موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ مرتضى البروجردي

.................................................................................................

______________________________________________________

الذي هو غير الحكم بالضرورة.

وهذه الإطاعة التي هي من شؤون الولاية المطلقة خاصّة بمن هو إمام بقول مطلق ، أي لجميع الناس وكافّة المسلمين المنحصر في الأئمّة المعصومين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، ولم ينهض لدينا ما يتكفّل لإثبات هذه الولاية المطلقة لغيرهم من الفقهاء والمجتهدين في عصر الغيبة لكي يثبت الهلال ويجب الإفطار بأمرهم ، بعد وضوح عدم صدق عنوان الإمام بمعناه المعهود عند المتشرّعة عليهم ولا سيما بلحاظ فرض وجوب طاعته على جميع المسلمين.

وعلى الجملة : الرواية خاصّة بالإمام الذي هو شخص واحد وإمام لجميع المسلمين وإن كان التطبيق محمولاً على التقيّة أحياناً كما في قوله : «ذاك إلى الإمام» (١) وناظرة إلى نفوذ أمره ووجوب طاعته.

وإثبات هذا المقام لنوّابه العامّ من العلماء الأعلام والمراجع العظام دونه خرط القتاد ، كما نصّ عليه شيخنا الأنصاري (قدس سره) في كتاب المكاسب (٢) ، وباحثنا حوله ثمّة بنطاق واسع ، بل في البلغة (٣) : إنّه غير ثابت بالضرورة ، ولا مساس لهذه الصحيحة بنفوذ حكم الحاكم والمجتهد الجامع للشرائط بحيث لو حكم وهو في بيته وإن لم يقلّده بل لم يعرفه أكثر الناس بأنّ هذه الليلة أوّل شوّال وجب على الكلّ ترتيب الأثر عليه وحرّمت مخالفته ، فإنّ هذا لا يكاد يستفاد من هذه الصحيحة بوجه.

ومنها : التوقيع الذي رواه الصدوق في كتاب إكمال الدين وإتمام النعمة عن محمّد بن محمّد بن عصام ، عن محمّد بن يعقوب ، عن إسحاق بن يعقوب ، قال :

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ١٣٢ / أبواب ما يمسك عند الصائم ب ٥٧ ح ٥.

(٢) المكاسب ٣ : ٥٥٣.

(٣) بلغة الفقيه ٣ : ٢١٨.

٨١

.................................................................................................

______________________________________________________

سألت محمّد بن عثمان العمري أن يوصل لي كتاباً قد سألت فيه عن مسائل أشكلت عليّ ، فورد التوقيع بخطّ مولانا صاحب الزمان (عليه السلام) : «أمّا ما سألت عنه أرشدك الله وثبّتك إلى أن قال : وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا ، فإنّهم حجّتي عليكم ، وأنا حجّة الله» إلخ (١).

فإنّ أمر الهلال من الحوادث الواقعة فيرجع فيه إلى رواة الحديث ، وهم حكّام الشرع ويكون قولهم حجّة متّبعة وحكمهم نافذاً في الأُمّة.

وفيه : أنّها قاصرة سنداً ودلالةً.

أمّا السند : فلجهالة ابن عصام ، وكذا إسحاق بن يعقوب.

وأمّا الدلالة : فلإجمال المراد من الحوادث الواقعة ، فإنّ المحتمل فيه أُمور :

أحدها : الأُمور التي تتّفق خارجاً ولم يعلم حكمها ، كما لو مت زيد وله ثياب أو مصاحف عديدة ولم يعلم أنّ الحبوة هل تختصّ بواحد منها أو تشمل الكلّ ، ونحو ذلك من موارد الشبهات الحكميّة التي تتضمّنها الحوادث الواقعة ، وقد أمر (عليه السلام) بالرجوع فيها الظاهر في السؤال عن حكمها إلى رواة الحديث ، فتكون حينئذٍ من أدلّة حجّيّة الخبر لو كان المراد هو الراوي ، أو من أدلّة حجّيّة الفتوى لو كان المراد بالرواة هم العلماء. وعلى التقديرين تكون أجنبيّة عن محلّ الكلام.

وممّا يؤيّد إرادة أحد الأمرين : الإرجاع إلى الرواة بصيغة العموم لا إلى شخص معيّن ، فإنّ هذا هو حكم الجاهل بالمسألة الذي لا يعرف حكمها فيرجع إلى العالم إمّا لأنّه راوٍ أو لأنّه مجتهد ، ومن الظاهر أنّ في زمانهم (عليهم السلام) وما بعده بقليل كان المرجع لدى تعذّر الوصول إلى الإمام هم رواة الحديث ،

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ١٤٠ / أبواب صفات القاضي ب ١١ ح ٩ ، إكمال الدين : ٤٨٤ / ٤.

٨٢

.................................................................................................

______________________________________________________

فكانوا هم المسئولون عن حكم الحوادث الواقعة.

وعلى أيّ حال ، فالرواية على هذا الاحتمال أجنبيّة عمّا نحن بصدده البتّة.

ثانيها : الشبهات الموضوعيّة التي تقع مورداً للنزاع والخصومة ، كما لو ادّعى زيد ملكيّة هذه الدار وأنكرها عمرو ، ونحو ذلك من سائر موارد الدعاوي ، فتكون من أدلّة نفوذ القضاء.

