نهج البلاغة - ج ١

محمد عبده

نهج البلاغة - ج ١

المؤلف:

محمد عبده


المحقق: محمّد محيى الدين عبد الحميد
الموضوع : الحديث وعلومه
المطبعة: مطبعة الإستقامة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٤٠

الكتاب عليك فرضه ولا فى سنّة النّبيّ صلّى اللّه عليه وآله وأئمّة الهدى أثره ، فكل علمه إلى اللّه سبحانه ، فإنّ ذلك منتهى حقّ اللّه عليك. واعلم أنّ الرّاسخين فى العلم هم الّذين أغناهم عن اقتحام السّدد المضروبة دون الغيوب ، الاقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب (١) فمدح اللّه اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علما ، وسمّى تركهم التّعمّق فيما لم يكلّفهم البحث عن كنهه رسوخا ، فاقتصر على ذلك ، ولا تقدّر عظمة اللّه سبحانه على قدر عقلك فتكون من الهالكين : هو القادر الّذى إذا ارتمت الأوهام لتدرك منقطع قدرته (٢) وحاول الفكر المبرّأ من خطرات الوساوس أن يقع عليه فى عميقات غيوب ملكوته (٣) وتولّهت القلوب إليه (٤) لتجرى فى كيفيّة صفاته (٥) وغمضت مداخل العقول فى حيث لا تبلغه الصّفات لتناول علم ذاته (٦) ردعها وهى تجوب مهاوى سدف الغيوب (٧) متخلّصة إليه ، سبحانه ، فرجعت

__________________

(١) السدد : جمع سدة ، وهى باب الدار ، والاقرار : فاعل «أغناهم»

(٢) ارتمت الأوهام : ذهبت أمام الأفكار كالطليعة لها ، ومنقطع الشىء : ما إليه ينتهى

(٣) «مبرأ ـ الخ» أما الملابس لهذه الخطرات فمعلوم أنه لا يصل إلى شىء لوقوفه عند وساوسه.

(٤) تولهت القلوب إليه : اشتد عشقها حتى أصابها الوله ـ وهو الحيرة ـ وقوى ميلها لمعرفة كنهه

(٥) لتجرى الخ : لتجول ببصائرها فى تحقيق كيف قامت صفاته بذاته ، أو كيف اتصف سبحانه بها

(٦) «وغمضت ـ الخ» أى : خفيت طرق الفكر ودقت ، وبلغت فى الخفاء والدقة إلى حد لا يبلغه الوصف

(٧) «ردعها ـ الخ» جواب للشرط فى قوله «إذا ارتمت ـ الخ» وردعها : كفها (١١ ـ ن ـ ج ـ ١) وردها ، والمهاوى : المهالك ، والسدف ـ بضم ففتح ـ جمع سدفة ، وهى القطعة من الليل المظلم ، وجبهت : من جبهه إذا ضرب جبهته ، والمراد ردت بالخيبة

١٦١

إذ جبهت معترفة بأنّه لا ينال بحور الاعتساف كنه معرفته (١) ولا تخطر ببال أولى الرّويّات خاطرة من تقدير جلال عزّته (٢) الّذى ابتدع الخلق على غير مثال امتثله (٣) ولا مقدار احتذى عليه ، من خالق معهود كان قبله ، وأرانا من ملكوت قدرته ، وعجائب ما نطقت به آثار حكمته ، واعتراف الحاجة من الخلق إلى أن يقيمها بمساك (٤) قوّته ، ما دلّنا باضطرار قيام الحجّة له على معرفته ، وظهرت فى البدائع الّتى أحدثها آثار صنعته وأعلام حكمته ، فصار كلّ ما خلق حجّة له ودليلا عليه ، وإن كان خلقا صامتا فحجّته بالتّدبير ناطقة ، ودلالته على المبدع قائمة. وأشهد أنّ من شبّهك بتباين أعضاء خلقك ، وتلاحم

__________________

(١) الجور : العدول عن الطريق ، والاعتساف : سلوك غير جادة. وسلوك العقول فى أى طريق طلبا لاكتناه ذاته ، وللوقوف على ما لم يكلف الوقوف عليه من كيفية صفاته ، يعد جورا أو عدولا عن الجادة ، فان العقول الحادثة ليس فى طبيعتها ما يؤهلها للاحاطة بالحقائق الأزلية ، اللهم إلا ما دلت عليه الآثار ، وذلك هو الوصف الذى جاء فى الكتاب والسنة ، و «كنه معرفته» نائب فاعل «ينال»

(٢) الرويات : جمع روية ، وهى الفكر

(٣) ابتدع الخلق : أوجده من العدم المحض على غير مثال سابق «امتثله» أى : حاذاه و «لا مقدار سابق احتذى عليه» أى : قاس وطبق عليه ، وكان ذلك المثال أو المقدار من خالق معروف سبقه بالخلقة ، أى : لم يقتد بخالق آخر فى شىء من الخلقة ، إذ لا خالق سواه

(٤) المساك ـ كسحاب ، ويكسر ـ ما به يمسك الشىء كالملاك ما به يملك «إِنَّ اَللّٰهَ يُمْسِكُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَاَلْأَرْضَ أَنْ تَزُولاٰ» وقد جعل الحاجة الظاهرة من المخلوقات

١٦٢

حقاق مفاصلهم (١) المحتجبة لتدبير حكمتك لم يعقد غيب ضميره على معرفتك (٢) ولم يباشر قلبه اليقين بأنّه لا ندّ لك ، وكأنّه لم يسمع تبرّؤ التّابعين من المتبوعين إذ يقولون : «تَاللّٰهِ إِنْ كُنّٰا لَفِي ضَلاٰلٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ اَلْعٰالَمِينَ» كذب العادلون بك (٣) إذ شبّهوك بأصنامهم ونحلوك حلية المخلوقين بأوهامهم (٤). وجزّأوك تجزئة المجسّمات بخواطرهم ، وقدّروك على الخلقة المختلفة القوى (٥) بقرائح عقولهم ، وأشهد أنّ من ساواك بشىء من خلقك فقد عدل بك ، والعادل بك كافر بما تنزّلت به محكمات آياتك ، ونطقت عنه شواهد حجج

