موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ مرتضى البروجردي

.................................................................................................

______________________________________________________

عن تحت الشعاع بمثابةٍ يكون قابلاً للرؤية.

وعليه ، فإن رآه المكلّف بنفسه فلا إشكال في ترتّب الحكم أعني : وجوب الصيام في رمضان ، والإفطار في شوّال بمقتضى النصوص الكثيرة المتواترة ، سواء رآه غيره أيضاً أم لا ، على ما يقتضيه الإطلاق في جملة منها والتصريح به في البعض الآخر ، كما في صحيحة علي بن جعفر ، قال : سألته عمّن يرى هلال شهر رمضان وحده لا يبصره غيره ، إله أن يصوم؟ «فقال : إذا لم يشك فيه فليصم وحده ، وإلّا يصوم مع الناس إذا صاموا» (١).

ونحوه ما لو رآه غيره على نحوٍ ثبتت الرؤية بالتواتر ، إذ يدلّ عليه حينئذٍ كلّ ما دلّ على تعليق الإفطار والصيام بالرؤية ، لوضوح عدم كون المراد بها رؤية الشخص بنفسه ، إذ قد يكون أعمى أو يفوت عنه وقت الرؤية أو نحو ذلك من الموانع.

ويلحق به الشياع المفيد للعم ، كما دلّت عليه وعلى ما قبله النصوص المتظافرة التي لا يبعد دعوى بلوغها التواتر ولو إجمالاً ، التي منها : موثّقة عبد الله بن بكير ابن أعين عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال : «صم للرؤية وأفطر للرؤية ، وليس رؤية الهلال أن يجي‌ء الرجل والرجلان فيقولان : رأينا ، إنّما الرؤية أن يقول القائل : رأيت ، فيقول القوم : صَدَقَ» (٢).

فإنّ تصديق القوم كناية عن شياع الرؤية بينهم من غير نكير ، فيكون ذلك موجباً لليقين.

ثمّ إنّه إذا لم يتحقّق العلم الوجداني من رؤية الغير ، ولم يره الشخص بنفسه ، فلا محالة ينتقل إلى الطريق العلمي.

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ٢٦١ / أبواب أحكام شهر رمضان ب ٤ ح ٢.

(٢) الوسائل ١٠ : ٢٩١ / أبواب أحكام شهر رمضان ب ١١ ح ١٤.

٦١

الرابع : مضيّ ثلاثين يوماً من هلال شعبان أو ثلاثين يوماً من هلال رمضان ، فإنّه يجب العموم معه في الأوّل والإفطار في الثاني.

الخامس : البيّنة الشرعيّة (١) ، وهي خبر عدلين سواء شهدا عند الحاكم وقبل شهادتهما أو لم يشهدا عنده أو شهدا وردّ شهادتهما ، فكلّ من شهد عنده عدلان يجوز بل يجب عليه ترتيب الأثر من الصوم أو الإفطار ، ولا فرق بين أن تكون البيّنة من البلد أو من خارجه ،

______________________________________________________

ولا شك في عدم الثبوت بخبر العدل الواحد وإن بنينا كما هو الصحيح على أنّ خبره بل خبر مطلق الثقة حجّة في الموضوعات إلّا ما خرج بالدليل مثل : موارد القضاء ونحو ذلك نظراً إلى أنّ عمدة المستند في الحجّيّة السيرة العقلائيّة التي لا يفرّق فيها بين الموضوعات والأحكام.

وذلك للروايات الكثيرة التي لا يبعد دعوى بلوغها حدّ التواتر الإجمالي ، الناطقة بعدم ثبوت الهلال كالطلاق بخبر العدل الواحد فضلاً عن الثقة ، التي ذكر جملة وافرة منها صاحب الوسائل في المقام ، وجملة اخرى منها في كتاب الشهادات ، وقد صرّح فيها أيضاً بعدم الثبوت بشهادة النساء ، بل لا بدّ من شهادة رجلين عادلين ، فإنّ شهادة امرأتين وإن كانت معتبرة في سائر المقامات مثل : الدعوى على الأموال ونحو ذلك ، وتكون قائمة مقام شهادة رجل واحد لكن لا عبرة بها ، ولا بشهادة الرجل العدل الواحد في المقام ، ولا في باب الطلاق ، بمقتضى هذه النصوص كما عرفت.

(١) وقع الكلام في حجّيّة البيّنة ، أعني : شهادة رجلين عادلين في المقام ، وأنّه هل يثبت الهلال بذلك أو انّ حجّيّتها مختصّة بغير المقام؟

٦٢

.................................................................................................

______________________________________________________

المعروف والمشهور هو الحجّيّة.

ونسب المحقّق إلى بعضٍ إنكار الحجّيّة هنا مطلقاً ، وأنّه لا بدّ من الشياع المفيد للعلم (١).

وهذا القول شاذّ نادر ، بل لم يعرف من هو القائل وإن كان المحقّق لا ينقل طبعاً إلّا عن مستند صحيح.

وذهب جماعة إلى التفصيل بين ما إذا كانت في السماء علّة من غيم ونحوه ، وما إذا لم تكن ، فتكون البيّنة حجّة في الأوّل دون الثاني.

وكيفما كان ، فالمتّبع هو الدليل.

فنقول : الروايات الدالّة على حجّيّة البيّنة على قسمين :

أحدهما : ما دلّ على الحجّيّة بلسانٍ مطلق ونطاقٍ عامّ من غير اختصاص بالمقام.

