نهج البلاغة - ج ١

محمد عبده

نهج البلاغة - ج ١

المؤلف:

محمد عبده


المحقق: محمّد محيى الدين عبد الحميد
الموضوع : الحديث وعلومه
المطبعة: مطبعة الإستقامة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٤٠

أمّا بعد ، فإنّ معصية النّاصح الشّفيق العالم المجرّب تورث الحيرة ، وتعقب النّدامة. وقد كنت أمرتكم فى هذه الحكومة أمرى ونخلت لكم مخزون رأيى (١) لو كان يطاع لقصير أمر (٢) فأبيتم علىّ إباء المخالفين الجناة ، والمنابذين العصاة ، حتّى ارتاب النّاصح بنصحه (٣) وضنّ الزّند بقدحه ،

__________________

(١) الحكومة : حكومة الحكمين : عمرو بن العاص ، وأبى موسى الأشعرى وذلك بعد ما وقف القتال بين على أمير المؤمنين ومعاوية بن أبى سفيان فى حرب صفين سنة سبع وثلاثين من الهجرة ، فان جيش معاوية لما رأى أن الدبرة تكون عليه رفعوا المصاحف على الرماح يطلبون رد الحكم إلى كتاب اللّه ، وكانت الحرب أكلت من الفريقين ، فانخدع القراء وجماعة تتبعوهم من جيش على ، وقالوا : دعينا إلى كتاب اللّه ونحن أحق بالاجابة إليه ، فقال لهم أمير المؤمنين : إنها كلمة حق يراد بها باطل إنهم ما رفعوها ليرجعوا إلى حكمها ، إنهم يعرفونها ولا يعملون بها ، ولكنها الخديعة والوهن والمكيدة! أعيرونى سواعدكم وجماجمكم ساعة واحدة فقد بلغ الحق مقطعه ولم يبق إلا أن يقطع دابر الذين ظلموا ، فخالفوا واختلفوا ، فوضعت الحرب أوزارها وتكلم الناس فى الصلح وتحكيم حكمين يحكمان بما فى كتاب اللّه ، فاختار معاوية عمرو ابن العاص ، واختار بعض أصحاب أمير المؤمنين أبا موسى الأشعرى ، فلم يرض أمير المؤمنين واختار عبد اللّه بن عباس فلم يرضوا ، ثم اختار الأشتر النخعى فلم يطيعوا ، فوافقهم على أبى موسى مكرها بعد أن أعذر فى النصيحة لهم فلم يذعنوا ، فقد نخل لهم ، أى أخلص رأيه فى الحكومة أولا وآخرا. ثم انتهى أمر التحكيم بانخداع أبى موسى لعمرو بن العاص وخلعه أمير المؤمنين ومعاوية ثم صعود عمرو بعده وإثباته معاوية وخلعه أمير المؤمنين. وأعقب ذلك ضعف أمير المؤمنين وأصحابه.

(٢) هو مولى جذيمة المعروف بالأبرش ، وكان حاذقا وكان قد أشار على سيده جذيمة أن لا يأمن للزباء ملكة الجزيرة فخالعه وقصدها؟؟؟ إجابة لدعوتها إلى زواجه فقتلته فقال قصير : «لا يطاع لقصير أمر» فذهبت مثلا

(٣) يريد بالناصح نفسه ، أى : أنهم أجمعوا على مخالفته حتى شك فى نصيحته

٨١

فكنت وإيّاكم كما قال أخو هوازن : ـ أمرتكم أمرى بمنعرج اللّوى فلم تستبينوا النّصح إلاّ ضحى الغد

٣٦ ـ ومن خطبة له عليه السّلام

(فى تخويف أهل النهروان (١)

فأنا نذيركم أن تصبحوا صرعى بأثناء هذا النّهر ، وبأهضام هذا الغائط (٢)

__________________

(٦ ـ ن ـ ج ـ (١) وظن أن النصح غير نصح ، وأن الصواب ما أجمعوا عليه وتلك سنة البشر : إذا كثر المخالف للصواب اتهم المصيب نفسه. وقوله «ضن الزند بقدحه» أى : أنه لم يعدله بعد ذلك رأى صالح لشدة ما لقى من خلافهم ، وهكذا المشير الناصح إذا اتهم واستغش عشت بصيرته وفسد رأيه. «وأخو هوازن» هو دريد بن الصمة ، ومنعرج اللوى : اسم مكان ، وأصل اللوى من الرمل : الجدد يعد الرملة. ومنعرجه : منعطفه يمنة ويسرة. وفى هذه القصيدة.

فلما عصونى كنت منهم ، وقد أرى

غوايتهم ، وأننى غير مهتدى

وما أنا إلا من غزية إن غوت

غويت ، وإن ترشد غزية أرشد

(١) النهروان : اسم لأسفل نهر بين لخافيق ، وطرفاء على مقربة من الكوفة فى طرف صحراء حروراء. ويقال لأعلى ذلك النهر «تامر» ، وكأن الذين خرجوا على أمير المؤمنين وخطأوه فى التحكيم قد نقضوا بيعته ، وجهروا بعداوته ، وصاروا له حربا ، واجتمع معظمهم عند ذلك الموضع ، وهؤلاء يلقبون بالحرورية لما تقدم أن الأرض التى اجتمعوا فيها كانت تسمى حروراء ، وكان رئيس هذه الفئة الضالة حرقوص بن زهير السعدى ، ويلقب بذى الثدية (تصغير ثدية) خرج اليهم أمير المؤمنين يعظهم فى الرجوع عن مقالتهم ، والعودة إلى بيعتهم ، فأجابوا النصيحة برمى السهام وقتال أصحابه كرم اللّه وجهه ، فأمر بقتالهم ، وتقدم القتال بهذا الانذار الذى تراه

(٢) صرعى : جمع صريع ، أى : طريح ، أى : إنى أحذركم من اللجاج فى العصيان فتصبحوا مقتولين مطروحين : بعضكم فى أثناء هذا النهر ، وبعضكم بأهضام هذا الغائط. والأهضام : جمع هضم وهو المطمئن من الوادى. والغائط : ما سفل من

٨٢

على غير بيّنة من ربّكم ، ولا سلطان مبين معكم : قد طوّحت بكم الدّار (١) واحتبلكم المقدار ، وقد كنت نهيتكم عن هذه الحكومة فأبيتم علىّ إباء المخالفين المنابذين (٢) ، حتّى صرفت رأيى إلى هواكم ، وأنتم معاشر أخفّاء الهام (٣) ، سفهاء الأحلام ولم آت ـ لا أبا لكم ـ بجرا (٤) ، ولا أردت لكم ضرّا.

