نهج البلاغة - المقدمة

نهج البلاغة - المقدمة

المؤلف:


الموضوع : الحديث وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٤٠

١

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

الحمد للّه الذى رضى الحمد كفاء نعمته ، وصلى اللّه على سيدنا محمد مصطفاه من بريته ، وعلى آله وصحبه وعترته وبعد ، فهذا كتاب «نهج البلاغة» وهو ما اختاره الشريف الرضى أبو الحسن محمد ابن الحسن الموسوى ، من كلام أمير المؤمنين على بن ابى طالب رضى اللّه عنه ، وهو الكتاب الذى جمع بين دفتيه عيون البلاغة وفنونها ، وتهيأت به للناظر فيه أسباب الفصاحة ، ودنا منه قطافها ، إذ كان من كلام أفصح الخلق ـ بعد الرسول صلى اللّه عليه وسلم ـ منطقا ، واشدهم اقتدارا ، وأبرعهم حجة ، وأملكهم للغة يديرها كيف شاء ، الحكيم الذى تصدر الحكمة عن بيانه ، والخطيب الذى يملأ القلب سحر لسانه ، العالم الذى تهيأ له من خلاط الرسول وكتابة الوحى والكفاح عن الدين بسيفه ولسانه منذ حداثته ما لم يتهيأ لأحد سواه. هذا كتاب «نهج البلاغة» وأنا به حفى منذ طراءة السن وميعة الشباب ، فلقد كنت أجد والدى كثير القراءة فيه ، وكنت أجد عمى الأكبر يقضى معه طويل الساعات يردد عباراته ، ويستخرج معانيها ، ويتقيل أسلوبه ، وكان لهما من عظيم التأثير على نفسى ما جعلنى أقفو أثرهما ، فأحله من قلبى المحل الأول ، وأجعله سميرى الذى لا يمل ، وأنيسى الذى أخلو إليه إذا عز الأنيس. هذا كتاب «نهج البلاغة» الذى يقول عنه الأستاذ الامام (١) : «ولا أعلم اسما أليق بالدلالة على معناه من هذا الاسم ، وليس فى وسعى أن أصف هذا الكتاب بأزيد مما دل عليه اسمه ، ولا أن آتى بشىء فى بيان مزيته فوق ما أتى به صاحب الاختيار ، كما ستراه فى مقدمة الكتاب (٢) ، ولو لا أن غرائز الجبلة ، وقواضى الذمة ، تفرض علينا عرفان الجميل لصاحبه ، وشكر المحسن على إحسانه ، لما احتجنا إلى التنبيه على

__________________

(١) انظر (ص ى) من مقدمة الامام لهذا الكتاب.

(٢) انظر (ج ١ ص ٢ ، وما بعدها) من هذا الكتاب.

٢

ما أودع نهج البلاغة من فنون الفصاحة ، وما خص به من وجوه البلاغة ، خصوصا وهو لم يترك غرضا من أغراض الكلام إلا أصابه ، ولم يدع للفكر ممرا إلا جابه» وهو الذى يقول جامعه الشريف الرضى فى سبب توليفه «علما أن ذلك يتضمن من عجائب البلاغة ، وغرائب الفصاحة ، وجواهر العربية ، وثواقب الكلم الدينية والدنيوية ، ما لا يوجد مجتمعا فى كلام ، ولا مجموع الأطراف فى كتاب ، إذ كان أمير المؤمنين عليه السلام مشرع الفصاحة وموردها ، ومنشأ البلاغة ومولدها ، ومنه عليه السلام ظهر مكنونها ، وعنه أخذت قوانينها ، وعلى أمثلته حذا كل قائل خطيب ، وبكلامه استعان كل واعظ بليغ ، ومع ذلك فقد سبق وقصروا ، وتقدم وتأخروا». هذا كتاب «نهج البلاغة» وهو الذى عرفت منزلته بين الكتب ، وسمعت الثناء العظيم عليه من رجل من رجالات الأدب والبيان فى عصر العلم والبيان ، وهو «أشعر الطالبيين من مضى ومن غبر ، على كثرة شعرائهم المفلقين» (١) ومن حكيم الاسلام وإمام المسلمين وزعيم الدعوة الاجتماعية والأدبية فى العصر الحديث ، فليس بدعا أن نحضك على قراءته ومعاودة مراجعته ، ثم على التأسى به وقفو نهجه ، وليس كثيرا أن نكفل لك إذا أنت لم تأل جهدا فى اتباع هذه النصيحة أن تبلغ الذروة ، وتصل إلى ما تطمع فيه من امتلاك أزمة البلاغة ، والتمكن من أعنتها. وليس من شك عند أحد من أدباء هذا العصر ، ولا عند أحد ممن تقدمهم ، فى أن أكثر ما تضمنه «نهج البلاغة» من كلام أمير المؤمنين عليه السلام ، نعم ليس من شك عند أحد فى ذلك ، وليس من شك عند أحد فى أن ما تضمنه الكتاب جار على النهج المعروف عن أمير المؤمنين ، موافق للأسلوب الذى يحفظه الأدباء والعلماء من كلامه الموثوق بنسبته إليه ، ولكن بعض المعروفين من أدباء عصرنا يميلون إلى أن بعض ما فى الكتاب من خطب ورسائل لم يصدر عن غير الشريف الرضى جامع الكتاب : هو منشئه ، وهو مدعى نسبته إلى الامام ، وهم فى ذلك يترسمون خطوات بعض المتقدمين ممن قرب من عهد الرضى ومن بعد عنه ، فقد سبق إلى التشكك فى شأن الكتاب واستبعاد نسبة جميع ما فيه إلى الامام على رضى اللّه عنه قاضى القضاة شمس الدين أبو العباس أحمد بن إبراهيم بن أبى بكر خلكان الاريلى : المولود بمدينة

__________________

(١) يقول ذلك الثعالبى فى شأن الشريف الرضى.