__________________

إلى إقامة وجودها بما يمسكها من قوته بمنزلة الناطق بذلك المعترف به ، وقوله «باضطرار» متعلق بدلنا ، و «على معرفته» متعلق به أيضا ، أى : دلنا على معرفته بسبب أن قيام الحجة اضطرنا لذلك ، و «ما دلنا» مفعول لأرانا ، و «ظهرت فى البدائع الخ» معطوف على «أرانا»

(١) الحقاق : جمع حق ـ بضم الحاء ـ وهو رأس العظم عند المفصل ، واحتجاب المفاصل : استتارها باللحم والجلد ، وذلك الاستتار مما له دخل فى تقوية المفاصل على تأدية وظائفها التى هى الغاية من وضعها فى تدبير حكمة اللّه فى خلقة الأبدان ، والمراد من شبهه بالانسان ونحوه

(٢) غيب الضمير : باطنه ، والمراد منه هنا العلم واليقين ، أى : لم يحكم بيقينه فى معرفتك بما أنت أهل له.

(٣) العادلون بك. الذين عدلوا بك غيرك ، أى : سووه بك وشبهوك به

(٤) نحلوك : أعطوك ، وحلية المخلوقين : صفاتهم الخاصة بهم من الجسمانية وما يتبعها ، أى : وصفوك بصفات المخلوقين ، وذلك إنما يكون من الوهم الذى لا يصل إلى غير الأجسام ولواحقها ، دون العقل الذى يحكم فيما وراء ذلك

(٥) قدروك : قاسوك

١٦٣

بيّناتك ، وإنّك أنت اللّه الّذى لم تتناه فى العقول فتكون فى مهبّ فكرها مكيّفا (١) ولا فى رويّات خواطرها فتكون محدودا مصرّفا (٢)

ومنها : قدّر ما خلق فألطف تقديره ، ودبّره فأحكم تدبيره ، ووجّهه لوجهته فلم يتعدّ حدود منزلته ، ولم يقصّر دون الانتهاء إلى غايته ، ولم يستصعب إذ أمر بالمضىّ على إرادته (٣) وكيف وإنّما صدرت الأمور عن مشيئته؟ المنشىء أصناف الأشياء بلا رويّة فكر آل إليها ، ولا قريحة غريزة أضمر عليها (٤) ولا تجربه أفادها من حوادث الدّهور (٥) ولا شريك أعانه على ابتداع عجائب الأمور ، فتمّ خلقه وأذعن لطاعته ، وأجاب إلى دعوته ، ولم يعترض دونه ريث المبطىء (٦) ولا أناة المتلكّئ (٧) فأقام من الأشياء أودها (٨) ونهج

__________________

(١) أى : لم تكن متناهيا محدود الأطراف حتى تحيط بك العقول فتكيفك بكيفية مخصوصة

(٢) «مصرفا» أى : تصرفك العقول بأفهامها فى حدودك

(٣) استصعب المركوب : لم ينقد فى السير لراكبه ، وكل مخلوق خلقه اللّه لأمر أراده بلغ الغاية مما أراد اللّه منه ولم يقصر دون ذلك منقادا غير مستصعب

(٤) غريزة : طبيعة ومزاج ، أى : ليس له مزاج كما للمخلوقات الحساسة فينبعث عنه إلى الفعل ، بل هو انفعال بما له بمقتضى ذاته ، لا بأمر عارض

(٥) أفادها : استفادها

(٦) «لم يعترض دونه» أى : دون الخلق وإجابة دعوة اللّه ، والريث : التثاقل عن الأمر ، أى : أجاب الخلق دعوة الخالق فيما وجهت إليه فطرته بدون مهل

(٧) الأناة : تؤدة يمازجها روية فى اختيار العمل وتركه والمتلكئ : المتعلل ، يقول : أجاب العبد ربه طائعا مقهورا بلا تلكؤ

(٨) أودها : اعوجاجها

١٦٤

حدودها (١) ، ولاءم بقدرته بين متضادّها ، ووصل أسباب قرائنها (٢) وفرّقها أجناسا مختلفات فى الحدود والأقدار والغرائز والهيئات (٣) بدايا خلائق أحكم صنعها (٤) وفطرها على ما أراد وابتدعها.

منها فى صفة السماء :

ونظم بلا تعليق رهوات فرجها (٥) ، ولاحم صدوع انفراجها (٦) ، ووشّج بينها وبين أزواجها (٧). وذلّل للهابطين بأمره ، والصّاعدين بأعمال

__________________

(١) نهج : عين ورسم

(٢) قرائنها : جمع قرينة ، وهى : النفس ، أى : وصل حبال النفوس ـ وهى من عالم النور ـ بالأبدان ، وهى من عالم الظلمة

(٣) الغرائز : الطبائع

(٤) بدايا : جمع بدىء ، أى : مصنوع

(٥) رهوات : جمع رهوة ، أى : المكان المرتفع. ويقال للمنخفض أيضا ، فهو من الأضداد ، والفرج : جمع فرجة ـ بضم فسكون ـ وهى المكان الخالى ، يقول : قد فرج اللّه ما بين جرم وآخر من الأجرام السماوية ، ونظمها على ذلك سماء ، بدون تعليق إحداها بالأخرى ، وربطها بها بآلة حسية

(٦) لاحم أى : ألصق ، والصدوع : جمع صدع ، وهو الشق ، أى : ما كان فى الجرم الواحد منها من صدع لحمه سبحانه ، وأصلحه فسواه ، وذلك كما كان فى بدء خلقه الأرض ، وانفصالها عن الأجرام السماوية ، وانفراج الأجرام عنها ، فما تصدع بذلك أصلحه اللّه : «أَوَلَمْ يَرَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَاَلْأَرْضَ كٰانَتٰا رَتْقاً فَفَتَقْنٰاهُمٰا»

(٧) «وشج» بالتضعيف ـ أى : شبك من «وشج حمله» إذا شبكه بالأربطة حتى لا يسقط منه شىء ، وتقول «وشجت الغصون» بالتخفيف ـ أى : اشتبكت ، وتقول : «بيننا رحم واشجة» أى : مشتبكة ، أى : أنه سبحانه شبك بين كل سماء وأجرامها ، وبين أزواجها ـ أى : أمثالها وقرنائها ـ من الأجرام الأخرى ، فى الطبقات العليا والسفلى عنها ، بالروابط الماسكة المعنوية العامة ، وهى من أعظم المظاهر لقدرته