__________________

الأرض والمراد منها المنخفضات

(١) أى : صرتم فى متاهة ومضلة ، لا يدع الضلال لكم سبيلا إلى مستقر من اليقين ، فأنتم كمن رمت به داره وقذفته. ويقال : «تطاوحت به النوى» أى : ترامت. وقد يكون المعنى أهلكتكم دار الدنيا ، كما اخترناه فى الطبعة الأولى. والمقدار : القدر الالهى ، واحتبلهم : أوقعهم فى حبالته فهم مقيدون للهلاك لا يستطيعون منه خروجا

(٢) نهاهم عن إجابة أهل الشام فى طلب التحكيم بقوله : «إنهم ما رفعوا المصاحف ليرجعوا إلى حكمها ـ إلى آخر ما تقدم فى الخطبة السابقة». وقد خالفوه بقولهم : دعينا إلى كتاب اللّه فنحن أحق بالاجابة اليه ، بل أغلظوا فى القول حتى قال بعضهم : لئن لم تجبهم إلى كتاب اللّه أسلمناك لهم وتخلينا عنك

(٣) الهام : الرأس وخفتها كناية عن قلة العقل

(٤) البجر ـ بالضم ـ : الشر والأمر العظيم والداهية ، وقال الراجز أرمى عليها وهى شىء بجر أى : داهية ويقال «لقيت منه البجارى» وهى الدواهى ، واحدها بجرى مثل قمرى وقمارى

٨٣

٣٧ ـ ومن كلام له عليه السّلام

(يجرى مجرى الخطبة (١))

فقمت بالأمر حين فشلوا ، وتطلّعت حين تقبّعوا (٢) ونطقت حين تمنّعوا ومضيت بنور اللّه حين وقفوا. وكنت أخفضهم صوتا (٣) وأعلاهم فوتا (٤) فطرت بعنانها ، واستبددت برهانها (٥) كالجبل لا تحرّكه القواصف ، ولا

__________________

(١) هذا الكلام ساقه الرضى كأنه قطعة واحدة لغرض واحد ، وليس كذلك ، بل هو قطع غير متجاورة ، كل قطعة منها فى معنى غير ما للأخرى ، وهو أربعة فصول الأول من قوله : فقمت بالأمر إلى قوله : واستبددت برهانها ، والفصل الثانى من قوله : كالجبل لا تحركه القواصف إلى قوله : حتى أخذ الحق منه. والفصل الثالث من قوله : رضينا من اللّه قضاءه ، إلى قوله : فلا أكون أول من كذب عليه. والفصل الرابع ما بقى

(٢) يصف حاله فى خلافة عثمان رضى اللّه عنه ، ومقاماته فى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر أيام الأحداث ، أى : أنه قام بانكار المنكر حين فشل القوم ، أى : حين جبنهم وخورهم ، والتقبع : الاختباء ، والتطلع : ضده ، ويقال : امرأة طلعة قبعة : تطلع ثم تقبع رأسها ، أى : تدخله كما يقبع القنفذ ، أى : يدخل رأسه فى جلده وقبع الرجل : أدخل رأسه فى قميصه. أى : أنه ظهر فى إعزاز الحق والتنبيه على مواقع الصواب حين كان يختبئ القوم من الرهبة ، ويقال : «تقبع فلان فى كلامه» إذا تردد من عى أو حصر ، فقد كان ينطق بالحق ويستقيم به لسانه ، والقوم يترددون ولا يبينون

(٣) كناية عن ثبات الجأش ، فان رفع الصوت عند المخاوف إنما هو من الجزع ، وقد يكون كناية عن التواضع أيضا

(٤) الفوت : السبق

(٥) هذا الضمير وسابقه يعودان إلى الفضيلة المعلومة من الكلام : فضيلة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، وهو يمثل حاله مع القوم بحال خيل الحلبة ، والعنان للفرس معروف ، وطار به : سبق به. والرهان : الجعل

٨٤

تزيله العواصف : لم يكن لأحد فىّ مهمز (١) ولا لقاتل فىّ مغمز ، الذّليل عندى عزيز حتّى آخذ الحقّ له ، والقوىّ عندى ضعيف حتّى آخذ الحقّ منه ، رضينا عن اللّه قضاءه وسلّمنا للّه أمره (٢) ، أترانى أكذب على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم؟ واللّه لأنا أوّل من صدّقه فلا أكون أوّل من كذب عليه. فنظرت فى أمرى فإذا طاعتى قد سبقت بيعتى ، وإذا الميثاق فى عنقى لغيرى (٣)

٣٨ ـ ومن خطبة له عليه السّلام

وإنّما سمّيت الشّبهة شبهة لأنّها تشبه الحقّ : فأمّا أولياء اللّه فضياؤهم فيها اليقين ، ودليلهم سمت الهدى (٤) وأمّا أعداء اللّه فدعاؤهم فيها الضّلال ، ودليلهم العمى ، فما ينجو من الموت من خافه ، ولا يعطى البقاء من أحبّه

__________________

الذى وقع التراهن عليه

(١) الهمز والغمز : الوقيعة ، أى : لم يكن فى عيب أعاب به وهذا هو الفصل الثانى ، يذكر حاله بعد البيعة ، أى أنه قام بالخلافة كالجبل الخ. وقوله الذليل عندى ـ الخ» أى : إننى أنصر الذليل فيعز بنصرى ، حتى إذا أخذ حقه رجع إلى ما كان عليه قبل الانتصار بى. ومثل ذلك يقال فيما بعده.

