موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ مرتضى البروجردي

.................................................................................................

______________________________________________________

والأُخرى ما وردت في خصوص العاجز.

أمّا الطائفة الأُولى : فالظاهر عدم صحّة الاستدلال بها ، لأنّها بين ما لا إطلاق لها ، وبين ما هو شرح للآية المباركة التي عرفت عدم الإطلاق فيها من غير أن يتضمّن حكماً جديداً.

فمن القسم الأوّل : صحيحة عبد الله بن سنان : عن رجل كبير ضعف عن صوم شهر رمضان «قال : يتصدّق كلّ يوم بما يجزئ من طعام مسكين» (١).

فإنّها في نفسها غير شاملة للعاجز ، إذ الضعف في مقابل القوّة لا في مقابل القدرة ، وإنّما المقابل لها العجز دون الضعف.

وبالجملة : الضعف غير العجز ، ولذا يقال : ضعيف في كتابته أو في مشيه ، ولا يقال : عاجز ، بل هو قادر ولكن عن مشقّة.

على أنّ التعبير فيها بـ «طعام مسكين» المطابق للآية الشريفة لا بـ «المدّ» فيه إشارة إلى أنّها في مقام بيان ما ورد في الآية الكريمة ، التي عرفت أنّها خاصّة بالضعيف ولا تعمّ العاجز.

ومن القسم الثاني : صحيحة محمّد بن مسلم ، قال : سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول : «الشيخ الكبير والذي به العطاش لا حرج عليهما أن يفطرا في شهر رمضان ، ويتصدّق كلّ واحد منهما في كلّ يوم بمدّ من طعام ، ولا قضاء عليهما ، وإن لم يقدرا فلا شي‌ء عليهما» (٢) ، فإنّ دعوى الإطلاق فيها للعاجز غير بعيدة.

إلّا أنّها وردت في سند آخر أيضاً عن علاء بن رزين ، عن محمّد بن مسلم ،

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ٢١١ / أبواب من يصح منه الصوم ب ١٥ ح ٥.

(٢) الوسائل ١٠ : ٢٠٩ / أبواب من يصح منه الصوم ب ١٥ ح ١.

٤١

.................................................................................................

______________________________________________________

عن أبي جعفر (عليه السلام) ، ولكن تفسيراً لقول الله عز وجل (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ) «قال : الشيخ الكبير والذي يأخذه العطاش» إلخ (١).

فيظهر من ذلك أنّ الإمام (عليه السلام) لم يكن بصدد بيان حكم جديد ، بل في مقام ذكر ما ورد في الآية الكريمة التي عرفت عدم الإطلاق لها. وليس لدينا أيّ رواية أُخرى معتبرة تدلّنا على لزوم الفداء للشيخ الكبير كي يتمسّك بإطلاقها.

وأمّا الطائفة الثانية فهي روايتان :

إحداهما : ما رواه الشيخ بإسناده عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال : قلت له : الشيخ الكبير لا يقدر أن يصوم «فقال : يصوم عنه بعض ولده» قلت : فإن لم يكن له ولد؟ «قال : فأدنى قرابته» قلت : فإن لم تكن له قرابة؟ «قال : يتصدّق بمدّ في كلّ يوم ، فإن لم يكن عنده شي‌ء فليس عليه شي‌ء» (٢) ، فإنّها وردت في خصوص العاجز.

ولكن الاستدلال بها ضعيف جدّاً :

أمّا أوّلاً : فلضعف السند على المشهور ، فإنّ يحيى بن المبارك الواقع فيه لم يرد فيه توثيق ولا مدح.

وأمّا ثانياً : فللقطع بعدم ورودها في صوم شهر رمضان ، إذ أيّ معنى حينئذٍ لصيام بعض ولده أو قرابته عنه؟! فإنّه إن كان متمكّناً وجب عليه الصيام عن

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ٢١٠ / أبواب من يصح منه الصوم ب ١٥ ح ٣.

