نهج البلاغة - ج ١

محمد عبده

نهج البلاغة - ج ١

المؤلف:

محمد عبده


المحقق: محمّد محيى الدين عبد الحميد
الموضوع : الحديث وعلومه
المطبعة: مطبعة الإستقامة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٤٠

أوطانه. ولعمرى لو كنّا نأتى ما أتيتم ما قام للدّين عمود ، ولا اخضرّ للإيمان عود ، وايم اللّه لتحتلبنّها دما (١) ولتتبعنّها ندما

٥٧ ـ ومن كلام له عليه السّلام

لأصحابه

أما إنّه سيظهر عليكم بعدى رجل رحب البلعوم ، مندحق البطن (٢) يأكل ما يجد ويطلب ما لا يجد ، فاقتلوه ، ولن تقتلوه (٣) ألا وإنّه سيأمركم بسبّى والبراءة منّى : أمّا السّبّ فسبّونى ، فإنّه لى زكاة ، ولكم نجاة ، وأمّا البراءة فلا تتبرّأوا منّى ، فإنّى ولدت على الفطرة ، وسبقت إلى الإيمان والهجرة (٤)

__________________

وجمعه جرن ـ بوزان كتب ـ وأجرنة ـ بوزان أغربة ـ وإلقاء الجران : كناية عن التمكن

(١) الاحتلاب : استخراج ما فى الضرع من اللبن ، والضمير المنصوب يعود إلى أعمالهم المفهومة من قوله «ما أتيتم» واحتلاب الدم تمثيل لاجترارهم على أنفسهم سوء العاقبة من أعمالهم ، وسيتبعون تلك الأعمال بالندم عند ما تصيبهم دائرة السوء أو تحل قريبا من دارهم

(٢) مندحق البطن : عظيم البطن بارزه ، كأنه لعظمه مندلق من بدنه يكاد يبين عنه ، وأصل «اندحق» بمعنى اندلق ، وفى الرحم خاصة. والدحوق ـ من النوق ـ التى يخرج رحمها عند الولادة ، ورحب البلعوم : واسعه ، يقال : عنى به زيادا ، وبعضهم يقول : عنى المغيرة بن شعبة ، والبعض يقول : معاوية

(٣) أمرهم أولا بقتله ، لأنه يستحق ذلك ، ثم أخبر أنهم ليسوا بقاتليه ، وأنهم سيخالفون هذا الأمر

(٤) قد تسب شخصا وأنت مكره ، ولحبه مستبطن ، فتنجو من شر من أكرهك ، وما أكرهك على سبه إلا مستعظم لأمره يريد أن يحط منه وذلك زكاة للمسبوب. أما البراءة من شخص فهى : الانسلاخ من مذهبه ويقال : برىء من فلان ـ من باب علم ـ براءة ، أى : تخلص منه

١٠١

٥٨ ـ ومن كلام له عليه السّلام

كلم به الخوارج (١)

أصابكم حاصب (٢) ، ولا بقى منكم آبر. أبعد إيمانى باللّه وجهادى مع رسول اللّه أشهد على نفسى بالكفر؟ لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين! فأوبوا شرّ مآب ، وارجعوا على أثر الأعقاب ، أما إنّكم ستلقون بعدى ذلاّ شاملا وسيفا قاطعا وأثرة يتّخذها الظّالمون فيكم سنّة (٣) قال الشريف : قوله عليه السّلام «ولا بقى منكم آبر» يروى بالباء والراء من قولهم للذى يأبر النخل ـ أى : يصلحه ـ ويروى «آثر» وهو الذى يأثر الحديث ، أى : يرويه ويحكيه ، وهو أصح الوجوه عندى ، كأنه عليه السّلام قال : لا بقى منكم مخبر. ويروى «آبز» ـ بالزاى المعجمة ـ وهو الواثب. والهالك أيضا يقال له آبز

__________________

(١) زعم الخوارج خطأ الامام فى التحكيم وغلوا فشرطوا فى العودة إلى طاعته أن يعترف بأنه كان قد كفر ثم آمن ، فخاطبهم بكلام منه هذا الكلام

(٢) الحاصب : ريح شديدة تحمل التراب والحصباء ، وقيل : هو ما تناثر من دقاق الثلج والبرد ، وفى التنزيل «إِنّٰا أَرْسَلْنٰا عَلَيْهِمْ حٰاصِباً» والجملة دعاء عليهم بالهلاك

(٣) «أوبوا شر مآب» انقلبوا شر منقلب بضلالكم فى زعمكم ، وارتدوا على أعقابكم بفساد هواكم ، فلن يضرنى ذلك شيئا وأنا على بصيرة فى أمرى. ثم أنذرهم بما سيلاقون من سوء المنقلب والأثرة والاستبداد فيهم ، والاختصاص بفوائد الملك دونهم ، وحرمانهم من كل حق لهم ، وتقول : استأثر بالشىء على غيره ، إذا استبد به ، وخص به نفسه ، والاسم منه الأثرة ـ بفتحات

١٠٢

٥٩ ـ وقال عليه السّلام

لما عزم على حرب الخوارج وقيل له : إنهم قد عبروا جسر النهروان

مصارعهم دون النّطفة ، واللّه لا يفلت منهم عشرة (١) ولا يهلك منكم عشرة قال الشريف : يعنى بالنطفة ماء النهر ، وهو أفصح ، كناية وإن كان كثيرا جما ولما قتل الخوارج قيل له : يا أمير المؤمنين ، هلك القوم بأجمعهم!

