نهج البلاغة - ج ١

محمد عبده

نهج البلاغة - ج ١

المؤلف:

محمد عبده


المحقق: محمّد محيى الدين عبد الحميد
الموضوع : الحديث وعلومه
المطبعة: مطبعة الإستقامة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٤٠

وعلقة محاقا ، وجنينا وراضعا ، ووليدا ويافعا ، ثمّ منحه قلبا حافظا ، ولسانا لافظا ، ليفهم معتبرا ، ويقصّر مزدجرا ، حتّى إذا قام اعتداله ، واستوى مثاله (١) نفر مستكبرا ، وخبط سادرا (٢) ماتحا فى غرب هواه (٣) كادحا سعيا لدنياه ، فى لذّات طربه ، وبدوات أربه ، لا يحتسب رزيّة (٤) ولا يخشع تقيّة ، فمات فى فتنته غريرا ، وعاش فى هفوته يسيرا ، لم يفد (٥) عوضا ، ولم يقض مفترضا ، دهمته (٦) فجعات المنيّة فى غبّر جماحه ، وسنن مراحه ،

__________________

ممتلئة من جراثيم الحياة ، و «علقة محافا» أى : خفى فيها ومحق كل شكل وصورته ، والجنين : الولد بعد تصويره ما دام فى بطن أمه ، واليافع : الغلام راهق العشرين ، وأصل اليافع المرتفع ، ويقال : أيفع فهو يافع ، وهذا من النوادر ، ومثله أمحلت الأرض فهى ماحل ، ويقصر : يكف عن الرذائل ممتنعا عنها بالعقل والروية

(١) «استوى مثاله» أى : بلغت قامته حد ما قدر لها من النمو

(٢) خبط البعير : إذا ضرب بيديه الأرض لا يتوقى شيئا ، والسادر : المتحير والذى لا يهتم ولا يبالى ما صنع

(٣) متح الماء : نزعه وهو فى أعلى البئر ، والماتح الذى ينزل البئر إذا قل ماؤها فيملأ الدلو ، والغرب : الدلو العظيمة ، أى : لا يستقى إلا من الهوى ، والكدح : شدة السعى ، والبدوات : جمع بدأة وهى ما بدا من الرأى ، أى : ذاهبا فيما يبدو له من رغائبه ، غير متقيد بشريعة ، ولا ملتزم صدور فضيلة

(٤) «لا يحتسب رزية» أى : لا يظنها ، ولا يفكر فى وقوعها ، ولا يخشع من التقية والخوف من اللّه تعالى ، وغريرا ـ براءين مهملتين ـ أى : مغرورا ، ويروى «عزيزا» ـ بمعجمتين ـ أى : شابا ، وهى رواية ضعيفة غير ملائمة سياق النظم و «عاش فى هفوته ـ الخ» : عاش فى أخطائه وخطيئاته الناشئة عن الخطأ فى تقدير العواقب زمنا يسيرا ، وهو مدة الأجل. ويروى «أسيرا»

(٥) «لم يفد» أى : لم يستفد ثوابا

(٦) دهمته : غشيته ، وغبر ـ بضم فتشديد ـ

١٤١

فظلّ سادرا (١) وبات ساهرا ، فى غمرات الآلام ، وطوارق الأوجاع والأسقام بين أخ شقيق ، ووالد شفيق ، وداعية بالويل جزعا ، ولادمة للصّدر قلقا (٢) والمرء فى سكرة ملهية ، وغمرة كارثة (٣) وأنّة موجعة ، وجذبة مكربة ، وسوقة متعبة. ثمّ أدرج فى أكفانه مبلسا (٤) وجذب منقادا سلسا ، ثمّ ألقى على الأعواد رجيع وصب (٥) ونضو سقم ، تحمله حفدة الولدان (٦) وحشدة الإخوان ، إلى دار غربته ، ومنقطع زورته (٧) حتّى إذا انصرف المشيّع ، ورجع المتفجّع ، أقعد فى حفرته نجيّا لبهتة السّؤال ، وعثرة (٨) الامتحان ، وأعظم

__________________

جمع غابر ، أى : باق ، أى : فى بقايا تعنته على الحق ، وعدم انقياده له ، والسنن : الطريقة ، والمرح : شدة الفرح والبطر

(١) «ظل سادرا» أى : جائرا ، وذلك بعد ما غشيته فجعات المنية ، وهى عوارض الأمراض المهلكة التى تفضى إلى الموت

(٢) اللادمة : الضاربة

(٣) الغمرة : الشدة تحيط بالعقل والحواس ، والكارثة القاطعة للآمال ، أو من «كرثه الغم» إذا اشتد عليه ، والأنة ـ بفتح فتشديد ـ الواحدة من الأن ، أى : التوجع ، و «جذبة مكربة» أى : جذبات الأنفاس عند الاحتضار ، والسوقة : من ساق المريض نفسه عند الموت سوقا وسياقا ، وسيق ـ على المجهول ـ أسرع فى نزع الروح

(٤) أبلس يبلس : يئس ، فهو مبلس ، و «سلسا» أى : سهلا لعدم قدرته على الممانعة

(٥) الرجيع من الدواب : ما رجع به من سفر إلى سفر فكل ، والوصب : التعب ، ونضو ـ بالكسر ـ مهزول

(٦) الحفدة : الأعوان ، والحشدة : المسارعون فى التعاون

(٧) منقطع الزورة : حيث لا يزار

(٨) النجى : من تحادثه سرا ، والميت لا يسمع كلامه سوى الملائكة المكلمين له ، وبهتة السؤال : حيرته