(٢) قوله «رضينا ـ الخ» كلام قاله عند ما تفرس فى قوم من عسكره أنهم يتهمونه فيما يخبرهم به من أنباء الغيب

(٣) قوله «فنظرت الخ» هذه الجملة قطعة من كلام له فى حال نفسه بعد وفاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم. بين فيه أنه مأمور بالرفق فى طلب حقه ، فأطاع الأمر فى بيعة أبى بكر وعمر وعثمان رضى اللّه عنهم ، فبايعهم امتثالا لما أمره النبى به من الرفق ، وإيفاء بما أخذ عليه النبى من الميثاق فى ذلك.

(٤) سمت الهدى : طريقته ، وقوله «فما ينجو من الموت الخ» ليس ملتئما مع ما قبله فهو قطعة من كلام آخر ضمه إلى هذا على نحو ما جمع الفصول المتقدمة

٨٥

٣٩ ـ ومن خطبة له عليه السّلام

منيت بمن لا يطيع إذا أمرت (١) ولا يجيب إذا دعوت ، لا أبا لكم ما تنتظرون بنصركم ربّكم؟ أما دين يجمعكم ولا حميّة تحمشكم (٢) أقوم فيكم مستصرخا ، وأناديكم متغوّثا ، فلا تسمعون لى قولا ، ولا تطيعون لى أمرا ، حتّى تكشّف الأمور عن عواقب المساءة (٣) فما يدرك بكم ثار ، ولا يبلغ بكم مرام ، دعوتكم إلى نصر إخوانكم فجرجرتم جرجرة الجمل الأسرّ ، وتثاقلتم تثاقل النّضو الأدبر (٤) ، ثمّ خرج إلىّ منكم جنيد متذائب ضعيف (كأنّما يساقون إلى الموت وهم ينظرون (٥) قال الشريف : أقول. قوله عليه السّلام : «متذائب» أى : مضطرب ، من قولهم تذاءبت الريح ، اى : اضطرب هبوبها. ومنه يسمى الذئب ذئبا ، لاضطراب مشيته.

__________________

(١) منيت : بليت.

(٢) حمشه ـ كنصره ـ جمعه ، وحمش القوم : ساقهم بغضب. أو من أحمسه : بمعنى أغضبه ، أى : تغضبكم على أعدائكم ، والمستصرخ : المستنصر ، و «متغوثا» أى قائلا «وا غوثاه»

(٣) تكشف : مضارع حذف زائده ، والأصل تتكشف ، أى أنكم لا تزالون تخالفوننى وتخذلوننى حتى تنجلى الأمور والأحوال عن العواقب التى تسوءنا ولا تسرنا

(٤) الجرجرة : صوت يردده البعير فى حنجرته ، والأسر : المصاب بداء السرور ، وهو مرض فى الكركرة ينشأ من الدبرة. والنضو : المهزول من الابل والأدبر : المدبور ، أى : المجروح المصاب بالدبرة ـ بالتحريك ـ وهى العقر والجرح من القتب ونحوه

(٥) وهذا الكلام خطب به أمير المؤمنين فى غارة النعمان بن بشير الأنصارى على عين النمر من أعمال أمير المؤمنين ، وعليها إذ ذاك من قبله

٨٦

٤٠ ـ ومن كلام له عليه السّلام

فى الخوارج لما سمع قولهم : لا حكم إلا للّه ، قال عليه السّلام

كلمة حقّ يراد بها الباطل!! نعم إنّه لا حكم إلاّ للّه ، ولكن هؤلاء يقولون : لا إمرة إلاّ للّه ، وإنّه لا بدّ للنّاس من أمير برّ أو فاجر (١) يعمل فى إمرته المؤمن ، ويستمتع فيها الكافر ، ويبلّغ اللّه فيها الأجل ، ويجمع به الفىء ، ويقاتل به العدوّ ، وتأمن به السّبل ، ويؤخذ به للضّعيف من القوىّ حتّى يستريح برّ ويستراح من فاجر وفى رواية أخرى أنه عليه السّلام لما سمع تحكيمهم قال : حكم اللّه أنتظر فيكم وقال : ـ أمّا الإمرة البرّة فيعمل فيها التّقىّ ، وأمّا الإمرة الفاجرة فيتمتّع فيها الشّقىّ ، إلى أن تنقطع مدّته ، وتدركه منيّته.

__________________

مالك بن كعب الأرحى.

(١) برهان على بطلان زعمهم أنه لا إمرة إلاّ للّه بأن البداهة قاضية أن الناس لا بد لهم من أمير بر أو فاجر حتى تستقيم أمورهم ، وولاية الفاجر لا تمنع المؤمن من عمله لاحراز دينه ودنياه ، وفيها يستمتع الكافر حتى يوافيه الأجل ويبلغ اللّه فيها الأمور آجالها المحدودة لها بنظام الخلقة ، وتجرى سائر المصالح المذكورة. ويمكن أن يكون المراد بالمؤمن هو الأمير البار ، وبالكافر الأمير الفاجر ، كما تدل عليه الرواية الأخرى. وقوله «أما الامرة البرة الخ»

٨٧

٤١ ـ ومن خطبة له عليه السّلام

إنّ الوفاء توءم الصّدق (١) ولا أعلم جنّة أوقى منه. ولا يغدر من علم كيف المرجع. ولقد أصبحنا فى زمان قد اتّخذ أكثر أهله الغدر كيسا (٢) ونسبهم أهل الجهل فيه إلى حسن الحيلة ، ما لهم؟ قاتلهم اللّه! قد يرى الحوّل القلّب وجه الحيلة ودونه مانع من أمر اللّه ونهيه فيدعها رأى عين بعد القدرة عليها وينتهز فرصتها من لا حريجة له فى الدّين (٣)