وهذا الاحتمال وإن كان بعيداً جدّاً بالنسبة إلى سابقه وإلّا لقال : فارجعوها ، بدل قوله : «فارجعوا فيها» ، ضرورة أنّ في موارد المرافعات والدعاوي تُرفع نفس الحادثة وأصل الواقعة إلى القاضي والحاكم الشرعي ، فهي ترجع إليه ، لا أنّه يرجع فيها إليه. على أنّه لا مدخل للراوي بما هو راوٍ في مسألة القضاء وإنهاء الحكم ، لعدم كونه شأناً من شؤونه ، وظاهر التوقيع دخالة هذا الوصف العنواني في مرجعيّته للحوادث الواقعة كما لا يخفى إلّا أنّه على تقدير تسليمه أجنبيٌّ أيضاً عن محلّ الكلام ولا ربط له بالمقام.

ثالثها : مطلق الحوادث ، سواء أكانت من قبيل المرافعات أم لا ، التي منها ثبوت الهلال.

وهذا الاحتمال هو مبنى الاستدلال ، ولكنّه لا مقتضي له بعد وضوح الطرق الشرعيّة المعدّة لاستعلام الهلال من التواتر والشياع والبيّنة وعدّ الثلاثين من غير حاجة إلى مراجعة الحاكم الشرعي ، ضرورة أنّه إنّما يجب الرجوع إليه مع مسيس الحاجة ، بحيث لو كان الإمام (عليه السلام) بنفسه حاضراً لوجب الرجوع إليه. والأمر بالرجوع في التوقيع ناظر إلى هذه الصورة.

ومن البيّن أنّ مسألة الهلال لم تكن كذلك ، فإنّه لا تجب فيها مراجعة الإمام (عليه السلام) حتّى في عصر حضوره وإمكان الوصول إليه ، بل للمكلّف الامتناع عن ذلك والاقتصار على الطرق المقرّرة لإثباته ، فإن توفّرت لديه وقامت

٨٣

.................................................................................................

______________________________________________________

الحجّة الشرعيّة أفطر ، وإلّا بقي على صومه ، ولم يعهد في عصر أحد من الأئمّة (عليهم السلام) حتّى مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) المتصدّي للخلافة الظاهريّة مراجعة الناس ومطالبتهم إيّاه في موضوع الهلال على النهج المتداول في العصر الحاضر بالإضافة إلى مراجع التقليد ، إذ لم يذكر ذلك ولا في رواية واحدة ولو ضعيفة.

وعلى الجملة : قوله (عليه السلام) : «فهو حجّتي عليكم» أي في كلّ ما أنا حجّة فيه ، فلا تجب مراجعة الفقيه إلّا فيما تجب فيه مراجعة الإمام ، ومورده منحصر في أحد أمرين : إمّا الشبهات الحكميّة ، أو باب الدعاوي والمرافعات. وموضوع الهلال خارج عنهما معاً ، ولا دلالة فيه على حجّيّة قول الفقيه المطلقة وولايته العامّة في كلّ شي‌ء بحيث لو أمر أحداً ببيع داره مثلاً وجب اتّباعه.

فمحصّل التوقيع : وجوب الرجوع إلى الفقيه في الجهة التي يرجع فيها إلى الإمام لا أنّ الولاية المطلقة ثابتة له بحيث إنّ المناصب الثابتة للإمام كلّها ثابتة للفقيه ، فإنّ هذا غير مستفاد منه قطعاً.

ومنها : مقبولة عمر بن حنظلة ، قال (عليه السلام) فيها : «.. ينظران من كان منكم ممّن قد روى حديثنا ، ونظر في حلالنا وحرامنا ، وعرف أحكامنا ، فليرضوا به حكماً ، فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً ، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنّما استخفّ بحكم الله وعلينا ردّ ، والرادّ علينا الرادّ على الله ، وهو على حدّ الشرك بالله» (١).

ويرد على الاستدلال بها : ضعف السند أوّلاً وإن تلقّاها الأصحاب بالقبول ووسمت بالمقبولة ، لعدم ثبوت وثاقة ابن حنظلة ، بيد أنّه وردت فيه رواية

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ١٣٦ / أبواب صفات القاضي ب ١١ ح ١.

٨٤

.................................................................................................

______________________________________________________

وصفه الإمام (عليه السلام) فيها بقوله : «إذن لا يكذب علينا» (١) الذي هو في أعلى مراتب التوثيق ، لولا أنّها ضعيفة السند في نفسها كما مرّ ذلك مراراً.

إذن لا سبيل للاستدلال بها وإن سمّيت بالمقبولة.

وقصور الدلالة ثانياً ، حيث إنّها تتوقّف على مقدّمتين :

الاولى : دلالتها على جعل منصب القضاء في زمن الغيبة بل حتّى في زمن الحضور للعلماء ، وهذا هو المسمّى بالقاضي المنصوب في قبال قاضي التحكيم ويكون حكمه نافذاً وماضياً على كلّ أحد ، ولو طالب حضور أحد الخصمين وجب ، وله الحكم عليه غياباً لو امتنع.

وغير خفي أنّ المقبولة وإن كانت واضحة الدلالة على نصب القاضي ابتداءً ولزوم اتّباعه في قضائه ، حيث إنّ قوله (عليه السلام) : «فليرضوا به حكماً» بعد قوله : «ينظران من كان منكم» إلخ ، كالصريح في أنّهم ملزمون بالرضا به حكماً باعتبار أنّه (عليه السلام) قد جعله حاكماً عليهم بمقتضى قوله (عليه السلام) : «فإنِّي قد جعلته حاكماً» الذي هو بمثابة التعليل للإلزام المذكور.

إلّا أنّ النصب المزبور خاص بمورد التنازع والترافع المذكور في صدر الحديث ، بلا فرق بين الهلال وغيره ، كما لو استأجر داراً أو تمتّع بامرأة إلى شهرٍ فاختلفا في انقضاء الشهر برؤية الهلال وعدمه ، فترافعا عند الحاكم وقضى بالهلال ، فإنّ حكمه حينئذٍ نافذ بلا إشكال.

