدوا

١٩١

عسى المجرى إلى الغاية أن يجرى إليها (١) حتّى يبلغها ، وما عسى أن يكون بقاء من له يوم لا يعدوه؟ وطالب حثيث يحدوه فى الدّنيا حتّى يفارقها (٢)؟ فلا تنافسوا فى عزّ الدّنيا وفخرها ، ولا تعجبوا بزينتها ونعيمها ، ولا تجزعوا من ضرّائها وبؤسها ، فإنّ عزّها وفخرها إلى انقطاع ، وإنّ زينتها ونعيمها إلى زوال وضرّاءها وبؤسها إلى نفاد (٣) ، وكلّ مدّة فيها إلى انتهاء ، وكلّ حىّ فيها إلى فناء ، أوليس لكم فى آثار الأوّلين مزدجر (٤) وفى آبائكم الأوّلين تبصرة ومعتبر ، إن كنتم تعقلون؟! أولم تروا إلى الماضين منكم لا يرجعون؟ وإلى الخلف الباقين لا يبقون؟ أولستم ترون أهل الدّنيا يصبحون ويمسون على أحوال شتّى : فميّت يبكى ، وآخر يعزّى ، وصريع مبتلى ، وعائد يعود ، وآخر بنفسه يجود (٥) وطالب للدّنيا والموت يطلبه ، وغافل وليس بمغفول عنه؟؟!! وعلى أثر الماضى ما يمضى الباقى ألا فاذكروا هاذم اللّذّات ، ومنغّص الشّهوات ، وقاطع الأمنيّات ، عند المساورة للأعمال القبيحة (٦) واستعينوا اللّه على أداء واجب حقّه ،

__________________

(١) الذى يجرى فرسه إلى غاية معلومة ، أى مقدار من الجرى يلزمه حتى يصل لغايته

(٢) يحدوه : يتبعه ، ويسوقه فى بعض النسخ «وطالب حثيث من الموت يحدوه ، ومزعج فى الدنيا عن الدنيا حتى يفارقها ، فلا تنافسوا الخ»

(٣) فناء

(٤) مكان للانزجار والارتداع

(٥) من «جاد بنفسه» إذا قارب أن يقضى نحبه ، كأنه يسخو بها ويسلمها إلى خالقها

(٦) «عند» متعلق باذكروا ، والمساورة المواثبة ، كأن العمل القبيح ـ لبعده عن ملاءمة الطبع الانسانى بالفطرة الالهية ـ ينفر من مقترفه كما ينفر الوحش فلا يصل إليه المغبون إلا بالوثبة عليه ، وهو ـ فى غائلته على مجترمه ـ كالضاريات من الوحوش : فهو يثب على مواثبه ليهلكه ، فما ألطف التعبير بالمساورة فى هذا الموضع

١٩٢

وما لا يحصى من أعداد نعمه وإحسانه.

٩٨ ـ من خطبة له أخرى

الحمد للّه النّاشر فى الخلق فضله ، والباسط فيهم بالجود يده. نحمده فى جميع أموره ، ونستعينه على رعاية حقوقه ، ونشهد أن لا إله غيره. وأنّ محمّدا عبده ورسوله : أرسله بأمره صادعا (١) ، وبذكره ناطقا ، فأدّى أمينا ، ومضى رشيدا. وخلّف فينا راية الحقّ : من تقدّمها مرق (٢) ، ومن تخلّف عنها زهق (٣) ، ومن لزمها لحق ، دليلها مكيث الكلام (٤) بطئ القيام ، سريع إذا قام. فإذا أنتم ألنتم له رقابكم ، وأشرتم إليه بأصابعكم ، جاءه الموت فذهب به ، فلبثتم بعده ما شاء اللّه ، حتّى يطلع اللّه لكم من يجمعكم ويضمّ نشركم (٥) فلا تطمعوا فى غير مقبل (٦) ولا تيأسوا من مدبر ، فإنّ المدبر عسى أن تزلّ

__________________

(١) فالقا به جدران الباطل ، فهادمها

(٢) خرج عن الدين ، والذى يتقدم الحق هو من يزيد على ما شرع اللّه أعمالا وعقائد يظنها مزينة للدين ومتممة له ، ويسميها بدعة حسنة