٤٢ ـ ومن كلام له عليه السّلام

أيّها النّاس ، إنّ أخوف ما أخاف عليكم اثنان : اتّباع الهوى ، وطول الأمل (٤) ، فأمّا اتّباع الهوى فيصدّ عن الحقّ ، وأمّا طول الأمل فينسى

__________________

(١) التوءم : الذى يولد مع الآخر فى حمل واحد ، فالصدق والوفاء قرينان فى المنشأ لا يسبق أحدهما الآخر فى الوجود ولا فى المنزلة : والجنة ـ بالضم ـ الوقاية ومن علم أن مرجعه إلى اللّه ، وهو سريع الحساب ، لا يمكن أن يعدل عن الوفاء إلى الغدر

(٢) الكيس ـ بالفتح ـ العقل ، وأهل ذلك الزمان يعدون الغدر من العقل وحسن الحيلة ، كأنهم أهل السياسة من بنى زماننا ، وأمير المؤمنين يعجب من زعمهم ، ويقول : ما لهم قاتلهم اللّه يزعمون ذلك مع أن الحول القلب ـ بضم الأول وتشديد الثانى من اللفظين ، أى : البصير بتحويل الأمور وتقليبها ـ قد يرى وجه الحيلة فى بلوغ مراده ، لكنه يجد دون الأخذ به مانعا من أمر اللّه ونهيه ، فيدع الحيلة وهو قادر عليها ، خوفا من اللّه ، ووقوفا عند حدوده.

(٣) الحريجة. التحرج ، أى : التحرز من الآثام

(٤) طول الأمل : هو استفساح الأجل ، والتسويف بالعمل ، طلبا للراحة العاجلة ، وتسلية للنفس بامكان

٨٨

الآخرة. ألا وإنّ الدّنيا قد ولّت حذّاء (١) فلم يبق منها إلاّ صبابة (٢) كصبابة الإناء اصطبّها صابّها ، ألا وإنّ الآخرة قد أقبلت ولكلّ منهما بنون ، فكونوا من أبناء الآخرة ، ولا تكونوا أبناء الدّنيا فإنّ كلّ ولد سيلحق بأمّه يوم القيامة ، وإنّ اليوم عمل ولا حساب ، وغدا حساب ولا عمل. قال الشريف : أقول : الحذاء. السريعة ، ومن الناس من يرويه جذاء (٣)

٤٣ ـ ومن كلام له عليه السّلام

وقد أشار عليه أصحابه بالاستعداد للحرب بعد إرساله جرير ابن عبد اللّه البجلى إلى معاوية

إنّ استعدادى لحرب أهل الشّام وجرير عندهم إغلاق للشّام ، وصرف لأهله عن خير إن أرادوه. ولكن قد وقّتّ لجرير وقتا لا يقيم بعده إلاّ مخدوعا أو عاصيا. والرّأى عندى مع الأناة فأرودوا ولا أكره لكم الإعداد (٤)

__________________

التدارك فى الأوقات المقبلة ، وهذا من أقبح الصفات ، أما قوة الأمل فى نجاح الأعمال الصالحة ، ثقة باللّه ويقينا بعونه ، فهى حياة كل فضيلة ، وسائقة لكل مجد ، والمحرومون منها آيسون من رحمة اللّه ، تحسبهم أحياء وهم أموات لا يشعرون.

(١) الحذاء ـ بالتشديد ـ الماضية السريعة

(٢) الصبابة ـ بالضم ـ البقية من الماء واللبن فى الاناء. و «اصطبها صابها» كقولك : أبقاها مبقيها ، أو تركها تاركها

(٣) جذاء ـ بالجيم ـ أى : مقطوع خيرها ودرها

(٤) يقول أمير المؤمنين إنه أرسل جريرا ليخابر معاوية وأهل الشام فى البيعة له ، والدخول فى طاعته ، ولم ينقطع الأمل منهم ، فاستعداده للحرب ، وجمعه الجيوش ، وسوقها إلى أرضهم ، إغلاق لأبواب السلم على أهل الشام ، وصرف لهم عن الخير إن كانوا يريدونه

٨٩

ولقد ضربت أنف هذا الأمر وعينه (١) ، وقلّبت ظهره وبطنه ، فلم أر لى إلاّ القتال أو الكفر ، إنّه قد كان على النّاس وال أحدث أحداثا ، وأوجد للنّاس مقالا ، فقالوا ، ثمّ نقموا فغيّروا (٢)

٤٤ ـ ومن كلام له عليه السّلام

لما هرب مصقلة بن هبيرة الشيبانى إلى معاوية ، وكان قد ابتاع سبى بنى ناجية من عامل أمير المؤمنين عليه السّلام وأعتقه (٣) فلما طالبه بالمال خاس

__________________

فالرأى الأناة ، أى : التأنى ، ولكنه لا يكره الاعداد ، أى : أن يعد كل شخص لنفسه ما يحتاج إليه فى الحرب من سلاح ونحوه ، ويفرغ نفسه مما يشغله عنها لو قامت حتى إذا دعى إليها لم يبطىء فى الاجابة ، ولم يجد ما يمنعه عن اقتحامها. وقوله «أرودوا» أى : سيروا برفق

(١) مثل تقوله العرب فى الاستقصاء فى البحث والتأمل والفكر ، وإنما خص الأنف والعين لأنهما أظهر شىء فى صورة الوجه ، وهما مستفلت النظر. والمراد من الكفر فى كلامه الفسق ، لأن ترك القتال تهاون بالنهى عن المنكر ، وهو فسق لا كفر.