٣

إربل فى سنة ٦٠٨ من الهجرة والمتوفى بمدينة دمشق فى سنة ٦٨١ من الهجرة ، وهو صاحب كتاب «وفيات الأعيان ، وأنباء أبناء الزمان» ولعل أبا العباس أول من أثار الشكوك فى قلوب الباحثين بنسبته الكتاب إلى الشريف الرضى تأليفا ، ثم جاء من بعده الصفدى وغيره من كتاب التراجم فتابعوه على ذلك ، وحينئذ قوى الشك وتمكن وأهم ما يجده باحثو الآداب العربية فى هذا العصر من أسباب يدعمون بها القول بأن الكتاب من صنع جامعه وتأليفه ذلك الذى نوجزه لك فى الأسباب الأربعة الآتية : ـ الأول : أن فى الكتاب من التعريض بصحابة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ما لا يصح أن يسلم صدوره عن مثل الامام على ، كما تراه فى ثنايا الكتاب من سباب معاوية ، وطلحة ، والزبير ، وعمرو بن العاص ، ومن ذهب إلى تأييدهم والدفاع عن سياستهم. الثانى : أن فيه من السجع والتنميق اللفظى وآثار الصنعة ما لم يعهده عصر على ، ولا عرفه ، وإنما ذلك شىء طرأ على العربية بعد العصر الجاهلى وصدر الاسلام ، وافتتن به أدباء العصر العباسى ، والشريف الرضى جاء من بعد ذلك على ما ألفوه فصنف الكتاب على نهجهم وطريقتهم. الثالث : أن فيه من دقة الوصف ، واستفراغ صفات الموصوف ، وإحكام الفكرة ، وبلوغ النهاية فى التدقيق كما تراه فى وصف الخفاش (١) والطاووس (٢) والنملة والجرادة (٤) وكل ذلك لم يلتفت إليه علماء الصدر الأول ولا أدباؤه وشعراؤه ، وإنما عرفه العرب بعد تعريب كتب اليونان والفرس الأدبية والحكمية. ويدخل فى هذا السبب استعمال الألفاظ الاصطلاحية التى عرفت فى علوم الحكمة من بعد كالأين والكيف ونحوهما ، وكذلك استعمال الطريقة العددية فى شرح المسائل ، وفى تقسيمات الفضائل أو الرذائل ، مثل قوله «الاستغفار على ستة معان (٥) ... الايمان على أربع دعائم (٦) : الصبر ، واليقين ، والعدل ، والجهاد ، والصبر منها على أربع شعب .... الخ» الرابع : أن فى عبارات الكتاب ما يشم منه ريح ادعاء صاحبه علم الغيب ، وهذا

٤

أمر يجل عن مثله مقام على ومن كان على شاكلة على ممن حضر عهد الرسالة ورأى نور النبوة ولسنا ـ علم اللّه ـ ممن يرى فى هذه الأسباب مجتمعة أو منفردة دليلا أو شبه دليل على ما ذهب إليه أنصار هذه الفكرة ، وقد نغالى إذا نحن اعتبرناها شبها تعرض للبحث ويتكلف الباحث ردها ، ولكنا ـ مع هذا ـ لا نبخل أن نقول كلمة موجزة فى شأن كل سبب من هذه الأسباب ، حتى يتيسر لنا الوقت الذى نظهر فيه بحثا متشعب المناحى فى هذه المسألة ، إن شاء اللّه أما عن السبب الأول فقد يعلم كل من شدا شيئا من التاريخ والأدب أن الامام عليا رضى اللّه عنه أصيب بموت النبى صلى اللّه عليه وسلم ، وهو مربيه وابن عمه وأبو زوجه ، وهو فى الثلاثين من عمره أو يزيد قليلا ، فهو شاب له حدة الشباب وتوثبه ونشاطه وطموحه ، وقد كان له ـ مع ذلك ـ من حصافة الرأى وسعة العلم ونفاذ البصيرة وسائر وسائل الاجتهاد مثل ما كان لشيوخ الصحابة وأكابرهم ، وهو أيضا مدل بمواقفه الكثيرة فى الذياد عن حوض الدين والدفاع عن حوزته ، مدل بتضحياته العظمى فى غير من ولا استكثار لها ، فهو إذن محزون ، كسير القلب ، راغب فى الترفيه عن نفسه ، محب للاعتراف بمواقفه المعروفة ، ولم يكن يبلغ به طموحه إلى الانتقاض على جماعة المسلمين بعد الذى بذل فى تأليفها ولم شعثها ، ولكنه قد كان يكفيه أن يتخذه مشيخة المسلمين مشيرا : يشاركهم الرأى ، ويمحضهم النصح ، والظاهر أن فتنة الخلافة التى ابتلى بها المسلمون والرسول مسجى على سريره كانت تستوجب هذه السرعة التى خاض غمارها رجلا الاسلام وشيخاه أبو بكر الصديق وعمر الفاروق رضى اللّه عنهما ، والامام على حينذاك مشغول بتعزية زوجه فاطمة عما أصابها ، فحدث من سوء التفاهم ما لا بد عنه فى مثل هذا الموقف ... وصبر على رضى اللّه عنه حتى دارت الأيام دورتها وأفضت الخلافة إليه ، وحينئذ لم يجد أمامه من يصح أن يؤثره على نفسه ، ووقف معاوية رضى اللّه عنه من الامام موقفه المشهور ، فكانت بينهما مناضلات بالكلام مرة وبالحسام مرة أخرى ، وإن السبب الذى يسيغ لأدبائنا أن يعترفوا بقتالهم وصراعهم وتجالدهم فى مواقف القتال هو بعينه السبب الذى نستسيغ من أجله أن يكتب لهم داعيا إلى التسليم له محتجا بسابقته ورسوخ قدمه ، ولقد كنا نتكلم فى هذا الموضوع مرة فقال أحد إخواننا : أنا لا أفهم معنى لانكار بعض الناس أن يقول على فى معاوية وعمرو