وقد تقدّم الكلام حول ذلك مستقصًى في كتاب الطهارة عند التكلّم في ثبوت الطهارة والنجاسة بالبيّنة ، وقلنا : إنّه استُدلّ على ذلك بقوله (عليه السلام) في موثّقة مسعدة بن صدقة : «والأشياء كلّها على هذا حتّى تستبين أو تقوم به البيّنة» وقد ناقشنا ثمّة وقلنا : أنّه لا وجه لحمل هذه اللفظة على البيّنة الشرعيّة ، لعدم ثبوت الحقيقة الشرعيّة ولا المتشرعيّة لهذه الكلمة ، بل هي محمولة على المعنى اللغوي أعني : مطلق الحجّة كما هي مستعملة في ذلك في الكتاب العزيز كثيراً ، مثل قوله تعالى (حَتّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) (٢) وقوله تعالى : (بِالْبَيِّناتِ

__________________

(١) الشرائع ١ : ٢٢٩.

(٢) البيِّنة ٩٨ : ١.

٦٣

.................................................................................................

______________________________________________________

وَالزُّبُرِ) (١) إلى غير ذلك (٢).

وممّا يرشدك إلى أنّ المراد بها في الموثّقة ليس هو خصوص البيّنة الشرعيّة أنّه على هذا لم يكن الحصر حاصراً ، لإمكان ثبوت الأشياء بغير هذين أعني : الاستبانة وقيام البيِّنة مثل : الإقرار وحكم الحاكم ونحو ذلك ، فيكشف ذلك عن أنّ المراد مطلق الحجّة. ويكون حاصل المعنى : أنّ الأشياء كلّها على هذا حتّى تستبين ، أي تتّضح بنفسها بالعلم الوجداني ، أو أن تقوم به الحجّة المعتبرة أي الطريق العلمي من الخارج فإنّ البيِّنة بمعنى ما يتبيّن به الأمر.

فتحصّل : أنّ هذه الموثّقة بمجرّدها قاصرة الدلالة على حجّيّة البيّنة الشرعيّة ، أعني : شهادة العادلين.

بل الذي يدلّ على حجّيّتها على الإطلاق إلّا ما خرج بالدليل مثل : الشهادة على الزنا المتوقّفة على شهادة أربعة عدول ، ومثل : الدعوى على الميّت المحتاجة إلى ضمّ اليمين قوله (صلّى الله عليه وآله) : «إنّما أقضي بينكم بالأيمان والبيِّنات» بضميمة ما ثبت من الخارج بدليل قاطع أنّه (صلّى الله عليه وآله) كان يقضي بالبيّنة ، أعني : بشهادة رجلين عادلين أو رجل وامرأتين.

فبعد ضمّ الصغرى إلى الكبرى نستنتج أنّ شهادة العدلين ممّا يتبيّن بها الأمر ويثبت بها الحكم والقضاء ، فيكشف ذلك عن ثبوت كلّ شي‌ء بها إلّا ما خرج بالدليل كما عرفت ، ويتحقّق بذلك صغرى للموثّقة المتقدّمة.

فيكفي هذا الدليل العام لإثبات حجّيّة البيّنة في المقام.

نعم ، لا اعتداد بشهادة المرأة هنا حسبما عرفت.

__________________

(١) النحل ١٦ : ٤٤.

(٢) شرح العروة ٢ : ٢٦١ ٢٦٣.

٦٤

.................................................................................................

______________________________________________________

القسم الثاني : ما دل على حجّيّة البيّنة في خصوص المقام ، وهي الروايات الكثيرة المتظافرة التي لا يبعد فيها دعوى التواتر الإجمالي المصرّحة بذلك.

منها صحيحة الحلبي : «إنّ علياً (عليه السلام) كان يقول : لا أُجيز في الهلال إلّا شهادة رجلين عدلين» (١).

وصحيحة منصور بن حازم : «فإن شهد عندكم شاهدان مرضيّان بأنّهما رأياه فاقضه» (٢) ، ونحوهما غيرهما.

ولكن بإزائها روايات قد يتوهّم معارضتها لما سبق ، لدلالتها على عدم حجّيّة البيّنة فيما إذا لم تكن في السماء علّة ، ومن أجلها مال في الحدائق إلى هذا القول (٣). وهذه روايات أربع وإن لم يذكر في الجواهر ما عدا اثنتين منها ، بل قد يظهر من عبارته عدم وجود الزائد عليهما ، لقوله (قدس سره) : ما عدا روايتين (٤) ، فلاحظ.

وكيفما كان ، فالروايات التي يتوهّم فيها المعارضة إمّا لأجل الدلالة على عدم الحجّيّة مطلقاً ، أو في خصوص عدم وجود العلّة أربع كما عرفت :

إحداها : رواية حبيب الخزاعي ، قال : قال أبو عبد الله (عليه السلام) : «لا تجوز الشهادة في رؤية الهلال دون خمسين رجلا عدد القسامة ، وإنّما تجوز شهادة رجلين إذا كانا من خارج المصر وكان بالمصر علّة فأخبرا أنّهما رأياه ، وأخبرا عن قوم صاموا للرؤية وأفطروا للرؤية» (٥).

ولكن الرواية ضعيفة السند أوّلاً ، لا من أجل إسماعيل بن مرار ، لوجوده في

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ٢٨٦ / أبواب أحكام شهر رمضان ب ١١ ح ١.

(٢) الوسائل ١٠ : ٢٨٧ / أبواب أحكام شهر رمضان ب ١١ ح ٤.

(٣) الحدائق ١٣ : ٢٤٥ ٢٤٦.

(٤) الجواهر ١٦ : ٣٥٦ ٣٥٨.

(٥) الوسائل ١٠ : ٢٩٠ / أبواب أحكام شهر رمضان ب ١١ ح ١٣.

٦٥

.................................................................................................

______________________________________________________

أسناد تفسير علي بن إبراهيم بل من أجل حبيب الخزاعي كما في التهذيب والاستبصار وجامع الرواة (١) ، أو الجماعي كما في الجواهر (٢) ، وعلى أيّ حال فالرجل مجهول.