(٢) يريد من الوالى الخليفة الذى كان قبله ، وتلك الأحداث معروفة فى التاريخ ، وهى التى أدت بالقوم إلى التألب على قتله ، ويروى : «قال» بالقاف بدل «وال» ، ولا أظنها إلا تحريفا ، وإن كنت أتيت على تفسيرها فى الطبعة الأولى

(٣) كان الخريت بن راشد الناجى ـ أحد بنى ناجية ـ مع أمير المؤمنين فى صفين ، ثم نقض عهده بعد صفين ، ونقم عليه فى التحكيم ، وخرج يفسد الناس ، ويدعوهم للخلاف ، فبعث إليه أمير المؤمنين كتيبة مع معقل ابن قيس الرياحى ، لقتاله هو ومن انضم اليه ، فأدركته الكتيبة بسيف البحر بفارس ، وبعد دعوته إلى التوبة وإبائه قبولها شدت عليه ، فقتل وقتل معه كثير من قومه ، وسبى من أدرك فى رحالهم من الرجال والنساء والصبيان : فكانوا خمسمائة أسير. ولما رجع معقل بالسبى مر على مصقلة بن هبيرة الشيبانى ، وكان عاملا لعلى على أردشير ، خرج فبكى

٩٠

به وهرب إلى الشام (١) : ـ

قبّح اللّه مصقلة فعل فعل السّادات ، وفرّ فرار العبيد ، فما أنطق مادحه حتّى أسكته ، ولا صدّق واصفه حتّى بكّته ، ولو أقام لأخذنا ميسوره (٢) وانتظرنا بماله وفوره (٣)

٤٥ ـ ومن خطبة له عليه السّلام

الحمد للّه غير مقنوط من رحمته ، ولا مخلوّ من نعمته ، ولا مأيوس من مغفرته ، ولا مستنكف من عبادته ، الّذى لا تبرح منه رحمة ، ولا تفقد له نعمة. والدّنيا دار منى لها الفناء (٤) ، ولأهلها منها الجلاء ، وهى حلوة خضرة (٥) ، وقد عجلت للطّالب (٦) والتبست بقلب النّاظر ، فارتحلوا عنها بأحسن ما بحضرتكم من الزّاد (٧) ، ولا تسألوا فيها فوق الكفاف (٨) ولا

__________________

اليه النساء والصبيان ، وتصايح الرجال يستغيثون فى فكاكهم ، فاشتراهم من معقل بخمسمائة ألف درهم ، ثم امتنع من أداء المبلغ. ولما ثقلت عليه المطالبة بالحق لحق بمعاوية فرارا تحت أستار الليل.

(١) خاس به : خان

(٢) ميسوره : ما تيسر له

(٣) وفوره : زيادته

(٤) منى لها الفناء ـ ببناء الفعل للمجهول ـ أى : قدر لها ، والجلاء : الخروج من الأوطان

(٥) تمثيل لها بما يألفه الذوق ، ويروق النظر

(٦) عجلت للطالب : أسرعت اليه والتبست بقلب الناظر : اختلطت به محبة وعلقة

(٧) أحسن ما بحضرتكم ، أى : أفضل الأشياء الحاضرة عندكم ، وذلك فاضل الأخلاق ، وصالح الأعمال.

(٨) الكفاف : ما يكفك ـ أى : يمنعك ـ عن سؤال غيرك ، وهو مقدار القوت

٩١

تطلبوا منها أكثر من البلاغ (١)

٤٦ ـ ومن كلام له عليه السّلام

عند عزمه على المسير إلى الشام (٢)

اللّهمّ إنّى أعوذ بك من وعثاء السّفر (٣) ، وكآبة المنقلب ، وسوء المنظر فى الأهل والمال. اللّهمّ أنت الصّاحب فى السّفر ، وأنت الخليفة فى الأهل ولا يجمعهما غيرك ، لأنّ المستخلف لا يكون مستصحبا ، والمستصحب لا يكون مستخلفا.

٤٧ ـ ومن كلام له عليه السّلام

فى ذكر الكوفة

كأنّى بك يا كوفة تمدّين مدّ الأديم العكاظىّ (٤) تعركين بالنّوازل ،

__________________

(١) البلاغ : ما يتبلغ به ، أى : يقتات به.

(٢) وذلك بعد حرب الجمل حيث اختلف عليه معاوية بن أبى سفيان ، ولم يدخل فى بيعته ، وقام للمطالبة بدم عثمان ، واستهوى أهل الشام ، واستنصرهم لرأيه فعززوه على الخلاف ، وسار اليه أمير المؤمنين ، والتقيا بصفين ، واقتتلا مدة غير قصيرة ، وانتهى القتال بتحكيم الحكمين : عمرو بن العاص ، وأبى موسى الأشعرى.

(٣) الوعثاء : المشقة ، والكآبة : الحزن. والمنقلب : مصدر بمعنى الرجوع ، وأول الكلام مروى عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فى الكتب الصحيحة ، وأتمه أمير المؤمنين بقوله : «ولا يجمعهما غيرك ـ الخ». وذات اللّه تستوى عندها الأمكنة كما تستوى الأزمنة : فالحضر والسفر عندها سواء ، وليس هذا الشأن لغير الذات الأقدس.

(٤) العكاظى : نسبة إلى عكاظ كغراب ـ وهو سوق كانت تقيمه العرب فى صحراء بين نخلة والطائف ، يجتمعون اليه من بداية شهر ذى القعدة ليتعاكظوا ـ أى : يتفاخروا ـ كل بما لديه من فضيلة وأدب ، ويستمر إلى عشرين يوما ، وليتبايعوا أيضا ، وأكثر ما كان يباع الأديم بتلك السوق فنسب اليها ، والأديم : الجلد المدبوغ ، وجمعه أدم ـ بفتحتين ، وضمتين ـ ، وآدمة ـ كأرغفة ـ وقوله «تمدين ـ الخ» : تصوير لما ينالها من العسف والخبط ، و «تعركين» : من «عركتهم الحرب» إذا مارستهم ، والنوازل : الشدائد ، والزلازل : المزعجات من الخطوب

٩٢

وتركبين بالزّلازل ، وإنّى لأعلم أنّه ما أراد بك جبّار سوءا إلاّ ابتلاه اللّه بشاغل ، ورماه بقاتل.

