نهج البلاغة - ج ١

محمد عبده

نهج البلاغة - ج ١

المؤلف:

محمد عبده


المحقق: محمّد محيى الدين عبد الحميد
الموضوع : الحديث وعلومه
المطبعة: مطبعة الإستقامة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٤٠

المسلمين ولم يكن فيها جور إلاّ علىّ خاصّة التماسا لأجر ذلك وفضله ، وزهدا فيما تنافستموه من زخرفه وزبرجه (١)

٧٣ ـ ومن كلام له عليه السّلام

لما بلغه اتهام بنى أمية له بالمشاركة فى دم عثمان

أولم ينه أميّة علمها بى عن قرفى (٢)؟ أوما وزع الجهّال سابقتى عن تهمتى! ولما وعظهم اللّه به أبلغ من لسانى (٣)! أنا حجيج المارقين (٤) وخصيم

__________________

(١) يقسم باللّه ليسلمن الأمر فى الخلافة لعثمان ما دام التسليم غير ضار بالمسلمين وحافظا لهم من الفتنة ، طلبا لثواب اللّه على ذلك ، وزهدا فى الأمرة التى تنافسوها ـ أى : رغبوا فيها ـ وإن كان فى ذلك جور عليه خاصة. وأصل الزخرف : الذهب وكذلك الزبرج ـ بكسرتين ، بينهما سكون ـ ثم أطلق على كل مموه مزور ، وأغلب ما يقال الزبرج على الزينة من وشى أو جوهر ، و «من زخرفه» ليس للبيان ، ولكن حرف الجر للتعليل ، أى : إن الرغبة إنما كان الباعث عليها الزخرف والزبرج ، ولو لا لزوم ذلك للامارة ما كان فيها التنافس

(٢) قرفه قرفا ـ بالفتح ـ : عابه ، و «علمها» فاعل «ينه» و «أمية» مفعول. أى : ألم يكن فى علم بنى أمية بحالى ومكانى من الدين والتحرج من سفك الدماء بغير حق ما ينهاهم عن أن يعيبونى بالاشتراك فى دم عثمان؟ خصوصا وقد علموا أنى كنت له لا عليه ، ومن أحسن الناس قولا فيه ، و «سابقته» حاله المعلومة لهم مما تقدم. ووزع بمعنى : كف ، والتهمة ـ بفتح الهاء بعد ضم التاء ـ : رميه بعيب الاشتراك فى دم عثمان.

(٣) «ولما ـ الخ» : اللام هى التى للتأكيد ، «وما» موصول مبتدأ. و «أبلغ» خبره. واللّه قد وعظهم فى الغيبة بأنها فى منزلة أكل لحم الأخ ميتا

(٤) «حجيج المارقين» أى : خصيمهم ، والمارقون : الخارجون من الدين ، والمرتابون : الذين لا يقين لهم ، وهو ـ كرم اللّه وجهه ـ قارعهم بالبرهان الساطع فغالبهم

١٢١

المرتابين وعلى كتاب اللّه تعرض الأمثال (١) وبما فى الصّدور تجازى العباد.

٧٤ ـ ومن خطبة له عليه السّلام

رحم اللّه امرأ سمع حكما فوعى ، ودعى إلى رشاد فدنا (٢) وأخذ بحجزة هاد فنجا (٣) : راقب ربّه ، وخاف ذنبه ، قدّم خالصا ، وعمل صالحا ، اكتسب مذخورا (٤) واجتنب محذورا ، رمى غرضا ، وأحرز عوضا (٥) كابر هواه ، وكذّب مناه ، جعل الصّبر مطيّة نجاته ، والتّقوى عدّة وفاته ، ركب الطّريقة الغرّاء (٦) ، ولزم المحجّة البيضاء ، اغتنم المهل (٧) وبادر الأجل ، وتزوّد

__________________

(١) الأمثال : متشابهات الأعمال والحوادث : تعرض على القرآن فما وافقه فهو الحق المشروع ، وما خالفه فهو الباطل الممنوع ، وهو ـ كرم اللّه وجهه ـ قد جرى على حكم كتاب اللّه فى أعماله ، فليس للغامز عليه أن يشير إليه بمطعن ، ما دام ملتزما لأحكام الكتاب

(٢) الحكم هنا : الحكمة ، قال اللّه تعالى : «وَآتَيْنٰاهُ اَلْحُكْمَ صَبِيًّا» ووعى : حفظ وفهم المراد واعتبر بما سمع وعمل عليه ، ودنا : قرب من الرشاد الذى دعى إليه

(٣) الحجزة ـ بالضم ـ : معقد الازار ، ومن السراويل موضع التكة. والمراد الاقتداء والتمسك ، يقال : أخذ فلان بحجزة فلان ، إذا اعتصم به ، ولجأ إليه

(٤) اكتسب مذخورا : كسب بالعمل الجليل ثوابا يذخره ويعده لوقت حاجته فى الآخرة ، وتقول : ذخر الشىء ـ وزان قطع ـ ذخرا ـ بفتح الذال وسكون الخاء ـ إذا خبأه لوقت يحتاجه فيه ، والذخر ـ بضم فسكون ـ الاسم من ذلك

(٥) رمى غرضا : قصد إلى الحق فأصابه ، وكابر هواه : غالبه. ويروى «كاثر» بالمثلثة ـ أى : غالبه بكثرة أفكاره الصائبة فغلبه

(٦) الغراء : النيرة الواضحة ، والمحجة : جادة الطريق ومعظمه ، والطريقة الغراء والمحجة البيضاء : سبيل الحق ومنهج العدل

(٧) المهل هنا : مدة الحياة مع العافية ، فانه أمهل فيها دون أن يؤخذ بالموت ، أو تحل به بائقة عذاب ، فهو يغتنم ذلك ليعمل فيه لآخرته ، فيبادر الأجل قبل حلوله بما يتزوده من طيب العمل

١٢٢

من العمل.