٥

وهم يؤمنون بانه حاربهما ودعاهما إلى مبارزته!!! ومن أجل ذلك كان تعريضه بالموقف الأول ممزوجا بالرفق واللين والهوادة ، وكان تعريضه بالموقف الثانى شديدا عنيفا وأما عن السبب الثانى فليس ما فى الكتاب كله سجعا ، وما فيه من السجع فهو مما لم تدع إليه الصنعة ، ولا اقتضاه الكلف بالمحسنات ، وأكثره مما يأتى عفوا بلا كد خاطر ولا تجشم هول ، ومثله فى عبارات عصره واقع ، ومن عرف أن ابن أبى طالب كان حامى عرين الفصاحة وابن بجدتها لم يعسر عليه التسليم. وأما عن السبب الثالث فانا لا نقضى العجب من جعله سببا لهذه الدعوى ، ومتى كانت دقة التخيل وإجادة الوصف وقفا على قوم دون قوم؟!! أوليس الشعر العربى مملوءا بدقة الوصف واستكماله؟ ثم أليس لقرشى شهد تنزيل القرآن ، وصحب أفصح العرب منذ نعومة أظفاره ، وكتب له الوحى ، وسمع ما يفجره اللّه تعالى على لسانه من ينابيع الحكمة ، أليس لهذا القرشى ميزة عن سائر الناس؟؟!! وأما عن السبب الرابع فانا لا نعتبر ما فى الكتاب من ادعاء علم الغيب ، وإنما هو من استنتاج القضايا الاجتماعية من مقدماتها وأسبابها ، ومثل الامام على فى دقة ذهنه وقوة عارضته خليق بالتمكن من هذا الاستنتاج : وعسيت أن تسأل عن رأى الأستاذ الامام الشيخ «محمد عبده» فى ذلك ، وهو الذى بعث الكتاب من مرقده ، ولم يكن أحد أوسع منه اطلاعا ، ولا أدق تفكيرا ، والجواب على هذا التساؤل أنا نعتقد أنه رحمه اللّه كان مقتنعا بأن الكتاب كله للامام على رحمه اللّه ، وإن لم يصرح بذلك ، والدليل على هذه العقيدة أنه يقول فى مقدمته يصف الكتاب «وإن مدبر تلك الدولة ، وباسل تلك الصولة ، هو حامل لوائها الغالب ، أمير المؤمنين على بن أبى طالب» بل هو يتجاوز هذا المقدار إلى الاعتراف بأن جميع الألفاظ صادرة عن الامام على ، حتى إنه ليجعل ما فى الكتاب حجة على معاجم اللغة ، اسمع إليه وهو يقول (ج ٢ ص ١٩٧ ـ من هذه المطبوعة) : «المواساة بالشىء : الاشراك فيه .... قالوا : والفصيح فى الفعل آسيته ، ولكن نطق الامام حجة» اه‍ ، وأعاد هذه الكلمة بنفسها (ج ٣ ص ٧٢ الحاشية ٤ من هذه المطبوعة) وهو يذهب فيما ظنه أدباؤنا من علم الغيب إلى نحو ما قررناه من أنه تفرس واستنتاج ، انظر إليه وهو يقول (ج ٣ ص ١٣ حاشية ٦ من هذه المطبوعة) : «تفرس فيما سيكون من معاوية وجنده ، وكان الأمر كما تفرس» اه‍.