٤٨ ـ ومن خطبة له عليه السّلام

عند المسير إلى الشام

الحمد للّه كلّما وقب ليل وغسق (١) ، والحمد للّه كلّما لاح نجم وخفق (٢) ، والحمد للّه غير مفقود الانعام ولا مكافئ الإفضال. أمّا بعد ، فقد بعثت مقدّمتى (٣) وأمرتهم بلزوم هذا الملطاط حتّى يأتيهم أمرى ، وقد أردت أن أقطع هذه النّطفة إلى شرذمة منكم موطنين أكناف

__________________

(١) وقب : دخل ، وغسق : اشتدت ظلمته

(٢) خفق النجم : غاب ، ولاح : ظهر

(٣) أراد بمقدمته صدر جيشه ومقدمة الانسان ـ بفتح الدال ـ صدره ، والملطاط : حافة الوادى وشفيره وساحل البحر ، والسمت أى : الطريق ، وقول الشريف «يعنى بالملطاط السمت» تبيين لمراد أمير المؤمنين من لفظ الملطاط فى كلامه ، لا تفسيرا للفظ فى نفسه ، وقوله «وهو شاطىء الفرات» : بيان للسمت ، أى : الطريق ، وقوله : «ويقال ذلك» أى : لفظ الملطاط ، تفسير للفظ الملطاط فى استعمال اللغويين ، فاندفع بهذا ما اورده ابن أبى الحديد على عبارته من أنها خالية من المعنى.

٩٣

دجلة (١) فأنهضهم معكم إلى عدوّكم ، وأجعلهم من أمداد القوّة لكم (٢) قال الشريف : أقول : يعنى عليه السّلام بالملطاط السمت الذى أمرهم بنزوله وهو شاطى الفرات ، ويقال ذلك لشاطئ البحر ، وأصله ما استوى من الأرض. ويعنى بالنطفة ماء الفرات. وهو من غريب العبارات وأعجبها

٤٩ ـ ومن كلام له عليه السّلام

الحمد للّه الّذى بطن خفيّات الأمور (٣) ، ودلّت عليه أعلام الظّهور ، وامتنع على عين البصير ، فلا عين من لم يره تنكره ، ولا قلب من أثبته يبصره : (٤) سبق فى العلوّ فلا شىء أعلى منه. وقرب فى الدّنوّ فلا شىء أقرب منه (٥) فلا استعلاؤه باعده عن شىء من خلقه ، ولا قربه ساواهم فى المكان

__________________

(١) الشرذمة : النفر القليلون ، والأكناف : الجوانب و «موطنين الأكناف» أى : جعلوها وطنا ، يقال : أوطنت البقعة

(٢) الأمداد : جمع مدد ، وهو ما يمد به الجيش لتقويته ، وهذه الخطبة نطق بها أمير المؤمنين وهو بالنخيلة خارجا من الكوفة إلى صفين لخمس بقين من شوال سنة سبع وثلاثين

(٣) بطن الخفيات : علمها والأعلام : جمع علم ـ بالتحريك ـ وهو ما يهتدى به ، ثم عم فى كل ما دل على شىء وأعلام الظهور : الأدلة الظاهرة التى بظهورها تظهر غيرها

(٤) كان الأليق بعد قوله «وامتنع على عين البصير» يفسره ما جاء فى رواية أخرى ، وهو «فلا قلب من لم يره ينكره ولا عين من أثبته تبصره» وما جاء فى الكتاب معناه أن من لم يره لا ينكره اعتمادا على عدم رؤيته لظهور الأدلة عليه ، ومن أثبته لا يستطيع اكتناه حقيقته

(٥) علا كل شىء بذاته وكماله وجلاله. وقرب من كل شىء بعلمه وإرادته وإحاطته

٩٤

به : لم يطلع العقول على تحديد صفته ، ولم يحجبها عن واجب معرفته ، فهو الّذى تشهد له أعلام الوجود ، على إقرار قلب ذى الجحود (١) تعالى اللّه عمّا يقول المشبّهون به ، والجاحدون له ـ علوّا كبيرا.

٥٠ ـ ومن كلام له عليه السّلام

إنّما بدء وقوع الفتن أهواء تتّبع ، وأحكام تبتدع ، يخالف فيها كتاب اللّه ، ويتولّى عليها رجال رجالا (٢) على غير دين اللّه ، فلو أنّ الباطل خلص من مزاج الحقّ لم يخف على المرتادين ، ولو أنّ الحقّ خلص من الباطل انقطعت عنه ألسن المعاندين (٣) ولكن يؤخذ من هذا ضغث ومن هذا ضغث (٤) فيخرجان! فهنالك يستولى الشّيطان على أوليائه ، وينجو الّذين سبقت لهم من اللّه الحسنى.

__________________

وعنايته ، فلا شىء إلا وهو منه ، فأى شىء يبعد عنه؟

(١) إن قلب الجاحد إن انكره فما إنكاره إلا افتعال مما عرض عليه من أثر الفواعل الخارجة عن فطرته وظهور أعلام الوجود فى الدلالة عليه لا يقوى على مدافعة تأثيره قلب الجاحد ، فلا مناص له من الاقرار فى الواقع ، وإن ظهر الجحود فى كلامه وبعض أعماله.

(٢) يستعين عليها رجال برجال

(٣) المرتادين : الطالبين للحقيقة ، أى : لو كان الحق خالصا من ممازجة الباطل ومشابهته لكان ظاهرا لا يخفى على من طلبه

(٤) الضغث ـ بالكسر ـ قبضة من حشيش مختلط فيها الرطب باليابس ، يريد أنه إن أخذ الحق من وجه لم يعدم شبيها له من الباطل يلتبس به ، وإن نظر إلى الباطل لاح كأن عليه صورة الحق فاشتبه به ، فذلك ضغث الحق ، وهذا ضغث الباطل ومصادر الأهواء التى ينشأ عنها وقوع الفتن إنما هى من الالتباس الواقع بين الحق والباطل

٩٥

٥١ ـ ومن خطبة له عليه السّلام

لما غلب أصحاب معاوية أصحابه عليه السّلام على شريعة (١)

الفرات بصفين ومنعوهم الماء

قد استطعموكم القتال (٢) فأقرّوا على مذلّة ، وتأخير محلّة ، أو روّوا السّيوف من الدّماء ترووا من الماء ، فالموت فى حياتكم مقهورين والحياة فى موتكم قاهرين. ألا وإنّ معاوية قاد لمّة من الغواة (٣). وعمس عليهم الخبر (٤) حتّى جعلوا نحورهم أغراض المنيّة.