١٦٥

خلقه ، حزونة معراجها (١) ، ناداها بعد إذ هى دخان فالتحمت عرى أشراجها وفتق بعد الارتتاق صوامت أبوابها (٢). وأقام رصدا من الشّهب الثّواقب على نقابها (٣) وأمسكها من أن تمور فى خرق الهواء بأيده (٤) ، وأمرها أن تقف مستسلمة لأمره ، وجعل شمسها آية مبصرة لنهارها (٥) وقمرها آية ممحوّة

__________________

(١) الهابطين والصاعدين : الأرواح العلوية والسفلية ، والحزونة : الصعوبة ، وقوله «ناداها ـ الخ» : رجوع إلى بيان بعض ما كانت عليه قبل النظم ، يقول : كانت السموات هباء مائرا أشبه بالدخان منظرا ، وبالبخار مادة ، فتجلى من اللّه فيها سر التكوين فالتحمت عرى أشراجها ، والأشراج : جمع شرج بالتحريك ـ : وهو العروة ، وهى مقبض الكوز والدلو وغيرهما ، وتقول «أشرجت العيبة» أى : أقفلت أشراجها ، وتسمى مجرة السماء شرجا ، تشبيها بشرج العيبة ، وأشراج الوادى ما انفسح منه ، على التشبيه ، وأشار باضافة العرى للاشراج إلى أن كل جزء من مادتها عروة للآخر يجذبه إليه ليتماسك به ، فكل ماسك وكل ممسوك : فكل عروة ، وله عروة.

(٢) بعد أن كانت جسما واحدا فتق اللّه رتقه ، وفصلها إلى أجرام بينها فرج وأبواب ، وأفرغ ما بينها بعد ما كانت صوامت ، أى : لا فراغ فيها

(٣) النقاب : جمع نقب ، وهو الخرق ، «والشهب الثواقب» أى : الشديدة الضياء والرصد : القوم يرصدون كالحرس. وكون الرصد من الشهب فى أصل تكوين الخلقة كما قال الامام : دليل على ما أثبته العلم من أن الشهب مغذيات لبعض أجرام الكواكب بما نظمه لها من التفاتق ، فما نقب وخرق من جرم عوض بالشهاب ، وذلك أمر آخر غير ما جاء فى الكتاب العزيز فما جاء فى الكتاب بمعنى آخر.

(٤) «وأمسكها من أن تمور» أى : تضطرب فى الهواء «بأيده» أى : بقوته : «وأمرها أن تقف» أى : تلزم مراكزها لا تفارق مداراتها ، لا بمعنى أن تسكن.

(٥) «مبصرة» أى : جعل شمس هذه الأجرام السماوية مضيئة يبصر بضوئها مدة النهار كله دائما

١٦٦

من ليلها (١) فأجراهما فى مناقل مجراهما ، وقدّر سيرهما فى مدارج درجهما ليميّز بين اللّيل والنّهار بهما ، وليعلم عدد السّنين والحساب بمقاديرهما ، ثمّ علّق فى جوّها فلكها (٢) ، وناط بها زينتها : من خفيّات دراريها ومصابيح كواكبها (٣) ورمى مسترقى السّمع بثواقب شهبها ، وأجراها على إذلال تسخيرها من ثبات ثابتها ، ومسير سائرها ، وهبوطها وصعودها ، ونحوسها وسعودها (٤)

ومنها فى صفة الملائكة :

ثمّ خلق سبحانه لاسكان سمواته ، وعمارة الصّفيح الأعلى (٥) من ملكوته خلقا بديعا من ملائكته ، ملأ بهم فروج فجاجها ، وحشا بهم فتوق أجوائها (٦) وبين فجوات تلك الفروج زجل المسبّحين منهم فى حظائر القدس ، وسترات

__________________

(١) ممحوة : يمحى ضوءها فى بعض أطراف الليل فى أوقات من الشهر ، وفى جميع الليل أياما منه ، ومناقل مجراهما الأوضاع التى ينقلان فيها من مداريهما

(٢) فلكها : هو الجسم الذى ارتكزت فيه ، وأحاط بها ، وفيه مدارها. و «ناط بها» أى : علق بها وأحاطها ، ودراريها : كواكبها وأقمارها. والأذلال : جمع ذل ـ بالكسر ـ وهو محجة الطريق ، أى : على الطرق التى سخرها فيها

(٣) نجومها الصغار

(٤) نحوسها وسعودها : من إقفار بعضها فى عالمه ، وريع بعضها على كونه

(٥) الصفيح : السماء ، ويقال لوجه كل شىء عريض : صفيح ، وصفحة. والفروج الأماكن الخالية ، والفجاج : جمع فج ، وهو الطريق الواسع بين جبلين ، وحائطين

(٦) الأجواء : جمع جو ، وأصله ما اتسع من الأودية ، ويقال لما بين السماء والأرض من الفضاء «جو» وروى فى مكانه «أجوابها» بالباء موحدة ـ وهو جمع جوبة ، وهى الفرجة فى السحاب وغيره

١٦٧

الحجب ، وسرادقات المجد (١) ووراء ذلك الرّجيج الّذى تستكّ منه الأسماع سبحات نور تردع الأبصار عن بلوغها (٢) فتقف خاسئة على حدودها (٣) ، أنشأهم على صور مختلفات ، وأقدار متفاوتات أولى أجنحة تسبّح جلال عزّته لا ينتحلون ما ظهر فى الخلق من صنعته ، ولا يدّعون أنّهم يخلقون شيئا ممّا انفرد به ، بل عباد مكرمون «لاٰ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ» جعلهم فيما هنالك أهل الأمانة على وحيه ، وحمّلهم إلى المرسلين ودائع أمره ونهيه ، وعصمهم من ريب الشّبهات ، فما منهم زائغ عن سبيل مرضاته ، وأمدّهم بفوائد المعونة ، وأشعر قلوبهم تواضع إخبات السّكينة (٤) وفتح لهم أبوابا ذللا (٥) إلى تماجيده ، ونصب لهم منارا واضحة على أعلام توحيده (٦)