١٤٢

ما هنالك بليّة نزول الحميم (١) ، وتصلية الجحيم ، وفورات السّعير ، وسورات الزّفير ، لا فترة مريحة (٢) ولا دعة مزيحة ، ولا قوّة حاجزة ، ولا موتة ناجزة ، ولا سنة مسلية ، بين أطوار الموتات (٣) وعذاب السّاعات!! إنّا باللّه عائذون. عباد اللّه ، أين الّذين عمّروا فنعموا (٤) وعلّموا ففهموا ، وأنظروا فلهوا (٥) وسلموا فنسوا (٦)؟ أمهلوا طويلا ، ومنحوا جميلا ، وحذّروا أليما ، ووعدوا جسيما!! احذروا الذّنوب المورّطة ، والعيوب المسخطة (٧) أولى الأبصار والأسماع ، والعافية والمتاع! هل من مناص ، أو خلاص

__________________

(١) الحميم فى الأصل : الماء الحار ، والتصلية : الاحراق. والمراد هنا دخول جهنم ، والسورة : الشدة ، والزفير : صوت النار عند توقدها

(٢) الفترة : السكون ، أى : لا يفتز العذاب حتى يستريح المعذب من الألم ، ولا تكون دعة ـ أى : راحة حتى تزيح ما أصابه من التعب ، وليست قوه تحجز عنه ، وترد غواشى العذاب ، ولا بموته يجد موتة حاضرة تذهب باحساسه عن الشعور بتلك الآلام ، والناجز : الحاضر ، والسنة ـ بالكسر ـ والتخفيف ـ أوائل النوم ، مسلية ملهية عن الألم

(٣) «أطوار الموتات ـ الخ» كل نوبة من نوب العذاب كأنها موت لشدتها ، وأطوار هذه الموتات : ألوانها ، وأنواعها

(٤) «عمروا ـ الخ» عاشوا فتنعموا

(٥) أمهلوا فألهاهم المهل عن العمل ، وذلك بعد أن علموا ففهموا ، وكان مقتضى الفهم أن لا يغتروا بالمهلة ، ويضيعوا الفرصة

(٦) سلمت عاقباتهم وأرزاقهم فنسوا نعمة اللّه فى السلامة.

(٧) المورطة : المهلكة

١٤٣

أو معاذ ، أو ملاذ ، أو فرار ، أو محار؟ (١) أم لا؟ فأنّى تؤفكون (٢)! أم أين تصرفون؟ أم بما ذا تغترّون؟ وإنّما حظّ أحدكم من الأرض ذات الطّول والعرض قيد قدّه (٣) متعفّرا على خدّه. الآن عباد اللّه والخناق مهمل (٤) والرّوح مرسل ، فى فينة الإرشاد (٥) وراحة الأجساد ، وباحة الاحتشاد (٦) ومهل البقيّة ، وأنف المشيّة (٧) وإنظار التّوبة ، وانفساح الحوبة (٨) قبل الضّنك والمضيق ، والرّوع والزّهوق (٩) وقبل قدوم الغائب المنتظر (١٠) وأخذة العزيز المقتدر. قال الشريف : وفى الخبر أنه لما خطب بهذه الخطبة اقشعرت لها الجلود ، وبكت العيون ، ورجفت القلوب. ومن الناس من يسمى هذه الخطبة «الغراء»

__________________

(١) «محار» أى : مرجع إلى الدنيا بعد فراقها

(٢) تؤفكون : تقلبون ، أى : تنقلبون

(٣) قيد قده ـ بكسر القاف وفتحها من الثانى ـ مقدار طوله ، يريد مضجعه من القبر

(٤) الخناق : الحبل الذى يخنق به ، وإهماله : عدم شده على العنق مدى الحياة ، أى : وأنتم فى قدرة من العمل وسعة من الأمل

(٥) الفينة ـ بالفتح ـ الحال والساعة والوقت ويروى «فينة الارتياد» بمعنى الطلب

(٦) باحة الدار : ساحتها ، والاحتشاد : الاجتماع ، أى : أنتم فى ساعة يسهل عليكم فيها التعاون على البر بالاجتماع بعضكم على بعض

(٧) أنف ـ بضمتين ـ مستأنف المشيئة ، أى : لو أردتم استئناف مشيئة وإرادة حسنة لأمكنكم

(٨) الحوبة : الحالة أو الحاجة

(٩) الروع : الخوف ، والزهوق الاضمحلال

(١٠) الغائب المنتظر : الموت

١٤٤

٨٢ ـ ومن كلام له عليه السّلام

فى ذكر عمرو بن العاص

عجبنا لابن النّابغة (١) يزعم لأهل الشّام أنّ فىّ دعابة (٢) وأنّى امرؤ تلعابة : أعافس وأمارس (٣) لقد قال باطلا ، ونطق آثما. أما ، وشرّ القول الكذب إنّه ليقول فيكذب ، ويعد فيخلف ، ويسأل فيلحف (٤) ويسأل فيبخل ، ويخون العهد ، ويقطع الإلّ (٥) فإذا كان عند الحرب فأىّ زاجر وآمر هو؟؟!! ما لم تأخذ السّيوف مآخذها (٦) فإذا كان ذلك كان أكبر مكيدته أن يمنح القرم سبّته (٧) أما واللّه إنّى ليمنعنى من اللّعب ذكر الموت ، وإنّه ليمنعه من قول الحقّ نسيان الآخرة ، إنّه لم يبايع معاوية حتّى شرط أن يؤتيه أتيّة ، ويرضخ له على ترك الدّين رضيخة (٨)

__________________

(١) النابغة : المشهورة فيما لا يليق بالنساء ، من «نبغ» إذا ظهر

(٢) الدعابة ـ بالضم ـ المزاح واللعب ، وتلعابة ـ بالكسر ـ كثير اللعب

(٣) أعافس : أعالج الناس وأضاربهم مزاحا ، ويقال : المعافسة : معالجة النساء بالمغازلة ، والممارسة كالمعافسة

(٤) «فيلحف» أى : يلح «ويسأل» هاهنا مبنى للفاعل و «يسأل» فى الجملة بعدها مبنى للمفعول

(٥) الال ـ بالكسر ـ القرابة ، والمراد أنه يقطع الرحم

(٦) أى : إنه فى الحرب زاجر وآمر عظيم ، أى : محرض حاث. ما لم تأخذ السيوف مآخذها ، فعند ذلك يجبن كما قال «فاذا كان ذلك الخ»