٥٢ ـ ومن خطبة له عليه السّلام

ألا وإنّ الدّنيا قد تصرّمت ، وآذنت بوداع ، وتنكّر معروفها ، وأدبرت حذّاء (٥) فهى تحفز بالفناء سكّانها (٦) وتحدو بالموت جيرانها ، وقد (٧)

__________________

(١) الشريعة : مورد الشاربة من النهر

(٢) طلبوا منكم أن تطعموهم القتال كما يقال «فلان يستطعمنى الحديث» أى : يستدعيه منى. وقوله «فأقروا الخ» أى إما تثبتوا على الذل وتأخر المنزلة ، وإما أن ترووا سيوفكم الخ

(٣) اللمة ـ بضم اللام وتشديد الميم ـ الأصحاب فى السفر ، وبتخفيفها : الجملة القليلة مطلقا ، أو من الثلاثة إلى العشرة. والتقليل مستفاد من الأول بطريق الكناية ، ومن الثانى على الحقيقة الصريحة ، وفى الأول الاشارة إلى أنهم ليسوا بأهل حرب

(٤) عمس الكتاب والخبر ـ كنصر ـ أخفاه و «عمست عليه» أى : أريته أنك لا تعرف الأمر وأنت به عارف ، والأغراض : جمع غرض ، وهو الهدف

(٥) حذاء : مسرعة ورحم حذاء : مقطوعة غير موصولة ، وفى رواية «جذاء» ـ بالجيم ـ أى : مقطوعة الدر والخير

(٦) تحفزهم. تدفعهم وتسوقهم ، حفزه يحفزه : دفعه من خلفه أو هو بمعنى تطعنهم من «حفزه بالرمح» إذا طعنه

(٧) تحدر ـ بالراء ، من باب

٩٦

أمرّ منها ما كان حلوا ، وكدر منها ما كان صفوا (١) فلم يبق منها إلاّ سملة كسملة الإداوة (٢) أو جرعة كجرعة المقلة ، لو تمزّزها الصّديان لم ينقع (٣) فأزمعوا عباد اللّه الرّحيل عن هذه الدّار المقدور على أهلها الزّوال (٤) ولا يغلبنّكم فيها الأمل ولا يطولنّ عليكم الأمد ، فو اللّه لو حننتم حنين الولّه العجال (٥) ودعوتم بهديل الحمام (٦) وجأرتم جؤار متبتّل الرّهبان (٧) وخرجتم إلى اللّه من الأموال والأولاد ، التماس القربة إليه فى ارتفاع درجة عنده ، أو غفران سيّئة أحصتها كتبه ، وحفظها رسله (٨) ، لكان قليلا فيما أرجو لكم

__________________

نصر وضرب ـ أى : تحوطهم بالموت ، وفى رواية ـ وهى الصحيحة ـ «تحدو» بالواو بعد الدال ، أى : تسوقهم بالموت إلى الهلاك ، فكون الفقرة فى معنى سابقتها مؤكدة لها

(١) أمر الشىء : صار مرا ، وكدر كدرا ـ كفرح فرحا ـ وكدر ـ بالضم كظرف ـ كدورة : تعكر ، وتغير لونه ، واختلط بما لا يستساغ هو معه

(٢) السملة ـ محركة بقية الماء فى الحوض ، والاداوة : المطهرة ، وهى إناء الماء الذى يتطهر به ، والمقلة ـ بالفتح ـ حصاة يضعها المسافرون فى إناء ، ثم يصبون الماء فيه ليغمرها ، فيتناول كل منهم مقدار ما غمره ، لا يزيد أحدهم عن الآخر فى نصيبه : يفعلون ذلك إذا قل الماء ، وأرادوا قسمته بالسوية

(٣) التمزز : الامتصاص قليلا قليلا ، والصديان العطشان ، وقوله «لم ينقع» أى : لم يرو

(٤) فأزمعوا الرحيل : أى اعزموا عليه ، يقال : أزمع الأمر ، ولا يقال أزمع عليه ، وجوزه الفراء بمعنى عزم عليه وأجمع ، والمراد من العزم على الرحيل مراعاته والعمل له

(٥) كل أنثى فقدت ولدها فهى واله ووالهة ، والعجال من الابل : التى فقدت ولدها

(٦) هديل الحمام : صوته فى بكائه لفقد إلفه

(٧) جأرتم : رفعتم أصواتكم ، والجؤار : الصوت المرتفع ، أى : تضرعتم إلى اللّه بأرفع أصواتكم كما يفعل الراهب المتبتل ، والمتبتل : المنقطع للعبادة.

(٨) المراد من الرسل هنا الملائكة الموكلون

٩٧

من ثوابه ، وأخاف عليكم من عقابه. واللّه لو انماثت قلوبكم انمياثا (١) ، وسالت عيونكم ، من رغبة إليه أو رهبة منه ، دما ، ثمّ عمّرتم فى الدّنيا ما الدّنيا باقية (٢) ما جزت أعمالكم ، ولو لم تبقوا شيئا من جهدكم ، أنعمه عليكم العظام وهداه إيّاكم للإيمان (٣)

٥٣ ـ ومن كلام له عليه السّلام

فى ذكر يوم النحر

ومن كمال الأضحية استشراف أذنها (٤) وسلامة عينها. فإذا سلمت الأذن والعين سلمت الأضحية وتمّت ولو كانت عضباء القرن (٥) تجرّ رجلها إلى المنسك (٦) قال الشريف : والمنسك هنا المذبح