وأمّا نفوذ حكمه حتّى في غير مورد الترافع كما لو شككنا أنّ هذه الليلة أوّل رمضان ليجب الصوم أو أوّل شوّال ليحرم من غير أيّ تنازع وتخاصم فلا تدلّ المقبولة على نفوذ حكم الحاكم حينئذٍ إلّا بعد ضمّ :

__________________

(١) الوسائل ٤ : ١٣٣ / أبواب المواقيت ب ٥ ح ٦.

٨٥

.................................................................................................

______________________________________________________

مقدّمة ثانية ، وهي : أنّ وظيفة القضاة لم تكن مقصورة على حسم المنازعات فحسب ، بل كان المتعارف والمتداول لدى قضاة العامّة التدخّل في جميع الشؤون التي تبتلى بها العامّة ، ومنها : التعرّض لأمر الهلال ، حيث إنّهم كانوا يتدخّلون فيه بلا ريب ، وكان الناس يعملون على طبق قضائهم في جميع البلدان الإسلاميّة ، فإذا كان هذا من شؤون القضاء عند العامّة وثبت أنّ الإمام (عليه السلام) نصب شخصاً قاضياً فجميع تلك المناصب تثبت له بطبيعة الحال ، فلهذا القاضي ما لقضاة العامّة ، ومنه الحكم في الهلال ، كما هو المتعارف في زماننا هذا تبعاً للأزمنة السابقة ، لما بين الأمرين من الملازمة الخارجيّة حسبما عرفت.

ولكنّك خبير بأنّ هذه المقدّمة أيضاً غير بيّنة ولا مبيّنة ، لعدم كونها من الواضحات الوجدانيّات ، فإنّ مجرّد تصدّي قضاة العامّة لأمر الهلال خارجاً يكشف عن كونه من وظائف القضاء في الشريعة المقدّسة ، حتّى يدلّ نصب أحدٍ قاضياً على كون حكمه في الهلال ماضياً بالدلالة الالتزاميّة ، ولعلّهم ابتدعوا هذا المنصب لأنفسهم كسائر بدعهم ، فلا يصحّ الاحتجاج بعملهم بوجه بعد أن كانت الملازمة المزبورة خارجيّة محضة ولم يثبت كونها شرعيّة.

وملخّص الكلام في المقام : أنّ إعطاء الإمام (عليه السلام) منصب القضاء للعلماء أو لغيرهم لم يثبت بأيّ دليل لفظي معتبر ليتمسّك بإطلاقه.

نعم ، بما أنّا نقطع بوجوبه الكفائي ، لتوقّف حفظ النظام المادّي والمعنوي عليه ، ولولاه لاختلّت نظم الاجتماع ، لكثرة التنازع والترافع في الأموال وشبهها من الزواج والطلاق والمواريث ونحوها ، والقدر المتيقّن ممّن ثبت له الوجوب المزبور هو المجتهد الجامع للشرائط. فلا جرم يُقطع بكونه منصوباً من قبل الشارع المقدّس ، أمّا غيره فلا دليل عليه.

ومن ثمّ اعتبر الفقهاء الاجتهاد في القاضي المنصوب زائداً على بقيّة الشرائط ،

٨٦

.................................................................................................

______________________________________________________

باعتبار أنّه القدر المتيقّن كما عرفت.

ونتيجة ذلك : نفوذ حكم الحاكم في إطارٍ خاصّ وهو باب المنازعات والمرافعات ، فإنّه المتيقّن من مورد الوجوب الكفائي المقطوع به ، أمّا غيره فلا علم لنا به.

وقد عرفت عدم ثبوت هذا المنصب لأحدٍ بدليل لفظي ليتمسّك بإطلاقه ، فإنّ المقبولة وإن دلّت على نصب القاضي ابتداءً لكن موردها الترافع على أنّها ضعيفة السند كما مرّ. وأمّا غيرها ممّا تُمسّك به في المقام مثل ما ورد من أنّ مجاري الأُمور بيد العلماء بالله ، أو أنّ العلماء ورثة الأنبياء ونحو ذلك فهي بأسرها قاصرة السند أو الدلالة كما لا يخفى ، فلا تستأهل البحث ما عدا :

رواية أبي خديجة سالم بن مكرم الجمّال ، قال : قال أبو عبد الله جعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام) : «إيّاكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور ، ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا فاجعلوه بينكم ، فإنّي قد جعلته قاضياً ، فتحاكموا إليه» (١) وفي طريق الكليني : «قضائنا» بدل : «قضايانا» (٢).

فإنّها رويت بطريقين مع اختلاف يسير في المتن :

أحدهما : ما رواه الشيخ بإسناده عن محمّد بن علي بن محبوب ، عن أحمد بن محمّد ، عن الحسين بن سعيد ، عن أبي الجهم ، عن أبي خديجة (٣). وقد رواها صاحب الوسائل في الباب ١١ من أبواب صفات القاضي الحديث ٦.

وهذا الطريق ضعيف ، لجهالة أبي الجهم ، فإنّه مشترك بين ثلاثة أشخاص :

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ١٣ / أبواب صفات القاضي ب ١ ح ٥.

(٢) الكافي ٧ : ٤١٢ / ٤.

(٣) التهذيب ٦ : ٣٠٣ / ٨٤٦.

٨٧

.................................................................................................

______________________________________________________

أحدهم من أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وهو أجنبي عن مورد الرواية.

الثاني : سويد ، ولم يوثّق ، على أنّه من أصحاب السجّاد (عليه السلام) ، وإن بقي إلى زمان الصادق (عليه السلام) ، فكيف يروي عنه الحسين بن سعيد الذي لم يدرك الكاظم (عليه السلام)؟! الثالث : بكير بن أعين أخو زرارة ، وهو وإن كان من الثقات الأجلّاء إلّا أنّه مات في زمان الصادق (عليه السلام) ، فكيف يمكن أن يروي عنه الحسين ابن سعيد؟! إذن فأبو الجهم الذي يروي عنه الحسين بن سعيد مجهول لا محالة.