٦

طبعات الكتاب ، وشروحه

لقد رزق هذا الكتاب حظوة يندر أن يظفر بها كتاب سواه من كتب الأدب العربى ، فلقد طبع مرارا فى مصر والشام وإيران ، وشرحه كثير من الناس ، وطبعت بعض شروحه المختصرة والمطولة ، وبين يدى الآن ثمان نسخ من هذا الكتاب الأولى : نسخة طبعت بالحجر فى مصر. الثانية : نسخة طبعت فى المطبعة الأدبية فى بيروت سنة ١٨٨٥ م ، وهى التى طبع معها للمرة الأولى تقييدات الأستاذ الامام الشيخ محمد عبده الثالثة : نسخة طبعت فى المطبعة العمومية بمصر سنة ١٣٢١ ه‍ ، وهى التى طبع معها شرح الأستاذ الامام للمرة الثالثة الرابعة : نسخة طبعت فى بيروت على نفقة «محمد كمال بكداش» ولم يذكر معها عام الطبع ، وقد طبع معها شرح الأستاذ الامام ، وزيادات من شرح ابن أبى الحديد اقتبسها «محيى الدين افندى الخياط» الخامسة : نسخة طبعت بمطبعة دار الكتب العربية بمصر سنة ١٣٢٨ ه‍ ، ومعها شرح الأستاذ «محمد حسن نائل المرصفى» السادسة : نسخة طبعت فى المطبعة الرحمانية ، ومعها شرح الأستاذ الامام أيضا السابعة : نسخة طبعت بمصر سنة ١٣٢٩ ه‍ ومعها شرح عز الدين عبد الحميد بن هبة اللّه بن محمد بن محمد بن أبى الحديد الثامنة : نسخة من شرح كمال الدين ميثم بن على بن ميثم النجرانى طبعت ببلاد فارس سنة ١٢٧٤ ، وكنا قد حصلنا على نسخة خطية من هذا الشرح معنى بها غاية العناية وعارضنا عليها بعض مواضع من نسختنا ، ولكنها لم تبق معنا إلى نهاية المعارضة وشرح الأستاذ الامام أفضل شروح الكتاب على اختصاره وقلة حجمه ، بل هو مشتمل على أكثر ما اشتملت عليه الشروح المطولة من بيان لغة الكتاب ومعانى عباراته ، ولقد طبعه الأستاذ أول مرة فى المطبعة الأدبية فى بيروت ولم يكن قد عثر حينذاك على واحد من شروح الكتاب العديدة كما قال فى مقدمته للكتاب (ص ك) ، فلما اعتزم إعادة طبعه فى مصر زاد فى شرحه زيادات

٧

كثيرة نعتقد أنه اقتطف كثيرا منها من شرح ابن أبى الحديد ، والدليل على عقيدتنا هذه أن تقرأ أول صفحة من الكتاب (الحاشية ٣ ص ١ ج ١ من هذه المطبوعة) وتنظر إلى الطبعة الأولى فانك ستجد هذه الحاشية مما استحدثه الأستاذ بعد طبعة المطبعة الأدبية وهى بنصها فى شرح ابن أبى الحديد ، حتى دعا ذلك «محيى الدين افندى الخياط» إلى أن يعلق على هذه الحاشية بقوله «من الغريب أن هذا التفسير يكاد يكون منقولا بحرفيته عن شرح ابن أبى الحديد مع أن الشارح قال فى مقدمته ـ وهو صادق فيما يقول ـ إنه لم يتيسر له رؤية شرح من شروح نهج البلاغة على أن من يتصفح بقية الشرح ويتصفح شرح ابن أبى الحديد يتراءى له أن أحدهما منقول عن الآخر ... الخ» اه‍ وحل ذلك عندنا ما قدمناه من أن الأستاذ الشارح كتب مقدمته للطبعة الأولى من شرحه التى طبعت فى المطبعة الأدبية ، ثم زاد عليها كثيرا من التعليقات بعد الاطلاع على شرح ابن أبى الحديد ولم يكترث بالاشارة إلى ذلك فى المقدمة

عملنا فى هذا الكتاب

لم يكن لى بد من مراجعة هذه النسخ كلها ومعارضة بعضها ببعض ، وقد وجدت فى الغالب الأكثر زيادات كثيرة فى نسخة ابن أبى الحديد ليست فى عامة النسخ التى طبع بعضها على منهاج بعضها الآخر بلا تغيير ولا تبديل ، وأثبت هذه الزيادات بين قوسين هكذا (). وزدت فى شرح الكتاب زيادات ذات بال ترجع إلى بيان لفظ لغوى ، ترك الأستاذ بيانه ، أو ضبط لفظ آخر ، ومن هذا النوع أكثر زياداتنا أو بيان معنى ، أو إعراب عبارة مشكل ، أو بيان لرأى فى شىء من هذا كله يخالف ما ذكره الأستاذ الامام ، هذا كله بعد أن ضبطنا الكتاب كله ضبطا دقيقا ، وما كان له ضبطان فأكثر من ألفاظه ضبطناه بها ، ولم نترك من كلام الأستاذ كلمة واحدة ، ولم نغير كلمة من كلامه بسواها إلا أن تكون خطأ جره عليه طبع الكتاب مرارا فى حياته من غير إشرافه عليه واللّه سبحانه المسئول أن ينفع بهذا العمل ويجعله منجاة لى يوم الدين ، آمين. محمد محيى الدين