قال عليه السّلام :

كلاّ واللّه إنّهم نطف فى أصلاب الرّجال وقرارات النّساء (٢) كلّما نجم منهم قرن قطع ، حتّى يكون آخرهم لصوصا سلاّبين

وقال عليه السّلام :

لا تقتلوا الخوارج بعدى ، فليس من طلب الحقّ فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه (يعنى معاوية وأصحابه (٣)

__________________

(١) إنه ما نجا منهم إلا تسعة تفرقوا فى البلاد ، وما قتل من أصحاب أمير المؤمنين إلا ثمانية

(٢) «قرارات النساء» كناية عن الأرحام ، و «كلما نجم منهم قرن» أى : كلما ظهر وطلع منهم رئيس قتل ، حتى ينتهى أمرهم إلى أن يكونوا لصوصا سلابين لا يقومون بملك ، ولا ينتصرون إلى مذهب ، ولا يدعون إلى عقيدة ، شأن الأشرار الصعاليك الجهلة ، ويقال : نجم القرن ـ مثل نصر ـ إذا نبت

(٣) الخوارج من بعده ـ وإن كانوا قد ضلوا بسوء عقيدتهم فيه ، إلا أن ضلتهم لشبهة تمكنت من نفوسهم : فاعتقدوا الخروج عن طاعة الامام مما يوجبه الدين عليهم ، فقد طلبوا حقا وأرادوا تقريره شرعا فأخطأوا الصواب فيه ـ لكنهم بعد أمير المؤمنين يخرجون بزعمهم هذا على من غلب على الامرة بغير حق ، وهم الملوك الذين طلبوا الخلافة باطلا فأدركوها وليسوا من أهلها ، فالخوارج على ما بهم أحسن حالا منهم

١٠٣

٦٠ ـ ومن كلام له عليه السّلام

لما خوف من الغيلة (١)

وإنّ علىّ من اللّه جنّة حصينة (٢) فإذا جاء يومى انفرجت عنّى وأسلمتنى ، فحينئذ لا يطيش السّهم ، ولا يبرأ الكلم (٣)

٦١ ـ ومن خطبة له عليه السّلام

ألا وإنّ الدّنيا دار لا يسلم منها إلاّ فيها (٤) ولا ينجى بشىء كان لها (٥) : ابتلى النّاس فيها فتنة فما أخذوه منها لها أخرجوا منه وحوسبوا عليه (٦)

__________________

(١) الغيلة : القتل على غرة بغير شعور من المقتول كيف يأتيه القاتل

(٢) الجنة ـ بالضم ـ الوقاية ، والملجأ ، والحصن

(٣) طاش السهم عن الهدف ـ من باب باع ـ أى : جاوره ولم يصبه. الكلم بالفتح ـ الجرح وجمعه كلوم وكلام ، مثل جرح وجروح وجراح

(٤) أى : من أراد السلامة من محنتها فليهيىء وسائل النجاة وهو فيها ، إذ بعد الموت لا يمكر التدارك ، ولا ينفع الندم : فوسائل النجاة إما عمل صالح ، أو إقلاع عن خطيئة بتوبة تصوح ، وكلاهما لا يكون إلا فى دار التكاليف وهى دار الدنيا

(٥) أى : لا نجاة بعمل يعمل للدنيا ، إذ كل عمل يقصد به لذة دنيوية فانية فهو هلكة لا نجاة معه

(٦) «ما أخذوه منها لها» كالمال يدخر للذة ، ويقتنى لقضاء الشهوة ، و «ما أخذوه لغيرها» كالمال ينفق فى سبيل الخيرات ، يقدم صاحبه فى الآخرة على ثوابه بالنعيم المقيم

١٠٤

وما أخذوه منها لغيرها قدموا عليه وأقاموا فيه ، فإنّها عند ذوى العقول كفىء الظّلّ (١) : بينا تراه سابغا حتّى قلص (٢) ، وزائدا حتّى نقص.

٦٢ ـ ومن خطبة له عليه السّلام

واتّقوا اللّه عباد اللّه ، وبادروا آجالكم بأعمالكم (٣) ، وابتاعوا ما يبقى لكم بما يزول عنكم (٤) وترحّلوا فقد جدّ بكم (٥) ، واستعدّوا للموت فقد أظلّكم (٦) وكونوا قوما صيح بهم فانتبهوا (٧) وعلموا أنّ الدّنيا ليست لهم بدار فاستبدلوا

__________________

(١) إضافة «الفىء» إلى «الظل» إضافة الخاص للعام ، لأن الفىء لا يكون إلا بعد الزوال ، أما الظل فعام فى كل وقت ، وقيل : الظل بالغداة ، والفىء بالعشى ، وقيل : كل موضع تكون فيه الشمس ثم تزول عنه فهو ظل.

(٢) سابغا : ممتدا ساترا للأرض ، وقلص : انقبض ، وحتى هنا لمجرد الغاية بلا تدريج ، أى : إن غاية سبوغه الانقباض ، وغاية زيادته النقص

(٣) «بادروا الآجال بالأعمال» أى : سابقوها وعاجلوها بها ، أى : استكملوا اعمالكم قبل حلول آجالكم

(٤) ابتاعوا : اشتروا ما يبقى من النعيم الأبدى ، بما يفنى من لذة الحياة الدنيا وشهواتها المنقضية

(٥) «الترحل» الانتقال ، والمراد منه هنا لازمه ، وهو : إعداد الزاد الذى لا بد منه للراحل والزاد فى الانتقال عن الدنيا ليس إلا زاد التقوى وقوله «فقد جد بكم» أى : فقد حثثتم وأزعجتم إلى الرحيل ، أو فقد أسرع بكم مسترحلكم وأنتم لا تشعرون

(٦) الاستعداد للموت : إعداد العدة له ، أو طلب العدة للقائه ، ولا عدة له إلا الأعمال الصالحة. وقوله «فقد أظلكم» أى : قرب منكم حتى كأن له ظلا قد ألقاه عليكم

(٧) أى : كونوا قوما حذرين إذا استامتهم الغفلة وقتا ما ، ثم صاح بهم صائح الموعظة ، انتبهوا من نومهم ، وهبوا لمطلب نجاتهم وقوله «وعلموا ـ الخ» أى : عرفوا الدنيا ، وأنها ليست بدار بقاء وقرار ، فاستبدلوها

١٠٥

فإنّ اللّه سبحانه لم يخلقكم عبثا ، ولم يترككم سدى (١) ، وما بين أحدكم وبين الجنّة أو النّار إلاّ الموت أن ينزل به (٢) وإنّ غاية تنقصها اللّحظة وتهدمها السّاعة لجديرة بقصر المدّة (٣) وإنّ غائبا يحدوه الجديدان اللّيل والنّهار لحرىّ بسرعة الأوبة (٤) وإنّ قادما يقدم بالفوز والشّقوة لمستحقّ لأفضل العدّة ،