__________________

(١) الزجل : رفع الصوت ، والحظائر : جمع حظيرة وهى المواضع يحاط عليه لتأوى إليه الغنم والابل توقيا من البرد والريح ، وهو مجاز ههنا عن المقامات المقدسة للأرواح الطاهرة ، والقدس ـ بضم فسكون ، أو بضمتين ـ الطهر ، والتقديس : التطهير ، والأرض المقدسة : المطهرة. والسترات : جمع سترة ، وهى ما يستتر به ، والسرادقات : جمع سرادق ، وهو ما يمد على صحن البيت فيغطيه

(٢) الرجيج : الزلزلة والاضطراب ، و «تستك منه» أى : تصم منه الآذان لشدته ، «وسبحات نور» أى : طبقات نور ، وأصل السبحات الأنوار نفسها

(٣) خاسئة : مدفوعة مطرودة عن الترامى إليها

(٤) الاخبات : الخضوع ، والخشوع

(٥) جمع ذلول : خلاف الصعب

(٦) قال بعض أهل اللغة : إن منارة تجمع على منار ، وإن لم يذكره صاحب القاموس ، وأرى أن منارا ههنا جمع منارة بمعنى المسرجة ، وهى : ما يوضع فيه الصباح ، والأعلام : ما يقام للاهتداء به على أفواه الطرق ومرتفعات الأرض ، والكلام تمثيل لما أنار به مداركهم حتى انكشف لهم سر توحيده

١٦٨

لم تثقلهم موصرات الآثام (١) ولم ترتحلهم عقب اللّيالى والأيّام (٢) ولم ترم الشّكوك بنوازعها عزيمة إيمانهم (٣) ولم تعترك الظّنون على معاقد يقينهم (٤) ولا قدحت قادحة الإحن فيما بينهم (٥) ، ولا سلبتهم الحيرة ما لاق من معرفته بضمائرهم (٦) وما سكن من عظمته وهيبة جلالته فى أثناء صدورهم ، ولم تطمع فيهم الوساوس فتقترع برينها على فكرهم (٧) : منهم من هو فى خلق الغمام الدّلّح (٨) وفى عظم الجبال الشّمّخ ، وفى قترة الظّلام الأبهم (٩) ، ومنهم من خرقت

__________________

(١) مثقلاتها ، مأخوذ من الاصر ، وهو الثقل

(٢) ارتحله : وضع عليه الرحل ليركبه ، والعقب : جمع عقبة ، وهى النوبة. والليل والنهار لتعاقبهما ، أى : لم يتسلط عليهم تعاقب الليل والنهار فيفنيهم أو يغيرهم

(٣) النوازع : جمع نازعة وهى النجم أو القوس ، وعلى الأول المراد منها الشهب ، وعلى الثانى تكون الباء فى بنوازعها بمعنى من ، وروى فى مكانه «بنوازغها» بالغين المعجمة ـ وهو مأخوذ من «نزغ بينهم» أى : أفسد

(٤) جمع معقد : محل العقد ، بمعنى الاعتقاد.

(٥) الاحن : جمع إحنة ، وهى الحقد والضغينة

(٦) لاق : لصق ، و «أثناء صدورهم» جمع ثنى ، وهى التضاعيف

(٧) تقترع : يروى بالقاف المثناة ـ من الاقتراع ، بمعنى ضرب القرعة ، ويروى بالفاء الموحدة ، أى : تعلو برينها فرعه ، أى : علاه ، والرين ـ بفتح الراء ـ الدنس ، وما يطبع على القلب من حجب الجهالة وفى التنزيل : «كَلاّٰ بَلْ رٰانَ عَلىٰ قُلُوبِهِمْ»

(٨) جمع دالح ، وهو : الثقيل بالماء من السحاب

(٩) القترة هنا : الخفاء والبطون ، ومنها قالوا : أخذه على قترة ، أى : من حيث لا يدرى ، والأبهم ـ بباء موحدة بعد الهمزة ـ أصله من لا يعقل ولا يفهم ، وصف به الليل وصفا للشىء بما ينشأ عنه ، فان الظلام الحالك يوقع فى الحيرة ، ويأخذ بالفهم عن رشاده.

١٦٩

أقدامهم تخوم الأرض السّفلى ، فهى كرايات بيض قد نفذت فى مخارق الهواء (١) وتحتها ريح هفّافة تحبسها على حيث انتهت من الحدود المتناهية ، قد استفرغتهم أشغال عبادته (٢) ووصلت حقائق الإيمان بينهم وبين معرفته وقطعهم الإيقان به إلى الوله إليه (٣) ولم تجاوز رغباتهم ما عنده إلى ما عند غيره ، قد ذاقوا حلاوة معرفته ، وشربوا بالكأس الرّويّة من محبّته (٤) وتمكّنت من سويداء قلوبهم (٥) وشيجة خيفته (٦) فحنوا بطول الطّاعة اعتدال ظهورهم ، ولم ينفذ طول الرّغبة إليه مادّة تضرّعهم (٧) ولا أطلق عنهم عظيم الزّلفة ربق خشوعهم (٨) ، ولم يتولّهم الإعجاب فيستكثروا ما سلف منهم ، ولا تركت لهم استكانة الإجلال (٩) نصيبا فى تعظيم حسناتهم ، ولم تجر الفترات فيهم على طول دؤوبهم ، ولم تغض رغباتهم (١٠) فيخالفوا عن رجاء ربّهم ، ولم

__________________

(١) مواضع ما خرقت أقدامهم

(٢) جعلتهم فارغين من الاشتغال بغيرها.