(٧) السبة ـ بالضم ـ الاست. تقريع له بفعلته عند ما نازل أمير المؤمنين فى واقعة صفين ، فصال عليه وكاد يضرب عنقه ، فكشف عورته ، فالتفت أمير المؤمنين عنه وتركه

(٨) الأتية : العطية ، ورضخ له : أعطاه قليلا ، والمراد

١٤٥

٨٣ ـ ومن خطبة له عليه السّلام

وأشهد أن لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له : الأوّل لا شىء قبله ، والآخر لا غاية له ، لا تقع الأوهام له على صفة ، ولا تقعد القلوب منه على كيفيّة (١) ولا تناله التّجزئة والتّبعيض ، ولا تحيط به الأبصار والقلوب

منها : فاتّعظوا عباد اللّه بالعبر النّوافع ، واعتبروا بالآى السّواطع (٢) وازدجروا بالنّذر البوالغ (٣) وانتفعوا بالذّكر والمواعظ ، فكأن قد علقتكم مخالب المنيّة ، وانقطعت منكم علائق الأمنيّة ، ودهمتكم مفظعات الأمور (٤) والسّياقة إلى الورد المورود (٥) وكلّ نفس معها سائق وشهيد : سائق يسوقها إلى محشرها ، وشاهد يشهد عليها بعملها

ومنها فى صفة الجنة :

درجات متفاضلات ، ومنازل متفاوتات ، لا ينقطع نعيمها ، ولا يظعن

__________________

(١٠ ـ ن ـ ج ـ ١) بالأتية والرضيخة ولاية مصر

(١) تقعد : مجاز عن استقرار حكمها ، أى : ليست له كيفية فتحكم بها.

(٢) الآى : جمع آية ، وهى الدليل. والسواطع : الظاهرة الدلالة

(٣) البوالغ : جمع البالغة غاية البيان لكشف عواقب التفريط. والنذر : جمع نذير ، بمعنى الانذار ، أو المخوف ، والمراد إنذار المنذرين

(٤) المفظعات : من «أفظع الأمر» إذا اشتد ، ويقال : أفظع الرجل ـ مبنيا للمجهول ـ إذا نزلت به الشدة

(٥) الورد ـ بالكسر ـ الأصل فيه الماء يورد للرى ، والمراد به الموت أو المحشر

١٤٦

مقيمها ، ولا يهرم خالدها ، ولا يبأس ساكنها (١)

٨٤ ـ ومن خطبة له عليه السّلام

قد علم السّرائر ، وخبر الضّمائر ، له الإحاطة بكلّ شىء ، والغلبة لكلّ شىء ، والقوّة على كلّ شىء. فليعمل العامل منكم فى أيّام مهله. قبل إرهاق أجله (٢) ، وفى فراغه قبل أوان شغله ، وفى متنفّسه قبل أن يؤخذ بكظمه (٣) وليمهّد لنفسه وقدومه ، وليتزوّد من دار ظعنه لدار إقامته ، فاللّه اللّه ، أيّها النّاس ، فيما استحفظكم من كتابه ، واستودعكم من حقوقه ، فإنّ اللّه ، سبحانه لم يخلقكم عبثا ، ولم يترككم سدى ، ولم يدعكم فى جهالة ولا عمى : قد سمّى

__________________

(١) بئس ـ كسمع ـ اشتدت حاجته.

(٢) المهل ـ بفتحتين ـ المهلة والتؤدة ، والارهاق : مصدر «أرهق الرجل» تقول : «أرهقه قرنه فى الحرب» إذا غشيه ليقتله ، ومعنى «إرهاق الأجل» : أن يعجل المفرط عن تدارك ما فاته من العمل ، أى : يحول بينه وبينه والكلام من اول قوله «فليعمل العامل» إلى قوله «لدار إقامته» مأخوذ من قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فى خطبته المشهورة ، وهى «أيها الناس ، إن لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم ، وإن لكم غاية فانتهوا إلى غايتكم ، إن المؤمن بين مخافتين : بين أجل قد مضى لا يدرى ما اللّه صانع به ، وأجل قد بقى لا يدرى ما اللّه قاض فيه ، فليأخذ العبد من نفسه لنفسه ، ومن دنياه لآخرته ، ومن الشبيبة قبل الهرم ، ومن الحياة قبل الموت ، فو الذى نفس محمد بيده ما بعد الموت من مستعتب ، وما بعد الدنيا من دار ، إلا الجنة أو النار»

(٣) «فى متنفسه» أى : فى سعة وقته ، يقال : «أنت فى متنفس؟؟؟ من أمرك» أى : فى سعة. والكظم ـ بالتحريك ـ الحلق ، أو مخرج النفس ، والأخذ بالكظم : كناية عن التضييق عند مداركة الأجل

١٤٧

آثاركم (١) وعلّم أعمالكم ، وكتب آجالكم ، وأنزل عليكم الكتاب تبيانا لكلّ شىء ، وعمّر فيكم نبيّه أزمانا (٢) حتّى أكمل له ولكم ـ فيما أنزل من كتابه ـ دينه الّذى رضى لنفسه ، وأنهى إليكم ، على لسانه ، محابّه من الأعمال ومكارهه (٣) ونواهيه وأوامره ، فألقى إليكم المعذرة ، واتّخذ عليكم الحجّة ، وقدّم إليكم بالوعيد ، وأنذركم بين يدى عذاب شديد ، فاستدركوا بقيّة أيّامكم ، واصبروا لها أنفسكم (٤) ، فإنّها قليل فى كثير الأيّام الّتى تكون منكم فيها الغفلة والتّشاغل عن الموعظة ، ولا ترخّصوا لأنفسكم فتذهب بكم الرّخص فيها مذاهب الظّلمة (٥) ولا تداهنوا فيهجم بكم (٦) الإدهان على المصيبة.