الطريق الثاني : ما نقله الصدوق بإسناده عن أحمد بن عائذ ، عن أبي خديجة سالم بن مكرم (١). وكان من الأحرى أن يذكره صاحب الوسائل في هذا الباب أيضاً أي الباب ١١ من أبواب صفات القاضي لا الباب ١ منه كما لا يخفى.

وهذا الطريق معتبر ، لصحّة طريق الصدوق إلى ابن عائذ ، وهو ثقة ، كما أنّ أبا خديجة ثقة أيضاً على الأظهر وإن ضعّفه الشيخ (٢) ، فإنّه مبني على سهو منه واشتباه تقدّمت الإشارة إليه ، حاصله : أنّ الرجل يكنّى بأبي سلمة أيضاً ، والذي هو ضعيف هو سالم بن أبي سلمة لا سالم أبو سلمة ، فاشتبه أحدهما بالآخر.

وكيفما كان ، فالرواية وإن كانت معتبرة بهذا الطريق إلّا أنّها قاصرة الدلالة ،

__________________

(١) الفقيه ٣ : ٢ / ١.

(٢) الفهرست : ٧٩ / ٣٣٨.

٨٨

.................................................................................................

______________________________________________________

لكونها ناظرة إلى قاضي التحكيم ، أي الذي يتراضى به المتخاصمان الذي لا يشترط فيه إلّا معرفة شي‌ء من أحكام القضاء ، لا إلى القاضي المنصوب ابتداءً الذي هو محلّ الكلام ويعتبر فيه الاجتهاد كما تقدّم ، وإلّا فقاضي التحكيم لا يكون حكمه نافذاً في غير خصم النزاع الذي رفعه المتخاصمان إليه ورضيا به حكماً ، لا في الهلال ولا في غيره بلا خلاف فيه ولا إشكال.

والمتحصّل من جميع ما قدّمناه لحدّ الآن : أنّه لم ينهض لدينا دليل لفظي معتبر يدلّ على نصب القاضي ابتداءً ، وإنّما نلتزم به من باب القطع الخارجي المستلزم للاقتصار على المقدار المتيقّن.

وعلى تقدير التسليم فالملازمة بينه وبين نفوذ حكمه في الهلال غير ثابتة ، فإنّ مجرّد تصدّي قضاة العامّة لذلك واتّباع الناس لهم لا يدلّ على كون الملازمة ملازمة شرعيّة ، بمعنى : أنّ كلّ من كان قاضياً كان حكمه في الهلال أيضاً ماضياً في الشريعة الإسلاميّة بعد أن لم يكن فعل القضاة حجّة متّبعة. ومن الجائز أن الشارع قد اقتصر فيه على الطرق المقرّرة لثبوته من الشياع والبيّنة والرؤية ، وإلّا فبالعمل بالاستصحاب بمقتضى قوله (عليه السلام) : «صم للرؤية وأفطر للرؤية» كما هو الشأن في غيره من سائر الموضوعات الخارجيّة التي منها دخول الوقت ، أفهل يحتمل ثبوت الغروب مثلاً بحكم الحاكم ليجوز الإفطار؟ كلّا ، بل على كلّ مكلّف تتبّع الطرق المتكفّلة لإثباته. فليكن هلال رمضان وشوّال أيضاً من هذا القبيل من غير أيّة خصوصيّة فيه. ولأجل ذلك استشكلنا في ثبوت الهلال بحكم الحاكم ، ومع ذلك كلّه فالاحتياط الذي هو سبيل النجاة ممّا لا ينبغي تركه.

٨٩

الذي لم يعلم خطؤه ولا خطأ مستنده كما إذا استند إلى الشياع الظنّي (١).

______________________________________________________

(١) يريد (قدس سره) بذلك أنّ حكم الحاكم في الهلال كغيره من موارد المنازعات لا يغيّر الواقع ولا يوجب قلبه عمّا هو عليه ، وإنّما هو طريق محض كسائر الطرق الشرعيّة.

وحينئذٍ فإذا علمنا بخطئه في حكمه وأنّه مخالف للواقع بالقطع الوجداني لم يكن حكمه حجّة وقتئذٍ بالضرورة وإن نُسب ذلك إلى بعض العامّة ، لاختصاص أدلّة الحجج بأسرها بموطن الجهل وظرف الشكّ ، إذ لا سبيل للتعبّد على خلاف القطع.

وأمّا إذا لم نعلم خطأه في الحكم واحتملنا إصابته للواقع ، غير أنّ المستند الذي عوّل عليه نقطع بخطئه فيه وإن كان معذوراً ، لا لتباس الأمر عليه بجهة من الجهات بحيث لو تنبّه إلى ما اطّلعنا عليه لأذعن بخطئه ، كما لو استند في عدالة الشاهدين إلى أصالة العدالة ، ونحن نقطع بأنّهما مشهوران بالفسق وهو لا يعلم ، أو جاءه عادل فشهد وخرج ، ثمّ جاءه مرّة أُخرى ليؤكّد شهادته الاولى وقد غيّر زيّه لغرضٍ من الأغراض ، فتخيّل القاضي أنّه رجل آخر ، أو شهد عنده جماعة لا يفيد إخبارهم عند متعارف الناس الاطمئنان فضلاً عن اليقين ، بل غايته الشياع الظنّي ، ولكن القاضي لحسن اعتقاده بهم مع اعترافه بعدم حجّيّة الشياع الظنّي حصل له اليقين. وهكذا سائر موارد الخطأ في المستند عن عذر.