(٣) شدة الشوق إليه

(٤) الروية : التى تروى وتطفىء العطش

(٥) محل الروح الحيوانى من مضغة القلب

(٦) الوشيجة : أصلها عرق الشجرة ، أراد منها هنا بواعث الخوف من اللّه

(٧) أى : إن شدة رجائهم لم تفن مادة خوفهم وتذللهم

(٨) جمع ربقة ـ بالكسر ، والفتح ـ وهى : العروة من عرى الريق ـ بكسر الراء ـ وهو : حبل فيه عدة عرى تربط فيه البهم

(٩) الاستكانة : ميل للسكون من شدة الخوف ، ثم استعملت فى الخضوع

(١٠) دأب فى العمل : بالغ فى مداومته حتى أجهده

١٧٠

تجفّ لطول المناجاة أسلات ألسنتهم (١) ، ولا ملكتهم الأشغال فتنقطع بهمس الجؤار إليه أصواتهم (٢) ولم تختلف فى مقاوم الطّاعة مناكبهم (٣) ، ولم يثنوا إلى راحة التّقصير فى أمره رقابهم ، ولا تعدو (٤) على عزيمة جدّهم بلادة الغفلات ، ولا تنتضل فى هممهم خدائع الشّهوات (٥) قد اتّخذوا ذا العرش ذخيرة ليوم فاقتهم (٦). ويمّموه عند انقطاع الخلق إلى المخلوقين برغبتهم (٧) لا يقطعون أمد غاية عبادته ، ولا يرجع بهم الاستهتار بلزوم طاعته (٨) إلاّ إلى موادّ من قلوبهم غير منقطعة من رجائه ومخافته (٩) لم تنقطع أسباب الشّفقة منهم (١٠) فينوا فى جدّهم (١١) ولم تأسرهم الأطماع فيؤثروا وشيك السّعى على اجتهادهم (١٢) ولم يستعظموا ما مضى من أعمالهم ، ولو استعظموا

__________________

(١) الأسلات : جمع أسلة ، وأسلة اللسان : طرفه ، أى : لم تيبس أطراف ألسنتهم فتقف عن ذكره

(٢) الهمس : الخفى من الصوت ، والجؤار : رفع الصوت بالتضرع ، أى : لم يكن لهم عن اللّه شاغل يضطرهم للهمس والاخفاء وخفض جؤارهم بالدعاء إليه

(٣) المقاوم : جمع مقام ، والمراد الصفوف

(٤) لا تسطو

(٥) انتضلت الابل : رمت بأيديها فى السير سرعة. وخدائع الشهوات للنفس منها ، أى : لم تسلك خدائع الشهوات طريقا إلى هممهم فتفترها

(٦) حاجتهم

(٧) يمموه : قصدوه بالرغبة والرجاء عند ما انقطعت الخلق سواهم إلى المخلوقين

(٨) الاستهتار : التولع

(٩) مواد : جمع مادة ، أصلها من «مد البحر» إذا زاد ، وكل ما أعنت به غيرك فهو مادة ، ويريد بها البواعث المعينة على الأعمال ، أى : كلما تولعوا بطاعته زادت بهم البواعث عليها من الرغبة والرهبة

(١٠) الشفقة : الخوف

(١١) ونى ينى : تأنى

(١٢) وشيك السعى : مقاربه وهينه ، أى : إنه لا طمع فى غيره فيختاروا هين السعى

١٧١

ذلك لنسخ الرّجاء منهم شفقات وجلهم (١) ولم يختلفوا فى ربّهم باستحواذ الشّيطان عليهم ، ولم يفرّقهم سوء التّقاطع ، ولا تولاّهم غلّ التّحاسد ، ولا شعبتهم مصارف الرّيب (٢) ولا اقتسمتهم أخياف الهمم (٣) فهم أسراء إيمان لم يفكّهم من ربقته زيغ ، ولا عدول ولا ونى ولا فتور (٤) وليس فى أطباق السّماء موضع إهاب (٥) إلاّ وعليه ملك ساجد ، أو ساع حافد (٦) يزدادون على طول الطّاعة بربّهم علما ، وتزداد عزّة ربّهم فى قلوبهم عظما

ومنها فى صفة الأرض ودحوها على الماء (٧).

كبس الأرض (٨) على مور أمواج مستفحلة ، ولجج بحار زاخرة (٩) تلتطم أواذىّ أمواجها (١٠) وتصطفق متقاذفات أثباجها (١١) وترغو زبدا كالفحول

__________________

(١) الشفقات : تارات الخوف وأطواره ، وهو فاعل نسخ ، والرجاء : مفعول. والوجل : الخوف أيضا

(٢) شعبتهم : فرفتهم صروف الريب : جمع ريبة ، وهى ما لا تكون النفس على ثقة من موافقته للحق

(٣) جمع خيف ـ بالفتح ـ وهو فى الأصل : ما انحدر عن سفح الجبل ، والمراد هنا سواقط الهمم ، فان التفرق والاختلاف كثيرا ما يكون من انحطاط الهمة ، بل أعظم ما يكون منه ينشأ عن ذلك ، وقد يكون الخيف بمعنى الناحية ، أى : متطرفات الهمم

(٤) الونى : مصدر ونى ـ كتعب ـ أى : تأنى

(٥) جلد حيوان

(٦) خفيف ، سريع

(٧) دحوها : بسطها

(٨) كبس النهر والبئر ، أى : طمهما بالتراب ، وعلى هذا كان حق التعبير كبس بها مور أمواج. لكنه أقام الآلة مقام المفعول لأنها المقصود بالعمل. والمور : التحرك الشديد ، والمستفحلة : الهائجة التى يصعب التغلب عليها

(٩) ممتلئة

(١٠) جمع آذى ، وهو أعلى الموج

(١١) اصطفقت الأشجار : اهتزت بالريح والأثباج : جمع ثبج ـ بالتحريك ـ وهو فى الأصل ما بين الكاهل والظهر ، أو صدر القطاة ، استعاره لأعالى الموج ، التى يقذف بعضها بعضا

١٧٢

عند هياجها ، فخضع جماح الماء المتلاطم لثقل حملها ، وسكن هيج ارتمائه إذ وطئته بكلكلها (١) ، وذلّ مستخذيا (٢) إذ تمعّكت عليه بكواهلها (٣) فأصبح بعد اصطخاب أمواجه (٤) ساجيا مقهورا (٥) ، وفى حكمة الذّلّ منقادا أسيرا (٦) وسكنت الأرض مدحوّة فى لجّة تيّاره ، وردّت من نخوة باؤه واعتلائه (٧) وشموخ أنفه وسموّ غلوائه (٨) وكعمته (٩) على كظّة جريته (١٠) فهمد بعد نزقاته (١١) ولبد بعد زيفان وثباته (١٢) فلمّا سكن هياج الماء من تحت أكنافها (١٣) وحمل شواهق الجبال الشّمّخ البذّخ على أكتافها (١٤)