__________________

بدار الآخرة ، وهى الدار التى ينتقل إليها

(١) تعالى اللّه أن يفعل شيئا عبثا وقد خلق الانسان ، وآتاه قوة العقل التى تصغر عندها كل لذة دنيوية ، ولا تقف رغائبها عند حد منها مهما علت رتبته ، فكأنها مفطورة على استصغار كل ما تلاقيه فى هذه الحياة وطلب غاية أعلى مما يمكن أن ينال فيها ، فهذا الباعث الفطرى لم يوجده اللّه تعالى عبثا ، بل هو الدليل الوجدانى المرشد إلى ما وراء هذه الحياة ، و «سدى» أى : مهملين بلا راع يزجركم عما يضركم ويسوقكم إلى ما ينفعكم وأصل السدى ـ بضم السين ، وتفتح ـ الابل المهملة بلا راع ، ويقال بلفظ واحد للمفرد والمثنى والجمع والمذكر والمؤنث ، ورعاتنا الأنبياء عليهم الصلاة والسّلام وخلفاؤهم

(٢) «أن ينزل به» فى محل رفع بدل من الموت ، أى : ليس بين الواحد منا وبين الجنة إلا نزول الموت به إن كان قد أعد للجنة عدتها ، ولا بينه وبين النار إلا نزول الموت به إن كان قد عمل بعمل أهلها ، فما بعد هذه الحياة إلا الحياة الأخرى ، وهى إما شقاء وإما نعيم

(٣) تلك الغاية هى الأجل. و «تنقصها» أى : تنقص أمد الانتهاء إليها ، وكل لحظة تمر فهى نقص فى الأمد بيننا وبين الأجل ، والساعة تهدم ركنا من ذلك الأمد ، وما كان كذلك فهو جدير بقصر المدة.

(٤) ذلك الغائب هو الموت. ويحدوه : يسوقه ، والجديدان : الليل والنهار ، لأن الأجل المقسوم لك إن كان بعد ألف سنة فالليل والنهار بكرورهما عليك يسوقان إليك ذلك المنتظر على رأس الألف ، وما أسرع مرهما ، والانتهاء إلى الغاية ، وما أسرع أوبة ذلك الغائب الذى يسوقانه إليك ـ أى : رجوعه ـ والموت هو ذلك القادم إما بفوز وإما بشقوة ، وعدته الأعمال الصالحة ، والملكات الفاضلة

١٠٦

فتزوّدوا فى الدّنيا ، من الدّنيا ، ما تحرزون به أنفسكم غدا (١) فاتّقى عبد ربّه نصح نفسه ، وقدّم توبته ، وغلب شهوته (٢) فإنّ أجله مستور عنه ، وأمله خادع له ، والشّيطان موكّل به : يزيّن له المعصية ليركبها ويمنّيه التّوبة ليسوّفها (٣) حتّى تهجم منيّته عليه أغفل ما يكون عنها (٤) فيا لها حسرة على ذى غفلة أن يكون عمره عليه حجّة (٥) ، وأن تؤدّيه أيّامه إلى شقوة ، نسأل اللّه سبحانه أن يجعلنا وإيّاكم ممّن لا تبطره نعمة ، (٦) ولا تقصّر به عن طاعة ربّه غاية ، ولا تحلّ به بعد الموت ندامة ولا كآبة.

٦٣ ـ ومن خطبة له عليه السّلام

الحمد للّه الّذى لم يسبق له حال حالا (٧) فيكون أوّلا قبل أن يكون آخرا ،

__________________

(١) «ما تحرزون به أنفسكم» أى : تحفظونها به ، وذلك هو تقوى اللّه فى السر والنجوى ، وطاعة الشرع ، وعصيان الهوى

(٢) قوله «فاتقى عبد ربه» وما بعده : أوامر بصيغة الماضى ، ويجوز أن يكون بيانا للتزود المأمور به فى قوله «فتزودوا من الدنيا ما تحرزون به أنفسكم» أو بيانا لما يحرزون به أنفسهم

(٣) «يسوفها» أى : يؤجلها ، ويؤخرها.

(٤) قوله «أغفل ما يكون» حال من الضمير فى «عليه». والمنية : الموت ، أى : لا يزال الشيطان يزين له المعصية ويمنيه بالتوبة أن تكون فى مستقبل العمر ليسوفها حتى يفاجئه الموت وهو فى أشد الغفلة عنه

(٥) يكون عمره حجة عليه لأنه أوتى فيه المهلة ، ومكن فيه من العمل ، فلم ينشط له

(٦) لا تبطره النعمة : لا تطغيه ، ولا تسدل على بصيرته حجاب الغفلة عما هو صائر إليه

(٧) ما للّه من وصف فهو كذاته يجب بوجوبها ، فكما أن ذاته ـ سبحانه ـ لا يدنو منها التغير والتبدل ، فكذلك أوصافه هى ثابتة له معا : لا يسبق منها وصف وصفا ، وإن كان مفهومها قد يشعر بالتعاقب ـ إذا أضيفت إلى غيره ـ فهو أول وآخر أزلا وأبدا ، أى : هو السابق بوجوده لكل موجود ، وهو بذلك السبق باق لا يزول. وكل وجود سواه ، فعلى أصل الزوال مبناه ، ثم هو ، فى ظهوره بأدلة وجوده ، باطن بكنهه : لا تدركه العقول ، ولا تحوم عليه الأوهام

١٠٧

ويكون ظاهرا قبل أن يكون باطنا ، كلّ مسمّى بالوحدة غيره قليل (١) ، وكلّ عزيز غيره ذليل ، وكلّ قوىّ غيره ضعيف ، وكلّ مالك غيره مملوك ، وكلّ عالم غيره متعلّم ، وكلّ قادر غيره يقدر ويعجز ، وكلّ سميع غيره يصمّ عن لطيف الأصوات ، ويصمّه كبيرها ، ويذهب عنه ما بعد منها (٢) وكلّ بصير غيره يعمى عن خفىّ الألوان ولطيف الأجسام ، وكلّ ظاهر غيره باطن ،

__________________

(١) الواحد : أقل العدد ، ومن كان واحدا منفردا عن الشريك محروما من المعين كان محتقرا لضعفه ، ساقطا لقلة أنصاره ، أما الوحدة ـ فى جانب اللّه ـ فهى علو الذات عن التركيب المشعر بلزوم الانحلال ، وتفردها بالعظمة والسلطان ، وفناء كل ذات سواها إذا اعتبرت منقطعة النسبة إليها ، فوصف غير اللّه بالوحدة تقليل ، والكمال فى عالمه أن يكون كثيرا ، إلا اللّه : فوصفه بالوحدة تقديس وتنزيه. وبقية الأوصاف ظاهرة.