(٣) اضمحل وهلك

(٤) رزين فى قوله : لا يبادر به عن غير روية ، بطىء القيام. لا ينبعث للعمل بالطيش ، وإنما يأخذ له عدة إتمامه ، فاذا أبصر منه وجه الفوز تام فمضى إليه مسرعا وكأنه يصف بذلك حال نفسه كرم اللّه وجهه

(٥) يصل متفرقكم

(٦) الاقبال والادبار فى الجملتين لا يتواردان على جهة واحدة : فالمقبل بمعنى المتوجه إلى الأمر الطالب له الساعى إليه ، والمدبر بمعنى من أدبرت حاله واعترضته الخيبة فى عمله وإن كان لم يزل طالبا

١٩٣

إحدى قائمتيه (١) وتثبت الأخرى ، وترجعا حتّى تثبتا جميعا. ألا إنّ مثل آل محمّد ، صلى اللّه عليه وآله ، كمثل نجوم السّماء : إذا خوى نجم طلع نجم (٢) فكأنّكم قد تكاملت من اللّه فيكم الصّنائع ، وأراكم ما كنتم تأملون.

٩٩ ـ ومن خطبة له أخرى

الأوّل قبل كلّ أوّل ، والآخر بعد كلّ آخر ، بأوّليّته وجب أن لا أوّل له وبآخريّته أن لا آخر له ، وأشهد أن لا إله إلاّ اللّه شهادة يوافق فيها السّرّ الإعلان ، والقلب اللسان. أيّها النّاس ، لا يجرمنّكم شقاقى (٣) ولا يستهوينّكم عصيانى ، ولا تتراموا بالأبصار عند ما تسمعونه منّى (٤) فو الّذى فلق الحبّة ، وبرأ النّسمة ، إنّ الّذى أنبّئكم به عن النّبىّ ، صلّى اللّه عليه وآله ، ما كذب المبلّغ ، ولا جهل السّامع. ولكنّى أنظر إلى ضلّيل (٥) قد نعق بالشّام ، وفحص براياته (٦)

__________________

(١) رجليه

(٢) خوى : غاب

(٣) لا يكسبنكم ، والمفعول محذوف ، أى : خسرانا ، أى : لا تشاقونى فيكسبكم الشقاق خسرانا ، ولا تعصونى فيتيه بكم عصيانى فى ضلال وحيرة

(٤) لا ينظر بعضكم إلى بعض تغامزا بالانكار لما أقول

(٥) ضليل ـ كشرير ـ شديد الضلال مبالغ فى الضلال

(٦) من «فحص القطا التراب» إذا اتخذ فيه أفحوصا ـ بالضم ـ وهو مجثمه ، أى : المكان الذى يقيم فيه عند ما يكون على الأرض ، يريد أنه نصب له رايات بحثت لها فى الأرض مراكز

١٩٤

فى ضواحى كوفان (١). فإذا فغرت فاغرته (٢) واشتدّت شكيمته (٣) وثقلت فى الأرض وطأته ، عضّت الفتنة أبناءها بأنيابها ، وماجت الحرب بأمواجها ، وبدا من الأيّام كلوحها (٤) ومن الليالى كدوحها (٥) فإذا أينع زرعه (٦) وقام على ينعه (٧) وهدرت شقاشقه ، وبرقت بوارقه ، عقدت رايات الفتن المعضلة وأقبلن كالليل المظلم ، والبحر الملتطم ، هذا ، وكم يخرق الكوفة من قاصف (٨) ويمرّ عليها من عاصف ، وعن قليل تلتفّ القرون بالقرون (٩) ويحصد القائم ، ويحطم المحصود

١٠٠ ـ ومن كلام له

يجرى مجرى الخطبة

وذلك يوم يجمع اللّه فيه الأوّلين والآخرين لنقاش الحساب (١٠) وجزاء

__________________

(١) هى الكوفة ، أى : إنه كاد يصل الكوفة حيث إن راياته انتشرت على بعض بلدان من حدودها ، وهو ما أشار إليه بالضواحى

(٢) فغر الفم ـ كمنع ـ انفتح ، وفغرته. فهو لازم ومتعد أى : إذا انفتحت فاغرته ، وهى فمه