(٢) الوسائل ١٠ : ٢١٣ / أبواب من يصح منه الصوم ب ١٥ ح ١١ ، التهذيب ٤ : ٢٣٩ / ٦٩٩ ، الإستبصار ٢ : ١٠٤ / ٣٤٠.

٤٢

.................................................................................................

______________________________________________________

نفسه ، وإلّا كان ساقطاً عنه أيضاً ، فهذا لا ينطبق على صوم رمضان أبداً ، مضافاً إلى أنّ النيابة عن الحيّ في الصيام غير ثابتة ، فإنّها تحتاج إلى دليل قاطع كما ثبت في الحجّ.

فلا بدّ إذن من فرض الرواية في مورد آخر ، ولا يبعد حملها على صوم النذر ، فإنّه المحكوم وجوباً أو استحباباً بمدّ أو مدّين بدل الصوم عن كلّ يوم ، على الخلاف المقرّر في محلّه. ويمكن القول بأنّه مع العجز عن الصوم بنفسه يصوم عنه بعض ولده أو قرابته وإلّا فيتصدّق. والمهمّ أنّها ضعيفة الدلالة.

الثانية : ما رواه أحمد بن محمّد بن عيسى في نوادره ، عن القاسم بن محمّد والظاهر أنّه الجوهري ولا بأس به عن علي ، عن أبي بصير ، قال : قال أبو عبد الله (عليه السلام) : «أيّما رجل كان كبيراً لا يستطيع الصيام ، أو مرض من رمضان إلى رمضان ، ثمّ صحّ ، فإنّما عليه لكلّ يوم أفطر فيه فدية إطعام ، وهو مدّ لكلّ مسكين» (١).

وهي وإن كنت واضحة الدلالة إلّا أنّها قاصرة السند جدّاً ، فإنّ الراوي عن أبي بصير هو قائده علي بن أبي حمزة البطائني الذي ضعّفه الشيخ قائلاً : إنّه وضع أحاديث في أنّ موسى بن جعفر (عليه السلام) لم يمت (٢) ، ليكون ذريعة إلى الامتناع عن إعطاء أمواله (عليه السلام) إلى الرضا (عليه السلام) ، فهي غير صالحة للاستدلال بها بوجه.

ومن جميع ما ذكرنا تعرف أن الأظهر اختصاص الفداء بمن يشقّ عليه الصوم ، ولا يشمل المعذور العاجز عنه رأساً ، فإنّه لا يجب عليه أيّ شي‌ء.

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ٢١٣ / أبواب من يصح منه الصوم ب ١٥ ح ١٢ ، نوادر أحمد بن محمّد ابن عيسى : ٧٠ / ١٤٦.

(٢) الغيبة للشيخ الطوسي : ٤٢ ٤٦.

٤٣

بمدّ من طعام ، والأحوط مدّان (١).

والأفضل كونهما من حنطة (٢).

______________________________________________________

ويؤيّده التعبير بـ «أحبّ» في رواية الكرخي المتقدّمة (١) ، بناءً على ظهوره في الاستحباب ، وإن كانت ضعيفة السند كما تقدّم في ص ٣٩ ، فلاحظ.

(١) الجهة الثالثة : في تحديد الفدية وأنّها مدّ أو مدّان ، فإنّ الروايات في ذلك مختلفة ، ففي بعضها التحديد بمدّ عن كلّ يوم ، كما في صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) (٢).

وفي بعضها الآخر التحديد بمدّين ، كما في صحيحته الأُخرى عن أبي عبد الله (عليه السلام) (٣).