__________________

(١) هو فى الأصل الصدر ، استعاره لما لاقى الماء من الأرض

(٢) منكسرا ، مسترخيا

(٣) من «تمعكت الدابة» أى : تمرغت فى التراب

(٤) اصطخاب : افتعال من الصخب بمعنى ارتفاع الصوت

(٥) ساجيا : ساكنا

(٦) الحكمة ـ محركة ـ ما أحاط بحنكى الفرس من لجامه وفيها العذاران

(٧) الكبر ، والزهو

(٨) بضم الغين وفتح اللام : النشاط وتجاوز الحد

(٩) كعم البعير ـ كمنع ـ شد فاه لئلا يعض أو يأكل ، وما يشد به كعام ـ ككتاب ـ

(١٠) الكظة ـ بالكسر ـ ما يعرض من امتلاء البطن بالطعام ويراد بها هنا ما يشاهد فى جرى الماء من ثقل الاندفاع

(١١) النزق والنزقان الطيش

(١٢) الزيفان : التبختر فى المشية ، ولبد ـ كفرح ونصر ـ أى : قام ووثب

(١٣) نواحيها

(١٤) البذخ بمعنى الشمخ ، جمع شامخ وباذخ ، أى : عال ورفيع غير أنى أجد من لفظ الباذخ معنى أخص وهو الضخامة مع الارتفاع ، وحمل : عطف على أكتاف

١٧٣

فجر ينابيع العيون من عرانين أنوفها (١) ، وفرّقها فى سهوب بيدها وأخاديدها (٢) وعدل حركاتها بالرّاسيات من جلاميدها (٣) وذوات الشّناخيب الشّمم (٤) من صياخيدها (٥) فسكنت من الميدان (٦) لرسوب الجبال فى قطع أديمها (٧) وتغلغلها متسرّبة فى جوبات خياشيمها (٨) وركوبها أعناق سهول الأرضين وجراثيمها (٩) وفسح بين الجوّ وبينها ، وأعدّ الهواء متنسّما لساكنها ، وأخرج إليها أهلها على تمام مرافقها (١٠) ثمّ لم يدع جرز الأرض (١١) الّتى تقصر مياه

__________________

(١) عرانين : جمع عرنين ـ بالكسر ـ وهو ما صلب من عظم الأنف والمراد اعالى الجبال ، غير أن الاستعارة من ألطف أنواعها فى هذا المقام

(٢) السهوب : جمع سهب ـ بالفتح ـ أى : الفلاة ، والبيد : جمع بيداء ، والأخاديد : جمع أخدود ، وهى الحفر المستطيلة فى الأرض ، والمراد منها مجارى الأنهار

(٣) الضمير للأرض ، كما يظهر من بقية الكلام ، والجلاميد : جمع جلود ، وهو الحجر الصلد

(٤) الشناخيب : جمع شنخوب ، وهو رأس الجبل ، والشم : الرفيعة

(٥) جمع صيخود ، وهو : الصخرة الشديدة

(٦) بالتحريك : الاضطراب

(٧) سطحها

(٨) التغلغل : المبالغة فى الدخول ، و «متسربة» أى : داخلة ، والجوبات : جمع جوبة ، بمعنى الحفرة ، والخياشيم : جمع خيشوم ، وهو منفذ الأنف إلى الرأس ، أو مارق من الغراضيف الكائنة فوق قصبة الأنف متصلة بالرأس وضمير «تغلغلها» للجبال ، و «خياشيمها» للأرض ، والمجاز ظاهر

(٩) ركوب الجبال أعناق السهول : استعلاؤها عليها ، وأعناقها : سطوحها ، وجراثيمها : ما سفل عن السطوح من الطبقات الترابية ، واستعلاء الجبال عليها ظاهر

(١٠) مرافق البيت : ما يستعان به فيه ، وما يحتاج إليه فى التعيش ، خصوصا ما يكون من الأماكن ، أو هو ما يتم به الانتفاع بالسكنى كمصاب المياه والطرق الموصله إليه والأماكن التى لا بد منها للساكنين فيه لقضاء حاجاتهم وما يشبه ذلك

(١١) الأرض الجرز ـ بضمتين ـ التى تمر عليها مياه العيون فتنبت

١٧٤

العيون عن روابيها (١) ولا تجد جداول الأنهار ذريعة إلى بلوغها (٢) حتّى أنشأ لها ناشئة سحاب تحيى مواتها (٣) وتستخرج نباتها ، ألّف غمامها بعد افتراق لمعه (٤) وتباين قزعه (٥) حتّى إذا تمخّضت لجّة المزن فيه (٦) والتمع برفه فى كففه (٧) ، ولم ينم وميضه فى كنهور ربابه (٨) ومتراكم سحابه ، أرسله سحّا متداركا (٩) ، قد أسفّ هيدبه (١٠) تمريه الجنوب درر أهاضيبه ودفع شآبيبه (١١)

__________________

(١) مرتفعاتها

(٢) ذريعة : وسيلة

(٣) الموات من الأرض : ما لا يزرع

(٤) جمع لمعة ـ بضم اللام ـ وهى فى الأصل القطعة من النبات مالت لليبس ، استعارها لقطع السحاب للمشابهة فى لونها وذهابها إلى الاضمحلال ، لو لا تأليف اللّه لها مع غيرها

(٥) جمع قزعة ـ محركة ـ وهى : القطعة من الغيم

(٦) تمخضت : تحركت تحركا شديدا كما يتحرك اللبن فى السقاء بالمخض ، والضمير فى «فيه» راجع إلى المزن ، أى : تحركت اللجة التى يحملها المزن فيه ، ويصح أن يرجع للغمام فى أول العبارة

(٧) جمع كفة ـ بضم الكاف ـ وهى الحاشية والطرف لكل شىء ، أى : جوانبه

(٨) نامت النار : همدت ، والوميض : اللمعان ، والكنهور ـ كسفرجل ـ القطع العظيمة من السحاب ، أو المتراكم منه. والرباب ـ كسحاب ـ الأبيض المتلاحق منه. أى : لم يهمد لمعان البرق فى ركام هذا الغمام