__________________

(١٠ ـ ن ـ ج ـ ١) بالأتية والرضيخة ولاية مصر

(١) بين لكم أعمالكم وحددها

(٢) عمر نبيه : مد فى أجله

(٣) محابه : مواضع حبه ، وهى الأعمال الصالحة

(٤) «اصبروا أنفسكم» اجعلوا لأنفسكم صبرا فيها ، وهو مأخوذ من قوله تعالى : «وَاِصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدٰاةِ وَاَلْعَشِيِّ» ويقال : «صبر فلان نفسه على كذا» أى : حبسها عليه ، يتعدى فينصب بنفسه

(٥) الظلمة : جمع ظالم ، وقد نهى عن الأخذ برخص المذاهب لأنه لا يجوز للواحد من العامة أن يقلد كلا من ائمة الهدى فيما خف وسهل من الأحكام الشرعية. وقد يكون مراده : لا تساهلوا أنفسكم فى ترك تشديد المعصية ، ولا تسامحوها وترخصوا لها فى ارتكاب الصغائر والمحقرات من الذنوب فتهجم بكم على الكبائر ، لأن من مرن على أمر تدرج من صغيرة إلى كبيرة ، فتسوء العاقبة ، وتقعوا فيما وقع فيه الظلمة من قبلكم

(٦) المداهنة : النفاق ، والمصانعة : إظهار خلاف ما فى الطوية ، والادهان : مثله وقال اللّه تعالى : «وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ»

١٤٨

عباد اللّه ، إنّ أنصح النّاس لنفسه أطوعهم لربّه ، وإنّ أغشّهم لنفسه أعصاهم لربّه ، والمغبون من غبن نفسه (١) والمغبوط من سلم له دينه (٢) والسّعيد من وعظ بغيره ، والشّقىّ من انخدع لهواه. واعلموا أنّ يسير الرّياء شرك (٣) ، ومجالسة أهل الهوى منساة للإيمان (٤) ومحضرة للشّيطان. جانبوا الكذب فإنّه مجانب للإيمان ، الصّادق على شرف منجاة وكرامة ، والكاذب على شفا مهواة ومهانة ، ولا تحاسدوا فإنّ الحسد يأكل الإيمان كما تأكل النّار الحطب ، ولا تباغضوا فإنّها الحالقة (٥) واعلموا أنّ الأمل يسهى العقل ، وينسى الذّكر (٦) فأكذبوا الأمل فإنّه غرور ، وصاحبه مغرور.

٨٥ ـ ومن خطبة له عليه السّلام

عباد اللّه ، إنّ من أحبّ عباد اللّه إليه عبدا أعانه اللّه على نفسه فاستشعر

__________________

(١) المغبون : المخدوع

(٢) والمغبوط : المستحق لتطلع النفوس إليه ، والرغبة فى نيل مثل نعمته

(٣) الرياء : أن تعمل ليراك الناس ، وقلبك غير راغب فيه

(٤) «منساة للايمان» : موضع لنسيانه ، وداعية الذهول عنه ، و «محضرة للشيطان» : مكان لحضوره ، وداع له

(٥) «فانها» أى : المباغضة «الحالقة» أى الماحية لكل خير وبركة.

(٦) الأمل الذى يذهل العقل وينسى ذكر اللّه وأوامره ونواهيه : هو استقرار النفس على ما وصلت إليه غير ناظرة إلى تغير الأحوال ، ولا آخذة بالحزم فى الأعمال

١٤٩

الحزن ، وتجلبب الخوف ، (١) فزهر مصباح الهدى فى قلبه ، وأعدّ القرى ليومه النّازل به ، (٢) فقرّب على نفسه البعيد ، وهوّن الشّديد (٣) : نظر فأبصر ، وذكر فاستكثر ، (٤) وارتوى من عذب فرات سهلت له موارده فشرب نهلا ، (٥) وسلك سبيلا جددا ، (٦) قد خلع سرابيل الشّهوات ، وتخلّى من الهموم إلاّ همّا واحدا انفرد به (٧) فخرج من صفة العمى ، ومشاركة أهل الهوى ، وصار من مفاتيح أبواب الهدى ، ومغاليق أبواب الرّدى ، قد أبصر

__________________

(١) استشعر : لبس الشعار ، وهو ما يلى البدن من اللباس ، وتجلبب : لبس الجلباب ، وهو ما يكون فوق جميع الثياب ، والحزن : العجز عن الوفاء بالواجب ، أو قلبى لا يظهر له أثر فى العمل الظاهر. أما الخوف فيظهر أثره فى البعد عما يغضب اللّه ، والمبادرة للعمل فيما يرضيه ، وذلك أثر ظاهر ، وزهر مصباح الهدى : تلألأ وأضاء

(٢) القرى ـ بالكسر ـ : ما يهيأ للضيف ، وهو هنا العمل الصالح يهيئه للقاء الموت وحلول الأجل

(٣) جعل الموت على بعده قريبا منه فعمل له ولذلك هان عليه الصبر عن اللذائذ الفانية ، والأخذ بالجد فى إحراز الفضائل السامية ، وذلك هو الشديد

(٤) ذكر اللّه فاستكثر من العمل فى رضاه ، والعذب والفرات : مترادفان

(٥) النهل : أول الشرب ، والمراد أخذ حظا لا يحتاج معه إلى العمل ، وهو الشرب الثانى ، وقال ابن أبى الحديد : «يجوز أن يكون أراد بقوله نهلا المصدر من نهل ينهل نهلا ـ مثل طرب يطرب طربا ـ أى ، شرب حتى روى ، ويجوز أن يريد بالنهل الشرب الأول خاصة ، ويريد أنه اكتفى بما شربه أولا فلم يحتج إلى العلل» اه‍ ببعض إيضاح.

(٦) الجدد ـ بالتحريك ـ : الأرض الغليظة ، أى : الصلبة المستوية ، ومثلها يسهل السير فيه.

(٧) الهم الواحد : هو هم الوقوف عند حدود الشريعة.