٧٥ ـ ومن كلام له عليه السّلام

إنّ بنى أميّة ليفوّقوننى تراث محمّد صلّى اللّه عليه وآله تفويقا ، لأنفضنّهم نفض اللّحّام الوذام التّربة ويروى «التراب الوذمة». وهو على القلب (١) قال الشريف : وقوله عليه السّلام «ليفوقوننى» أى : يعطوننى من المال قليلا كفواق الناقة ، وهو الحلبة الواحدة من لبنها ، والوذام : جمع وذمة وهى : الحزة من الكرش أو الكبد تقع فى التراب فتنفض (٢)

٧٦ ـ ومن كلمات كان يدعو بها

اللّهمّ اغفر لى ما أنت أعلم به منّى ، فإن عدت فعد علىّ بالمغفرة ، اللّهمّ اغفر لى ما وأيت من نفسى ، ولم تجد له وفاء عندى (٣) اللّهمّ اغفر لى ما تقرّبت

__________________

(١) على القلب ، أى : إن الحقيقة «الوذام التربة» كما فى الرواية الأولى ، لا «التراب الوذمة» إذ لا معنى له ، فهذه الرواية يراد منها مقلوبها

(٢) الحزة ـ بالضم ـ القطعة ، وفسر صاحب القاموس «الوذمة» بمجموع المعى والكرش

(٣) وأيت : وعدت ، وأى ـ كوعى ـ وعد وضمن ، وإذا عزمت على عمل خير فكأنك وعدت من نفسك بتأدية أمر اللّه فان لم توف به فكأن اللّه لم يجد عندك وفاء بما وعدته ، فتكون قد أخلفته ، ومخلف الوعد مسىء ، فهو يطلب المغفرة على هذا النوع من الاساءة

١٢٣

به إليك بلسانى ثمّ خالفه قلبى (١). اللّهمّ اغفر لى رمزات الألحاظ ، وسقطات الألفاظ ، وشهوات الجنان ، وهفوات اللّسان (٢)

٧٧ ـ ومن كلام له عليه السّلام

قاله لبعض أصحابه لما عزم على المسير إلى الخوارج ، فقال له : يا أمير المؤمنين ، إن سرت فى هذا الوقت خشيت أن لا تظفر بمرادك ، من طريق علم النجوم. فقال عليه السّلام : أتزعم أنّك تهدى إلى السّاعة الّتى من سار فيها صرف عنه السّوء؟ وتخوّف من السّاعة الّتى من سار فيها حاق به الضّرّ (٣)؟ فمن صدّق بهذا فقد كذّب القرآن ، واستغنى عن الإعانة باللّه فى نيل المحبوب ودفع المكروه ، وتبتغى

__________________

(١) تقريب باللسان مع مخالفة القلب ، كأن يقول : الحمد للّه على كل حال ، ويسخط على أغلب الأحوال ، أو يقول : إياك نعبد وإياك نستعين ، وهو يستعين بغير اللّه ، ويعظم أشباها ممن دونه

(٢) رمزات الألحاظ : الاشارة بها ، وتقول : رمز إليه ـ من بابى نصر وضرب ـ رمزا ، أى : أشار ، وقيل : أومأ بشفتيه ، أو عينيه ، أو حاجبه ، أو فمه ، وقيل : هو خاص بالشفة ، والألحاظ : جمع لحظ ، وهو باطن العين : أما اللحاظ ـ وهو مؤخر العين ـ فلا أعرف له جمعا إلا لحظ ـ بضمتين ـ وسقطات الألفاظ : لغوها ، والجنان القلب ، واللب ، وشهواته : ما يكون من ميل منه إلى غير الفضيلة ، وهفوات اللسان : زلاته

(٣) حاق به الضر : أحاط به

١٢٤

فى قولك للعامل بأمرك أن يوليك الحمد دون ربّه ، لأنّك ـ بزعمك أنت ـ هديته إلى السّاعة الّتى نال فيها النّفع وأمن الضّرّ!!

ثم أقبل عليه السّلام على الناس فقال :

أيّها النّاس ، إيّاكم وتعلّم النّجوم ، إلاّ ما يهتدى به فى برّ أو بحر (١) فإنّها تدعو إلى الكهانة ، والمنجّم كالكاهن (٢) والكاهن كالسّاحر والسّاحر كالكافر! والكافر فى النّار ، سيروا على اسم اللّه.

٧٨ ـ ومن خطبة له عليه السّلام

بعد حرب الجمل ، فى ذم النساء

معاشر النّاس ، إنّ النّساء نواقص الإيمان (٣) ، نواقص الحظوظ ، نواقص العقول : فأمّا نقصان إيمانهنّ فقعودهنّ عن الصّلاة والصّيام فى أيّام حيضهنّ

__________________

(١) طلب لتعلم علم الهيئة الفلكية وسير النجوم وحركاتها للاهتداء بها ، وإنما ينهى عما يسمى علم التنجيم ، وهو : العلم المبنى على الاعتقاد بروحانية الكواكب ، وأن لتلك الروحانية العلوية سلطانا معنويا على العوالم العنصرية ، وأن من يتصل بأرواحها ـ بنوع من الاستعداد ومعاونة من الرياضة ـ تكاشفه بما غيب من أسرار الحال والاستقبال

(٢) الكاهن : من يدعى كشف الغيب ، وكلام أمير المؤمنين حجة حاسمة لخيالات المعتقدين بالرمل ، والجفر ، والتنجيم ، وما شاكلها ، ودليل واضح على عدم صحتها ، ومنافاتها للأصول الشرعية والعقلية

(٣) خلق اللّه النساء ، وحملهن على ثقل الولادة وتربية الأطفال إلى سن معينة لا تكاد تنتهى حتى تستعد لحمل وولادة ، وهكذا ، فلا يكدن يفرغن من الولادة والتربية. فكأنهن قد خصصن لتدبير أمر المنزل وملازمته ، وهو دائرة محدودة يقوم عليهن فيها أزواجهن ، فخلق لهن من العقول بقدر ما يحتجن إليه فى هذا ، وجاء الشرع مطابقا للفطرة ، فكن ـ فى أحكامه ـ غير لاحقات للرجال ، لا فى العبادة ، ولا الشهادة ولا الميراث

١٢٥

وأمّا نقصان عقولهنّ فشهادة امرأتين كشهادة الرّجل الواحد ، وأمّا نقصان حظوظهنّ فمواريثهنّ على الأنصاف من مواريث الرّجال ، فاتّقوا شرار النّساء ، وكونوا من خيارهنّ على حذر ، ولا تطيعوهنّ فى المعروف حتّى لا يطمعن فى المنكر (١)

٧٩ ـ ومن كلام له عليه السّلام

أيّها النّاس ، الزّهادة قصر الأمل ، والشّكر عند النّعم ، والورع عند المحارم (٢) فإن عزب ذلك عنكم فلا يغلب الحرام صبركم ، ولا (٣) تنسوا عند النّعم

__________________

(١) لا يريد أن يترك المعروف لمجرد أمرهن به ، فان فى ترك المعروف مخالفة السنة الصالحة ، خصوصا إن كان المعروف من الواجبات ، بل يريد أن لا يكون فعل المعروف صادرا عن مجرد طاعتهن ، فاذا فعلت معروفا فافعله لأنه معروف ولا تفعله امتثالا لأمر المرأة. ولقد قال الامام قولا صدقته التجارب فى الأحقاب المتطاولة ، ولا استثناء مما قال ، إلا بعضا منهن وهبن فطرة تفوق فى سموها ما استوت به الفطن ، أو تقاربت ، أو أخذت بسلطان من التربية طباعهن على خلاف ما غرز فيها وحولتها إلى غير ما وجهتها الجبلة إليه