(٩) سحا : متلاحقا متواصلا

(١٠) أسف الطائر : دنا من الأرض ، والهيدب ـ كجعفر ـ السحاب المتدلى ، أو ذيله. وقوله «تمريه» من «مرى الناقة» أى : مسح على ضرعها ليحلب لبنها. والدرر ـ كعلل ـ جمع درة ـ بالكسر ـ وهى اللبن ، والأهاضيب : جمع أهضاب ، وهو جمع هضبة ـ كضربة ـ وهى المطرة ، أى : دنا السحاب من الأرض لثقله بالماء ، وريح الجنوب تستدر الماء كما يستدر الحالب لبن الناقة ، فان الريح تحركه فيصب ما فيه

(١١) جمع شؤبوب ، وهو ما ينزل من المطر بشدة

١٧٥

فلمّا ألقت السّحاب برك بوانيها (١) ، وبعاع ما استقلّت به (٢) من العبء المحمول عليها (٣) أخرج به من هوامد الأرض النّبات (٤) ومن زعر الجبال الأعشاب (٥) فهى تبهج بزينة رياضها (٦) وتزدهى (٧) بما ألبسته من ريط (٨) أزاهيرها (٩) وحلية ما سمطت به (١٠) من ناضر أنوارها (١١) وجعل ذلك بلاغا للأنام (١٢) ورزقا للأنعام ، وخرق العجاج فى آفاقها ، وأقام المنار للسّالكين على جوّاد طرقها ،

__________________

(١) البرك ـ بالفتح ـ فى الأصل : ما يلى الأرض من جلد صدر البعير كالبركة ، والبوانى : هى أضلاع الزور ، وشبه السحاب بالناقة إذا بركت وضربت بعنقها على الأرض ولاطمتها بأضلاع زورها. واشتبه ابن أبى الحديد فى معنى البرك والبوانى فأخرج الكلام عن بلاغته

(٢) «وبعاع» عطف على «برك» والبعاع ـ بالفتح ـ : ثقل السحاب من الماء ، وألقى السحاب بعاعة : أمطر كل ما فيه.

(٣) العبء : الحمل

(٤) الهوامد من الأرض : ما لم يكن بها نبات

(٥) زعر ـ بالضم ـ جمع أزعر ، وهو الموضع : القليل النبات. والأنثى زعراء

(٦) بهج ـ كمنع ـ : سر وأفرح

(٧) تعجب

(٨) جمع ريطة ـ بالفتح ـ وهى كل ثوب رقيق لين

(٩) جمع أزهار الذى هو جمع زهرة بمعنى النبات

(١٠) «سمط» من «سمط الشىء» أى : علق عليه السموط ، وهى : الخيوط تنظم فيها القلادة

(١١) الأنوار : جمع نور ـ بفتح النون ـ وهو الزهر بالمعنى المعروف أى : حلية القلائد التى علقت عليها من أزهار نباتها ، وفى رواية «شمطت» بالشين وتخفيف الميم ـ من «شمطه» إذا خلط لونه بلون آخر ، والشميط من النبات : ما كان فيه لون الخضرة مختلطا بلون الزهر

(١٢) البلاغ : ما يتبلغ به من القوت

١٧٦

فلمّا مهد أرضه (١) ، وأنفذ أمره ، اختار آدم ، عليه السّلام ، خيرة من خلقه (٢) وجعله أوّل جبلّته (٣) وأسكنه جنّته ، وأرغد فيها أكله وأوعز إليه فيما نهاه عنه ، وأعلمه أنّ فى الاقدام عليه التّعرّض لمعصيته ، والمخاطرة بمنزلته فأقدم على ما نهاه عنه ـ موافاة لسابق علمه ـ فأهبطه بعد التّوبة ، ليعمر أرضه بنسله ، وليقيم الحجّة به على عباده ، ولم يخلهم بعد أن قبضه ، ممّا يؤكّد عليهم حجّة ربوبيّته ، ويصل بينهم وبين معرفته ، بل تعاهدهم بالحجج على ألسن الخيرة من أنبيائه ومتحمّلى ودائع رسالاته ، قرنا ، فقرنا ، حتّى تمّت بنبيّنا محمّد صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ـ حجّته ، وبلغ المقطع عذره ونذره (٤) ، وقدّر الأرزاق فكثّرها وقلّلها وقسّمها على الضّيق والسّعة فعدل فيها ليبتلى من أراد بميسورها ومعسورها ، وليختبر بذلك الشّكر والصّبر من غنيّها وفقيرها ، ثمّ قرن بسعتها عقابيل فاقتها (٥) وبسلامتها طوارق آفاتها ، وبفرج أفراحها (٦)

__________________

(١) مهد أرضه : سواها وأصلحها ، ومنه المهاد ، وهو الفراش ، وتقول : مهدت الفراش ـ من باب قطع ـ أى : بسطته وسويته

(٢) يجوز فى خيرة أن تكون بكسر الخاء وفتح الياء ـ بوزان عنبة ـ وهو الاسم من قولك : اختار اللّه محمّدا ، ويجوز أن تكون بكسر الخاء والياء ساكنة

(٣) خلقته

(٤) المقطع : النهاية التى ليس وراءها غاية

(٥) العقابيل : الشدائد. جمع عقبولة ـ بضم العين ـ وأصل العقابيل قروح صغار تخرج بالشفة من آثار المرض ، والفاقة : الفقر

(٦) الفرج : جمع فرجة ، وهى التفصى من الهم (١٢ ـ ن ـ ج ـ ١)

١٧٧

غصص أتراحها (١) وخلق الآجال فأطالها وقصّرها ، وقدّمها وأخّرها ، ووصل بالموت أسبابها (٢) وجعله خالجا لأشطانها (٣) ، وقاطعا لمرائر أقرانها (٤) عالم السّرّ من ضمائر المضمرين ، ونجوى المتخافتين (٥) وخواطر رجم الظّنون (٦) وعقد عزيمات اليقين (٧) ومسارق إيماض الجفون (٨) وما ضمنته أكنان القلوب وغيابات الغيوب (٩) وما أصغت لاستراقه مصائخ الأسماع (١٠)

__________________

(١) جمع ترح ـ بالتحريك ـ وهو : الغم والهلاك

(٢) حبالها

(٣) خالجا : جاذبا لأشطانها جمع شطن ـ كسبب ـ وهو الحبل الطويل ، شبه به الأعمار الطويلة

(٤) المرائر : جمع مريرة ، وهو الحبل يفتل على أكثر من طاق ، أو الشديد الفتل ، والأقران : جمع قرن ـ بالتحريك ـ وهو الحبل يجمع به بعيران وذكره لقوته أيضا ، وإضافة المرائر للأقران بعد استعمالها فى الشديدة بلا قيد أن تكون حبالا.