هذا ، ولو كان المروي عنه فيهما شخصاً واحداً لكان لتطرّق احتمال الاشتباه من أحد الناقلين مجالٌ واسع ، ولكنّهما شخصان ، فتلك عن الباقر (عليه السلام) ، وهذه عن الصادق (عليه السلام) ، فلا بدّ إذن من الجمع ، وقد ذكر له الشيخ وجهين على ما حكاه عنه في الوسائل ، أحدهما : الحمل على الاستحباب ، والثاني : اختصاص المدّين بالقادر ، والمدّ الواحد بالعاجز.

ولكن الثاني كما ترى ، فإنّه جمع تبرّعي عارٍ عن كلّ شاهد بعد اتّحاد الروايتين مضموناً بل وعبارةً أيضاً. فالمتعيّن إذن هو الأوّل.

(٢) الجهة الرابعة : في جنس الفدية.

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ٢١٢ / أبواب من يصح منه الصوم ب ١٥ ح ١٠.

(٢) الوسائل ١٠ : ٢٠٩ / أبواب من يصح منه الصوم ب ١٥ ح ١.

(٣) الوسائل ١٠ : ٢١٠ / أبواب من يصح منه الصوم ب ١٥ ح ٢.

٤٤

والأقوى وجوب القضاء عليهما (*) لو تمكّنا بعد ذلك (١).

______________________________________________________

قد ورد في غير واحد من الروايات تبعاً للآية المباركة عنوان الطعام من غير اختصاص بجنس خاصّ ، غير أنّ الوارد في رواية الهاشمي المتقدّمة خصوص الحنطة «قال : تصدّق في كلّ يوم بمدّ حنطة» (١) ، وقد عرفت أنّها ضعيفة السند ، ولا بأس بالعمل بها والحمل على الأفضليّة مع بقاء الإطلاقات على حالها.

(١) الجهة الخامسة : في وجوب القضاء وعدمه لو فُرض عروض التمكّن.

فنقول : نُسبَ إلى المشهور وجوب القضاء ، استناداً إلى عموم قضاء الفوائت وإن لم ترد في المقام حتّى رواية ضعيفة تدلّ على الوجوب.

وخالف فيه جماعة آخرون وهم كثيرون فأنكروا وجوب القضاء وأنّه ليس عليه إلّا الفداء ، وهو الصحيح.

ويدلّنا عليه أوّلاً : قصور المقتضي ، لعدم صدق الفوت ، فإنّه إنّما يتحقّق بأحد أمرين : إمّا فوت الفريضة المأمور بها ، أو فوت ملاكها الملزم ، وإن شئت فقل : إمّا فوت الواجب الفعلي ، أو الواجب الشأني المستكشف تحقّقه في ظرفه من الأمر بالقضاء وإن لم يتعلّق به أمر فعلي في الوقت ، لمانعٍ خارجي من حيض أو نفاس أو نوم أو نسيان ونحوها.

والأوّل مفروض الانتفاء في المقام ، إذ لا أمر بالصيام حسب الفرض ، وعلى تقدير القول بالوجوب التخييري الراجع إلى تعلّق الأمر بالجامع بينه وبين

__________________

(*) في القوّة إشكال بل منع.

(١) الوسائل ١٠ : ٢١١ / أبواب من يصح منه الصوم ب ١٥ ح ٤.

٤٥

.................................................................................................

______________________________________________________

الفداء لم يفت منه أيّ شي‌ء أيضاً بعد فرض الإتيان بالفرد الآخر.

والثاني لا سبيل إلى إحرازه من غير ناحية الأمر بالقضاء كما ورد في الموارد المزبورة ، وهو أيضاً مفروض الانتفاء ، لعدم ورود القضاء في المقام حتّى في رواية ضعيفة حسبما عرفت.

إذن فلم يتحقّق الفوت فيما نحن فيه لا بالنسبة إلى التكليف ، ولا بالإضافة إلى الملاك ، ومعه لا موضوع لوجوب القضاء بتاتاً.