(٢) السامعون من الحيوان والانسان : لقوى سمعهم حد محدود ، فما خفى من الأصوات لا يصل إليها ، فهى صماء عنه ، فيصم ـ بفتح الصاد ـ مضارع «صم» ـ من باب علم ـ إذ أصيب بالصمم ، وفقد السمع ، وما عظم من الأصوات حتى فات المألوف الذى يستطاع احتماله يحدث فيها الصمم بصدعه لها ، فيصم ـ بكسر الصاد ، وصم حرف المضارعة ـ مضارع «أصم» وما بعد من الأصوات عن السامع ـ بحيث لا يصل موج الهواء المتكيف بالصوت إليه ـ ذهب عن تلك القوى فلا تناله. كل ذلك فى غيره سبحانه. أما هو ـ جل شأنه ـ فيستوى عنده الخفى والشديد ، والقريب والبعيد : لأن نسبة الأشياء إليه واحدة. ومثل ذلك يقال فى البصر والبصراء

١٠٨

وكلّ باطن غيره غير ظاهر (١) ، لم يخلق ما خلقه لتشديد سلطان ، ولا تخوّف من عواقب زمان ، ولا استعانة على ندّ مثاور (٢) ، ولا شريك مكابر ، ولا ضدّ منافر ، ولكن خلائق مربوبون ، وعباد داخرون (٣) ، لم يحلل فى الأشياء فيقال هو فيها كائن ، ولم ينأ عنها فيقال هو منها بائن (٤) لم يؤده خلق ما ابتدأ (٥) ولا تدبير ما ذرأ (٦) ، ولا وقف به عجز عمّا خلق ، ولا ولجت عليه شبهة فيما قضى وقدّر (٧) ، بل قضاء متقن ، وعلم محكم ، وأمر مبرم (٨) : المأمول مع

__________________

(١) الباطن هنا غيره فيما سبق ، أى : كل ما هو ظاهر بوجوده الموهوب من اللّه سبحانه فهو باطن بذاته ، أى : لا وجود له فى نفسه ، فهو معدوم بحقيقته ، وكل باطن سواه فهو بهذا المعنى ، فلا يمكن أن يكون ظاهرا بذاته ، بل هو باطن أبدا

(٢) الند ـ بكسر النون ـ النظير ، والمثل ، ولا يكون إلا مخالفا ، وجمعه أنداد ، مثل حمل وأحمال ، ويقال : فلان ند فلان ، أى : نظيره ويقال : فلانة ند فلانة ، ولا يقال : فلانة ند فلان. والمثاور : المواثب والمحارب. والشريك المكاثر : أى المفاخر بالكثرة ، هذا إذا قرئ بالثاء المثلثة. ويروى المكابر ـ بالباء الموحدة ـ أى : المفاخر بالكبر والعظمة ، و «الضد المنافر» أى المحاكى فى الرفعة والحسب ، يقال : نافرته فى الحسب فنفرته ، أى : غلبته وأثبت رفعتى عليه

(٣) مربوبون : أى مملوكون ، وداخرون : أذلاء ، من قولهم «دخر» ـ من باب قطع وعلم ـ دخرا ـ بالتحريك ـ ودخورا ، أى ذل وصغر ، وفى التنزيل «سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دٰاخِرِينَ» أى : مقهورين أذلاء

(٤) «لم ينأ عنها» أى : لم ينفصل انفصال الجسم حتى يقال هو بائن ، أى : منفصل

(٥) «يؤده» أى : لم يثقله ، تقول : آده الأمر يؤوده ، أودا ـ مثل قال يقول قولا ـ أى : أثقله ، وأتعبه ، وبلغ منه الجهد ، وفى التنزيل «وَلاٰ يَؤُدُهُ حِفْظُهُمٰا»

(٦) ذرأ ـ كقطع ـ أى : خلق

(٧) ولجت عليه : دخلت

(٨) أى محتوم ، وأصله من «أبرم الحبل» جعله طاقين ، ثم فتله. وبهذا أحكمه

١٠٩

النّقم ، والمرجوّ من النّعم.

٦٤ ـ ومن كلام له عليه السّلام

كان يقوله لأصحابه فى بعض أيام صفين

معاشر المسلمين ، استشعروا الخشية (١) وتجلببوا السّكينة ، وعضّوا على النّواجذ (٢) فإنّه أنبى للسّيوف عن الهام ، وأكملوا اللّأمة (٣) وقلقلوا السّيوف فى أغمادها قبل سلّها (٤) ، والحظوا الخزر (٥) واطعنوا الشّزر (٦) ونافحوا

__________________

(١) استشعر : لبس الشعار ، وهو ما يلى البدن من الثياب. وتجلبب : لبس الجلباب ، وهو ما تغطى به المرأة ثيابها من فوق ، ولكون الخشية ـ أى : الخوف من اللّه ـ غاشية قلبية عبر فى جانبها بالاستشعار ، وعبر بالتجلبب فى جانب السكينة لأنها عارضة تظهر فى البدن ، كما لا يخفى

(٢) النواجذ. جمع ناجذ ، وهو : أقصى الأضراس. ولكل إنسان أربعة نواجذ ، وهى بعد الأرحاء. ويسمى الناجذ ضرس العقل ، لأنه ينبت بعد البلوغ. وإذا عضضت على ناجذك تصلبت أعصابك وعضلاتك المتصلة بدماغك فكانت هامتك أصلب وأقوى على مقاومة السيف ، فكان أنبى عنها ، وأبعد عن التأثير فيها ، والهام : جمع هامة ، وهى الرأس.