(٢) الورع : الكف عن الشبهات خوف الوقوع فى المحرمات ، يقال : ورع الرجل ـ من باب علم وقطع وكرم وحسب ـ ورعا ، مثل وعد ، وورعا ـ بفتحتين كطلب ـ ووروعا ، أى : جانب الاثم ، وكف عن المعاصى ، وترك الشبهات. أى : إذا عرض المحرم فمن الزهادة أن تكف عما يشتبه به ، فضلا عنه. والشكر عند النعم : الاعتراف بأنها من اللّه ، والتصرف فيها على وفق ما شرع ، وقصر الأمل : توجس الموت والاستعداد له بالعمل ، وليس المراد منه انتظار الموت بالبطالة

(٣) عزب عنكم ـ من بابى ضرب ودخل ـ عزوبا ، بضمتين كدخول ـ أى : بعد عنكم ، وفاتكم ، والاشارة إلى ما تقدم من قصر الأمل ، أى : فان عسر عليكم أن تقصروا آمالكم ، وتكونوا من الزهادة على الكمال المطلوب لكم ، فلا يغلب الحرام صبركم ، أى : فلا يفتكم الركنان الآخران ، وهما : شكر النعم ، واجتناب المحرم ، فان نسيان الشكر يجر إلى البطر ، وارتكاب المحرم يفسد نظام الحياة المعاشية والمعادية ، والبطر والفساد مجلبة للنقم فى الدنيا والشقاء فى الآخرة

١٢٦

شكركم ، فقد أعذر اللّه إليكم بحجج مسفرة ظاهرة ، وكتب بارزة العذر واضحة (١).

٨٠ ـ ومن كلام له عليه السّلام

فى صفة الدنيا

ما أصف من دار أوّلها عناء ، وآخرها فناء ، فى حلالها حساب ، وفى حرامها عقاب ، من استغنى فيها فتن ، ومن افتقر فيها حزن ، ومن ساعاها فاتته (٢) ، ومن قعد عنها واتته ، ومن أبصر بها بصّرته (٣) ، ومن أبصر

__________________

(١) أعذر : بمعنى أنصف ، وأصله مما همزته للسلب ، فأعذرت فلانا سلبت عذره ، أى : ما جعلت له عذرا يبديه لو خالف ما نصحته به. ويقال «أعذرت إلى فلان» أى : أقمت لنفسى عنده عذرا واضحا فيما أنزله به من العقوبة ، حيث حذرته ، ويصح أن تكون العبارة فى الكتاب على هذا المعنى أيضا ، بل هو الأقرب من لفظ «إليكم» ويكون الكلام على المجاز ، وتنزيل قيام الحجة له منزلة قيام العذر لنا. والمسفرة : الكاشفة عن نتائجها الصحيحة ، و «بارزة العذر» ظاهرته

(٢) من جرى معها فى مطالبها ، والقصد بذلك أنه اهتم بها وجد فى طلبها. وقوله «فاتته» أى : سبقته ، فانه كلما نال شيئا فتحت له أبواب الآمال فيها ، فلا يكاد يقضى مطلوبا واحدا حتى يهتف به ألف مطلوب ، وقوله «ومن قعد عنها واتته» يريد به أن من قوم اللذائذ الفانية بقيمتها الحقيقية ، وعلم أن الوصول إليها إنما يكون بالعناء ، وفواتها يعقب الحسرة عليها ، والتمتع بها لا يكاد يخلو من شوب الألم فقد واتته هذه الحياة وأراحته ، فانه لا يأسف على فائت منها ، ولا يبطر لحاضر ، ولا يعانى ألم الانتظار لمقتبل.

(٣) «أبصر بها» أى : جعلها مرآة نيرة : تجلو لقلبه آثار الجد فى عظائم الأعمال ، وتمثل له هياكل المجد؟؟؟ الباقية ، مما رفعته أيدى الكاملين ، وتنكشف له عواقب أهل الجهالة من المترفين ، فقد صارت الدنيا له بصرا وحوادثها عبرا. وأما من أبصر إليها واشتغل بها فانه يعمى عن كل خير فيها ويلهو عن الباقيان بالزائلات وبئس ما اختار لنفسه! ،

١٢٧

إليها أعمته. قال الشريف : أقول : وإذا تامل المتأمل قوله عليه السّلام «من أبصر بها بصرته» وجد تحته من المعنى العجيب والغرض البعيد ما لا تبلغ غايته ولا يدرك غوره ، ولا سيما إذا قرن إليه قوله «ومن أبصر إليها أعمته» ، فإنه يجد الفرق بين «أبصر بها» و «أبصر إليها» واضحا نيرا وعجيبا باهرا

٨١ ـ ومن خطبة له عجيبة

الحمد للّه الّذى علا بحوله (١) ، ودنا بطوله (٢) ، مانح كلّ غنيمة وفضل ، وكاشف كلّ عظيمة وأزل (٣) أحمده على عواطف كرمه ، وسوابغ نعمه (٤) ، وأومن به أوّلا باديا (٥) ، وأستهديه قريبا هاديا ، وأستعينه قادرا قاهرا ،

__________________

(١) «علا بحوله» أى : عز وارتفع عن جميع ما سواه ، لقوته المستعلية بسلطة الايجاد على كل قوة

(٢) «دنا بطوله» أى : إنه مع علوه ، سبحانه ، وارتفاعه فى عظمته فقد دنا وقرب من خلقه بطوله ، أى : عطائه وإحسانه

(٣) الأزل ـ بالفتح ـ الضيق والشدة ، وكاشف الشدة : المنقذ منها ، كما أن مانح الغنيمة : معطيها المتفضل بها

(٤) العواطف : ما يعطفك على غيرك ، ويدنيه من معروفك. وصفة الكرم فى الجناب الالهى ، وخلقه فى البشر ، مما يعطف الكريم على موضع الاحسان وسوابغ النعم : كواملها ، من سبغ الظل : إذا عم وشمل

(٥) أولا باديا : موضعه من سابقه كموضع «قريبا هاديا» وما جاء به بعده من سوابقها ، فهى أحوال من الضمائر الراجعة إلى اللّه سبحانه وتعالى ، فيكون «أول» صفة نصبت على الحال من ضمير به ، أى : أصدق باللّه حال كونه سابق كل شىء فى الوجود ، فهو البادى :