فإنّه لا أثر لمثل هذا الحكم ، ولا يصحّحه اعتقاد القاضي بمستندٍ كهذا ، كما هو الحال في باب الطلاق ، حيث إنّه لا يقع لدى شاهدين فاسقين وإن تخيّل المطلّق عدالتهما ، إذ الموضوع هو العادل الواقعي لا من يعتقد المطلّق عدالته ، فكما لا يقع الطلاق جزماً مع القطع بالفسق فكذا حكم الحاكم في المقام بمناط واحد.

٩٠

ولا يثبت بقول المنجّمين (١) ،

______________________________________________________

وبالجملة : محلّ الكلام في ثبوت الهلال بحكم الحاكم ما إذا كان حكمه محتمل المطابقة للواقع وكان على مبنى صحيح ، أمّا المبني على أساس فاسد فهو ساقط عن درجة الاعتبار بلا إشكال.

نعم ، لو كانت الصحّة وعدمها مختلفة باختلاف الأنظار كما لو كان القاضي ممّن يرى حجّيّة الشياع الظنّي ، أو عدم اعتبار طيب المولد في الشاهد ، إلى غير ذلك من المسائل الخلافيّة التي وقع الكلام فيها في موارد الترافع والشهادات ، وقد أدّى فتوى الحاكم إلى شي‌ء ، والمتخاصمين أو غيرهما إلى شي‌ء آخر فبناءً على حجّيّة حكم الحاكم كان حكمه نافذاً حتّى على من خالفه في الاعتقاد ، إذ المستند صحيح عنده بعد أن قضى على طبق فتواه وعلى حسب الموازين الشرعيّة التي أدّى إليها نظره ، فلا حرج عليه لو ساقته الأدلّة إلى حجّيّة شهادة ابن الزنا مثلاً فلا مناص من اتّباعه بعد أن لم يكن هذا من موارد الخطأ في الحكم ولا في المستند حسبما عرفت.

(١) لتطابق النصوص حسبما يستفاد من مجموعها على حصر طريق الثبوت في أحد أمرين :

إمّا الرواية ، الأعمّ من رؤية الشخص بنفسه أو بغيره ، المستكشف من الشياع أو البيّنة ونحوهما.

وإمّا عدّ الثلاثين.

فالثبوت بغيرهما يحتاج إلى الدليل ، ولا دليل عليه.

على أنّ قول المنجّم غايته الظنّ الذي لا يغني من الحقّ ولا يكون حجّة بالأدلّة الأربعة إلّا فيما قام الدليل عليه بالخصوص ، كما في باب القبلة ، حيث

٩١

ولا بغيبوبة الشفق في الليلة الأُخرى (١) ،

______________________________________________________

ورد أنّه «يجزئ التحرّي أبداً إذا لم يعلم أين وجه القبلة» (١) ، ولم يقم عليه دليل في المقام.

(١) يعني علوّ الهلال وارتفاعه عن الأُفق ، بمثابةٍ يغيب الشفق والهلال بعد باق. حيث ذهب بعضهم إلى أنّه أمارة على أنّها الليلة الثانية بعد وضوح إنّها الليلة الاولى في صورة العكس أعني : غيبوبة الهلال قبل الشفق من دون رؤية في الليلة السابقة.

ولكن المشهور أنكروا ذلك ، وذكروا أنّ المدار هو الرؤية ولا اعتبار بالغيبوبة.

وتشهد للقول المزبور روايتان :

إحداهما : ما رواه الشيخ بإسناده عن إسماعيل بن الحسن (بحر) عن أبي عبد الله (عليه السلام) : «قال : إذا غاب الهلال قبل الشفق فهو لليلة ، وإذا غاب بعد الشفق فهو لليلتين» (٢).

هكذا في الوسائل الطبعة الجديدة فكأنّ الرجل مردّد بين إسماعيل بن الحسن ، أو إسماعيل بن بحر ، ولكن الظاهر أنّه من غلط النسخة ، ولو كان جميع نسخ الوسائل كذلك فسهو من قلمه الشريف (قدس سره).

بل الصحيح كما في الكافي والفقيه والتهذيب : إسماعيل بن الحرّ (٣). نعم ،

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٣٠٧ / أبواب القبلة ب ٦ ح ١.

(٢) الوسائل ١٠ : ٢٨٢ / أبواب أحكام شهر رمضان ب ٩ ح ٣ وفيه : إسماعيل بن الحرّ.

(٣) الكافي ٤ : ٧٨ / ١٢ ، الفقيه ٢ : ٧٨ / ٣٤٣ ، التهذيب ٤ : ١٧٨ / ٤٩٤.

٩٢

.................................................................................................

______________________________________________________

حكي عن بعض نسخ الكافي كما ذكره جامع الرواة (١) وغيره وعن بعض نسخ التهذيب غير المطبوعة : إسماعيل بن الحسن ، بصورة النسخة ، وإلّا فالكلّ متّفقون على ذكر الحرّ وليس من (بحر) عين ولا أثر.

وعلى كلّ تقدير فالرواية ضعيفة السند ، فإن إسماعيل بن بحر غير مذكور أصلاً ، وابن الحرّ أو ابن الحسن مجهولان.

الثانية : نفس الرواية بإسناد الكليني ، عن الصلت الخزّاز ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) (٢). وهي أيضاً ضعيفة ، لجهالة الصلت ، وكذا عبد الله ابن الحسن أو ابن الحسين على اختلاف النسخ.