وأضاف في الوسائل نسخة : الخثعمي (٣). ولكن الظاهر أنّه سهو من قلمه الشريف.

وكيفما كان ، فهذا الرجل وإن كان موثّقاً إلّا أنّه لم يثبت أنّه الراوي ، لعدم ثبوت هذه النسخة لو لم يثبت عدمها ، فغايته أنّ الرجل مردّد بين الموثّق وغيره ، فالرواية محكومة بالضعف على كلّ تقدير.

وثانياً : إنّها قاصرة الدلالة وغير صالحة للمعارضة ، لأنّ ظاهرها لزوم التعويل في أمر الهلال على العلم أو العلمي ، وعدم جواز الاتّكال على الاحتمال أو التظنّي ، إذ في فرض استهلال جماعة كثيرين وليس في السماء علّة لو ادّعى الهلال حينئذ رجلان قد يُطمأنّ بخطأهما فلا تكون مثل هذه البيّنة مشمولة لدليل الحجّيّة. فلا ينافي ذلك حجّيّة البيّنة في نفسها ، ولأجل ذلك أجاز (عليه السلام) شهادة الرجلين مع وجود العلّة ، وكون المخبر من خارج البلد لانتفاء المحذور المزبور حينئذٍ كما هو ظاهر.

وثالثاً : مع التسليم فغايته معارضة هذه الرواية مع الروايات الخاصّة المتقدّمة الناطقة بحجّيّة البيّنة في خصوص الهلال ، فيتساقطان ، ويرجع بعدئذٍ إلى عمومات حجّيّة البيّنة على الإطلاق حسبما تقدّم.

الثانية : رواية أبي العبّاس عن أبي عبد الله (عليه السلام) : «قال : الصوم

__________________

(١) التهذيب ٤ : ١٥٩ / ٤٤٨ ، الاستبصار ٢ : ٧٤ / ٢٢٧ ، جامع الرواة ١ : ١٧٨.

(٢) الجواهر ١٦ : ٣٥٤.

(٣) لم ترد هذه الإضافة في الوسائل المحقّق جديداً.

٦٦

.................................................................................................

______________________________________________________

للرؤية والفطر للرؤية ، وليس الرؤية أن يراه واحد ولا اثنان ولا خمسون» (١).

وهي أيضاً ضعيفة بالقاسم بن عروة ، فإنّه لم يوثّق. نعم ، ورد توثيقه في الرسالة الساسانيّة (٢) ، ولكن الرسالة لم يثبت بطريق صحيح أنّ مؤلّفها الشيخ المفيد (قدس سره).

ومع الغضّ عن السند فالدلالة أيضاً قاصرة ، لأنّها في مقام بيان أنّ دعوى الرؤية بمجرّدها لا أثر لها وإن كان المدّعى خمسين رجلاً ، لجواز تواطئهم على الكذب ، فإنّ غاية ذلك الظنّ وهو لا يغني من الحقّ ، فلا يسوغ التعويل عليه ، بل لا بدّ من الاعتماد على العلم أو ما هو بمنزلته ، فلا تنافي بينها وبين ما دلّ على حجّيّة البيّنة وأنّها بمثابة العلم تعبّداً.

وعلى الجملة : فالرواية ناظرة إلى عدم كفاية الظنّ ، وكأنّها على ما أشار إليه في الجواهر في ذيل رواية أُخرى (٣) تعريضٌ على العامّة ، حيث استقرّ بناؤهم قديماً وحديثاً على الاستناد على مجرّد دعوى الرؤية ممّن يصلّى ويصوم ، ومعلومٌ أنّ هذا بمجرّده غير كافٍ في الشهادة.

فهذه الرواية أجنبيّة عن فرض قيام البيّنة ، ولذا لم يفرض فيها أنّ الخمسين كان فيهم العدول.

الثالثة : صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) : «قال : إذا رأيتم الهلال فصوموا ، وإذا رأيتموه فأفطروا ، وليس بالرأي ولا بالتظنّي ولكن بالرؤية. قال : والرؤية ليس أن يقوم عشرة فينظروا فيقول واحد : هو ذا هو ، وينظر تسعة فلا يرونه ، إذا رآه واحد رآه عشرة آلاف ، وإذا كانت علّة فأتمّ

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ٢٩٠ / أبواب أحكام شهر رمضان ب ١١ ح ١٢.

(٢) المسائل الصاغانية (مصنفات الشيخ المفيد ٣) : ٧٢.

(٣) الجواهر ١٦ : ٣٥٦.

٦٧

.................................................................................................

______________________________________________________

شعبان ثلاثين».

وزاد حمّاد فيه : وليس أن يقول رجل : هو ذا هو ، لا أعلم إلّا قال : ولا خمسون (١).

والمذكور في الوسائل هنا : أيّوب ، والصحيح : أبي أيّوب ، كما صرّح به لدى تعرّضه للرواية في الباب الثالث من أحكام شهر رمضان الحديث ٢ ، فكلمة «أبي» سقطت في نسخة الوسائل لا في خصوص هذه الطبعة (٢).

وكيفما كان ، فحال هذه حال الرواية السابقة ، فإنّ سياقها يشهد بأنّها في مقام بيان عدم الاكتفاء بالظنّ وعدم الاعتماد على الرأي الناشئ من كبر الهلال أو ارتفاعه ونحو ذلك ، فلا أثر لكلّ ذلك وإن كثر المدّعون حتّى زادوا على الخمسين مثلاً ما لم يُطمأنّ بصدقهم ، واحتمل تواطؤهم على الكذب ، ولذا لم يفرض فيها أنّ في المدّعين عدولاً أو ثقات. وأين هذا من حجّيّة البينة؟! فإنّه لا تنافي بين هذه وبين دليل الحجّيّة بوجه كما هو ظاهر جدّاً.