(٣) اللأمة : الدرع. وإكمالها أن يزاد عليها البيضة ونحوها. وقد يراد من اللأمة آلات الحرب الدفاع ، وإكمالها على هذا : استيفاؤها

(٤) مخافة أن تستعصى عن الخروج عند السل

(٥) الخزر ـ محركة ـ النظر ، كأنه من أحد الشقين ، وهو علامة الغضب ، وفعله من باب تعب

(٦) اطعنوا ـ بضم العين ـ فاذا كان فى النسب مثلا كان المضارع مفتوحها ، وقد يفتح فيهما. والشزر ـ بالفتح ـ الطعن فى الجوانب يمينا وشمالا

١١٠

بالظّبا (١) ، وصلوا السّيوف بالخطا (٢). واعلموا أنّكم بعين اللّه (٣) ، ومع ابن عمّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ، فعاودوا الكرّ واستحيوا من الفرّ (٤) فإنّه عار فى الأعقاب ، ونار يوم الحساب ، وطيبوا عن أنفسكم نفسا وامشوا إلى الموت مشيا سجحا (٥) ، وعليكم بهذا السّواد الأعظم ، والرّواق المطنّب (٦) فاضربوا ثبجه (٧) فإنّ الشّيطان كامن فى كسره (٨) ، قد قدّم للوثبة يدا ، وأخّر للنّكوص رجلا ، فصمدا صمدا (٩) حتّى ينجلى لكم عمود الحقّ

__________________

(١) نافحوا : كافحوا وضاربوا ، والظبا ـ بالضم ـ جمع ظبة ، وهى طرف السيف وحده

(٢) «صلوا» من الوصل ، أى : اجعلوا سيوفكم متصلة بخطا أعدائكم جمع خطوة ، أو إذا قصرت سيوفكم عن الوصول إلى أعدائكم نصلوها بخطاكم

(٣) «بعين اللّه» أى : ملحوظون بها.

(٤) الفر : الفرار ، وهو عار فى الأعقاب ، أى : فى الأولاد ، لأنهم يعيرون بفرار آبائهم. وقوله «وطيبوا عن أنفسكم نفسا» أى : ارضوا ببذلها فانكم تبذلونها اليوم لتحرزوها غدا.

(٥) السجح ـ بضمتين ـ السهل اللين ، ومثله السجيح ، وهما من قولهم «سجح خد فلان» ـ من باب فرح ـ سجحا وسجاحة ، إذا سهل ولان وطال فى اعتدال

(٦) الرواق ـ ككتاب وغراب ـ الفسطاط ، والمطنب : المشدود بالأطناب ، جمع طنب ـ بضمتين ـ وهو حبل يشد به سرادق البيت. وأراد بالسواد الأعظم جمهور أهل الشام ، والرواق : رواق معاوية

(٧) الثبج ـ بالتحريك ـ الوسط

(٨) كسره ـ بالكسر ـ شقه الأسفل ، كناية عن الجوانب التى يفر إليها المنهزمون ، والشيطان الكامن فى الكسر : مصدر الأوامر بالهجوم والرجوع ، فان جبنتم مديده للوثبة ، وإن شجعتم أخر للنكوص والهزيمة رجله

(٩) الصمد : القصد ، وتقول : صمده ، وصمد له ، وصمد إليه ، وبابه ضرب ونصر ، أى : فاثبتوا على قصدكم

١١١

«وَأَنْتُمُ اَلْأَعْلَوْنَ وَاَللّٰهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمٰالَكُمْ»

٦٥ ـ ومن كلام له عليه السّلام

فى معنى الأنصار ، قالوا : لما انتهت إلى أمير المؤمنين عليه السّلام أنباء السقيفة (٢) بعد وفاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلم قال عليه السّلام : ما قالت الأنصار؟ قالوا : قالت : منا أمير ومنكم أمير ، قال عليه السّلام : فهلاّ احتججتم عليهم بأنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وصّى بأن يحسن إلى محسنهم ، ويتجاوز عن مسيئهم؟! قالوا : وما فى هذا من الحجة عليهم؟ فقال عليه السّلام : لو كانت الامارة فيهم لم تكن الوصيّة بهم!! ثم قال عليه السّلام : فما ذا قالت قريش؟ قالوا : احتجت بأنها شجرة الرسول صلّى اللّه عليه وسلم ، فقال عليه السّلام : احتجّوا بالشّجرة ، وأضاعوا الثّمرة (٣)

__________________

(١) لن ينقصكم شيئا من جزائها

(٢) سقيفة بنى ساعدة : اجتمع فيها الصحابة بعد وفاة النبى صلّى اللّه عليه وسلم لاختيار خليفة له

(٣) يريد من الثمرة آل بيت الرسول صلّى اللّه عليه وسلم

١١٢

٦٦ ـ ومن كلام له عليه السّلام

لما قلد محمد بن أبى بكر مصر فملكت عليه فقتل

وقد أردت تولية مصر هاشم بن عتبة ، ولو ولّيته إيّاها لما خلّى لهم العرصة (١) ، ولا أنهزهم الفرصة ، بلا ذمّ لمحمّد بن أبى بكر (٢) فلقد كان إلىّ حبيبا ، وكان لى ربيبا (٣).

٦٧ ـ ومن كلام له عليه السّلام

كم أداريكم كما تدارى البكار العمدة (٤) ، والثّياب المتداعية! (٥) كلّما حيصت (٦) من جانب تهتّكت من آخر؟ أكلّما أطلّ عليكم منسر من مناسر أهل الشّام أغلق كلّ رجل منكم بابه ، وانجحر انجحار الضّبّة فى جحرها ، والضّبع فى وجارها؟! (٧) ، الذّليل واللّه من نصرتموه! ومن رمى بكم

__________________

(١) العرصة : كل بقعة واسعة بين الدور. والمراد ما جعل لهم مجالا للمغالبة. وأراد بالعرصة عرصة مصر ، وكان محمد قد فر من عدوه ظنا منه أنه ينجو بنفسه ، فأدركوه وقتلوه

(٢) «بلا ذم لمحمد ـ الخ» : لما يتوهم من مدح عتبة

(٣) قالوا : إن أسماء بنت عميس كانت تحت جعفر بن أبى طالب ، فلما قتل تزوجها أبو بكر فولدت منه محمدا ، ثم تزوجها على بعده ، وتربى محمد فى حجره ، وكان جاريا مجرى أولاده ، حتى قال على كرم اللّه وجهه : محمد ابنى من صلب أبى بكر

(٤) البكار ـ ككتاب ـ جمع بكر : الفتى من الابل. والعمدة ـ بفتح فكسر ـ التى انفضخ داخل سنامها من الركوب ، وظاهره سليم