(٣) الشكيمة : الحديدة المعترضة فى اللجام فى فم الدابة ، ويعبر بقوتها عن شدة البأس وصعوبة الانقياد

(٤) عبوسها

(٥) جمع كدح ـ بالفتح ـ وهو الخدش ، وأثر الجراحات

(٦) نضج ، وحان قطافه

(٧) حالة نضجه

(٨) هو ما اشتد صوته من الرعد والريح وغيرهما ، والعاصف : ما اشتد من الريح ، والمراد مزعجات الفتن

(٩) يكون الاشتباك بين قواد الفتنة وبين أهل الحق كما تشتبك الكباش بقرونها عند النطاح ، وما بقى من الصلاح قائما يحصد ، وما كان قد حصد يحطم ويهشم ، فلا يبقى إلا شر عام وبلاء تام ، إن لم يقم للحق أنصار

(١٠) نقاش الحساب : الاستقصاء فيه

١٩٥

الأعمال ، خضوعا ، قياما ، قد ألجمهم العرق ، ورجفت بهم الأرض ، فأحسنهم حالا من وجد لقدميه موضعا ، ولنفسه متّسعا ومنه : فتن كقطع الليل المظلم ، ولا تقوم لها قائمة (١) ولا تردّ لها راية ، تأتيكم مزمومة مرحولة ، يحفزها قائدها ، ويجدّها راكبها ، أهلها قوم شديد كلبهم ، قليل سلبهم (٢) ، يجاهدهم فى سبيل اللّه قوم أذلة عند المتكبّرين ، فى الأرض مجهولون ، وفى السّماء معروفون ، فويل لك يا بصرة عند ذلك ، من جيش من نقم اللّه لا رهج له ، ولا حسّ (٣) ، وسيبتلى أهلك بالموت الأحمر ، والجوع الأغبر.

__________________

(١) لا تثب لمعارضتها قائمة خيل ، وقوائم الفرس : رجلاه ، أو أنه لا يتمكن أحد من القيام لها وصدها ، وقوله «مزمومة مرحولة» قادها وزمها وركبها برحلها أقوام زحفوا بها عليكم ، يحفزونها ـ أى : يحثونها ـ ليقروا بها فى دياركم ، وفيكم يحطون الرحال.

(٢) السلب ـ محركة ـ : ما يأخذه القاتل من ثياب المقتول وسلاحه فى الحرب ، أى : ليسوا من أهل الثروة

(٣) الرهج ـ بسكون الهاء ، ويحرك ـ : الغبار ، والحس ـ بفتح الحاء ـ الجلبة والأصواب المختلطة ، قالوا : يشير إلى فتنة صاحب الزنج ، وهو على بن محمد بن عبد الرحيم ، من بنى عبد القيس ، ادعى أنه علوى من ابناء محمد ابن أحمد بن عيسى بن زيد بن على بن الحسين ، وجمع الزنوج الذين كانوا يسكنون السباخ فى نواحى البصرة ، وخرج بهم على المهتدى العباسى ، فى سنة خمس وخمسين ومائتين ، واستفحل أمره ، وانتشرت أصحابه فى أطراف البلاد للسلب والنهب ، وملك أبلة عنوة ، وفتك بأهلها ، واستولى على عبادان والأهواز ، ثم كانت بينه وبين الموفق فى زمن المعتمد حروب انجلى فيها عن الأهواز وسلم عاصمة ملكه ، وكان سماها المختارة

١٩٦

١٠١ ـ ومن خطبة له عليه السّلام

أنظروا إلى الدّنيا نظر الزّاهدين فيها ، الصّادفين عنها (١) ، فإنّها واللّه عمّا قليل تزيل الثّاوى السّاكن (٢) وتفجع المترف الآمن (٣) لا يرجع ما تولّى منها فأدبر ، ولا يدرى ما هو آت منها فينتظر ، سرورها مشوب بالحزن ، وجلد الرّجال فيها إلى الضّعف والوهن ، فلا يغرّنّكم كثرة ما يعجبكم فيها ، لقلّة ما يصحبكم منها. رحم اللّه امرأ تفكّر فاعتبر ، واعتبر فأبصر ، فكأنّ ما هو كائن من الدّنيا عن قليل لم يكن (٤) وكأنّ ما هو كائن من الآخرة عمّا قليل لم يزل ، وكلّ معدود منقض ، وكلّ متوقّع آت ، وكلّ آت قريب دان.