وثانياً : إنّ الآية الكريمة في نفسها ظاهرة في نفي القضاء عنه ، لأنّها تضمّنت تقسيم المكلّفين إلى من يجب عليه الأداء وهو الصحيح الحاضر ، أو القضاء وهو المريض أو المسافر ، أو الفداء وهو من لا يطيق. ومن المعلوم أنّ التفصيل قاطع للشركة ، فالآية بمجرّدها كافية في الدلالة على نفي القضاء عن الشيخ والشيخة.

وثالثاً : إنّ صحيحة محمّد بن مسلم صريحة في ذلك ، قال (عليه السلام) فيها : «... ويتصدّق كلّ واحد منهما في كلّ يوم بمدّ من طعام ، ولا قضاء عليهما» (١).

وحملها على ما إذا لم يتمكّنا من القضاء إلى السنة الآتية كما ترى.

ويؤيّده توصيف الفداء بالإجزاء في صحيحتي عبد الله بن سنان (٢) والحلبي (٣) ، الكاشف عن أنّه يجزئ عن الصوم ولا حاجة معه إليه بوجه.

وعلى الجملة : فلم نر أيّ موجب للقضاء ، لقصور المقتضي ، وعلى تقدير تماميّته فظاهر الآية وصريح الصحيحة من غير معارض هو عدم الوجوب وإن كان الاحتياط ممّا لا ينبغي تركه.

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ٢٠٩ / أبواب من يصح منه الصوم ب ١٥ ح ١.

(٢) الوسائل ١٠ : ٢١١ / أبواب من يصح منه الصوم ب ١٥ ح ٥.

(٣) الوسائل ١٠ : ٢١٢ / أبواب من يصح منه الصوم ب ١٥ ح ٩.

٤٦

الثالث : من به داء العطش ، فإنّه يفطر (١) ،

______________________________________________________

(١) الكلام هنا هو الكلام في الشيخ والشيخة بعينه ، لوحدة المستند ، وإنّما يفترق عنه في جهة ، وهي احتمال اندراج المقام في عنوان المريض المحكوم بوجوب القضاء بعد البرء ، فلو ارتفع داء العطش الناشئ من خللٍ في كبده ونحو ذلك بمعالجة أو مجي‌ء فصل الشتاء مثلاً لزمه القضاء حينئذٍ ولا يكفيه الفداء ، بخلاف الشيخ والشيخة فإنّهما يندرجان في عنوان من لا يطيق دون المريض كما تقدّم.

ويندفع : بأنّ العطاش وإن كان ناشئاً من أمر عارض في البدن لا محالة إلّا أنّه لا يندرج بذلك في عنوان المريض ليكون محكوماً بالقضاء.

وذلك لما أسلفناك من أنّ المريض المحكوم عليه بالإفطار والقضاء هو الذي يضرّ به الصوم بحيث يوجب ازدياد المرض أو طول برئه ، وذو العطاش ليس كذلك ، فإنّه لا يتضرّر من ناحية الصوم ، وإنّما يقع من أجله في مشقّة شديدة وحرج عظيم ، فهو إذن يغاير المريض موضوعاً ، ويشارك الشيخ والشيخة في الاندراج تحت قوله تعالى (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ) إلخ ، كما يغايره حكماً ، فلا يجب عليه إلّا الفداء ، كما لا يجب على المريض إلّا القضاء لو تمكّن. نعم ، يجب عليه أيضاً الفداء لو لم يتمكّن ، إلّا أنّ ذلك فدية التأخير لا فدية الإفطار ، وذلك أمر آخر على ما سيجي‌ء في محلّه إن شاء الله.

والذي يرشدك إلى ذلك صحيحة محمّد بن مسلم حيث جعل فيها ذو العطاش في مقابل المريض عن أبي جعفر (عليه السلام) : في قول الله عزّ وجلّ (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ) «قال : الشيخ الكبير والذي يأخذه العطاش» وعن قوله عزّ وجل : (فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ

٤٧

سواء كان بحيث لا يقدر على الصبر (١) أو كان فيه مشقّة ،

______________________________________________________

مِسْكِيناً) (١) «قال : من مرضٍ أو عطاش» (٢).