بقي الكلام في الرواية الرابعة ، وهي صحيحة أبي أيّوب إبراهيم بن عثمان بن الخزّاز عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال : قلت له : كم يجزئ في رؤية الهلال؟ «فقال : إنّ شهر رمضان فريضة من فرائض الله فلا تؤدّوا بالتظنّي ، وليس رؤية الهلال أن يقوم عدّة فيقول واحد : قد رأيته ، ويقول الآخرون : لم نره ، إذا رآه واحد رآه مائة ، وإذا رآه مائة رآه ألف ، ولا يجزئ في رؤية الهلال إذا لم يكن في السماء علّة أقلّ من شهادة خمسين ، وإذا كانت في السماء علّة قبلت شهادة رجلين يدخلان ويخرجان من مصر» (٣).

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ٢٨٩ / أبواب أحكام شهر رمضان ب ١١ ح ١١.

(٢) هذه الكلمة موجودة في الوسائل المحقّق جديداً.

(٣) الوسائل ١٠ : ٢٨٩ / أبواب أحكام شهر رمضان ب ١١ ح ١٠.

٦٨

.................................................................................................

______________________________________________________

فربّما يقال بأنّها معارضة لما سبق ، لدلالتها على أنّ السماء إذا لم تكن فيها علّة لا تقبل شهادة الاثنين حينئذٍ ولا الأكثر.

ولكن التأمّل يقضي بعدم المعارضة ، لأنّها بصدد بيان عدم جواز العمل بالظنّ كما عنون (عليه السلام) كلامه بذلك ، فالمقصود إنّما هو المنع عن التظنّي في فريضة رمضان ولزوم تحصيل العلم ، ولذا لم تفرض العدالة في الأقلّ من الخمسين ، ولا بدّ من حمل هذا العدد على المثال ، وإلّا فلا يمكن أن يقال : إنّ الخمسين يوجب العلم ، وتسعة وأربعين لا يوجبه ، فالمراد التمثيل بعدد يستوجب حصول العلم عادةً.

وكيفما كان ، فهي مسوقة لبيان عدم حجّيّة الظنّ ، لا عدم حجّيّة البيّنة ، فلا تنافي دليل اعتبارها بوجه.

وممّا يؤكّد ذلك أنّه (عليه السلام) حكم بقبول الشهادة إذا كانت في السماء علّة فيما إذا قدم الشاهدان من خارج المصر ، إذ نسأل حينئذٍ : أنّ المحلّ الذي يقدم الشاهدان منه هل في سمائه أيضاً علّة أو لا؟ فعلى الأوّل كان حاله حال البلد فكيف لا تقبل شهادة الرجلين من البلد وتقبل من خارجه؟! وعلى الثاني وهو المتعيّن يلزمه قبول الشاهدين من البلد أيضاً إذا لم يكن في سمائه علّة ، إذ التفكيك بينهما بقبول شاهدي الخارج دون الداخل مع تساويهما في عدم العلّة غير قابل للتصديق.

فلا تعارض الصحيحة حجّيّة البيّنة أبداً ، بل تؤكّدها حسبما عرفت.

ولو تنازلنا وسلمنا المعارضة فحيث لا يمكن حمل نصوص الحجّيّة على ما إذا كانت في السماء علّة وكانت البيّنة من الخارج ، للزوم التخصيص بالفرد النادر كما لا يخفى ، فلا مناص من التساقط ، والمرجع بعدئذٍ إطلاقات حجّيّة البيّنة العامّة.

٦٩

وبين وجود العلّة في السماء وعدمها (١).

______________________________________________________

فما ذهب إليه المشهور من حجّيّة البيّنة على الهلال من غير فرق بين ما إذا كانت في السماء علّة أم لا هو الصحيح.

(١) حسبما عرفت آنفاً.

نعم ، يستثني من ذلك صورة واحدة جرياً على طبق القاعدة من غير حاجة إلى ورود الرواية ، وهي ما لو فرضنا كثرة المستهلّين جدّاً ، وليست في السماء أيّة علّة ، وادّعى من بين هؤلاء الجمّ الغفير شاهدان عادلان رؤية الهلال وكلّما دقّق الباقون وأمعنوا النظر لم يروا ، فمثل هذه الشهادة والحالة هذه ربّما يطمأنّ أو يجزم بخطئها ، إذ لو كان الهلال موجوداً والمفروض أنّ هذين لا مزيّة لهما على الباقين فلما ذا اختصّت الرؤية بهما؟! فلا جرم تكون شهادتهما في معرض الخطأ ، ولا سيّما وأنّ الهلال من الأُمور التي يكثر فيها الخطأ ، ويخيّل للناظر لدى تدقيق النظر ما لا واقع له ، وقد شوهد خارجاً كثيراً إنّ ثقةً بل عدلاً يدّعي الرؤية ويحاول إراءة الناس من جانب ومن باب الاتّفاق يرى الهلال في نفس الوقت من جانب آخر.

وعلى الجملة : فنفس دليل الحجّيّة قاصر الشمول من أوّل الأمر لمثل هذه الشهادة ، لاختصاصها بما إذا لم يعلم أو لم يطمأنّ بخطإ الحجّة ، والسيرة العقلائيّة أيضاً غير شاملة لمثل ذلك البتّة.

فهذه الصورة خارجة عن محلّ الكلام وأجنبيّة عمّا نحن فيه من غير حاجة إلى ورود نصّ خاصّ حسبما عرفت.

٧٠

نعم ، يشترط توافقهما في الأوصاف (١) ، فلو اختلفا فيها لا اعتبار بها. نعم ، لو أطلقا أو وصف أحدهما وأطلق الآخر كفى.