١٥٠

طريقه ، وسلك سبيله ، وعرف مناره ، وقطع غماره (١) ، استمسك من العرى بأوثقها ، ومن الحبال بأمتنها ، فهو من اليقين على مثل ضوء الشّمس : قد نصب نفسه للّه ـ سبحانه ـ فى أرفع الأمور من إصدار كلّ وارد عليه ، وتصيير كلّ فرع إلى أصله (٢) مصباح ظلمات ، كشّاف عشاوات ، مفتاح مبهمات ، دفّاع معضلات (٣) ، دليل فلوات (٤) ، يقول فيفهم ، ويسكت فيسلم : قد أخلص اللّه فاستخلصه فهو من معادن دينه ، وأوتاد أرضه ، قد ألزم نفسه العدل ، فكان أوّل عدله نفى الهوى عن نفسه ، يصف الحقّ ويعمل به ، لا يدع للخير غاية إلاّ أمّها (٥) ، ولا مظنّة إلاّ قصدها (٦) ، قد أمكن الكتاب من زمامه (٧)

__________________

(١) جمع غمر ـ بالفتح ـ وهو معظم البحر ، والمراد أنه عبر بحار المهالك إلى سواحل النجاة

(٢) لأن من كان همه التزام حدود اللّه فى أوامره ونواهيه نفذت بصيرته إلى حقائق سر اللّه فى ذلك ، فصار من درجات العرفان بحيث لا يرد عليه أمر إلاّ أصدره على وجهه ، ولا يعرض له فرع إلا رده إلى أصله

(٣) عشاوات : جمع عشاوة ، وهى سوء البصر أو العمى ، أى : إنه يكشف عن ذوى العشاوات عشاواتهم. ويروى «عشوات» : جمع عشوة ـ بتثليث الأول ـ وهى الأمر الملتبس ، والمعضلات : الشدائد والأمور لا يهتدى لوجهها

(٤) الفلوات : جمع فلاة ، وهى الصحراء الواسعة ، مجاز عن مجالات العقول فى الوصول إلى الحقائق

(٥) أمها : قصدها

(٦) «مظنة» أى : موضع ظن لوجود الفائدة

(٧) الكتاب : القرآن ، وأمكنه من زمامه : تمثيل لانقياده لأحكامه ، كأنه مطية والكتاب يقوده إلى حيث شاء

١٥١

فهو قائده وإمامه ، يحلّ حيث حلّ ثقله (١) وينزل حيث كان منزله. وآخر قد تسمّى عالما وليس به (٢) فاقتبس جهائل من جهّال ، وأضاليل من ضلاّل ونصب للنّاس شركا من حبائل غرور ، وقول زور ، قد حمل الكتاب على آرائه ، وعطف الحقّ على أهوائه ، يؤمّن (٣) من العظائم ، ويهوّن كبير الجرائم يقول «أقف عند الشّبهات» وفيها وقع ، «وأعتزل البدع» وبينها اضطجع : فالصّورة صورة إنسان ، والقلب قلب حيوان ، لا يعرف باب الهدى فيتّبعه ولا باب العمى فيصدّ عنه ، فذلك ميّت الأحياء فأين تذهبون؟ وأنّى تؤفكون؟ (٤) والأعلام قائمة! والآيات واضحة! والمنار منصوبة! فأين يتاه بكم (٥) بل كيف تعمهون؟ وبينكم عترة نبيّكم ، وهم أزمّة الحقّ ، وأعلام

__________________

(١) ثقل المسافر ـ محركة ـ : متاعه وحشمه ، وثقل الكتاب : ما يحمل من أوامر ونواه

(٢) «وآخر ـ الخ» : هذا عبد آخر غير العبد الذى وصفه بالأوصاف السابقة ، يخالف فى وصفه وصفه ، واقتبس : استفاد. جهائل : جمع جهالة ، ويراد منها هنا تصور الشىء على غير حقيقة ، ولا يستفاد من الجهال إلا ذلك ، والأضاليل الضلالات ، جمع ضلال على غير قياس ، أو هو جمع أضلولة ، ويقال : لا واحد لها من لفظها وهو الأشهر ، والضلال ـ بضم فتشديد ـ : جمع ضال

(٣) «عطف الحق ـ الخ» : حمل الحق على رغباته ، أى : لا يعرف حقا إلا إياها

(٤) تؤفكون : تقلبون وتصرفون ـ بالبناء للمجهول ـ والأعلام : الدلائل على الحق من معجزات ونحوها ، والمنار : جمع منارة ، والمراد هنا ما أقيم علامة على الخير والشر

(٥) يتاه بكم : من التيه بمعنى الضلال والحيرة ، وتعمهون : تتحيرون وعترة الرجل : نسله ورهطه

١٥٢

الدّين ، وألسنة الصّدق ، فأنزلوهم بأحسن منازل القرآن (١) وردوهم ورود الهيم العطاش (٢) أيّها النّاس ، خذوها من خاتم النّبيّين صلّى اللّه عليه وآله وسلّم : «إنّه يموت من مات منّا وليس بميّت (٣) ويبلى من بلى منّا وليس ببال» فلا تقولوا بما لا تعرفون ، فإنّ أكثر الحقّ فيما تنكرون (٤) واعذروا من لا حجّة لكم عليه ، وأنا هو ، ألم أعمل فيكم بالثّقل الأكبر (٥)؟ وأترك فيكم الثّقل الأصغر ، وركزت فيكم راية الإيمان ، ووقفتكم على حدود الحلال والحرام وألبستكم العافية من عدلى ، وفرشتكم المعروف من قولى وفعلى (٦) وأريتكم كرائم الأخلاق من نفسى ، فلا تستعملوا الرّأى فيما لا يدرك قعره البصر ، ولا تتغلغل إليه الفكر

__________________

(١) أى : أحلوا عترة النبى من قلوبكم محل القرآن من التعظيم والاحترام ، وإن القلب هو أحسن منازل القرآن

(٢) هلموا إلى بحار علومهم مسرعين كما تسرع الهيم ـ أى : الابل العطشى ـ إلى الماء

(٣) خذوا هذه القضية عنه ، وهى «إنه يموت الميت من أهل البيت وهو فى الحقيقة غير ميت» لبقاء روحه ساطعة النور فى عالم الظهور