(٥) المتداعية : الخلقة المتخرقة ، ومداراتها : استعمالها بالرفق التام

(٦) حيصت : خيطت ، وتهتكت : تخرقت

(٧) المنسر ـ كمجلس ومنبر ـ (٨ ـ ن ـ ج ـ (١) القطعة من الجيش تمر أمام الجيش الكثير ، وأطل : أشرف ، وانجحر : دخل الجحر والوجار ـ بالكسر ـ جحر الضبع وغيرها

١١٣

فقد رمى بأفوق ناصل (١). وإنّكم ، واللّه ، لكثير فى الباحات (٢) قليل تحت الرّايات ، وإنّى لعالم بما يصلحكم ويقيم أودكم (٣) ولكنّى لا أرى إصلاحكم بإفساد نفسى! أضرع اللّه خدودكم (٤) ، وأتعس جدودكم (٥) ، لا تعرفون الحقّ كمعرفتكم الباطل ، ولا تبطلون الباطل كإبطالكم الحقّ

٦٨ ـ وقال عليه السّلام

فى سحرة اليوم الذى ضرب فيه (٦)

ملكتنى عينى وأنا جالس (٧) فسنح لى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم فقلت : يا رسول اللّه ، ما ذا لقيت من أمّتك من الأود واللّدد؟ فقال : «ادع عليهم» فقلت : أبدلنى اللّه بهم خيرا منهم ، وأبدلهم بى شرّا لهم منّى قال الشريف : يعنى بالأود الاعوجاج ، وباللدد الخصام. وهذا من أفصح الكلام

__________________

(١) الأفوق من السهام : ما كسر فوقه ، أى : موضع الوتر منه. والناصل : العارى من النصل ، والسهم إذا كان مكسور الفوق عاريا عن النصل لم يؤثر فى الرمية ، فهم فى ضعف أثرهم وعجزهم عن النكاية بعدوهم أشبه به

(٢) الباحات : الساحات

(٣) أودكم ـ بالتحريك ـ اعوجاجكم

(٤) أى : أذل اللّه وجوهكم

(٥) وأتعس جدودكم ، أى : حط من حظوظكم والتعس : الانحطاط والهلاك والعثار

(٦) السحرة ـ بالضم ـ السحر الأعلى من آخر الليل

(٧) ملكتنى عينى : غلبنى النوم وسنح لى رسول اللّه : مر بى كما تسنح الظباء والطير

١١٤

٦٩ ـ ومن خطبة له عليه السّلام

فى ذم أهل العراق

أمّا بعد يا أهل العراق فإنّما أنتم كالمرأة الحامل! حملت فلمّا أتمّت أملصت (١) ومات قيّمها ، وطال تأيّمها ، وورثها أبعدها (٢) أما واللّه ما أتيتكم اختيارا ، ولكن جئت إليكم سوقا (٣) ولكنّى بلغنى أنّكم تقولون : علىّ يكذب! قاتلكم اللّه ، فعلى من الكذب؟ أعلى اللّه؟ فأنا أوّل من آمن به! أم على نبيّه؟ فأنا أوّل من صدّقه (٤). كلاّ واللّه ، ولكنّها لهجة غبتم عنها (٥)

__________________

(١) أملصت : ألقت ولدها ميتا

(٢) قيمها : زوجها ، وتأيمها : خلوها من الأزواج ، يريد انهم لما شارفوا استئصال أهل الشام وبدت لهم علامات الظفر بهم جنحوا إلى السلم إجابة لطلاب التحكيم ، فكان مثلهم مثل المرأة الحامل ، لما أتمت أشهر حملها ، ألقت ولدها بغير الدافع الطبيعى ، بل بالحادث العارضى كالضربة والسقطة ، وقلما تلقيه كذلك إلا هالكا ، ولم يكتف فى تمثيل خيفتهم فى ذلك حتى قال : ومات مع هذه الحالة زوجها ، وطال ذلها بفقدها من يقوم عليها ، حتى إذا هلكت عن غير ولد ورثها الأباعد السافلون فى درجة القرابة ممن لا يلتفت إلى نسبه

(٣) يقسم أنه لم يأت العراق مستنصرا بأهله اختيارا لتفضيله إياهم على من سواهم ، وإنما سيق إليهم بسائق الضرورة ، فانه لو لا وقعة الجمل لم يفارق المدينة المنورة ، ويروى هذا الكلام بعبارة أخرى وهى «ما أتيتكم اختيارا ولا جئت إليكم شوقا» بالشين المعجمة

(٤) كان كرم اللّه وجهه كثيرا ما يخبرهم بما لا يعرفون ، ويعلمهم ما لم يكونوا يعلمون ، فيقول المنافقون من أصحابه : إنه يكذب! كما كان المنافقون يقولون مثل ذلك للنبى صلّى اللّه عليه وسلم ، فهو يرد عليهم قولهم بأنه أول من آمن باللّه وصدق برسوله فكيف يجترئ على الكذب على اللّه أو على رسوله مع قوة إيمانه وكمال يقينه؟ ولا يجتمع كذب وإيمان صحيح!

(٥) «لهجة غبتم عنها» أى : ضرب من الكلام أنتم فى غيبة عنه ، أى : بعد عن معناه ، ونبو طبع عما حواه ، فلا تفهمونه ، ولهذا تكذبونه

١١٥

ولم تكونوا من أهلها. ويلمّه؟ كيلا بغير ثمن (١)! لو كان له وعاء (ولتعلمنّ نبأه بعد حين)

٧٠ ـ ومن خطبة له عليه السّلام

علم فيها الناس الصلاة على النبى صلّى اللّه عليه وآله

اللّهمّ داحى المدحوّات (٢) ، وداعم المسموكات ، وجابل القلوب على

__________________

(١) ويلمه : كلمة استعظام تقال فى مقام المدح وإن كان أصل وضعها لضده ، ومثل ذلك معروف فى لسانهم يقولون للرجل يعظمونه ويقرظونه «لا أبا لك» وفى الحديث «فاظفر بذات الدين تربت يداك» وفى كلام الحسن يحدث عن على بن أبى طالب رضى اللّه عنه ويعظم أمره : وما لك والتحكيم ، والحق فى يديك ، ولا أبا لك؟ وأصل الكلمة. ويل أمه. وقوله «كيلا» مصدر يقع مفعولا مطلقا لفعل محذوف ، أى : أنا أكيل لكم العلم والحكمة كيلا بلا ثمن ، لو أجد وعاء أكيل فيه ، أى : لو أجد نفوسا قابلة ، وعقولا عاقلة