______________________________________________________

(١) قد يفرض أنّ كلّاً من الشاهدين يخبر عن رؤية الهلال على سبيل الإطلاق.

وأُخرى : يقيّده أحدهما خاصّة فيقول : رأيته وكان جنوبيّا مثلاً ويطلق الآخر.

وثالثةً : يقيّد كلّ منهما بقيد يطابق الآخر ، فيقول الآخر في المثال المزبور : إنّه كان جنوبيّا أيضاً.

وحكم هذه الصور واضح ، لصدق قيام البيّنة على شي‌ء واحد كما هو ظاهر.

ورابعةً : يقيّد كلّ منهما بقيدٍ يخالف الآخر ، وهذا على نحوين :

إذ تارةً : يكون القيد من الأُمور المقارنة غير الدخيلة في حقيقة الهلال ، كما لو أخبر أحدهما عن وجود سحابة قريبة منه بحيث انحلّت شهادته إلى شهادتين : شهادة بأصل وجود الهلال ، وشهادة اخرى بوجود السحاب قريباً منه ، وأنكر الآخر وجود السحاب.

وهذا أيضاً لا إشكال في عدم قدحه في تحقّق البيّنة الشرعيّة بعد اتّفاقهما على الشهادة بأصل رؤية الهلال ، فغايته إلغاء الضميمة التي هي مورد المعارضة ، إذ لا ضير فيه بعد أن كانت أجنبيّة عن نفس الهلال.

وهذا نظير ما لو شهد أحدهما على الطلاق وأنّ المطلّق كان لابساً للباسٍ أصفر ، ويقول الآخر : إنّ لباسه كان أبيض ، فإنّ هذه الحيثيّة أجنبيّة عن حريم الطلاق بالكلّيّة ، فيؤخذ بالشهادة على وقوع أصل الطلاق الذي هو مورد

٧١

.................................................................................................

______________________________________________________

للاتّفاق بلا إشكال.

وأُخرى : يكون القيد من الخصوصيّات الفرديّة ومتعلّقاً بشخص الهلال وحقيقته ، كما لو شهد أحدهما بأنّه كان جنوبيّا ، ويقول الآخر بأنّه كان شماليّاً ، بحيث كانت لكلّ منهما شهادة واحدة متعلّقة بفرد خاص مغاير لما تعلّق بالفرد الآخر ، ونحوه ما لو أخبر أحدهما بأنّه كان مطوّقاً ، أو كانت فتحته نحو الأرض ، وقال الآخر بأنّ فتحته نحو السماء ، أو أنّه لم يكن مطوّقاً ، ونحو ذلك ممّا يتعلّق بخصوصيّات نفس الهلال دون الحالات المقارنة معه بحيث إنّ أحدهما يخبر عن فرد ، ويخبر الآخر عن فرد آخر.

فبطبيعة الحال يقع التكاذب حينئذٍ بين الشهادتين ، لأنّ ما يثبته هذا ينفيه الآخر وبالعكس ، إذ لا يمكن أن يكون الهلال في آنٍ واحد متّصفاً بخصوصيّتين متضادّتين ، فمن يدّعي الجنوبيّة ينفي الشمالية ، فكلّ منهما مثبت ونافٍ لمدلول الآخر ، فلم يتّفقا على شي‌ء واحد لتتحقّق بذلك البيّنة الشرعيّة.

نعم ، قد يقال : إنّهما وإن اختلفا في المدلول المطابقي وهو الإخبار عن فرد خاصّ من الهلال ، إلّا أنّهما متّفقان في المدلول الالتزامي وهو الاخبار عن أصل وجود الهلال والكلّي الجامع القابل للانطباق على كلّ من الفردين ، ولا فرق في حجّية البيّنة كغيرها ممّا هو من مقولة الحكاية بين المدلول المطابقي والالتزامي ، فإذا سقطت المطابقة عن الحجّية إمّا لأجل المعارضة ، أو لعدم حصول الشهادة الشرعيّة لا مانع من الأخذ بالمدلول الالتزامي.

ولكنّه يندفع بما تعرّضنا له مستقصًى في مبحث المياه عند التكلّم حول الشهادة على النجاسة وثبوتها بالبيّنة (١) ، وقلنا ثمّة ما ملخّصه : أنّ الدلالة الالتزاميّة كما أنّها تابعة للمطابقيّة في الوجود أي في أصل الدلالة وتحقّقها كذلك تتبعها في

__________________

(١) شرح العروة ٢ : ٢٦٠ ٢٦٦.

٧٢

.................................................................................................

______________________________________________________

الحجّيّة ، فإنّ ذلك هو مقتضى ما هو المستند لحجّيّة البيّنة وغيرها من السيرة العقلائيّة ونحوها ، فإنّها ناطقة بأنّها تدور مدارها ثبوتاً وسقوطاً ، وجوداً وحجّيّةً ، فمع سقوط المطابقيّة عن الحجّيّة لا دليل على حجّيّة الكلام في الدلالة الالتزاميّة حتّى فيما إذا كان اللزوم بيّناً بالمعنى الأخصّ ، بل هي تتبعها في السقوط لا محالة.

فلو فرضنا قيام البيّنة على أنّ الدار التي هي تحت يد زيد لعمرو ، فلا شك في أنّ المال يؤخذ حينئذٍ منه ويُعطى لعمرو ، لتقدّم البيّنة على اليد.

وهذه الشهادة الدالّة بالمطابقة على أنّ الدار لعمرو لها دلالة التزاميّة باللزوم البيّن بالمعنى الأخصّ ، وهي أنّها ليست لزيد ، لامتناع اجتماع ملكيّتين مستقلّتين على مال واحد.