٨

مقدمة الأستاذ الامام الشيخ محمد عبده

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

حمد اللّه سياج النعم ، والصلاة على النبى وفاء الذمم ، واستمطار الرحمة على آله الأولياء ، وأصحابه الأصفياء ، عرفان الجميل ، وتذكار الدليل وبعد ، فقد أوفى لى حكم القدر بالاطلاع على كتاب «نهج البلاغة» مصادفة بلا تعمل : أصبته على تغير حال ، وتبلبل بال ، وتزاحم أشغال ، وعطلة من أعمال ، فحسبته تسلية ، وحيلة للتخلية ، فتصفحت بعض صفحاته ، وتأملت جملا من عباراته ، من مواضع مختلفات ، ومواضيع متفرقات ، فكان يخيل لى فى كل مقام أن حروبا شبت ، وغارات شنت ، وأن للبلاغة دولة ، وللفصاحة صولة ، وأن للأوهام عرامة (١) وللريب دعارة ، وأن جحافل الخطابة ، وكتاثب الذرابة ، فى عقود النظام ، وصفوف الانتظام ، تنافح بالصفيح الأبلج (٢) والقويم الأملج ، وتمتلج المهج برواضع الحجج ، فتفل من دعارة الوساوس (٣) وتصيب مقاتل الخوانس. فما أنا إلا والحق منتصر ، والباطل منكسر ، ومرج الشك فى خمود (٤) وهرج الريب فى ركود. وإن مدبر تلك الدولة ،

__________________

(١) العرامة : الشراسة. والدعارة : سوء الخلق. والجحافل : الجيوش ، والكتائب : الفرق منها. وللذرابة : حدة اللسان فى فصاحة. والكلام تخييل حرب بين البلاغة وهائجات الشكوك والأوهام

(٢) تنافح : تضارب أشد المضاربة ، والصفيح : السيف ، والأبلج : اللامع البياض ، والقويم : الرمح ، والأملج : الأسمر. وهى مجازات عن الدلائل الواضحة والحجج القويمة المبددة للوهم وإن خفى مدركها. وتمتلج : أى تمتص ، والمهج : دماء القلوب ، والمراد لا تبقى للأوهام شيئا من مادة البقاء.

(٣) فل الشىء : ثلمه ، والقوم هزمهم. والخوانس : خواطر السوء تسلك من النفس مسالك الخفاء.

(٤) المرج : الاضطراب ، والهرج : هيجان الفتنة.

٩

وباسل تلك الصولة ، هو حامل لوائها الغالب ، أمير المؤمنين على بن أبى طالب. بل كنت كلما انتقلت من موضع إلى موضع أحس بتغير المشاهد ، وتحول المعاهد : فتارة كنت أجدنى فى عالم يعمره من المعانى أرواح عالية ، فى حلل من العبارات الزاهية ، تطوف على النفوس الزاكية ، وتدنو من القلوب الصافية : توحى إليها رشادها ، وتقوم منها مرادها ، وتنفر بها عن مداحض المزال ، إلى جواد الفضل والكمال. وطورا كانت تتكشف لى الجمل عن وجوه باسرة ، وأنياب كاشرة ، وأرواح فى أشباح النمور ، ومخالب النسور ، قد تحفزت للوثاب ، ثم انقضت للاختلاب. فخلبت القلوب عن هواها ، وأخذت الخواطر دون مرماها ، واغتالت فاسد الأهواء وباطل الآراء. وأحيانا كنت أشهد أن عقلا نورانيا ، لا يشبه خلقا جسدانيا ، فصل عن الموكب الالهى واتصل بالروح الانسانى ، فخلعه عن غاشيات الطبيعة ، وسما به إلى الملكوت الأعلى ، ونما به إلى مشهد النور الأجلى. وسكن به إلى عمار جانب التقديس ، بعد استخلاصه من شوائب التلبيس. وآنات كأنى أسمع خطيب الحكمة ينادى بأعلياء الكلمة ، وأولياء أمر الأمة ، يعرفهم مواقع الصواب ، ويبصرهم مواضع الارتياب ، ويحذرهم مزالق الاضطراب ، ويرشدهم إلى دقائق السياسة ، ويهديهم طرق الكياسة ، ويرتفع بهم إلى منصات الرئاسة. ويصعدهم شرف التدبير ، ويشرف بهم على حسن المصير. ذلك الكتاب الجليل هو جملة ما اختاره السيد الشريف الرضى ، رحمه اللّه ، من كلام سيدنا ومولانا أمير المؤمنين على بن أبى طالب كرم اللّه وجهه : جمع متفرقه وسماه هذا الاسم «نهج البلاغة» ولا أعلم اسما أليق بالدلالة على معناه منه ، وليس فى وسعى أن أصف هذا الكتاب بأزيد مما دل عليه اسمه ، ولا أن آتى بشىء فى بيان مزيته فوق ما أتى به صاحب الاختيار كما ستراه فى مقدمة الكتاب. ولو لا أن غرائز الجبلة ، وقواضى الذمة تفرض علينا عرفان الجميل لصاحبه ، وشكر المحسن على إحسانه ، لما احتجنا إلى التنبيه على ما أودع نهج البلاغة ، من فنون الفصاحة ، وما خص به من وجوه البلاغة. خصوصا وهو لم يترك غرضا من أغراض الكلام إلا أصابه ، ولم يدع للفكر ممرا إلا جابه. إلا أن عبارات الكتاب لبعد عهدها منا ، وانقطاع أهل جيلنا عن أصل لساننا ،