حيث جعل ذو العطاش مرادفاً للشيخ ومقابلاً للمريض المذكور في الآية الكريمة قبل ذلك ، كما أنّ عطف العطاش على المرض في الذيل كاشفٌ عن المغايرة.

وقد وقعت المقابلة بينهما أيضاً في بعض الروايات الضعيفة ، كرواية داود بن فرقد عن أبيه وضعفها من أجل أبيه ، فإنّه لم يوثّق في حديث : فيمن ترك صوم ثلاثة أيّام في كلّ شهر «فقال : إن كان من مرض فإذا برئ فليقضه ، وإن كان من كبر أو عطش فبدل كلّ يوم مدّ» (٣) ورواها أيضاً عن أخيه (٤).

وعلى الجملة : فلا ينبغي التأمّل في خروج ذي العطاش عن عنوان المريض وموضوعه ، وعدم صدق اسمه عليه عرفاً.

ومع الغضّ عن ذلك وتسليم الاندراج والصدق فلا شكّ في خروجه عنه حكماً ، للتصريح في صحيحة ابن مسلم المتقدّمة باندراجه كالشيخ الكبير تحت قوله تعالى (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ) إلخ ، فغايته استثناء هذا المريض عن بقيّة أقسامه في اختصاصه بالفداء وعدم وجوب القضاء عليه حسبما عرفت.

(١) الكلام هنا من حيث اختصاص الحكم بمن يشقّ عليه الصبر أو الشمول

__________________

(١) المجادلة ٥٨ : ٤.

(٢) الوسائل ١٠ : ٢١٠ / أبواب من يصح منه الصوم ب ١٥ ح ٣.

(٣) الوسائل ١٠ : ٤٣٢ / أبواب الصوم المندوب ب ١٠ ح ١.

(٤) الوسائل ١٠ : ٤٣٥ / أبواب الصوم المندوب ب ١١ ح ٨.

٤٨

ويجب عليه التصدّق بمدّ (*) ، والأحوط مدّان ، من غير فرق بين ما إذا كان مرجوّ الزوال أم لا ، والأحوط بل الأقوى وجوب القضاء عليه (**) إذا تمكّن بعد ذلك (١) ، كما أنّ الأحوط أن يقتصر على مقدار الضرورة (٢).

______________________________________________________

للعاجز عنه ، وكذا من حيث كون الفداء مدّاً أو مدّين هو الكلام المتقدّم في الشيخ والشيخة بعينه ، لوحدة المستند ، فلا نعيد.

(١) بل الأقوى عدمه كما مرّ الكلام حوله آنفاً ، فلاحظ.

(٢) بل قد أفتى بعضهم بالوجوب وعدم جواز الارتواء ، استناداً إلى موثّقة عمّار عن أبي عبد الله (عليه السلام) : في الرجل يصيبه العطاش حتّى يخاف على نفسه «قال : يشرب بقدر ما يمسك رمقه ، ولا يشرب حتّى يروى» (١).

ولكنّك خبير بأنّ مورد الموثّقة أجنبي عن محلّ الكلام ، ضرورة أنّ المبتلى بداء العطاش لا يخاف على نفسه من هلكة أو ضرر كما تقدّم ، وإنّما يقع من جرّاء الصبر والإمساك عن الشرب في ضيقٍ وحرج ومشقّة شديدة ، وهو معنى الإطاقة ، فيندرج في قوله تعالى (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ) إلخ.

وأمّا مورد الموثّقة فهو من يصيبه العطش أثناء النهار لأمر عارضي من شدّة الحرّ أو همّ عظيم ونحو ذلك بحيث يخاف على نفسه ، ولأجله يضطرّ إلى الشرب حذراً من الهلاك أو ما في حكمه ، فموضوعها الاضطرار لا التمكّن مع المشقّة الذي هو محلّ الكلام.