وحينئذٍ فلو فرضنا أن عمرواً اعترف بأنّ الدار ليست له فلا ريب في سقوط البيّنة عندئذٍ عن الحجّيّة ، لتقدّم الإقرار عليها ، بل على غيرها أيضاً من سائر الحجج حتّى حكم الحاكم.

أفهل يمكن القول حينئذٍ بأنّ الساقط هو الدلالة المطابقيّة وهو كونها لعمرو دون الالتزاميّة أعني : عدم كونها لزيد فتؤخذ الدار من يده ، ويعامل معها معاملة مجهول المالك باعتبار أنّ البيّنة أخبرت بالالتزام بأنّها ليست لزيد ولم يعرف مالكها؟

ليس كذلك قطعاً ، والسرّ فيه ما ذكرناه هناك من أنّ الشهادة على الملزوم وإن كانت شهادة على اللازم ولا سيّما في اللزوم البيّن بالمعنى الأخصّ كالمثال المتقدّم إلّا أنّها ليست شهادة على اللازم مطلقاً وأينما سرى ، بل حصّة خاصّة منه ، وهي اللازم لهذا الملزوم المجتمع معه في الوجود. فمن يخبر في المثال عن أنّ الدار لعمرو فهو يخبر طبعاً عن عدم كونها لزيد ، ذاك العدم الذي هو لازم

٧٣

.................................................................................................

______________________________________________________

لملكيّة عمرو ، لا أنّه يخبر عن عدم ملكيّة زيد على سبيل الإطلاق ، فهو يخبر عن حصّة خاصّة من اللازم التي هي من شؤون الشهادة على الملزوم ، فإذا سقط الملزوم بمقتضى الاعتراف تبعه سقوط اللازم بطبيعة الحال ، فيكون اعتراف المقرّ له إنكاراً للّازم.

وكذلك الحال في بقية اللوازم ، فمن أخبر عن أنّ هذا ثلج فقد أخبر عن بياضه لا عن طبيعي البياض الجامع بين الثلج والقطن ، بل خصوص هذه الحصّة المقارنة معه ، فإذا علمنا من الخارج أنّ ذاك الجسم لم يكن ثلجاً ليس لنا أن نقول : إنّه أبيض.

وعلى الجملة : الإخبار عن الملزوم في باب الشهادة وغيرها إنّما يكون إخباراً عن اللازم فيما هو لازم له ، أي عن الحصّة الخاصّة الملازمة لهذا الملزوم ، لا عن الطبيعي.

وعليه ، فمن يشهد برؤية الهلال في طرف الجنوب لا يخبر بالدلالة الالتزاميّة عن وجود جامع الهلال ليشاركه في هذا الإخبار من يشهد برؤيته في طرف الشمال فتتحقّق بذلك البيّنة الشرعيّة ، وإنّما يخبر عن الحصّة المقارنة لهذا الفرد ، والمفروض عدم ثبوته ، لكونه شاهداً واحداً ، وهكذا الشاهد الآخر ، فما يخبر به كلّ منهما غير ما يخبر به الآخر. إذن فلم تثبت رؤية الهلال بالبيّنة الشرعيّة ، لعدم تعلّق الشهادتين بموضوع واحد ، لا بالدلالة المطابقيّة ولا الالتزاميّة حسبما عرفت.

ونظير ذلك ما لو ادّعى كلّ من زيد وعمرو أنّ بكراً باعه داره ، ولكلّ منهما شاهد واحد ، فإنّه لا يثبت بذلك تحقّق البيع ، وتردّد المالك بين زيد وعمرو بدعوى توافق الشاهدين على هذا المدلول الالتزامي ، إذ ليس اللازم هو الجامع ، بل الحصّة الخاصّة المغايرة للحصّة الأُخرى كما عرفت.

٧٤

ولا يُعتبر اتّحادهما في زمان الرؤية (١) مع توافقهما على الرؤية في الليل (٢).

______________________________________________________

(١) لعدم دخله فيما هو المناط في اعتبار الشهادة من وحدة المشهود به وهو وجود الهلال في ليلة كذا ، فكما لا يعتبر الاتّحاد في زمان أداء الشهادة ولا مكان الرؤية ، فكذا لا يعتبر في زمان الرؤية ، فلا مانع من أن يشهد أحدهما برؤيته بعد الغروب بربع ساعة والآخر بنصف ساعة بعد أن كان أحد الوجودين ملازماً للآخر ، فإنّ هذه الخصوصيّات الزائدة أجنبيّة عن صحّة الشهادة كما هو واضح.

(٢) إن أراد به الموافقة على الرؤية في ليلة واحدة كما لا يبعد ، بل لعلّه ظاهر العبارة ، فهو وجيه ، فإنّه لو اختلفا فشهد أحدهما برؤية هلال رمضان في ليلة السبت مثلاً والآخر في ليلة الأحد ، لم تتمّ الشهادة على شي‌ء منهما. أمّا الأوّل فواضح ، وكذا الثاني ، إذ هما وإن اتّفقا على كونه من رمضان إلّا أنّ الأوّل يكذّب بالدلالة الالتزاميّة ما يدّعيه الثاني من كونها الليلة الاولى ، بل يراها الثانية ، فلا يتّفقان على هذه الدعوى ، فخصوصيّة الليلة الأُولى لم تثبت بشي‌ء من الشهادتين كما هو واضح.