(٤) الجاهل يستغمض الحقيقة فينكرها ، وأشد الحقائق دقائق

(٥) الثقل هنا : بمعنى النفيس من كل شىء ، وفى الحديث عن النبى قال : «تركت فيكم الثقلين : كتاب اللّه ، وعترتى» أى : النفيسين ، وأمير المؤمنين قد عمل بالثقل الأكبر ، وهو القرآن ، وترك الثقل الأصغر ـ وهو : ولداه ، ويقال : عترته ـ قدوة للناس

(٦) فرشتكم : بسطت لكم

١٥٣

منها : حتّى يظنّ الظّانّ أنّ الدّنيا معقولة على بنى أميّة (١) تمنحهم درّها وتوردهم صفوها ، ولا يرفع عن هذه الأمّة سوطها ، ولا سيفها ، وكذب الظّانّ لذلك : بل هى مجّة من لذيذ العيش (٢) يتطعّمونها برهة ، ثمّ يلفظونها جملة

٨٦ ـ ومن خطبة له عليه السّلام

أمّا بعد ، فإنّ اللّه لم يقصم جبّارى دهر قطّ (٣) إلاّ بعد تميّل ورخاء ، ولم يجبر عظم أحد من الأمم إلاّ بعد أزل وبلاء ، وفى (٤) دون ما استقبلتم من عتب ، وما استدبرتم من خطب ، معتبر! وما (٥) كلّ ذى قلب بلبيب ، ولا كلّ ذى سمع بسميع ، ولا كلّ ناظر ببصير ، فيا عجبى ـ وما لى لا أعجب ـ من خطإ

__________________

(١) مقصورة عليهم ، مسخرة لهم ، كأنهم شدوها بعقال كالناقة «تمنحهم درها» أى : لبنها

(٢) مجة ـ بضم الميم ـ واحدة المج ـ بضمها أيضا ـ وهى نقط العسل أى : قطرة عسل تكون فى أفواههم كما تكون فى فم النحلة يذوقونها زمانا ثم يقذفونها وهذا التفسير أفضل من تفسير المجة ـ بالفتح ـ بالواحدة من مصدر «مج الشراب من فيه» إذا رمى به

(٣) يقصم : يهلك ، وحد القصم الكسر

(٤) جبر العظم طبه بعد الكسر حتى يعود صحيحا ، والأزل ـ بالفتح ـ الشدة

(٥) العتب ـ بسكون التاء ـ يريد منه عتب الزمان ، مصدر «عتب عليه» إذا وجد عليه ، وإذا وجد الزمان على شخص اشتد عليه وقهره ، والأصح أنه بتحريك التاء : إما مفرد بمعنى الأمر الكريه والفساد ، أو جمع عتبة ـ بالتحريك ـ بمعنى الشدة. يقال : «ما فى هذا الأمر رتبة ولا عتبة» أى : شدة. أى : إنكم لجديرون أن تعتبروا بأقل من الشدة المقبلة عليكم بعد ضعف أمركم وأقل من الخطب العظيم الذى مر بكم ، فكيف بمثل هذه الأمور الجسام ، فأنتم أجدر أن تعتبروا بها؟؟

١٥٤

هذه الفرق على اختلاف حججها فى دينها! لا يقتصّون أثر نبيّ ، ولا يقتدون بعمل وصىّ ، ولا يؤمنون بغيب ، ولا يعفّون عن عيب (١) يعملون فى الشّبهات ويسيرون فى الشّهوات ، المعروف عندهم ما عرفوا ، والمنكر عندهم ما أنكروا (٢) ، مفزعهم فى المعضلات إلى أنفسهم ، وتعويلهم فى المهمّات على آرائهم ، كأنّ كلّ امرىء منهم إمام نفسه : قد أخذ منها فيما يرى بعرى ثقات وأسباب محكمات

٨٧ ـ ومن خطبة له عليه السّلام

أرسله على حين فترة من الرّسل ، وطول هجعة من الأمم ، واعتزام من الفتن (٣) ، وانتشار من الأمور ، وتلظّ من الحروب (٤) ، والدّنيا كاسفة النّور ظاهرة الغرور ، على حين اصفرار من ورقها (٥) ، وإياس من ثمرها ، واغورار

__________________

(١) ولا يعفون ـ بكسر العين وتشديد الفاء ـ من «عففت عن الشىء» إذا كففت عنه

(٢) أى : يستحسنون ما بدا لهم استحسانه ، ويستقبحون ما خطر لهم قبحه بدون رجوع إلى دليل بين. أو شريعة واضحة : يثق كل منهم بخواطر نفسه ، كأنه أخذ منها بالعروة الوثقى ، على ما بها من جهل ونقص

(٣) الفترة بين الرسل : انقطاع الرسالة والوحى. والهجعة ـ بفتح فسكون ـ النومة ليلا ، والهجوع والتهجاع بفتح التاء ـ كذلك ، فأما الهجعة ـ بكسر فسكون ـ فهى الهيئة كالجلسة من الجلوس «اعتزام» من قولهم «اعتزم الفرس» إذا مر جامحا ، أى : وغلبة من الفتن. ويروى «اعترام» بالراء المهملة من العرام ، وهو الشرة ، ويقال : اعترمت الفرس ، إذا سقطت ومالت ، ويروى «اعتراض» بالضاد المعجمة بدل الميم

(٤) و «تلظ» أى : تلهب وفى التنزيل «فَأَنْذَرْتُكُمْ نٰاراً تَلَظّٰى»

(٥) هذا وما بعده تمثيل لتغير الدنيا ، وإشرافها على الزوال ، ويأس الناس من التمتع بها أيام الجاهلية. واغورار الماء : ذهابه ، ويروى «إعوار مائها» بالمهملة ـ من قولهم «فلاة عوراء» أى : لا ماء بها