١٠

قد نجد فيها غرائب ألفاظ فى غير وحشية ، وجزالة تركيب فى غير تعقيد ، فربما وقف فهم المطالع دون الوصول إلى مفهومات بعض المفردات أو مضمونات بعض الجمل ، وليس ذلك ضعفا فى اللفظ ، أو وهنا فى المعنى ، وإنما هو قصور فى ذهن المتناول. ومن ثم همت بى الرغبة أن أصحب المطالعة بالمراجعة ، والمشارفة بالمكاشفة ، وأعلق على بعض مفرداته شرحا ، وبعض جمله تفسيرا ، وشىء من إشاراته تعيينا. واقفا عند حد الحاجة مما قصدت ، موجزا فى البيان ما استطعت ، معتمدا فى ذلك على المشهور من كتب اللغة ، والمعروف من صحيح الأخبار. ولم أتعرض لتعديل ما روى عن الامام فى مسألة الامامة أو تجريحه ، بل تركت للمطالع الحكم فيه بعد الالتفات إلى أصول المذاهب المعلومة فيها ، والأخبار المأثورة الشاهدة عليها. غير أنى لم أتحاش تفسير العبارة ، وتوضيح الاشارة. لا أريد فى وجهى هذا إلا حفظ ما أذكر ، وذكر ما أحفظ تصونا من النسيان ، وتحرزا من الحيدان ، ولم أطلب من وجه الكتاب إلا ما تعلق منه بسبك المعانى العالية فى العبارات الرفيعة فى كل ضرب من ضروب الكلام. وحسبى هذه الغاية فيما أريد لنفسى ولمن يطلع عليه من أهل اللسان العربى. وقد عنى جماعة من جلة العلماء بشرح الكتاب ، وأطال كل منهم فى بيان ما انطوى عليه من الأسرار. وكل يقصد تأييد مذهب ، وتعضيد مشرب. غير أنه لم يتيسر لى ولا واحد من شروحهم ، إلا شذرات وجدتها منقولة عنهم فى بطون الكتب. فان وافقت أحدهم فيما رأى فذلك حكم الاتفاق ، وإن كنت خالفتهم فالى صواب فيما أظن على أنى لا أعد تعليقى هذا شرحا فى عداد الشروح ، ولا أذكره كتابا بين الكتب ، وإنما هو طراز لنهج البلاغة ، وعلم توشى به أطرافه. وأرجو أن يكون فيما وضعت من وجيز البيان ، فائدة للشبان من أهل هذا الزمان. فقد رأيتهم قياما على طريق الطلب ، يتدافعون إلى نيل الأرب من لسان العرب. يبتغون لأنفسهم سلائق عربية ، وملكات لغوية. وكل يطلب لسانا خاطبا ، وقلما كاتبا. لكنهم يتوخون وسائل ما يطلبون فى مطالعة المقامات وكتب المراسلات مما كتبه المولدون ، أو قلدهم فيه المتأخرون. ولم يراعوا فى تحريره إلا رقة الكلمات ، وتوافق الجناسات ، وانسجام السجعات ، وما يشبه ذلك من المحسنات اللفظية ، التى وسموها بالفنون البديعية. وإن كانت العبارات خلوا من المعانى الجليلة ، أو فاقدة الأساليب الرفيعة.

١١

على أن هذا النوع من الكلام بعض ما فى اللسان العربى ، وليس كل ما فيه ، بل هذا النوع إذا انفرد يعد من أدنى طبقات القول ، وليس فى حلاه المنوطة بأواخر ألفاظه ما يرفعه إلى درجة الوسط. فلو أنهم عدلوا إلى مدارسة ما جاء عن أهل اللسان ، خصوصا أهل الطبقة العليا منهم ، لأحرزوا من بغيتهم ما امتدت إليه أعناقهم ، واستعدت لقبوله أعراقهم. وليس فى أهل هذه اللغة إلا قائل بأن كلام الامام على ابن أبى طالب هو أشرف الكلام وأبلغه ـ بعد كلام اللّه تعالى وكلام نبيه صلى اللّه عليه وسلم ـ وأغزره مادة ، وأرفعه أسلوبا ، وأجمعه لجلائل المعانى فأجدر بالطالبين لنفائس اللغة ، والطامعين فى التدرج لمراقيها ، أن يجعلوا هذا الكتاب أهم محفوظهم ، وأفضل مأثورهم. مع تفهم معانيه فى الأغراض التى جاءت لأجلها ، وتأمل ألفاظه فى المعانى التى صيغت للدلالة عليها ، ليصيبوا بذلك أفضل غاية ، وينتهوا إلى خير نهاية. وأسأل اللّه نجاح عملى وأعمالهم ، وتحقيق أملى وآمالهم ولنقدم للمطالع موجزا من القول فى نسب الشريف الرضى جامع الكتاب وطرفا من خبره. فهو أبو الحسن محمد بن أبى أحمد الحسين بن موسى بن محمد بن موسى بن إبراهيم ابن موسى بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن على زين العابدين بن الحسين بن على بن أبى طالب كرم اللّه وجهه وأمه فاطمة بنت الحسين بن الحسن الناصر صاحب الديلم بن على بن الحسن بن على ابن عمر بن على بن الحسين بن على بن أبى طالب رضى اللّه عنه وكرم اللّه وجهه ولد الشريف الرضى فى سنة تسع وخمسين وثلاثمائة ، واشتغل بالعلم ففاق فى الفقه والفرائض وبذ أهل زمانه فى العلم والأدب. قال صاحب اليتيمة : هو اليوم أبدع أبناء الزمان ، وأنجب سادات العراق ، يتحلى ـ مع محتده الشريف ، ومفخره المنيف ـ بأدب ظاهر ، وفضل باهر ، وحظ من جميع المحامد وافر. تولى نقابة نقباء الطالبيين بعد أبيه فى حياته سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة ، وضمت إليه ، مع النقابة ، سائر الأعمال التى كان يليها أبوه : وهى النظر فى المظالم ، والحج بالناس. وكان من سمو المقام بحيث يكتب إلى الخليفة