(٢) «داحى المدحوات» أى : باسط المبسوطات ، وأراد منها الأرضين ، وبسطها أن تكون كل قطعة منها صالحة لأن تكون مستقرا ومجالا للبشر وسائر الحيوان ، تتصرف عليها هذه المخلوقات فى الأعمال التى وجهت إليها ، بهادى الغريزة كما هو المشهود لنظر الناظر ، وإن كانت الأرض فى جملتها كروية الشكل. و «داعم المسموكات» : مقيمها وحافظها ، تقول : دعمه ـ كمنعه ـ : أقامه وحفظه. والمسموكات : المرفوعات ، وهى السموات ، وتقول : سمكت الشىء سمكا ـ كنصرته نصرا ـ فسمك هو سموكا ـ كخرج خروجا ـ يتعدى ويلزم ، ومعناه رفعته وقد يراد من هذا الوصف المجعول لها سمكا يفوق كل سمك ، والسمك : الثخن المعروف فى اصطلاح أهل الكلام بالعمق ، ودعمه للسموات إقامته لها ، وحفظها من الهوى بقوة معنوية ، وإن لم يكن ذلك بدعامة حسية. قال صاحب القاموس : المسموكات لحن ، والصواب مسمكات ، ولعل هذا فى إطلاق اللفظ اسما للسموات ، أما لو أطلق صفة كما فى كلام الامام فهو صحيح فصيح ، بل لا يصح غيره ، فان الفعل سمك لا أسمك

١١٦

فطرتها (١) شقيّها وسعيدها : اجعل شرائف صلواتك ونوامى بركاتك على محمّد عبدك ورسولك (٢) : الخاتم لما سبق ، والفاتح لما انغلق ، والمعلن الحقّ بالحقّ ، والدّافع جيشات الأباطيل ، والدّامغ صولات الأضاليل ، كما حمّل فاضطلع (٣) قائما بأمرك ، مستوفزا فى مرضاتك ، غير ناكل عن قدم ، ولا واه فى عزم (٤) واعيا لوحيك ، حافظا على عهدك ، ماضيا على نفاذ أمرك

__________________

(١) «جابل القلوب» : خالقها ، وطابعها عليه ، وتقول : جبلنا اللّه ـ من بابى نصر وضرب ـ والفطرة ـ بكسر فسكون ـ : أول حالات المخلوق التى يكون عليها فى بدء وجوده ، وهى للانسان : حالته خاليا من الآراء والأهواء والديانات والعقائد وقوله «شقيها وسعيدها» بدل من القلوب ، أى : جابل الشقى والسعيد من القلوب على فطرته الأولى التى هو بها كاسب محض : فحسن اختياره يهديه إلى السعادة ، وسوء تصرفه يضلله فى طرق الشقاوة

(٢) الشرائف : جمع شريفة ، والنوامى : الزوائد ، والخاتم لما سبق : أى لما تقدمه من النبوات ، والفاتح لما انغلق : كانت أبواب القلوب قد أغلقت بأقفال الضلال عن طوارق الهداية فافتتحها صلّى اللّه عليه وآله وسلم بآيات نبوته ، وأعلن الحق ، وأظهره بالحق والبرهان ، والأباطيل : جمع باطل على غير قياس ، كما أن الأضاليل جمع ضلال على غير قياس ، وجيشاتها : جمع جيشة ـ بفتح فسكون ـ من جاشت القدر ، إذا ارتفع غليانها ، والصولات : جمع صولة ، وهى السطوة ، والدامغ : من دمغه إذا شجه حتى بلغت الشجة دماغه ، والمراد أنه قامع ما نجم من الباطل ، والكاسر لشوكة الضلال وسطوته ، وذلك بسطوع البرهان ، وظهور الحجة

(٣) أى : أعلن الحق بالحق ، وقمع الباطل ، وقهر الضلال ، كما حمل تلك الأعمال الجليلة بتحمله أعباء الرسالة ، فاظطلع ـ أى : نهض بها قويا ـ والضلاعة : القوة ، والمستوفز : المسارع المستعجل ، وقد تكون الكاف

فى «كما حمل» للتعليل كما فى قوله : ـ

فقلت له أبا الملحاء خذها

كما أوسعتنا بغيا وعدوا

(٤) الناكل : الناكص والمتأخر ، أى : غير جبان يتأخر عند وجوب الاقدام ،

١١٧

حتّى أورى قبس القابس ، وأضاء الطّريق للخابط (١) وهديت به القلوب بعد خوضات الفتن ، وأقام موضحات الأعلام ، ونيّرات الأحكام ، فهو أمينك المأمون ، وخازن علمك المخزون (٢) ، وشهيدك يوم الدّين (٣) وبعيثك بالحقّ (٤) ، ورسولك إلى الخلق. اللّهمّ افسح له مفسحا فى ظلّك (٥) ، واجزه

__________________

والقدم ـ بضمتين ـ المشى إلى الحرب ، ويقال : مضى قدما ، أى : سار ولم يعرج والواهى : الضعيف. واعيا : أى حافظا وفاهما ، تقول : وعيت الحديث ، إذا حفظته وفهمته. و «ماضيا على نفاذ أمرك» أى : ذاهبا فى سيره على ما فيه نفاذ أمر اللّه سبحانه

(١) يقال : ورى الزند ـ كوعى ـ وورى ـ كولى ـ يرى وريا وريا ورية فهو وار : خرجت ناره ، وأوريته ووريته واستوريته. والقبس : شعلة من النار ، والقابس : الذى يطلب النار ، يقال : قبست نارا فأقبسنى ، أى : طلبت منها فأعطانى والكلام تمثيل لنجاح طلاب الحق ببلوغ طلبتهم منه وإشراق النفوس المستعدة لقبوله بما سطع من أنواره ، والخابط : الذى يسير ليلا على غير جادة واضحة ، فأضاء الطريق له : جعلها مضيئة ظاهرة ، فاستقام عليها سائرا إلى الغاية ، وهى السعادة فكان من ذلك أن هديت به القلوب إلى ما فيه سعادتها ، بعد أن خاضت الفتن أطوارا ، واقتحمتها مرارا ، والخوضات : جمع خوضة ، وهى المرة من الخوض ، كما قال : «وهديت به القلوب ـ الخ». والأعلام : جمع علم ـ بالتحريك ـ وهو ما يستدل به على الطريق كالمنار ونحوه ، والأعلام موضحات الطرق لأنها تبينها للناس وتكشفها