١٢٨

وأتوكّل عليه كافيا ناصرا ، وأشهد أنّ محمّدا ـ صلّى اللّه عليه وآله ـ عبده ورسوله ، أرسله لإنفاذ أمره ، وإنهاء عذره (١) وتقديم نذره (٢). أوصيكم عباد اللّه بتقوى اللّه الّذى ضرب الأمثال (٣) ، ووقّت لكم الآجال ، وألبسكم الرّياش ، وأرفغ لكم المعاش ، وأحاطكم بالإحصاء ، وأرصد لكم الجزاء ، وآثركم بالنّعم السّوابغ ، والرّفد الرّوافغ ، وأنذركم بالحجج البوالغ ، وأحصاكم عددا ، ووظّف لكم مددا ، فى قرار خبرة ، ودار عبرة ، أنتم مختبرون فيها ،

__________________

أى الظاهر بذاته المظهر لغيره ، ومن كان كذلك لم تخالط التصديق به ريبة. والقريب الهادى جدير بأن تطلب منه الهداية ، والقادر القاهر حقيق بأن يستعان به ، لأنه قوى على المعونة ، والكافى الناصر حرى بأن يتوكل عليه

(١) إنهاء عذره : إبلاغه ، والعذر هنا : كناية عن الحجج العقلية والنقلية التى أقيمت ببعثة النبى صلّى اللّه عليه وسلم على أن من خالف شريعة اللّه استحق العقاب ، ومن جرى عليها استحق جزيل الثواب

(٢) النذر : جمع نذير ، أى : الأخبار الالهية المنذرة بالعقاب على سوء الأعمال أو هو مفرد بمعنى الانذار

(٣) ضرب الأمثال : جاء بها فى الكلام ، لايضاح الحجج ، وتقريرها فى الأذهان ، و «وقت الآجال» جعلها فى أوقات محدودة لا متقدم عنها ولا متأخر ، والرياش : ما ظهر من اللباس ، ووجه النعمة فيه أنه ساتر للعورة واق من الحر والبرد. وقد يراد بالرياش الخصب والغنى ، فيكون «ألبسكم» على المجاز و «أرفغ لكم» أى : أوسع ، يقال : رفغ عيشه ـ بالضم ـ رفاغة ، أى : اتسع ، و «أحاطكم بالاحصاء» أى : جعل إحصاء أعمالكم والعلم بها عملا كالسور : لا تنفذون منه ولا تتعدونه ، ولا تشذ عنه شاذة و «أرصد لكم الجزاء» أعده لكم فلا محيص عنه ، والرفد : جمع رفدة ـ ككسرة وكسر ـ وهى : العطية ، والروافغ : الواسعة والحجج البوالغ : الظاهرة البينة ، و «وظف لكم مددا» أى : قدر لكم ، والمدد : جمع مدة ، أى : عين لكم أزمنة تحيون فيها «فى قرار خبرة» أى : فى دار ابتلاء واختبار (٩ ـ ن ـ ج ـ ١) وهى دار الدنيا ، وفيها الاعتبار والاتعاظ ، والحساب عليها ، أى : على ما يؤتى من خير وشر

١٢٩

ومحاسبون عليها ، فإنّ الدّنيا رنق مشربها (١) ردغ مشرعها : يونق منظرها (٢) ويوبق مخبرها ، غرور حائل (٣) وضوء آفل ، وظلّ زائل ، وسناد مائل (٤) حتّى إذا أنس نافرها ، واطمأنّ ناكرها ، قمصت بأرجلها (٥) ، وقنصت بأحبلها ، وأقصدت بأسهمها ، وأعلقت المرء أوهاق المنيّة (٦) قائدة له إلى ضنك

__________________

(١) رنق ـ كفرح ـ كدر ، والأصل أنه يقال «عيش رنق» ـ بكسر النون أى : كدر ، ويقال «ماء رنق» بسكون النون ـ أى : كدر ، ويقال : رنق الماء رنقا ـ بوزان طرب طربا ـ وقد رويت هذه الكلمة بروايتين : الأولى بكسر النون وهى المشهورة فيكون على الاستعمال الأول ، ووضع المشرب موضع العيش ، والثانية بسكون النون وهى على حقيقتها. وردغ : كثير الطين والوحل. والمشرع : مورد الشاربة للشرب ، ويقال «مشرع ردغ» إذا كان ذا طين ووحل

(٢) يونق : يعجب ، ويوبق : يهلك

(٣) حائل : اسم فاعل من «حال» إذا تحول وانتقل ، أى : إن شأنها الغرور الذى لا بقاء له وسقط من بعض الروايات قوله «وضوء آفل» أى : غائب لا يلبث أن يظهر حتى يغيب

(٤) السناد ـ بالكسر ـ ما يستند إليه ، أو دعامة يسند بها السقف ، وناكرها : اسم فاعل من «نكر الشىء» ـ من باب علم ـ أى : جهله فأنكره

(٥) قمص الفرس وغيره يقمص ـ من باب ضرب ونصر ـ قمصا وقماصا ، أى : استن ، وهو أن يرفع يديه ويطرحهما معا ويعجب وفى المثل المضروب لضعيف لا حراك به وعزيز ذل «ما بالعير من قماص» وإنما قال «أرجل» وليس للدابة إلا رجلان لأنه نزل اليدين لها منزلة الأرجل ، لأن المشى على جميعها. وروى «بأرحلها» بالحاء ـ جمع رحل الناقة ، و «قنصت بأحبلها» أى : اصطادت وأوقعت من اغتربها فى شباكها وحبالها ، و «أقصدت» قتلت مكانها من غير تأخير

(٦) أعلقت به : ربطت بعنقه ، وأوهاق المنية : جمع وهق ـ بالتحريك ـ أو بفتح فسكون ، كما يقال نهر ونهر ، أى : حبال الموت

١٣٠

المضجع (١) ، ووحشة المرجع ، ومعاينة المحلّ (٢) ، وثواب العمل. وكذلك الخلف يعقب السّلف : لا تقلع المنيّة اختراما (٣) ولا يرعوى الباقون اجتراما (٤) يحتذون مثالا ، ويمضون أرسالا ، إلى غاية الانتهاء ، وصيّور الفناء (٥) حتّى إذا تصرّمت الأمور ، وتقضّت الدّهور ، وأزف النّشور (٦) أخرجهم من ضرائح القبور ، وأوكار الطّيور ، وأوجرة السّباع ، ومطارح المهالك ، سراعا

__________________

(١) ضنك المضجع : ضيق المرقد ، والمراد القبر

(٢) معاينة المحل : مشاهدة مكانه من النعيم والجحيم ، وثواب العمل : جزاؤه الأعم من شقاء وسعادة ، والخلف : المتأخرون ، والسلف : المتقدمون. و «يعقب السلف» أى : يتبع ، ويروى «بعقب» بباء الجر ـ فيكون عقب بالسكون بمعنى بعد ، وأصله جرى الفرس بعد جريه ، يقال : لهذا الفرس عقب حسن