على أنّهما معارضتان بمعتبرة أبي علي بن راشد الصريحة في عدم العبرة بالغيبوبة ، قال : كتب إليّ أبو الحسن العسكري (عليه السلام) كتاباً وأرّخه يوم الثلاثاء لليلةٍ بقيت من شعبان ، وذلك في سنة اثنتين وثلاثين ومائتين ، وكان يوم الأربعاء يوم الشك ، فصام أهل بغداد يوم الخميس ، وأخبروني أنّهم رأوا الهلال ليلة الخميس ، ولم يغب إلّا بعد الشفق بزمان طويل ، قال : فاعتقدتّ أنّ الصوم يوم الخميس وأنّ الشهر كان عندنا ببغداد يوم الأربعاء ، قال : فكتب إليّ : «زادك الله توفيقاً ، فقد صمت بصيامنا» قال : ثمّ لقيته بعد ذلك فسألته عمّا كتبت به إليه ، فقال لي : «أو لم أكتب إليك إنّما صمت الخميس ولا تصم إلّا للرؤية» (٣).

فإنّ أبا علي بن راشد الذي هو من أصحاب الجواد (عليه السلام) ثقة ، والرواية مرويّة عن الهادي (عليه السلام).

__________________

(١) جامع الرواة ١ : ٩٥.

(٢) الكافي ٤ : ٧٧ / ٧.

(٣) الوسائل ١٠ : ٢٨١ / أبواب أحكام شهر رمضان ب ٩ ح ١.

٩٣

ولا برؤيته يوم الثلاثين قبل الزوال (١) (١) ، فلا يحكم بكون ذلك اليوم أوّل الشهر ،

______________________________________________________

وقوله : لليلة بقيت من شعبان ، فيه إيعاز إلى أنّ أوّل رمضان هو يوم الخميس ، وقوله : فاعتقدت أنّ الصوم يوم الخميس ، أي من إخبار الإمام (عليه السلام).

وكيفما كان ، فهي صريحة في عدم العبرة بالغيبوبة المفروضة في موردها.

فعلى تقدير التعارض والتساقط كان المرجع العمومات الآمرة بأنّه : «صم للرؤية وأفطر للرؤية».

(١) قد يتّفق رؤية الهلال في النهار إمّا قبل الزوال أو بعده ، وأمّا الرؤية قبل الغروب فكثيرة جدّاً ، ولا إشكال في أنّه هلال لليوم الآتي ، للزوم الرؤية في الليل في احتساب النهار من الشهر فهو تابع له ، فلا أثر للرؤية آخر النهار ، وكذلك الحال بعد الزوال ولو بقليل ، فلا يثبت به أنّ هذا اليوم أوّل الشهر ، لما عرفت من أنّ العبرة بالرؤية في الليل واليوم تابع له.

وأمّا إذا شوهد الهلال قبل الزوال ، فهل يكشف عن كونه متكوّناً وموجوداً في الليل وإن لم يُر من باب الاتّفاق فهذا اليوم أوّل الشهر ، أو لا أثر له ولا اعتبار إلّا بالرؤية في الليل كما عليه المشهور؟

لا ريب أنّا لو كنّا نحن والنصوص المتقدّمة مع الغضّ عن أيّ نصّ خاص وارد في المقام الناطقة بأنّه : «صم للرؤية وأفطر للرؤية» كان مقتضاها اعتبار الرؤية في الليل ، ضرورة أنّه المنصرف من الرؤية المتعقّبة بالأمر بالصوم الذي

__________________

(١) الظاهر ثبوته بذلك ، كما أنّ الظاهر ثبوته بتطوّق الهلال فيدلّ على أنّه للّيلة الثانية.

٩٤

.................................................................................................

______________________________________________________

مبدؤه الإمساك من طلوع الفجر ، فلا أثر للرؤية في النهار لا قبل الزوال ولا بعده ، ولا قبل الغروب.

نعم ، بما أنّ هذه الرؤية تلازم الرؤية في الليلة الآتية بطبيعة الحال لسير القمر من المشرق إلى المغرب ، فلا جرم يكون اليوم الآتي هو أوّل الشهر.

وأمّا بالنظر إلى الروايات الخاصّة الواردة في المقام فمقتضى جملة منها عدم العبرة بالرؤية في النهار وإن كانت قبل الزوال ، لإطلاق بعضها وتقييد بعضها الآخر بوسط النهار ، الظاهر فيما قبل الزوال ، بناءً على أن مبدأه طلوع الفجر ، حيث إنّ ما بين الطلوعين ساعة ونصف تقريباً ، فيكون وسط النهار ما يقارب من ثلاثة أرباع الساعة قبل الزوال.

فمن النصوص المقيِّدة : موثّقة إسحاق بن عمّار ، قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن هلال رمضان يغمّ علينا في تسع وعشرين من شعبان «فقال : لا تصمه إلّا أن تراه ، فإن شهد أهل بلد آخر أنّهم رأوه فاقضه ، وإذا رأيته من وسط النهار فأتمّ صومه إلى الليل» (١).

وهي وإن كان صدرها وارداً في هلال رمضان ، ولكن ذيلها ظاهر في شوّال ، لأمره بالإتمام بعد فرض كونه صائماً ، الظاهر في كونه من رمضان.

وصحيحة محمّد بن قيس عن أبي جعفر (عليه السلام) : «قال : قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : إذا رأيتم الهلال فأفطروا ، أو شهد عليه عدل (وأشهدوا عليه عدولاً) من المسلمين ، وإن لم تروا الهلال إلّا من وسط النهار أو آخره فأتمّوا الصيام إلى الليل» إلخ (٢).

ومن المطلقة : ما رواه الشيخ بإسناده عن جراح المدائني ، قال : قال

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ٢٧٨ / أبواب أحكام شهر رمضان ب ٨ ح ٣ ، ١.