١٢

القادر باللّه العباسى أحمد بن المقتدر من قصيدة طويلة : ـ

عطفا أمير المؤمنين فاننا

فى دوحة العلياء لا نتفرق

ما بيننا يوم الفخار تفاوت

أبدا ، كلانا فى المعالى معرق

إلا الخلافة ميزتك فاننى

أنا عاطل منها وأنت مطوق

ويروى أن القادر قال له عند سماع هذا البيت : على رغم أنفك الشريف. ومن غرر شعره فيما يقرب من هذا قوله ـ

رمت المعالى فامتنعن ولم يزل

أبدا ينازع عاشقا معشوق

وصبرت حتى نلتهن ولم أقل

ضجرا : دواء الفارك التطليق

وابتدأ يقول الشعر بعد أن جاوز عشر سنين بقليل قال صاحب اليتيمة : وهو أشعر الطالبيين من مضى منهم ومن غبر ، على كثرة شعرائهم المفلقين ، ولو قلت إنه أشعر قريش لم أبعد عن الصدق. وقال بعض واصفيه رحمه اللّه : كان شاعرا مفلقا ، فصيح النظم ، ضخم الألفاظ ، قادرا على القريض ، متصرفا فى فنونه : إن قصد الرقة فى النسيب أتى بالعجب العجاب ، وإن أراد الفخامة وجزالة الألفاظ فى المدح وغيره أتى بما لا يشق له فيه غبار وإن قصد المراثى جاء سابقا والشعراء منقطعة الأنفاس. وكان مع هذا مترسلا ، كاتبا ، بليغا ، متين العبارات ، سامى المعانى. وقد اعتى؟؟؟ بجمع شعره فى ديوان جماعة. وأجود ما جمع منه مجموع أبى حكيم الحيرى وهو ديوان كبير يدخل فى أربعة مجلدات ، كما ذكره صاحب اليتيمة. وصنف كتابا فى معانى القرآن العظيم ، قالوا : يتعذر وجود مثله ، وهو يدل على سعة اطلاعه فى النحو واللغة وأصول الدين. وله كتاب فى مجازات القرآن. وكان على الهمة ، تسمو به عزيمته إلى أمور عظام ، لم يجد من الأيام عليها معينا ، فوقفت به دونها حتى قضى وكان عفيفا متشددا فى العفة بالغا فيها إلى النهاية : لم يقبل من أحد صلة ولا جائزة ، حتى إنه رد صلات أبيه. وقد اجتهد بنو بويه فى قبوله صلاتهم فلم يقبل ، وكان يرضى بالاكرام ، وصيانة الجانب ، وإعزاز الأنباع والأصحاب. حكى أبو حامد محمد بن محمد الاسفرايينى الفقيه الشافعى ، قال : كنت يوما عند فخر الملك أبى غالب محمد بن خلف وزير بهاء الدولة وابنه سلطان الدولة فدخل عليه الرضى (صاحب كلامنا الآن)