وإن أراد لزوم تعلّق الشهادة برؤية الهلال في الليل في مقابل النهار بحيث لو شهد أحدهما برؤيته قبل الغروب بنصف ساعة ، والآخر بعده بنصف ساعة مثلاً لم ينفع ، فهذا غير واضح ، إذ لم يرد اعتبار الرؤية في الليل في شي‌ء من النصوص ، فلا مانع من قبول شهادة المزبورة. إلّا إذا فُرض التنافي بينهما ، كما لو شهد أحدهما برؤيته قبل الغروب بخمس دقائق قريباً من الأُفق بحيث لا يبقى فوقه أكثر من عشر دقائق مثلاً وشهد الآخر بأنّه رآه بعد الغروب بساعة ، فإنّ مثل هذه الشهادة لا تُسمع ، لرجوع ذلك إلى الخصوصيّات الفرديّة المستلزمة

٧٥

ولا يثبت بشهادة النساء (١) ،

______________________________________________________

لتكذيب أحدهما الآخر ، فإنّ الفرد الذي يشهد به أحدهما غير الفرد الذي يشهد به الآخر. ومثله لا يحقّق البيّنة الشرعيّة كما مرّ.

(١) لجملة من النصوص المعتبرة المصرّحة بذلك ، التي منها صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) : «إنّ عليّاً (عليه السلام) كان يقول : لا أُجيز في الهلال إلّا شهادة رجلين عدلين» (١).

وصحيحة محمّد بن مسلم : «قال : لا تجوز شهادة النساء في الهلال» (٢).

ورواية شعيب بن يعقوب ، عن جعفر ، عن أبيه (عليهما السلام) : «إنّ عليّاً (عليه السلام) قال : «لا أُجيز في الطلاق ولا في الهلال إلّا رجلين» (٣) ونحوها غيرها.

والمراد بهذه الروايات نفي الحجّيّة الشرعيّة عن شهادة النساء وقبول قولهنّ تعبّداً على النحو الذي كان ثابتاً في الرجال ، وأمّا إذا بلغ إخبارهنّ حدّ التواتر بحيث لا يحتمل معه التواطؤ على الكذب أو حدّ الشياع المفيد للعلم فلا ينبغي التأمل في عدم كونه مشمولاً لتلك النصوص ، فإنّها ناظرة إلى النهي عن العمل بشهادة النساء ، لا عن العمل بالعلم الوجداني كما هو واضح.

نعم ، هناك رواية واحدة ربّما يستشعر منها التفصيل بين هلال رمضان وهلال شوال ، وأنّ الأوّل يثبت بشهادتهنّ فيقيَّد بها إطلاق النصوص المتقدّمة.

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ٢٨٦ / أبواب أحكام شهر رمضان ب ١١ ح ١.

(٢) الوسائل ١٠ : ٢٨٦ / أبواب أحكام شهر رمضان ب ١١ ح ٢.

(٣) الوسائل ١٠ : ٢٨٩ / أبواب أحكام شهر رمضان ب ١١ ح ٩.

٧٦

.................................................................................................

______________________________________________________

وهي ما رواه الشيخ بإسناده عن داود بن الحصين عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث طويل ـ : «قال : لا تجوز شهادة النساء في الفطر إلّا شهادة رجلين عدلين ، ولا بأس في الصوم بشهادة النساء ولو امرأة واحدة» (١).

وقد رواها في الوسائل في موضعين أحدهما في هذا المقام ، والآخر في كتاب الشهادات (٢).

وله (قدس سره) سهو قلم واشتباه في كلّ من الموضعين :

أمّا سهوه (قدس سره) في المقام : فلأجل أنّه (قدس سره) رواها عن الشيخ ، عن علي بن الحسن بن فضّال ، عن محمّد بن خالد ... إلخ ، مع أنّ الشيخ رواها في التهذيب والاستبصار عن سعد بن عبد الله ، عن محمّد ابن خالد وعلي بن حديد ، في سند. وعن سعد ، عن محمّد بن الحسين بن أبي الخطّاب والهيثم بن أبي مسروق النهدي ، في سندٍ آخر. كلّهم عن علي بن النعمان. وعلى التقديرين فقد رواها عن سعد لا عن ابن فضّال.

وأمّا سهوه في كتاب الشهادات : فهو أنّه يرويها عن داود بن الحصين بسندين : أحدهما وهو الذي أشار إليه بقوله : وبالإسناد ـ : عن سعد بن عبد الله ، عن أحمد بن محمّد ، عن محمّد بن خالد ... إلخ ، مع أنّ الموجود في التهذيب والاستبصار رواية سعد بن عبد الله عن محمّد بن خالد مباشرةً ، لا بواسطة أحمد بن محمّد.

وكيفما كان ، فالرواية وإن كانت معتبرة السند إلّا أنّها قاصرة الدلالة ، إذ ليس مفادها ثبوت هلال رمضان بشهادتها لتدلّ على التفصيل بين الهلالين ، بل

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ٢٩١ / أبواب أحكام شهر رمضان ب ١١ ح ١٥ ، التهذيب ٦ : ٢٦٩ / ٧٢٦ ، الاستبصار ٣ : ٣٠ / ٩٨.

(٢) الوسائل ٢٧ : ٣٦١ / كتاب الشهادات ب ٢٤ ح ٣٦.

٧٧

ولا بعدل واحد ولو مع ضمّ اليمين (١).

______________________________________________________

غايتها عدم البأس بالصيام كما عبّر (عليه السلام) بذلك ، ولا شك في عدم البأس المزبور بأن يصام رجاءً بقصد شعبان ، أو بقصد الأمر الفعلي حسبما تقدّم في محلّه ، وليس كذلك الفطر ، لحرمة الصوم يومئذٍ ، فمن ثمّ عبّر (عليه السلام) فيه بقوله : «لا تجوز شهادة النساء في الفطر» ، فهما يشتركان في عدم الثبوت بشهادة النساء وإن افترقا في إمكان الاحتياط وجواز الصوم بعنوان الرجاء وعدمه حسبما عرفت.