ومنها: العالم من عرف قدره ، وكفى بالمرء جهلا أن لا يعرف قدره ، وإنّ من أبغض الرّجال لعبدا وكله اللّه إلى نفسه! جائرا عن قصد السّبيل ، سائرا بغير دليل ، إن دعى إلى حرث الدّنيا عمل ، وإن دعى إلى حرث الآخرة

__________________

بعد محاصرة شديدة ، وقتله الموفق أخو الخليفة المعتمد سنة سبعين ومائتين ، وفرح الناس بقتله لانكشاف رزئه عنهم

(١) الصادفين : المعرضين

(٢) الثاوى : المقيم

(٣) المترف ـ بفتح الراء ـ : المتروك يصنع ما يشاء لا يمنع

(٤) فان الذى هو موجود فى الدنيا بعد قليل كأنه لم يكن ، وإن الذى هو كائن فى الآخرة بعد قليل كأنه كائن لم يزل ، فكأنه ـ وهو فى الدنيا ـ من سكان الآخرة

١٩٧

كسل! كأن ما عمل له واجب عليه (١) وكأنّ ما ونى فيه ساقط عنه (٢)

ومنها : وذلك زمن لا ينجو فيه إلاّ كلّ مؤمن نومة (٣) : إن شهد لم يعرف ، وإن غاب لم يفتقد ، أولئك مصابيح الهدى ، وأعلام السّرى (٤) ليسوا بالمساييح ، ولا المذاييع البذر ، أولئك يفتح اللّه لهم أبواب رحمته ، ويكشف عنهم ضرّاء نقمته. أيّها النّاس ، سيأتى عليكم زمان يكفأ فيه الإسلام كما يكفأ الإناء بما فيه! أيّها ، النّاس ، إنّ اللّه قد أعاذكم من أن يجور عليكم ، ولم يعذكم من أن يبتليكم (٥) وقد قال جلّ من قائل : «إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيٰاتٍ وَإِنْ كُنّٰا لَمُبْتَلِينَ» قال الشريف : قوله عليه السلام : «كل مؤمن نومة» فانما أراد به الخامل الذكر القليل الشر ، والمساييح : جمع مسياح ، وهو الذى يسيح بين الناس بالفساد والنمائم ، والمذاييع : جمع مذياع ، وهو الذى إذا سمع لغيره بفاحشة أذاعها ونوه بها ، والبذر : جمع بذور وهو الذى يكثر سفهه ويلغو منطقه (٦)

__________________

(١) ما عمل له هو حرث الدنيا

(٢) ونى فيه : تراخى فيه ، وهو حرث الآخرة

(٣) نومة ـ بضم ففتح ـ : كثير النوم ، يريد به البعيد عن مشاركة الأشرار فى شرورهم ، فاذا رأوه لا يعرفونه منهم ، وإذا غاب لا يفتقدونه

(٤) السرى ـ كالهدى ـ : السير فى ليالى المشاكل ، وبقية الألفاظ يأتى شرحها بعد أسطر لصاحب الكتاب

(٥) ليتبين الصادق من الكاذب ، والمخلص من المريب ، فتكون للّه الحجة على خلقه

(٦) الذى فى القاموس أن البذور ـ بالفتح ـ كالبذير : هو النمام

١٩٨

١٠٢ ـ ومن خطبة له عليه السّلام

وقد تقدم مختارها بخلاف هذه الرواية

أمّا بعد ، فإنّ اللّه سبحانه بعث محمّدا ، صلّى اللّه عليه وآله ، وليس أحد من العرب يقرأ كتابا ، ولا يدّعى نبوّة ولا وحيا ، فقاتل بمن أطاعه من عصاه ، يسوقهم إلى منجاتهم ويبادر بهم السّاعة أن تنزل بهم ، يحسر الحسير (١) ويقف الكسير ، فيقيم عليه حتّى يلحقه غايته ، إلاّ هالكا لا خير فيه ، حتّى أراهم منجاتهم ، وبوّأهم محلّتهم ، فاستدارت رحاهم (٢) واستقامت قناتهم ، وايم اللّه لقد كنت فى ساقتها حتّى تولّت بحذافيرها ، واستوثقت قيادها : ما ضعفت ولا جبنت ، ولا خنت ، ولا وهنت ، وايم اللّه لأبقرنّ الباطل (٣) حتّى أخرج الحقّ من خاصرته.