١٣

أبو الحسن فأعظمه وأجل مكانه ورفع من منزلته وخلى ما كان بيده من القصص والرقاع وأقبل عليه يحادثه إلى أن انصرف ، ثم دخل بعد ذلك المرتضى أبو قاسم (أخو الشريف الرضى) فلم يعظمه ذلك التعظيم ، ولا أكرمه ذلك الاكرام. وتشاغل عنه برقاع يقرأها فجلس قليلا ، ثم سأله أمرا فقضاه ثم انصرف ، قال أبو حامد : فقلت : أصلح اللّه الوزير ، هذا المرتضى هو الفقيه المتكلم صاحب الفنون ، وهو الأمثل والأفضل منهما ، وإنما أبو الحسن شاعر؟ قال : فقال لى : إذا انصرف الناس وخلا المجلس أجبتك عن هذه المسألة. قال : وكنت مجمعا على الانصراف فعرض من الأمر ما لم يكن فى الحساب ، فدعت الضرورة إلى ملازمة المجلس حتى تقوض الناس. وبعد أن انصرف عنه أكثر غلمانه ولم يبق عنده غيرى. قال لخادم له : هات الكتابين الذين دفعتهما إليك منذ أيام وأمرتك بوضعهما فى السفط الفلانى. فأحضرهما ، فقال : هذا كتاب الرضى اتصل بى أنه قد ولد له ولد فأنفذت إليه ألف دينار ، وقلت : هذا للقابلة ، فقد جرت العادة أن يحمل الأصدقاء إلى ذوى مودتهم مثل هذا فى مثل هذه الحال. فردها ، وكتب إلى هذا الكتاب فاقرأه. فقرأته فاذا هو اعتذار عن الرد ، وفى جملته : «إننا أهل بيت لا يطلع على أحوالنا قابلة غريبة ، وإنما عجائزنا يتولين هذا الأمر من نسائنا ، ولسن ممن يأخذن أجرة ، ولا يقبلن صلة» قال : فهذا هذا ، وأما المرتضى فانا كنا وزعنا وقسطنا على الأملاك ، ببعض النواحى ، تقسيطا نصرفه فى حفر فوهة النهر المعروف بنهر عيسى ، فأصاب ملكا للشريف المرتضى بالناحية المعروفة بالداهرية من التقسيط عشرون درهما ثمنها دينار واحد. وقد كتب منذ أيام فى هذا المعنى هذا الكتاب فاقرأه ، وهو أكثر من مائة سطر ، يتضمن من الخشوع والخضوع والاستمالة والهز والطلب والسؤال فى إسقاط هذه الدراهم المذكورة ما يطول شرحه. قال فخر الملك فأيهما ترى أولى بالتعظيم والتبجيل؟ هذا العالم المتكلم الفقيه الأوحد ، ونفسه هذه النفس ، أم ذلك الذى لم يشهر إلا بالشعر خاصة ونفسه تلك النفس!! فقلت : وفق اللّه سيدنا الوزير ، واللّه ما وضع الأمر إلا فى موضعه ، ولا أحله إلا فى محله. وتوفى الرضى فى المحرم سنة أربع وأربعمائة ، ودفن فى داره بمسجد الأنباريين بالكرخ ، ومضى أخوه المرتضى من جزعه عليه إلى مشهد موسى بن جعفر عليه

١٤

السلام ، لأنه لم يستطع أن ينظر إلى تابوته ودفنه ، وصلى عليه الوزير فخر الملك أبو غالب ومضى بنفسه آخر النهار إلى المشهد الشريف الكاظمى فألزمه بالعود إلى داره. ومما رثاه به أخوه المرتضى الأبيات المشهورة التى من جملتها : ـ

يا للرجال لفجعة جذمت يدى

ووددت لو ذهبت على براسى

ما زلت أحذر وردها حتى أتت

فحسوتها فى بعض ما أنا حاسى

ومطلتها زمنا ، فلما صممت

لم يثنها مطلى وطول مكاسى

للّه عمرك من قصير طاهر

ولرب عمر طال بالأدناس

وحكى ابن خلكان عن بعض الفضلاء أنه رأى فى مجموع أن بعض الأدباء اجتاز بدار الشريف الرضى (صاحب الترجمة) بسر من رأى وهو لا يعرفها ، وقد أخنى عليها الزمان ، وذهبت بهجتها ، وأخلقت ديباجتها ، وبقايا رسومها تشهد لها بالنضارة وحسن الشارة ، فوقف عليها متعجبا من صروف الزمان وطوارق الحدثان ، وتمثل بقول الشريف الرضى : ـ

ولقد بكيت على ربوعهم

وطلولها بيد البلى نهب

فبكيت حتى ضج من لغب

نضوى ، ولج بعذلى الركب

وتلفتت عينى ، فمذ خفيت

عنى الطلول تلفت القلب

فمر به شخص ، وهو ينشد الأبيات ، فقال له : هل تعرف هذه الدار لمن هى؟ فقال : لا ، فقال : هذه الدار لصاحب الأبيات الشريف الرضى! فعجب كلاهما من حسن الاتفاق. وفى رواية العلماء من مناقب الشريف الرضى ما لو تقصيناه لطال الكلام ، وإنما غرضنا أن يلم القارىء بسيرته بعض الالمام ، واللّه أعلم

١٥

تنبيه لمديرى المدارس

قد اعتنينا عند تصحيح الكتاب بضبط ألفاظه اللغوية ضبطا صحيحا ، ونعيد ما ذكرناه فى المقدمة زيادة فى التنبيه من أن الكتاب حاو جميع ما يمكن أن يعرض للكاتب والخاطب من أغراض الكلام : فقد تعرض للمدح ، وللعذل الأدبى ، وللترغيب فى الفضائل وللتنفير من الرذائل ، وللمحاورات السياسية ، والمخاصمات الجدلية ، ولبيان حقوق الراعى على الرعية ، وحقوق الرعية على الراعى. وأتى على الكلام فى أصول المدنية وقواعد العدالة ، وفى النصائح الشخصية ، والمواعظ العمومية. وعلى الجملة فلا يطلب الطالب طلبة إلا ويرى فيه أفضلها ، ولا تخالج فكره رغيبة إلا وجد فيه أكملها. واللّه الموفق للصواب

١٦