(٣) «لا نقلع» أى : لا تكف المنية عن اخترامها ، أى : استئصالها للأحياء

(٤) «لا يرعوى الباقون» أى : لا يرجعون ولا يكفون عن اجترام السيئات وثلاثى «ارعوى» رعى يرعو ، أى : كف ، ويقال : فلان حسن الرعوة والرعاء والرعوى والارعواء. و «الاجترام» افتعال من الجرم ، وهو الذنب والجريرة ، ويقال : جرم وأجرم بمعنى واحد. و «يحتذون مثالا» أى : يشاكلون بأعمالهم صور أعمال من سبقهم ، ويقتدون بهم و «يمضون أرسالا» جمع رسل بالتحريك ـ وهو القطيع من الابل والغنم والخيل يقال : جاءت الغنم أرسالا ، أى : قطيعا قطيعا

(٥) صيور الأمر ـ كتنور ـ مصيره وما يؤول إليه ، يريد الامام من ذلك أن الدنيا لا تزال تغر بنيها ، حتى يأنسوا إليها بالارتياح إلى لذائذها ، واستسهال احتمال آلامها ، ثم تنقلب بهم إلى ما لا بد منه ، وهم فى غفلة لاهون

(٦) «أزف النشور» قرب البعث ، والضمير فى «أخرجهم» إلى البعث على سبيل المجاز ، أو إلى اللّه تعالى ، والضرائح : جمع ضريح وهو الشق وسط القبر ، وأصله من «ضرحه» أى : دفعه وأبعده ، فان المقبور مدفوع منبوذ ، وهو أبعد الأشياء عن الأحياء ، والأوكار : جمع وكر ، وهو مسكن الطير وجمع الكثرة وكور ، والأوجرة : جمع وجار ـ ككتاب وسحاب ـ وهو الجحر والذين يبعثون من الأوكار والأوجرة هم الذين افترستهم الطيور الصائدة والسباع الكاسرة

١٣١

إلى أمره ، مهطعين إلى معاده (١) رعيلا صموتا ، قياما صفوفا ، ينفذهم البصر (٢) ويسمعهم الدّاعى ، عليهم لبوس الاستكانة (٣) ، وضرع الاستسلام والذّلّة قد ضلّت الحيل ، وانقطع الأمل ، وهوت الأفئدة كاظمة (٤) ، وخشعت الأصوات مهينمة ، وألجم العرق ، وعظم الشّفق ، وأرعدت الأسماع لزبرة الدّاعى إلى فصل الخطاب (٥) ومقايضة الجزاء ، ونكال العقاب ، ونوال الثّواب ، عباد مخلوقون اقتدارا ، ومربوبون اقتسارا (٦) ، ومقبوضون

__________________

(١) «مهطعين» أى : مسرعين إلى معاده ، سبحانه ، الذى وعد أن يعيدهم فيه. وقوله : «رعيلا صموتا» الرعيل : القطعة من الخيل ، شبههم فى تلاحق بعضهم ببعض برعيل الخيل ـ أى : الجملة القليلة منها ـ لأن الاسراع لا يدع أحدا منهم ينفرد عن الآخر ، فان الانفراد من الابطاء ، ولا يدعهم يجتمعون جما ، فان التضام والالتفاف إنما يكون من الاطمئنان

(٢) «ينفذهم البصر» يجاوزهم ، أى : يأتى عليهم ويحيط بهم ، أى : لا يعزب واحد منهم عن بصر اللّه

(٣) اللبوس ـ بالفتح ـ : ما يلبس ، والاستكانة : الخضوع ، والضرع ـ بالتحريك ـ : الوهن والضعف والخشوع ، هذا لو جعلنا «عليهم» متعلقا بمحذوف خبر عن «لبوس وضرع» ، فان جعلناه متعلقا بالداعى ـ بمعنى : المنادى والصائح عليهم ـ جعلنا لبوس جملة مبتدأة ويكون «لبوس» جمع لابس ، وضرع ـ محركة ـ اسم جمع للضريع بمعنى الذليل

(٤) «هوت الأفئدة» خلت من المسرة والأمل من النجاة ، «كاظمة» أى : ساكنة كاتمة لما يزعجها من الفزع ، و «مهينمة» أى : متخافية ، والهينمة : الكلام الخفى ، و «ألجم العرق» كثر حتى امتلأت به الأفواه لغزارته فمنعها من النطق ، وكان كاللجام ، والشفق ـ محركة ـ الخوف

(٥) أرعدت : عرتها الرعدة ، و «زبرة الداعى» : صوته وصيحته ، ولا يقال «زبرة» إلا إذا كان فيها زجر وانتهار ، فانها واحدة الزبر ـ أى : الكلام الشديد ـ والمقايضة : المعاوضة ، أى : مبادلة الجزاء الخير بالخير ، والشر بالشر

(٦) «مربوبون» : مملوكون ، والاقتسار : الغلبة والقهر ،

١٣٢

احتضارا ، ومضمّنون أجداثا ، وكائنون رفاتا ، ومبعوثون أفرادا ، ومدينون جزاء ، ومميّزون حسابا ، قد أمهلوا فى طلب المخرج (١) ، وهدوا سبيل المنهج ، وعمّروا مهل المستعتب ، وكشف عنهم سدف الرّيب (٢) وخلّوا لمضمار

__________________

أى : إنهم كما خلقوا باقتدار اللّه سبحانه وقوته ، فهم مملوكون له بسطوة عزته ، لا خيرة لهم فى ذلك ، وإذا جاء الأجل قبضت أرواحهم إليه ، بما يحضر عند الأجل من مزهقات الأرواح والقوى المسلطة على الفناء ، و «احتضر فلان» حضرته الملائكة تقبض روحه. وكانت العرب تقول «لبن محتضر» أى : فاسد ، يعنون أن الجن حضرته ، يقال : اللبن محتضر فغط إناءك ، والأجداث. جمع جدث ـ بفتحتين ـ : وهو القبر واجتدث الرجل : اتخذ جدثا ، ويقال : جدف ـ بالفاء ـ و «مضمنون الأجداث» مجعولون فى ضمنها ، والرفات : الحطام ، ويقال : رفته ـ كنصر وضرب ـ أى : كسره ودقه ، أى : فته بيده كما يفت المدر والعظم البالى ، و «مبعوثون أفرادا» أى : كل يسأل عن نفسه ، لا يلتفت لرابطة تجمعه مع غيره ، و «مدينون» أى : مجزيون ، والدين : الجزاء ، قال : «مٰالِكِ يَوْمِ اَلدِّينِ» ، و «مميزون حسابا» كل يحاسب على عمله منفصلا عمن سواه : «لاٰ تَزِرُ وٰازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرىٰ»