١٥٥

من مائها ، قد درست منار الهدى ، وظهرت أعلام الرّدى ، فهى متجهّمة لأهلها (١) عابسة فى وجه طالبها ، ثمرها الفتنة ، وطعامها الجيفة ، وشعارها الخوف ، ودثارها السّيف (٢). فاعتبروا ، عباد اللّه ، واذكروا تيك الّتى آباؤكم وإخوانكم بها مرتهنون (٣) وعليها محاسبون. ولعمرى ما تقادمت بكم ولا بهم العهود ، ولا خلت فيما بينكم وبينهم الأحقاب والقرون ، (٤) وما أنتم اليوم من يوم كنتم فى أصلابهم ببعيد. واللّه ما أسمعهم الرّسول شيئا إلاّ وها أنا ذا اليوم مسمعكموه ، وما أسماعكم اليوم بدون أسماعهم بالأمس ولا شقّت لهم الأبصار ، ولا جعلت لهم الأفئدة فى ذلك الأوان إلاّ وقد أعطيتم مثلها فى هذا الزّمان. واللّه ما بصرتم بعدهم شيئا جهلوه ، ولا أصفيتم

__________________

(١) من «تجهمه» أى : استقبله بوجه كريه

(٢) «ثمرها الفتنة» أى : ليست لها نتيجة سوى الفتن والجيفة : إشارة إلى أكل العرب للميتة من شدة الاضطرار ، والشعار من الثياب : ما يلى البدن ، والدثار : فوق الشعار. ولما كان الخوف يتقدم السيف كان الخوف شعارا والسيف دثارا ، وأيضا فالخوف باطن والسيف ظاهر

(٣) «تيك» إشارة إلى سيئات الأعمال وبواطل العقائد ، وقبائح العادات ، و «هم بها مرتهنون» أى : محبوسون على عواقبها فى الدنيا من الذل والضعف

(٤) الأحقاب : جمع حقب ـ بالضم وبضمتين ـ قيل : ثمانون سنة ، وقيل : أكثر ، وقيل : هو الدهر

١٥٦

به وحرموه (١) ولقد نزلت بكم البليّة جائلا خطامها (٢) رخوا بطانها ، فلا يغرّنّكم ما أصبح فيه أهل الغرور ، فانّما هو ظلّ ممدود ، إلى أجل معدود.

٨٨ ـ ومن خطبة له عليه السّلام

الحمد للّه المعروف من غير رؤية ، والخالق من غير رويّة (٣) ، الّذى لم يزل قائما دائما ، إذ لا سماء ذات أبراج ، ولا حجب ذات أرتاج (٤) ولا ليل داج ، ولا بحر ساج ، ولا جبل ذو فجاج ، ولا فجّ ذو اعوجاج ، ولا أرض ذات مهاد ، ولا خلق ذو اعتماد : ذلك مبتدع الخلق ووارثه (٥) وإله الخلق

__________________

(١) يريد أن حالهم كحال من سبقهم ، وأن من السابقين من اهتدى بهدى الرسول فنجا من سوء عاقبة ما كان فيه ، ومنهم من جهل فحل به من النكال ما حل ، والامام اليوم مع هؤلاء كما كان الرسول مع أولئك ، وحال السامعين فى المدارك كحال السابقين ، وليسوا هؤلاء مختصين بشىء حرمه أولئك ، ولا عالمين بأمر جهلوه ، «أصفيتم» أى : خصصتم ، مبنى للمجهول

(٢) الخطام ـ ككتاب ـ : ما جعل فى أنف البعير لينقاد به ، وجولان الخطام : حركته وعدم استقراره لأنه غير مشدود. والعبارة تصوير لانطلاق الفتنة تأخذ فيهم مآخذها : لا مانع لها ولا مقاوم ، وبطان البعير : حزام يجعل تحت بطنه ، ومتى استرخى كان الراكب على خطر السقوط

(٣) روية : فكر ، وإمعان نظر

(٤) الأرتاج : جمع رتج ـ بالتحريك ـ وهو الباب العظيم ، والداجى : المظلم ، والساجى : الساكن ، والفجاج : جمع فج ، وهو الطريق الواسع بين جبلين ، والمهاد ـ بزنة كتاب ـ الفراش. والخلق : بمعنى المخلوق و «ذو اعتماد» أى : بطش وتصرف بقصد وإرادة.

(٥) مبتدع الخلق : منشئه من العدم المحض ، ووارثه : الباقى بعده

١٥٧

ورازقه ، والشّمس والقمر دائبان فى مرضاته (١) : يبليان كلّ جديد ويقرّبان كلّ بعيد ، قسم أرزاقهم ، وأحصى آثارهم وأعمالهم ، وعدد أنفاسهم ، وخائنة أعينهم ، وما تخفى صدورهم من الضّمير (٢) ومستقرّهم ومستودعهم من الأرحام والظّهور ، إلى أن تتناهى بهم الغايات ، هو الّذى اشتدّت نقمته على أعدائه فى سعة رحمته واتّسعت رحمته لأوليائه فى شدّة نقمته ، قاهر من عازّه (٣) ومدمّر من شاقّه ، ومذلّ من ناوأه ، وغالب من عاداه ، ومن توكّل عليه كفاه ، ومن سأله أعطاه ، ومن أقرضه قضاه (٤) ، ومن شكره جزاه. عباد اللّه ، زنوا أنفسكم قبل أن توزنوا ، وحاسبوها من قبل أن تحاسبوا (٥) وتنفّسوا قبل ضيق الخناق ، وانقادوا قبل عنف السّياق (٦) واعلموا أنّه من

__________________

(١) دائبان : تثنية دائب ، وهو المجد المجتهد ، وصفهما بذلك لتعاقبهما على حال واحدة لا يفتران ولا يسكنان ، وذلك كما أراد اللّه سبحانه

(٢) «من الضمير» بيان لما تخفى الصدور ، وذلك أخفى من خائنة الأعين ، وهى : ما يسارق من النظر إلى ما لا يحل ، وتلك أخفى مما قبلها من الأرحام والظهور ، أى : فيها. أو تكون «من» للتبعيض ، أى : الجزء الذى كانوا فيه من أرحام الأمهات وظهور الآباء