(٢) العلم المخزون : ما اختص اللّه به من شاء من عباده ، ولم يبح لغير أهل الحظوة به أن يطلعوا عليه ، وذلك مما لا يتعلق بالأحكام الشرعية

(٣) شهيدك : شاهدك على الناس ، كما قال اللّه تعالى : «فَكَيْفَ إِذٰا جِئْنٰا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنٰا بِكَ عَلىٰ هٰؤُلاٰءِ شَهِيداً»

(٤) «بعيثك» ، أى : مبعوثك ، فهو فعيل بمعنى مفعول كجريح وطريح

(٥) افسح له : وسع له ما شئت أن توسع «فى ظلك» أى : إحسانك وبرك ، فيكون الظل مجازا ، ومضاعفات الخير : أطواره ودرجاته

١١٨

مضاعفات الخير من فضلك. اللّهمّ أعل على بناء البانين بناءه (١) ، وأكرم لديك منزلته ، وأتمم له نوره ، واجزه من ابتعاثك له مقبول الشّهادة ، ومرضىّ المقالة (٢) ذا منطق عدل ، وخطّة فصل. اللّهمّ اجمع بيننا وبينه فى برد العيش وقرار النّعمة (٣) ومنى الشّهوات ، وأهواء اللّذّات ، ورخاء الدّعة ، ومنتهى الطّمأنينة ، وتحف الكرامة (٤)

__________________

(١) أراد من بنائه : ما شيده صلّى اللّه عليه وسلم بأمر ربه : من الشريعة العادلة ، والهدى الفاضل ، مما يلجأ إليه التائهون ويأوى إليه المضطهدون ، فالامام يسأل اللّه أن يعلى بناء شريعته على جميع الشرائع ، ويرفع شأن هديه فوق كل هدى لغيره ، وإكرام المنزلة باتمام النور. والمراد من إتمام النور : تأييد الدين حتى يعم أهل الأرض ، وبظهر على الدين كله ، كما وعده بذلك ، وإكرام المنزلة فى الآخرة قد تقدم فى قوله «افسح له ، واجزه مضاعفات الخير»

(٢) أى : اجزه على بعثتك له إلى الخلق وقيامه بما حملته ، واجعل ثوابه ـ على ذلك ـ الشهادة المقبولة ، والمقالة المرضية يوم القيامة : وتلك الشهادة والمقالة تصدران منه ، وهو ذو منطق عدل ، و «خطة» أى : أمر فاصل. ويروى «وخطبة» ـ بزيادة باء بعد الطاء ـ أى : مقال فاصل. وقد روى أنه صلّى اللّه عليه وسلم يقوم ذلك المقام يوم القيامة فيشهد على أمته وعلى غيرها من الأمم ، فيكون كلامه الفصل

(٣) تقول العرب «عيش بارد» أى : لا حرب فيه ولا نزاع لأن البرد والسكون متلازمان تلازم الحرارة والحركة ، وقرار النعمة : مستقرها حيث تدوم ولا تفنى

(٤) منى : جمع منية ـ بالضم ـ وهى ما يتمناه الانسان لنفسه ، والشهوات : ما يشتهيه ، يدعو بأن يتفق مع النبى صلّى اللّه عليه وسلم فى جميع رغباته وميله والرخاء : من قولهم «رجل رخى البال» أى : واسع الحال. والدعة : سكون النفس واطمئنانها ، والتحف : جمع تحفة ، وهى ما يكرم به الانسان من البر واللطف وقد كان صلّى اللّه عليه وسلم من أرخى الناس بالا ، وألزمهم للطمأنينة ، وأعلاهم منزلة فى القلوب فالامام يطلب من اللّه أن يدنيه منه فى جميع هذه الصفات الكريمة

١١٩

٧١ ـ ومن كلام له عليه السّلام

قاله لمروان بن الحكم بالبصرة

قالوا : أخذ مروان بن الحكم أسيرا يوم الجمل ، فاستشفع الحسن والحسين عليهما السّلام (١) إلى أمير المؤمنين عليه السّلام فكلماه فيه ، فخلى سبيله ، فقالا له : يبايعك يا أمير المؤمنين؟ فقال عليه السّلام : أولم يبايعنى قبل قتل عثمان؟ لا حاجة لى فى بيعته! إنّها كفّ يهوديّة (٢) لو بايعنى بكفّه لغدر بسبته (٣) أما إنّ له إمرة كلعقة الكلب أنفه (٤) ، وهو أبو الأكبش الأربعة (٥) وستلقى الأمّة منه ومن ولده يوما أحمر!

٧٢ ـ ومن كلام له عليه السّلام

لما عزموا على بيعة عثمان

لقد علمتم أنّى أحقّ النّاس بها من غيرى ، وو اللّه لأسلّمنّ ما سلمت أمور

__________________

(١) استشفعهما إليه : سألها أن يشفعا له عنده وليس من الجيد قولهم : استشفعت به

(٢) «كف يهودية» أى : غادرة ماكرة لا يستقيم لها عهد ، ولا يدوم لها وفاء ، ولا تستقر على أمان ، ولا يطول بها أمد الولاء :

(٣) السبت ـ بالفتح ـ الاست ، وهو مما يحرص الانسان على إخفائه ، وكنى به عن الغدر الخفى ، واختاره لتحقير الغادر. وقد يكون ذلك إشارة إلى ما كانت تفعله سفهاء العرب عند الغدر بعقد أو عهد : من أنهم كانوا يحبقون عند ذكره استهزاء

(٤) تصوير لقصر مدتها ، وكانت تسعة أشهر

(٥) جمع كبش ، وهو من القوم : رئيسهم ، وفسروا الأكبش ببنى عبد الملك بن مروان هذا ، وهم : الوليد ، وسليمان ، ويزيد ، وهشام ، قالوا : ولم يتول الخلافة أربعة إخوة سوى هؤلاء. ويجوز أن يراد بهم بنو مروان لصلبه ، وهم : عبد الملك ، وعبد العزيز ، وبشر ، ومحمد ، وكانوا كباشا أبطالا : أما عبد الملك فولى الخلافة ، وولى محمد الجزيرة ، وعبد العزيز مصر ، وبشر العراق.

١٢٠