وممّا يؤكّد ذلك عدم ثبوت أيّ شي‌ء بشهادة امرأة واحدة في كافّة الأبواب الفقهيّة ، بل ولا رجل واحد إلّا في بعض الموارد الخاصّة ممّا قام عليه النصّ ، كما في الوصيّة حيث إنّه يثبت الربع بشهادة المرأة الواحدة ، وكما في القتل حيث إنّه يثبت بشهادتها ربع الدية ، فكيف يمكن أن يقال بثبوت الهلال بشهادة امرأة واحدة سيّما بعد ما تقدّم في جملة من النصوص من التصريح بعدم ثبوته إلّا بشهادة رجلين عادلين؟!

إذن فلا تنهض هذه الرواية لمعارضة ما سبق بوجه.

(١) تعميم عدم الكفاية لضمّ اليمين لعلّه من توضيح الواضحات ، فإنّ الاكتفاء بشاهد واحد في باب الهلال وإن نُسب إلى بعضهم كما ستعرف إلّا أنّ ضمّ اليمين معه لم يعرف له أيّ وجه ، إذ الروايات الواردة في كفاية ضمّ اليمين مع الشاهد الواحد أكثرها إنّما وردت في خصوص الدين ، بل في بعضها التصريح بكلمة : فقط ، أو : خاصّة ، فقد ورد أنّه قضى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في الدين خاصّة بشاهد ويمين.

ومن ثمّ اختلف الفقهاء على أقوال ثلاثة :

٧٨

.................................................................................................

______________________________________________________

فخصّه بعضهم بموارد الدين دون غيره من سائر الدعاوي المتعلّقة بالأملاك.

وتعدّى بعضهم إلى مطلق الأموال ، فلو ادّعى أحدٌ على أحدٍ ديناً أو عيناً وأقام شاهداً واحداً مع ضمّ اليمين ثبتت الدعوى ، وهذا غير بعيد حسبما يستفاد من بعض الروايات.

وتعدّى آخرون إلى مطلق الحقوق وإن لم تتضمّن دعوى مالية ، مثل : دعوى الزوجيّة ونحوها.

فمورد هذه الأقوال هو الدعوى إمّا ديناً أو مالاً أو حقّا ، وأمّا إذا لم يكن شيئاً من ذلك وكان خارجاً عن مورد الدعوى رأساً كثبوت الهلال فلم يُنسب إلى أحد من الفقهاء اعتبار شاهد واحد مع اليمين.

وأمّا احتمال الاكتفاء بشاهد واحد فتدفعه النصوص المتقدّمة المتعدّدة الناطقة باعتبار العدد ، التي منها صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) : «إنّ عليّاً (عليه السلام) كان يقول : لا أُجيز في الهلال إلّا شهادة رجلين عدلين» (١).

نعم ، قد يقال باستفادة الاكتفاء بشاهد واحد من صحيحة محمّد بن قيس عن أبي جعفر (عليه السلام) : «قال : قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : إذا رأيتم الهلال فأفطروا ، أو شهد عليه عدل من المسلمين» إلخ (٢) ، لانطباق العدل على الشاهد الواحد.

وفيه : أنّ غايته الدلالة عليه بالإطلاق القابل للتقييد بالنصوص المتقدّمة ، على أنّ النسخ مختلفة وفي بعضها : «عدول» بدل : «عدل» ، ورواها في الوسائل في موضع آخر : «بيّنة عدل» (٣) ، فلا تنهض لمقاومة ما سبق.

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ٢٨٦ / أبواب أحكام شهر رمضان ب ١١ ح ١.

(٢) الوسائل ١٠ : ٢٦٤ / أبواب أحكام شهر رمضان ب ٥ ح ١١.

(٣) الوسائل ١٠ : ٢٨٨ / أبواب أحكام شهر رمضان ب ١١ ح ٦.

٧٩

السادس : حكم الحاكم (*) (١)

______________________________________________________

(١) على المشهور كما نُسبَ إليهم ، وخالف فيه بعضهم فأنكر وجود الدليل عليه.

ويستدلّ للمشهور بطائفة من الروايات لا تخلو عن الخدش سنداً أو دلالةً على سبيل منع الخلو.

منها : صحيحة محمّد بن قيس عن أبي جعفر (عليه السلام) : «قال : إذا شهد عند الإمام شاهدان أنّهما رأيا الهلال منذ ثلاثين يوماً أمر الإمام بإفطار ذلك اليوم إذا كانا شهدا قبل زوال الشمس ، وإن شهدا بعد زوال الشمس أمر الإمام بإفطار ذلك اليوم وأخّر الصلاة إلى الغد فصلّى بهم» (١).

دلّت على أنّ الإفطار يثبت بأمر الإمام ، سواء أثَبَتَ الهلال عنده قبل الزوال أم بعده ، وإنّما يفترقان في إقامة الصلاة ، حيث إنّها لا تشرع بعد الزوال ، فمن ثمّ تؤخَّر إلى الغد.

ولكن الصحيحة كما ترى أجنبيّة عن محلّ الكلام بالكلّيّة ، وإنّما هي ناظرة إلى وجوب إطاعة الإمام وأنّه متى أمر بالإفطار وجب ، لكونه مفترض الطاعة بمقتضى قوله تعالى (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (٢) ، من غير حاجة إلى صدور حكم منه الذي هو إنشاء خاصّ ، لعدم فرضه في الحديث ، وإنّما المفروض مجرّد قيام الشهود لديه وصدور الأمر منه

__________________

(١) في ثبوت الهلال بحكم الحاكم إشكال ، بل الأظهر عدم ثبوته وإن كان رعاية الاحتياط أولى.

(٢) الوسائل ١٠ : ٢٧٥ / أبواب أحكام شهر رمضان ب ٦ ح ١.

(٣) النساء ٤ : ٥٩.

٨٠