(٣) عازه : رام مشاركته فى شىء من عزته ، وشاقه : نازعه ، وناوأه : خالفه

(٤) جعل تقديم العمل الصالح بمنزلة القرض ، والثواب عليه بمنزلة قضاء الدين ، إظهارا لتحقق الجزاء على العمل. قال تعالى : «مَنْ ذَا اَلَّذِي يُقْرِضُ اَللّٰهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضٰاعِفَهُ لَهُ أَضْعٰافاً كَثِيرَةً»

(٥) يقول : اعتبروا أعمالكم وأنتم مختارون قادرون على استدراك الفارط قبل أن يكون هذا الاعتبار فعل غيركم وأنتم لا تقدرون على استدراك ما يكون قد فرط منكم

(٦) العنف ـ بضم فسكون ـ ضد الرفق ، ويقال : عنف عليه ، وعنف به ـ من باب كرم فيهما ـ وأصل العنيف الذى لا رفق له بركوب الخيل ، وجمعه عنف ـ وتقول أيضا : اعتنفت الأمر ، إذا أخذته بقوة وعنف ، أى : انقادوا إلى ما يطلب منكم بالحث الرفيق قبل أن تساقوا إليه بالعنف الشديد

١٥٨

لم يعن على نفسه حتّى يكون له منها واعظ وزاجر لم يكن له من غيرها زاجر ولا واعظ (١)

٨٩ ـ ومن خطبة له عليه السّلام

تعرف بخطبة الأشباح ، وهى من جلائل خطبه عليه السّلام ، وكان سأله سائل أن يصف اللّه حتى كأنه يراه عيانا ، فغضب عليه السّلام لذلك الحمد للّه الّذى لا يفره المنع والجمود (٢) ، ولا يكديه الإعطاء والجود ، إذ كلّ معط منتقص سواه ، وكلّ مانع مذموم ما خلاه ، وهو المنّان بفوائد النّعم ، وعوائد المزيد والقسم ، عياله الخلق : ضمن أرزاقهم ، وقدّر أقواتهم ، ونهج سبيل الرّاغبين إليه ، والطّالبين ما لديه ، وليس بما سئل بأجود منه بما لم يسأل ، الأوّل الّذى لم يكن له قبل فيكون شىء قبله ، والآخر

__________________

(١) «من لم يعن» ـ مبنى للمجهول ـ أى : من لم يساعده اللّه على نفسه حتى يكون لها من وجدانها منبه لم ينفعه تنبيه غيره ، ويجوز أن يكون مبنيا للفاعل ، أى : من لم يعن الزواجر على نفسه ، والتذكير والاعتبار ، لم تؤثر فيه

(٢) لا يفره : لا يزيد ما عنده البخل والجمود ـ وهو أشد البخل ـ و «لا يكديه» أى : لا يفقره ، ولا ينفد خزائنه ، ويقال : كدت الأرض تكدى فهى كادية ، إذا أبطأ نبتها وقل خيرها ، وتقول : أكديت الأرض ، إذا جعلتها كادية ، ويقال : أكدى الرجل ، إذا قل خيره ، وفى التنزيل «وَأَعْطىٰ قَلِيلاً وَأَكْدىٰ»

١٥٩

الّذى ليس له بعد فيكون شىء بعده ، والرّادع أناسىّ الأبصار عن أن تناله أو تدركه (١) ما اختلف عليه دهر فيختلف منه الحال ، ولا كان فى مكان فيجوز عليه الانتقال ، ولو وهب ما تنفّست عنه معادن الجبال (٢) وضحكت عنه أصداف البحار ، من فلزّ اللّجين والعقيان (٣) ونثارة الدّرّ وحصيد المرجان ما أثّر ذلك فى جوده ، ولا أنفد سعة ما عنده ، ولكان عنده من ذخائر الإنعام ما لا تنفده مطالب الأنام (٤) ، لأنّه الجواد الّذى لا يغيضه سؤال السّائلين (٥) ولا يبخله إلحاح الملحّين. فانظر أيّها السّائل فما دلّك القرآن عليه من صفته فائتمّ به (٦) ، واستضئ بنور هدايته ، وما كلّفك الشّيطان علمه ممّا ليس فى

__________________

(١) أناسى : جمع إنسان ، وإنسان البصر : هو ما يرى وسط الحدقة ممتازا عنها فى لونها

(٢) أبدع الامام فى تسمية انفلاق المعادن عن الجواهر تنفسا ، فان أغلب ما يكون من ذلك ، بل كله ، عن تحرك المواد الملتهبة فى جوف الأرض إلى الخارج ، وهى فى تبخرها أشبه بالنفس ، كما أبدع فى تسمية انفتاح الصدف عن الدر ضحكا

(٣) الفلز ـ بكسر الفاء واللام ـ الجوهر النفيس ، واللجين : الفضة الخالصة ، والعقيان : ذهب ينمو فى معدنه ، ونثارة الدر ـ بالضم ـ منثوره ، وفعالة ـ بالضم ـ فاش كثير الورود فيما كان موضوعا للجيد المختار : كالخلاصة ، أو الساقط المتروك : كالقلامة ، وحصيد المرجان : محصوده يشير إلى أن المرجان نبات ، وقد حققته كاشفات الفنون جديدها وقديمها

(٤) أنفده : بمعنى أفناه ، ونفد ـ كفرح ـ أى : فنى

(٥) يغيض ـ بفتح حرف المضارعة ـ من «غاض» المتعدى يقال : غاض الماء لازما ، وغاضه اللّه متعديا. ويقال : أغاضه أيضا ، وكلاهما بمعنى أنقصه وأذهب ما عنده ، ويبخله ـ بالتخفيف ـ من «أبخلت فلانا» وجدته بخيلا. أما بخله ـ بالتشديد ـ فمعناه رماه بالبخل

(٦) «ائتم به» أى : اتبعه فصفه كما وصفه اقتداء به

١٦٠