(١) المخرج : المخلص من ربقة المعصية بالتوبة والانابة المخلصة ، والمنهج : الطريق الواضحة التى دلت عليها الشريعة المطهرة والمستعتب : المسترضى ، ويقال أيضا : «استعتبه» إذا أناله العتبى ، وهى : الرضا ، وإنما ضرب المثل بمهل المستعتب لأنك إذا استرضيت شخصا وطلبت منه أن يرضى فلا ترهقه فى المطالبة ، بل تفسح له حتى يرضى بقلبه لا بلسانه. أى : إن اللّه أفسح لهم فى الآجال حتى يتمكنوا من إرضائه ، وأوتوا من العمر مهلة من ينال العتبى ـ أى : الرضا ـ لو أحسن العمل : استعتبه : أناله العتبى ، فهو المستعتب ، والمفعول مستعتب

(٢) السدف : جمع سدفة ـ بالفتح ـ وهى : الظلمة ، والريب : جمع ريبة. وهى الشبهة وإبهام الأمر ، وكشف ذلك بما أتى من البراهين الواضحة

١٣٣

الجياد (١) ورويّة الارتياد ، وأناة المقتبس المرتاد (٢) فى مدّة الأجل ، ومضطرب المهل ، فيا لها أمثالا صائبة ، ومواعظ شافية ، لو صادفت قلوبا زاكية ، وأسماعا واعية ، وآراء عازمة ، وألبابا حازمة ، فاتّقوا تقيّة من سمع فخشع ، واقترف فاعترف (٣) ووجل فعمل ، وحاذر فبادر ، وأيقن فأحسن وعبّر فاعتبر ، وحذّر فازدجر ، وأجاب فأناب (٤) ، ورجع فتاب ، واقتدى فاحتذى ، وأرى فرأى ، فأسرع طالبا ، ونجا هاربا ، فأفاد ذخيرة (٥) ، وأطاب

__________________

(١) خلوا : تركوا فى مجال يتسابقون فيه إلى الخيرات. والجياد من الخيل : كرامها ، والمضمار : المكان الذى تضمر فيه الخيل ، والمدة التى تضمر فيها أيضا ، والروية : إعمال الفكر فى الأمر ليأتى على أسلم وجوهه ، والارتياد هنا : طلب ما يراد

(٢) الاناة : الانتظار والتؤدة ، والمقتبس : المرتاد ، أى : الذى أخذ بيده مصباحا ليرتاد على ضوئه شيئا غاب عنه ، ومثل هذا يتأنى فى حركته خوف أن يطفأ مصباحه ، وخشية أن يفوته فى بعض خطواته ما يفتش عليه لو أسرع ، فلذا ضرب المثل به. والمضطرب : مدة الاضطراب. أى : الحركة فى العمل

(٣) اقترف : اكتسب ، ومثله «قرف يقرف لعياله» أى : كسب يكسب وفى التنزيل : «وَلِيَقْتَرِفُوا مٰا هُمْ مُقْتَرِفُونَ» وقال صاحب اللسان : واقترف المال اقتناه. واقترف الذنب أتاه. ووجل : خاف ، وجلا وموجلا ـ بفتح الميم والجيم ـ وبادر سارع ، وعبر ـ مبنى للمجهول مشدد الباء ـ أى : عرضت عليه العبر مرارا كثيرة فاعتبر ، أى : اتعظ ، وحذر ـ مبنى للمجهول أيضا ـ أى : خوف من عواقب الخطايا فازدجر ، أى : امتنع عنها. ويروى «وحذر فحذر ، وزجر فازدجر»

(٤) أجاب داعى اللّه إلى طاعته فأناب إليه ، أى : رجع ، و «احتذى» شاكل بين عمله وعمل مقتداه ، أى : أحسن القدوة ، و «أرى» ـ بضم الهمزة مبنى للمجهول أى : أرته الشريعة ما يجب عليه وما يجب له وما يعقب الطاعة وما يعقب المعصية ، فرأى ذلك رؤية صحيحة تب عليها حسن العمل

(٥) أفاد الذخيرة : استفادها

١٣٤

سريرة ، وعمّر معادا ، واستظهر زادا (١) ليوم رحيله ، ووجه سبيله ، وحال حاجته ، وموطن فاقته ، وقدّم أمامه لدار مقامه. فاتّقوا اللّه عباد اللّه جهة ما خلقكم له (٢) ، واحذروا منه كنه ما حذّركم من نفسه (٣) واستحقّوا منه ما أعدّ لكم بالتّنجّز لصدق ميعاده (٤) والحذر من هول معاده منها : جعل لكم أسماعا لتعى ما عناها وأبصارا لتجلو عن عشاها (٥) ، وأشلاء جامعة لأعضائها ملائمة لأجنائها (٦) : فى تركيب صورها ، ومدد

__________________

واقتناها ، وهو من الاضداد

(١) «استظهر زادا» حمل زادا حمله ظهر راحلته إلى الآخرة ، والكلام تمثيل ، ووجه السبيل : المقصد الذى يركب السبيل لأجله

(٢) الجهة ـ مثلثة ـ الناحية والجانب ، وهو ظرف متعلق بحال من ضمير «اتقوا» أى : متوجهين جهة ما خلقكم لأجله من العمل النافع لكم ، الباقى أثره لأخلافكم

(٣) حذرنا من نفسه سبحانه أن نتعرض لما يغضبه بمخالفة أوامره ونواهيه ، و «كنه ذلك» : غايته ونهايته ، أى : احذروا نهاية ما حذركم ، ولا تقعوا فى شىء مما يغضبه. وقد يكون المراد من كنه ما حذرنا هو البحث عن كنهه وحقيقته ، فيأمرنا الامام بالتقوى والبعد عن البحث فى حقيقته وكنهه ، فان الوصول إلى كنه ذاته محال

(٤) «تنجز الوعد» طلب وفائه على عجل ، وتنجز ما وعد اللّه إنما يكون بالعمل له ، وبهذا التنجز العملى يستحق ما أعد اللّه للصالحين ، والحذر : معطوف على التنجز.