__________________

(٧ ـ ن ـ ج ـ (١) بحفظ أعمال العباد

(١) انماثت : ذابت

(٢) «ما الدنيا باقية» أى : مدة بقائها

(٣) قوله «ما جزت» جواب «لو انماثت» وقوله «أنعمه عليكم العظام» مفعول «جزت» أى : ما كافأ ذلك أنعمه الكبار عليكم. وقوله «ولو لم تبقوا شيئا ـ الخ» اعتراض بين الفاعل والمفعول لبيان غاية النفى فى الجواب ، وقوله «وهداه إياكم» عطف على أنعمه : من عطف الخاص على العام ، فان الهداية إلى الايمان من أكبر النعم

(٤) الأضحية : الشاة التى طلب الشارع ذبحها بعد شروق الشمس من عيد الأضحى واستشراف الأذن : تفقدها حتى لا تكون مجدوعة أو مشقوقة. وفى الحديث : «أمرنا أن نستشرف العين والأذن» ، أى : نتفقدها. وذلك من كمال الأضحية ، أى : من كمال عملها وتأدية سنتها. وتكون سلامة عينها عطفا على أذنها. وقد يراد من استشراف الأذن طولها وانتصابها يقال : «أذن شرفاء» أى : منتصبة طويلة ، فسلامة عينها عطف على استشراف. والتفسير الأول أمس بقوله «فاذا سلمت الأذن»

(٥) عضباء القرن : مكسورته

(٦) «تجر رجلها إلى المنسك» أى : عرجاء

٩٨

٥٤ ـ ومن خطبة له عليه السّلام

فتداكّوا علىّ تداكّ الإبل الهيم يوم وردها (١) قد أرسلها راعيها ، وخلعت مثانيها (٢) حتّى ظننت أنّهم قاتلىّ ، أو بعضهم قاتل بعض لدىّ ، وقد قلّبت هذا الأمر ، بطنه وظهره ، فما وجدتنى يسعنى إلاّ قتالهم أو الجحود بما جاءنى به محمّد صلّى اللّه عليه وسلّم (٣) فكانت معالجة القتال أهون علىّ من معالجة العقاب ، وموتات الدّنيا أهون علىّ من موتات الآخرة

٥٥ ـ ومن كلام له عليه السّلام

وقد استبطأ أصحابه إذنه لهم فى القتال بصفين

أمّا قولكم : أكلّ ذلك كراهية الموت؟! فو اللّه ما أبالى أدخلت إلى الموت أو خرج الموت إلىّ (٤). وأمّا قولكم شكّا فى أهل الشّام! فو اللّه ما دفعت

__________________

والمنسك ، المذبح : وفى صفات الأضحية وعيوبها المخلة بها تفصيل وخلافات تطلب من كتب الفقه

(١) تداكوا : تزاحموا عليه ليبايعوه رغبة فيه ، والهيم : العطاش ويوم وردها : يوم شربها

(٢) جمع المثناة ـ بفتح الميم وكسرها ـ حبل من صوف أو شعر يعقل به البعير.

(٣) قتال البغاة من الواجب على الامام ، فان لم يقاتلهم ـ على قدرة منه ـ كان منابذا لأمر اللّه فى ترك ما أوجبه عليه ، فكأنه جاحد لما جاء به رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم

(٤) روى أن أمير المؤمنين بعد ما ملك الماء على أصحاب معاوية ساهمهم فيه ، رجاء أن يعطفوا إليه ، ولزوما للمعدلة وحسن السيرة ، ومكث أياما لا يرسل إلى معاوية ولا يأتيه منه شىء ، واستبطأ الناس إذنه فى قتال أهل الشام

٩٩

الحرب يوما إلاّ وأنا أطمع أن تلحق بى طائفة فتهتدى بى ، وتعشو إلى ضوئى ، وذلك أحبّ إلىّ من أن أقتلها على ضلالها ، وإن كانت تبوء بآثامها.

٥٦ ـ ومن كلام له عليه السّلام

ولقد كنّا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله نقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وأعمامنا : ما يزيدنا ذلك إلاّ إيمانا وتسليما ومضيّا على اللّقم (١) وصبرا على مضض الألم ، وجدّا فى جهاد العدوّ. ولقد كان الرّجل منّا والآخر من عدوّنا يتصاولان تصاول الفحلين ، يتخالسان أنفسهما (٢) أيّهما يسقى صاحبه كأس المنون : فمرّة لنا من عدوّنا ، ومرّة لعدوّنا منّا ، فلمّا رأى اللّه صدقنا أنزل بعدوّنا الكبت (٣) وأنزل علينا النّصر ، حتّى استقرّ الإسلام ملقيا جرانه (٤) ، ومتبوّئا

__________________

واختلفوا فى سبب التريث ، فقال بعضهم : كراهة الموت ، وذهب بعضهم إلى الشك فى جواز قتال أهل الشام ، فأجابهم : أما الموت فلم يكن ليبالى به ، وأما الشك فلا موضع له ، وإنما يرجو بدفع الحرب أن ينحازوا إليه بلا قتال ، فان ذلك أحب إليه من القتال على الضلال ، وإن كان الاثم عليهم ، وتبوء بآثامها : ترجع بها ، وتعشو إلى ضوئه : تستدل عليه ـ وإن كان ببصر ضعيف ـ فى ظلام الفتن فتهتدى إليه. عشا إلى النار وعشاها ـ من باب نصر ـ عشوا ـ بفتح فسكون كقول ـ وعشو ـ بضمتين مثل سمو ـ أى : أبصرها ليلا ببصر ضعيف فقصدها مستضيئا راجيا الهدى أو القرى

(١) اللقم ـ بالتحريك وبوزن صرد أيضا ـ : معظم الطريق أو جادته ، ويقال : عليك بلقم الطريق فالزمه ، ويقال أيضا : لقم الطريق ـ من باب نصر ـ إذا سد فمه. ومضض الألم : لذعته وبرحاؤه

(٢) يتخالسان : كل منهما يطلب اختلاس روح الآخر ، والتصاول : أن يحمل كل قرن على قرنه

(٣) الكبت : الذل والخذلان ، وفعله من باب ضرب

(٤) جران البعير ـ بالكسر ـ مقدم عنقه من مذبحه إلى منحره

١٠٠