(٥) التخافت : المكالمة سرا

(٦) رجم الظنون : ما يخطر على القلب أنه وقع أو يصح أن يقع بلا برهان

(٧) العقد : جمع عقدة ، وهو ما يرتبط القلب بتصديقه : لا يصدق نقيضه ، ولا يتوهمه. والعزيمات : جمع عزيمة ، وهو ما يوجب البرهان الشرعى أو العقلى تصديقه والعمل به.

(٨) جمع مسرق : مكان مسارقة النظر أو زمانها ، أو البواعث عليها ، أو من «فلان يسارق فلانا النظر» ، أى : ينتظر منه غفلة فينظر إليه. والايماض : اللمعان ، وهو أحق أن ينسب إلى العيون لا إلى الجفون ، ونسبته إلى الجفون لأنه ينبعث من بينها

(٩) ضمنته : حوته ، والأكنان : جمع كن ـ بالكسر ـ وهو كل ما يستتر فيه ، وغيابات الغيوب : أعماقها

(١٠) استراق الكلام : استماعه خفية ، والمصائخ : جمع مصاخ ، وهو مكان الاصاخة ، وهو ثقبة الأذن

١٧٨

ومصائف الذّرّ (١) ومشاتى الهوامّ (٢) ورجع الحنين من المولهات (٣) وهمس الأقدام (٤) ومنفسح الثّمرة من ولائج غلف الأكمام (٥) ومنقمع الوحوش من غيران الجبال وأوديتها (٦) ، ومختبإ البعوض بين سوق الأشجار وألحيتها (٧) ومغرز الأوراق من الأفنان (٨) ومحطّ الأمشاج من مسارب الأصلاب (٩) وناشئة الغيوم ومتلاحمها ، ودرور قطر السّحاب فى متراكمها ، وما تسفى الأعاصير بذيولها (١٠) وتعفو الأمطار بسيولها (١١) وعوم نبات الأرض فى

__________________

(١) الذر : صغار النمل ، ومصائفها : محل إقامتها فى الصيف ، وهو وما بعده عطف على ضمائر المضمرين

(٢) مشاتيها : محل إقامتها فى الشتاء

(٣) المولهات : الحزينات ، ورجع الحنين : ترديده

(٤) الهمس : أخفى ما يكون من صوت القدم على الأرض

(٥) منفسح الثمرة : مكان نموها ، من الولائج : جمع وليجة ، بمعنى البطانة الداخلية. والغلف : جمع غلاف. والأكمام جمع كم ـ بالكسر ـ وهو غطاء النوار ووعاء الطلع

(٦) منقمع الوحوش : موضع انقماعها ـ أى : اختفائها ـ والغيران : جمع غار

(٧) سوق : جمع ساق ، وهو أسفل الشجرة تقوم عليه فروعها ، والألحية : جمع لحاء ، وهو قشر الشجرة

(٨) الغصون

(٩) الأمشاج النطف : جمع مشيج ـ مثل يتيم وأيتام ـ وأصله مأخوذ من «مشج» إذا خلط ، لأنها مختلطة من جراثيم مختلفة كل منها يصلح لتكوين عضو من أعضاء البدن. ومسارب الأصلاب : جمع مسرب ، وهى : ما يتسرب المنى فيها عند نزوله أو عند تكونه

(١٠) سفت الريح التراب : ذرته أو حملته ، والأعاصير : جمع إعصار ، وهى ريح تثير السحاب أو تقوم على الأرض كالعمود

(١١) تعفو : تمحو

١٧٩

كثبان الرّمال (١) ، ومستقرّ ذوات الأجنحة بذرى شناخيب الجبال (٢) ، وتغريد ذوات المنطق فى دياجير الأوكار (٣) ، وما أوعبته الأصداف (٤) وحضنت عليه أمواج البحار (٥) وما غشيته سدفة ليل (٦) أو ذرّ عليه شارق نهار (٧) ، وما اعتقبت عليه أطباق الدّياجير (٨) وسبحات النّور. وأثر كلّ خطوة ، وحسّ كلّ حركة ، ورجع كلّ كلمة ، وتحريك كلّ شفة ، ومستقرّ كلّ نسمة ، ومثقال كلّ ذرّة ، وهماهم كلّ نفس هامّة (٩) وما عليها من ثمر شجرة (١٠) أو ساقط ورقة ، أو قرارة نطفة (١١) أو نقاعة دم ومضغة (١٢) أو ناشئة خلق وسلالة ، لم يلحقه فى ذلك كلفة ، ولا اعترضته فى حفظ ما ابتدعه من خلقه

__________________

(١) الكثبان : جمع كثيب ، وهو التل

(٢) الذرى : جمع ذروة ، وهى أعلى الشىء ، والشناخيب : رءوس الجبال واحدها شنخوب أو شنخوبة كعصفور وعصفورة

(٣) تغريد الطائر : رفع صوته بالغناء ، وهو نطقه ، والدياجير : جمع ديجور ، وهو الظلمة

(٤) أوعبته : جمعته

(٥) حضنت عليه : ربته فتولد فى حضنها ، كالعنبر ونحوه

(٦) سدفة : ظلمة

(٧) ذر : طلع

(٨) اعتقبت : تعاقبت وتوالت ، والأطباق : الأغطية ، والدياجير : الظلمات ، وسبحات النور : درجاته وأطواره

(٩) هماهم : هموم ، مجاز من الهمهمة : وهى ترديد الصوت فى الصدر من الهم

(١٠) «عليها» أى : على الأرض

(١١) قرارتها : مقرها.

(١٢) نقاعة : عطف على نطفة ، ونقاعة الدم : ما ينقع منه فى أجزاء البدن ، والمضغة عطف على نقاعة ، أى : يعلم مقر جميع ذلك

١٨٠