(٥) عناها : أهمها ، وتعيه : تحفظه ، وتجلو : من «جلا عن المكان» إذا فارقه أى : تخلص من عماها ، أى : لتبصر ، ولا تكون مبصرة حقيقة حتى يفيدها الابصار حركة إلى نافع ، وانقباضا عن ضار ، والأشلاء : جمع شلو ـ بالكسر ـ وهو الجسد ، أو العضو ، وعلى الثانى يكون المعنى أن كل عضو فيه أعضاء : باطنة أو صغيرة

(٦) الأحناء جمع حنو ـ بالكسر ـ : وهو كل ما اعوج من البدن ، وملاءمه الأعضاء لها : تناسها معها. وقد يراد من الأحناء : الجهات والجرانب ، و «ملاءمة»

١٣٥

عمرها ، بأبدان قائمة بأرفاقها (١) وقلوب رائدة لأرزاقها ، فى مجلّلات نعمه (٢) وموجبات مننه ، وحواجز عافية ، وقدّر لكم أعمارا سترها عنكم ، وخلّف لكم عبرا من آثار الماضين قبلكم ، من مستمتع خلاقهم ، ومستفسح خناقهم أرهقتهم المنايا دون الآمال ، وشذّ بهم عنها تخرّم الآجال ، لم يمهدوا فى سلامة الأبدان ، ولم يعتبروا فى أنف الأوان (٣) ، فهل ينتظر أهل بضاضة الشّباب إلاّ حوانى الهرم؟ وأهل غضارة الصّحّة إلاّ نوازل السّقم؟ وأهل مدّة البقاء إلاّ آونة الفناء (٤) مع قرب الزّيال (٥) وأزوف الانتقال ، وعلز القلق ، وألم المضض ، وغصص الحرض ، وتلفّت الاستغاثة بنصرة الحفدة والأقرباء

__________________

حال من الأعضاء وملاءمة الأعضاء للجهات التى وضعت فيها : أن يكون العضو فى تلك الجهة أنفع منه فى غيرها : فتكون العين فى موضعها المعروف أنفع من كونها فى قمة الرأس مثلا. وقوله «تركيب صورها» أى : آتية فى صورها المركبة ، كما تقول ركب فى سلاحه ، أى : متسلحا

(١) الأرفاق جمع رفق ـ بالكسر ـ : المنفعة ، أو ما يستعان به عليها ، و «رائدة» أى : طالبة

(٢) مجللات ـ على صيغة اسم الفاعل ـ من «جلله» بمعنى غطاه ، أى : غامرات نعمه ، يقولون : سحاب مجلل ، أى : يطبق الأرض

(٣) الخلاق : النصيب الوافر من الخير ، والخناق ـ بالفتح ـ : حبل يخنق به ، وبالضم : داء يمتنع معه نفوذ النفس. وأرهقتهم : أعجلتهم ، وأنف ـ بضمتين ـ يقال : أمر أنف ، أى : مستأنف لم يسبق به قدر. والأنف أيضا : المشية الحسنة ، وتقدير الكلام : خلف لكم عبرا من القرون الماضية : منها تمتعهم بنصيبهم من الدنيا ثم فناؤهم ، ومنها فسحة خناقهم وطول إمهالهم ثم كانت عاقبتهم الهلكة

(٤) البضاضة : رخص الجلد ورقته وامتلاؤه. والغضارة : النعمة والسعة والخصب

(٥) الزيال : مصدر زايله مزايلة وزيالا ، أى : فارقه

١٣٦

والأعزّة والقرناء ، فهل دفعت الأقارب ، أو نفعت النّواحب (١) وقد غودر فى محلّة الأموات رهينا (٢) وفى ضيق المضجع وحيدا ، قد هتكت الهوامّ جلدته (٣) وأبلت النّواهك جدّته ، وعفت العواصف آثاره ، ومحا الحدثان معالمه (٤) وصارت الأجساد شحبة بعد بضّتها ، والعظام نخرة بعد قوّتها (٥) والأرواح مرتهنة بثقل أعبائها (٦) موقنة بغيب أنبائها ، لا تستزاد من صالح عملها ، ولا تستعتب من سيّىء زللها (٧) أولستم أبناء القوم والآباء وإخوانهم

__________________

(١) الأزوف : الدنو والقرب ، والعلز : قلق وخفة وهلع يصيب المريض والمحتضر. والمضض : بلوغ الحزن من القلب ، والجرض : الريق ، والحفدة : البنات وأولاد الأولاد والأصهار

(٢) غودر : ترك ، وبقى ، ورهينا : حبيسا

(٣) هتكت : جذبت جلدته فقطعتها ، والهوام : الحيات وكل ذى سم يقتل

(٤) النواهك : من قولهم «نهكه السلطان» إذا بالغ فى عقوبته ، و «عفت» أى محت ، والعواصف : الرياح الشديدة ، والمعالم : جمع معلم ، وهو ما يستدل به

(٥) الشحبة ـ بفتح فكسر ـ ، أى : الهالكة ، تقول : شحب الرجل يشحب ـ مثل علم يعلم ـ إذا هلك ، وفيه لغة أخرى من باب نصر ، وتقول : شحبه اللّه يشحبه ، يتعدى ويلزم ، البضة هنا : الوحدة من البض ، وهو : مصدر بض الماء إذا ترشح قليلا قليلا ، أى : بعد امتلائها حتى كأن الماء يترشح منها ، ونخرة : بالية

(٦) الأعباء : الأثقال ، جمع عبء ، أى : حمل ، وموقنة بغيب أنبائها ، أى : منكشفا لها ما كان غائبا عنها من أخبارها ، وما أعد لها فى الآخرة

(٧) «لا تستزاد ـ الخ» أى : لا يطلب منها زيادة العمل ، فانه لا عمل بعد الموت ، «ولا تستعب» مبنى للمفعول ـ أى : لا يطلب منها تقديم العتبى ، أى : التوبة من العمل القبيح ، أو مبنى للفاعل ، أى : لا يمكنها أن تطلب الرضا والاقالة من خطئها السىء

١٣٧

والأقرباء؟ تحتذون أمثلتهم ، وتركبون قدّتهم (١) وتطأون جادّتهم؟! فالقلوب قاسية عن حظّها ، لاهية عن رشدها ، سالكة فى غير مضمارها! كأنّ المعنىّ سواها (٢) وكأنّ الرّشد فى إحراز دنياها. واعلموا أنّ مجازكم على الصّراط ومزالق دحضه ، وأهاويل زلله وتارات أهواله (٣) فاتّقوا اللّه تقيّة ذى لبّ شغل التّفكّر قلبه ، وأنصب الخوف بدنه (٤) ، وأسهر التّهجّد غرار نومه ، وأظمأ الرّجاء هواجر يومه ، وظلف الزّهد شهواته ، وأرجف الذّكر بلسانه وقدّم الخوف لإبّانه ، وتنكّب المخالج عن وضح السّبيل ، وسلك أقصد المسالك إلى النّهج المطلوب ، ولم تفتله فاتلات الغرور (٥) ولم تعم عليه