__________________

(١) من «حسر البعير» كضرب ـ إذا أعيا وكل ، والكسير : المكسور ، أى : إن من ضعف اعتقاده ، أو كلت عزيمته ، فتراخى فى السير على سبيل المؤمنين ، أو طرقته الوساوس فهشمت قوائم همته بزلزال فى عقيدته ، فان النبى صلى اللّه عليه وسلم كان يقيم على ملاحظته وعلاجه حتى بنصل من مرضه هذا ويلحق بالمخلصين ، إلا من كان ناقص الاستعداد ، خبيث العنصر ، فلا ينجع فيه الدواء ، فيهلك

(٢) كناية عن وفرة أرزاقهم ، فان الرحا إنما تدور على ما تطحنه من الحب ، أو كناية عن قوة سلطانهم على غيرهم ، والرحا : رحا الحرب يطحنون بها ، والقناة الرمح ، واستقامتها : كناية عن صحة الأحوال وصلاحها

(٣) البقر ـ بالفتح ـ : الشق ، أى : لأشقن جوف الباطل : بقهر أهله ، فأنتزع الحق من أيدى المبطلين ، والتمثيل فى غاية من اللطف

١٩٩

١٠٣ ـ ومن خطبة له عليه السّلام

حتّى بعث اللّه محمّدا ، صلّى اللّه عليه وآله ، شهيدا ، وبشيرا ، ونذيرا ، خير البريّة طفلا ، وأنجبها كهلا ، أطهر المطهّرين شيمة ، وأمطر المستمطرين ديمة (١) فما أحلولت لكم الدّنيا فى لذّتها ، ولا تمكّنتم من رضاع أخلافها (٢) إلاّ من بعد ما صادفتموها جائلا خطامها (٣) قلقا وضينها ، قد صار حرامها عند أقوام بمنزلة السّدر المخضود (٤) ، وحلالها بعيدا غير موجود ، وصادفتموها ، واللّه ، ظلاّ ممدودا إلى أجل معدود ، فالأرض لكم شاغرة (٥) وأيديكم فيها مبسوطة. وأيدى القادة عنكم مكفوفة ، وسيوفكم عليهم مسلّطة وسيوفهم عنكم مقبوضة ، الاّ إنّ لكلّ دم ثائرا (٦) ولكلّ حقّ طالبا ، وإنّ

__________________

(١) الديمة ـ بالكسر ـ المطر يدوم فى سكون ، والمستمطر ـ بفتح الطاء ـ : من يطلب منه المطر ، والمراد هنا النجدة والمعونة. فالنبى أغزر الناس فيضا للخير على طلابه

(٢) جمع خلف ـ بالكسر ـ : وهو حلمة ضرع الناقة

(٣) الخطام ـ ككتاب ـ : ما يوضع فى أنف البعير ليقاد به ، والوضين : بطان عريض منسوج من سيور أو شعر يكون للرحل ، كالحزام للسرج ، وجولان لخطام وقلق الوضين : إما كناية عن الهزال ، وإما كناية عن صعوبة القياد ، فان لخطام الجائل لا يشتد على البعير فيجذبه ، وعن قلق الراكب وعدم اطمئنانه ، لاضطراب رحل بقلق الوضين

(٤) السدر ـ بالكسر ـ : شجر النبق ، والمخضود : المقطوع شوك ، أو متثنى الأغصان من ثقل الحمل ، والتشبيه غاية فى اللذة

(٥) أى : بعد بعثة النبى شغرت لكم الأرض ، أى : لم يبق فيها من يحميها دونكم. يمنعكم عن خيرها

(٦) ثأره فهو ثائر ، أى : طلب بدمه ، وقتل قاتله

٢٠٠