(٢) الوسائل ١٠ : ٢٧٨ / أبواب أحكام شهر رمضان ب ٨ ح ٣ ، ١.

٩٥

.................................................................................................

______________________________________________________

أبو عبد الله (عليه السلام) : «من رأى هلال شوّال بنهار في شهر رمضان فليتمّ صيامه (صومه)» (١).

وهي وإن كانت ضعيفة عند القوم ، إذ لم يرد في جرّاح ولا في القاسم بن سليمان الواقع في السند مدحٌ ولا توثيق في كتب الرجال ، ولكنّها معتبرة عندنا ، لوجودهما في أسناد كامل الزيارات.

ورواها العياشي أيضاً مرسلاً (٢).

هذا ، ولكن الرواية المطلقة قابلة للتقييد.

وأمّا المقيّدة فالاستدلال بها متوقّف كما عرفت على احتساب مبدأ النهار من طلوع الفجر.

وهو كما ترى لا يساعده الفهم العرفي ولا المعنى اللغوي ، فإنّ مبدأ الصوم وإن كان هو طلوع الفجر ، ولكن النهار مبدؤه طلوع الشمس بلا إشكال كما أُشير إليه في عدّة من الروايات الواردة في باب الزوال وأنّه منتصف النهار ، وكنّا ولا نزال نسمع منذ قراءة المنطق التمثيل للقضيّة الشرطيّة بقولنا : إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود ، وإذا كان النهار موجوداً فالشمس طالعة. إذن فوسط النهار مساوق للزوال.

وعليه ، فالروايتان المقيّدتان لا تدلّان على أزيد من أنّ رؤية الهلال وسط النهار أي عند الزوال وما بعده تستوجب احتساب اليوم من الشهر السابق ، وهذا صحيح لا غبار عليه.

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ٢٧٨ / أبواب أحكام شهر رمضان ب ٨ ح ٢ ، التهذيب ٤ : ١٧٨ / ٤٩٢.

(٢) الوسائل ١٠ : ٢٨٠ / أبواب أحكام شهر رمضان ب ٨ ح ٨ ، تفسير العيّاشي ١ : ٨٤ / ٢٠١.

٩٦

.................................................................................................

______________________________________________________

ولا دلالة فيهما على الاحتساب منه حتّى لو شوهد قبل الزوال الذي هو محلّ الكلام ، فإنّ الحمل على الوسط العرفي الشامل لما قبل الزوال ولو بقليل كالاحتساب من طلوع الفجر كلّ منهما بعيدٌ غايته كما لا يخفى.

إذن فلا مانع من الأخذ بجملة أُخرى من النصوص قد دلّت صريحاً على التفصيل بين الرؤية قبل الزوال فللّيلة الماضية ، وبعده فللآتية ، بعد عدم صلاحيّة ما مرّ للمعارضة معها ، فإنّ غايتها الإجمال فلا تنهض للمقاومة وتكفينا من هذه الطائفة روايتان معتبرتان :

إحداهما : وردت في خصوص شوّال ، وهي موثّقة عبيد بن زرارة وعبد الله ابن بكير ، قالا : قال أبو عبد الله (عليه السلام) : «إذا رؤي الهلال قبل الزوال فذلك اليوم من شوّال ، وإذا رؤي بعد الزوال فذلك اليوم من شهر رمضان» (١).

والأُخرى : وردت في عامّة المشهور ، وهي صحيحة حمّاد بن عثمان عن أبي عبد الله (عليه السلام) «قال : إذا رأوا الهلال قبل الزوال فهو للّيلة الماضية ، وإذا رأوه بعد الزوال فهو للّيلة المستقبلة» (٢).

وقد عمل بهما جمع من الأصحاب ، فلا يتوهّم الإعراض ولا أنّ القول به مظنّة خلاف الإجماع. نعم ، لم يلتزم به المشهور ، لكن لا لأجل ضعف في السند ، بل لأجل ما تخيّلوه من المعارضة مع ما دلّ على أنّ العبرة بالرؤية في الليل مثلاً.

وكيفما كان ، فلا نرى مانعاً من العمل بهاتين الروايتين المعتبرتين السليمتين عن المعارض وإن كان القائل به قليلاً ، وبهما يقيَّد إطلاق معتبرة جرّاح المتقدّمة وتُحمل على الرؤية ما بعد الزوال ، بل قريباً من الغروب كما هو الغالب ، وإلّا

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢٧٩ / أبواب أحكام شهر رمضان ب ٨ ح ٥.

(٢) الوسائل ١٠ : ٢٨٠ / أبواب أحكام شهر رمضان ب ٨ ح ٦.

٩٧

.................................................................................................

______________________________________________________

فالرؤية في يوم الشك عند الزوال قبله أو بعده مجرّد فرض ، بل لم نسمع به لحدّ الآن ، ولكن على تقدير التحقّق ورؤيته قبل الزوال فهو للّيلة الماضية ، ويكشف عن كون هذا اليوم أو الشهر بمقتضى الروايتين حسبما عرفت ، سواء أكان ذلك من شهر رمضان أم شوّال.

وأمّا رواية محمّد بن عيسى ، قال : كتبت إليه (عليه السلام) : جُعلت فداك ، ربّما غمّ علينا هلال شهر رمضان فنرى من الغد الهلال قبل الزوال ، وربّما رأيناه بعد الزوال ، فترى أن نفطر قبل الزوال إذا رأيناه أم لا؟ وكيف تأمرني في ذلك؟ فكتب (عليه السلام) : «تتمّ إلى الليل ، فإنّه إن كان تامّاً رؤي قبل الزوال» (١).

فقد رواها الشيخ في التهذيب والاستبصار ، وبين النسختين اختلاف فاحش وإن اتّحد السند وكذا المتن من غير هذه الجهة.