__________________

(١) القدة ـ بكسر فتشديد ـ الطريقة ، و «تطأون جادتهم» تسيرون على سبيلهم بلا انحراف عنهم فى شىء ، أى : يصيبكم ما أصابهم بلا أقل تفاوت

(٢) «كأن المعنى» أى : المقصود بالتكاليف الشرعية ، والموجه إليه التحذير والتبشير ، غيرها. وقوله «وكأن الرشد ـ الخ» أى : مع أن الرشد لم ينحصر فى هذا ، بل الرشد كل الرشد إحراز الآخرة لا الدنيا

(٣) «أن مجازكم ـ الخ» أنكم تجوزون على الصراط مع ما فيه من مزالق الدحض ، والدحض : هو انقلاب الرجل بغتة فيسقط المار ، والزلل. هو انزلاق القدم ، والتارات : النوب والدفعات

(٤) «أنصب الخوف بدنه» : أتعبه

(٥) والغرار ـ بالكسر ـ : القليل من النوم وغيره ، و «أسهره التهجد» أى : أزال قيام الليل نومه القليل ، فأذهبه بالمرة. و «أظمأ الرجاء ـ الخ» أى : أظمأ نفسه فى هاجرة اليوم ، والمعنى : صام رجاء الثواب. و «ظلف الزهد ـ الخ» أى : منعها وظلف : منع ، و «أرجف الذكر» تقول : «أرجف به» أى : حركه. ويروى

١٣٨

مشتبهات الأمور ، ظافرا بفرحة البشرى ، وراحة النّعمى (١) فى أنعم نومه ، وآمن يومه ، قد عبر معبر العاجلة حميدا (٢) وقدم ذات الآجلة سعيدا ، وبادر من وجل ، وأكمش فى مهل ، ورغب فى طلب ، وذهب عن هرب (٣) وراقب فى يومه غده ، ونظر قدما أمامه (٤) فكفى بالجنّة ثوابا ونوالا ، وكفى بالنّار عقابا ووبالا ، وكفى باللّه منتقما ونصيرا ، وكفى بالكتاب حجيجا

__________________

«أوجف» بالواو ـ أى : أسرع ، كأن الذكر لشدة تحريكه اللسان موجف به كما توجف الناقة براكبها ، و «إبان الشىء» بكسر فتشديد ـ وقته الذى يلزم ظهوره فيه أى : إنه خاف فى الوقت الذى ينفع فيه الخوف ، ويروى «لأمانه» أى : خاف فى الدنيا ليأمن فى الآخرة ، و «تنكب الشىء» مال عنه ، والمخالج : الشعوب من الطريق المائلة عن وضحه ، والوضح ـ محركة ـ الجادة ، و «عن وضح متعلق» بالمخالج ، أى : تنكب المائلات عن الجادة ، وأقصد المسالك : أقومها. و «لم تفتله الخ» أى : لم ترده ولم تصرفه ، و «لم تعم عليه» أى : لم تخف عليه الأمور المشتبهة حتى يقع فيها بحذر على غير بصيرة

(١) النعمى ـ بالضم ـ : سعة العيش ونعيمه «ظافرا» حال من الضمائر السابقة العائدة على «ذى لب» ، و «فى أنعم» متعلق براحة النعمى ، وجعل اتصافه بتلك الأوصاف فى حال الظفر تمثيلا لالتصاق السعادة بالفضيلة وملازمتها إياها

(٢) العاجلة : الدنيا ، وسميت معبرا لأنها طريق يعبر منها إلى الآخرة ، وهى الآجلة. «بادر من وجل» أى : سبق الى خير الأعمال خوفا من لقاء الأهوال و «أكمش» أسرع ، ومثله انكمش ، وكمشته تكميشا : أعجلته ، والمراد جد السير فى مهلة الحياة

(٣) أى : رغب فيما ينبغى طلبه ، وذهب وانصرف عما يجب الهروب منه

(٤) القدم ـ بفتحتين ـ السابق ، أى : نظر إلى ما يتقدم أمامه من الأعمال ويروى قدما ـ بضمتين ـ وهو المضى إلى أمام ، أى. مضى متقدما

١٣٩

وخصيما (١) أوصيكم بتقوى اللّه الّذى أعذر بما أنذر ، واحتجّ بما نهج (٢) وحذّركم عدوّا نفذ فى الصّدور خفيّا ، ونفث فى الآذان نجيّا (٣) فأضلّ وأردى ووعد فمنّى ، وزيّن سيّئات الجرائم ، وهوّن موبقات العظائم ، حتّى إذا استدرج قرينته (٤) ، واستغلق رهينته ، أنكر ما زيّن (٥) ، واستعظم ما هوّن وحذّر ما أمّن.

ومنها فى صفة خلق الانسان :

أم هذا الّذى أنشأه فى ظلمات الأرحام (٦) وشغف الأستار ، نطفة دهاقا (٧)

__________________

(١) الكتاب : القرآن ، و «حجيجا وخصيما» أى : مقنعا لمن خالفه بأنه قد جلب الهلاك على نفسه ، وقد يراد من الكتاب ما أحصى من الأعمال على العامل إذا عرض عليه يوم الحساب.

(٢) أعذر بما أنذر ، «ما» مصدرية ، أعذر : أى سلب عذر المعتذر بانذاره إياه بعواقب العمل ، وقامت له الحجة على الضالين بما نهج ووضح من طرق الخير والفضيلة

(٣) ذلك العدو هو الشيطان ، و «نفذ فى الصدور ـ الخ» : تمثيل لدقة مجارى وسوسته فى الأنفس ، فهو فيما يسوله يجرى مجرى الأنفاس ، ويسلك بما يأتى من مسالك الأصدقاء كأنه نجى يسارك ، وينفث فى أذنك بما تظنه خيرا لك ، وأردى أهلك ، و «وعد فمنى» أى : صور الأمانى كذبا

(٤) القرينة : النفس التى يقارنها بالوسوسة ، واستدرجها : أنزلها من درجة الرشد إلى درجته من الضلالة ، واستغلق الرهن : جعله بحيث لا يمكن تخليصه

(٥) «أنكر ـ الخ» بيان لعمل الشيطان وبراءته ممن أغواه عند ما تحق كلمة العذاب

(٦) «أم» بمعنى بل الانتقالية ، بعد ما بين وصف الشيطان انتقل لبيان صفة الانسان. و «شغف الأستار» : جمع شغاف ـ مثل سحاب وسحب ـ وهو فى الأصل غلاف القلب ، استعاره للمشيمة

(٧) دهاقا : متتابعا «دهقها» أى : صبها بقوة. وقد تفسر الدهاق بالممتلئة ، أى :

١٤٠