فرواها في التهذيب بالصورة التي نقلناها المذكورة أيضاً في الوسائل ، ومقتضاها فرض يوم الشكّ من آخر شعبان وأنّه كان ممسكاً خارجاً إمّا من باب الاتّفاق ، أو أنّه كان صائماً من شعبان قضاءً أو ندباً لبطلان الصوم فيه بعنوان رمضان ، فأجاب (عليه السلام) ، بأنّه يتمّ الصيام المزبور إلى الليل ويبني على أنّ اليوم من رمضان ، فإنّه إذا كان الشهر أي شهر رمضان تامّاً يمكن أن يرى هلاله قبل الزوال ، فيكون هذا هو اليوم الأوّل ، وبعد ضمّ تسعة وعشرين يوماً يكون الشهر تامّاً.

وعليه ، فتكون هذه الرواية مطابقة مع الروايتين المتقدّمتين في الدلالة على

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ٢٧٩ / أبواب أحكام شهر رمضان ب ٨ ح ٤ ، التهذيب ٤ : ١٧٧ / ٤٩٠ ، الاستبصار ٢ : ٧٣ / ٢٢١.

٩٨

.................................................................................................

______________________________________________________

كشف الرؤية قبل الزوال عن كون اليوم أوّل الشهر.

وأمّا في الاستبصار فرواها هكذا : جُعلت فداك ، ربّما غم علينا الهلال في شهر رمضان ... إلخ ، ومقتضاها فرض يوم الشك من آخر رمضان ، وأنّ الهلال المشكوك فيه هو هلال شوّال لا هلال رمضان كما كان كذلك على رواية التهذيب فيسأل عن جواز الإفطار يومئذٍ لرؤية الهلال قبل الزوال بعد وضوح وجوب الصوم في يوم الشك من الأخير لولا الرؤية ، فأجاب (عليه السلام) بوجوب إتمام الصيام إلى الليل وأنّه لا أثر لتلك الرؤية ، لأنّ الشهر الذي هو فيه إذا كان تامّاً يمكن أن يرى فيه قبل الزوال هلال الشهر الآتي ، فلا تكشف تلك الرؤية عن كون اليوم أوّل شوّال ، بل يبني على أنّه آخر رمضان.

وعليه ، فتكون الرواية دالّة على عكس المطلوب ، وتكون معارضة مع الروايتين المتقدّمتين بدلاً عن أن تكون معاضدة.

وعن غير واحد منهم صاحب الحدائق (١) ترجيح هذه النسخة ، وهو وإن لم يكن ثابتاً لدينا بدليل قاطع إلّا أنّ المظنون ذلك ، فإنّ المعنى حينئذٍ أوفق ، والتعبير أسلس ، والجملات متناسقة. أمّا النسخة الأُخرى فغير غنيّة عن نوع من التأويل حسبما عرفت.

والذي يسهّل الخطب أنّ الرواية ضعيفة في نفسها وغير صالحة للاستدلال بها على أيّ تقدير ، فإنّ علي بن حاتم الواقع في السند الذي هو ثقة وقيل في حقّه : إنّه يروي عن الضعفاء رواها عن محمّد بن جعفر ، وهذا الرجل الذي يروي عنه علي بن حاتم في غير موردٍ هو المكنّى بابن بطّة وهو ضعيف. فهي إذن ساقطة عن درجة الاعتبار حتّى لو كانت النسخ منحصرة فيما في الاستبصار فلا تنهض لمعارضة الروايتين المتقدّمتين.

__________________

(١) الحدائق ١٣ : ٢٨٦ ٢٨٧.

٩٩

ولا بغير ذلك ممّا يفيد الظنّ ولو كان قويّاً إلّا للأسير والمحبوس (١).

______________________________________________________

كما لا يعارضهما أيضاً عموم : «صم للرؤية وأفطر للرؤية» ، لعدم التنافي ، وإمكان الجمع بينهما ، عملاً بصناعة الإطلاق والتقييد.

والمتحصّل من جميع ما قدّمناه : أنّ القول بثبوت الهلال برؤيته قبل الزوال الذي اختاره غير واحد هو الأقوى ، لدلالة النصّ الصحيح عليه ، السليم عن المعارض بيد أنّ الفرض في نفسه نادر التحقّق ، حيث لم نر ولم نسمع لحدّ الآن رؤيته قبل الزوال ولا بعده ، اللهمّ إلّا قريباً من الغروب بنصف ساعة أو ساعة ، فإنّه كثير شائع ، ولكنّه على تقدير التحقّق فالحكم بالنظر إلى الأدلّة الشرعيّة هو ما عرفت.

(١) أمّا الأسير والمحبوس فسيأتي البحث حولهما وأنّهما يتحرّيان ويعملان بالظنّ كما نطق به النصّ ، وأمّا في غيرهما فالأمر كما ذكره (قدس سره) ، إذ الظنّ مع أنّه لا دليل على حجّيّته بل الأدلّة الأربعة قائمة على عدم حجّيّته مطلقاً ، قد ورد النصّ الخاصّ على عدم حجّيّته في المقام.

ففي صحيحة الخزّاز عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال : قلت له : كم يجزي في رؤية الهلال؟ «فقال : إنّ شهر رمضان فريضة من فرائض الله فلا تؤدّوا بالتظنّي» إلخ (١).

فلا يثبت به لا هلال رمضان ليجب الصوم ، ولا شوّال ليجب الإفطار.

بقي الكلام في أُمور :

أحدها : نُسِب إلى الشيخ الصدوق أنّ الهلال إذا كان مطوّقاً بأن كان النور

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ٢٨٩ / أبواب أحكام شهر رمضان ب ١١ ح ١٠.

١٠٠