__________________

(*) لا يبعد عدم الوجوب مع عدم القدرة كما في الشيخ والشيخة.

(**) في القوّة إشكال وإن كان القضاء أحوط.

(١) الوسائل ١٠ : ٢١٤ / أبواب من يصح منه الصوم ب ١٦ ح ١.

٤٩

الرابع : الحامل المقرب التي يضرّها الصوم أو يضرّ حملها (١) ،

______________________________________________________

ومن البيّن أنّ المضطرّ وإن ساغ له الإفطار إلّا أنّه يلزمه الاقتصار على ما يندفع به الاضطرار ، فإنّ الضرورات تقدّر بقدرها ، ويجب عليه الإمساك بقيّة النهار وإن بطل صومه ، شأن كلّ من هو مأمور بالصيام وقد عرضه البطلان لجهة من الجهات حسبما تقدّم.

وعلى الجملة : مورد الموثّقة من هو مأمور بالصيام وقد اضطرّ إلى الإفطار ، وحكمه الاقتصار والإمساك بقيّة النهار ثمّ القضاء ، وأين هذا من ذي العطاش المبحوث عنه في المقام الذي لم يكن مأموراً إلّا بالفداء دون الصيام؟! إذن فلا يلزمه الاقتصار على مقدار الضرورة ، عملاً بإطلاق الأدلّة.

(١) استيعاب البحث يستدعي التكلّم في جهات :

الاولى : في جواز الإفطار لها ، وهذا ممّا لا خلاف فيه ولا إشكال ، سواء أكان الضرر متوجّهاً إليها أم إلى حملها ، من غير حاجة إلى ورود نصّ خاصّ ، غايته أنّ الجواز يثبت لها على الأوّل بعنوان المرض ، بناءً على ما أسلفناك من أنّ أخذه في موضوع الحكم لم يكن بما هو وبوصفه العنواني ، بل بمناط التضرّر من الصوم ، فكلّ من أضرّه الصوم فهو محكوم بالإفطار وإن لم يكن مريضاً بالفعل.

وعلى الثاني من باب المزاحمة وحفظ النفس المحترمة بعد فرض عدم التمكّن من الجمع بين الصوم وبين التحفّظ على سلامة الحمل من السقط ونحوه ، وهذا واضح.

الجهة الثانية : في وجوب القضاء ، وهو المشهور والمعروف ، بل عن الخلاف

٥٠

.................................................................................................

______________________________________________________

دعوى الإجماع عليه (١).

غير أنّه نُسب إلى سلّار وعلي بن بابويه العدم (٢) ، وكأنّهما استندا في ذلك إلى التعبير بالإطاقة في صحيحة محمّد بن مسلم الواردة في خصوص المقام ، قال : سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول : «الحامل المقرب والمرضع القليلة اللبن لا حرج عليهما أن تفطرا في شهر رمضان ، لأنّهما لا تطيقان الصوم» (٣) ، المشعر بالدخول تحت قوله تعالى (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ) إلخ ، المحكوم عليه بالفداء دون القضاء.

وهو كما ترى ، لما تقدّم في تفسير الإطاقة من أنّها التمكّن مع المشقّة من غير أيّ تضرّر من ناحية الصوم ، وليس الحامل المبحوث عنها في المقام كذلك ، لأنّها تخاف الضرر على النفس أو الحمل حسب الفرض ، ولعلّ المراد بها في الصحيحة عدم القدرة غير ما هو المراد منها في الآية الكريمة ، سيّما وأنّ الوارد فيها عدم الإطاقة لا الإطاقة كما في الآية المباركة.

مع أنّ ذيلها صريحٌ في وجوب القضاء ، قال (عليه السلام) : «وعليهما قضاء كلّ يوم أفطرتا فيه ، تقضيانه بعد» فعلى تقدير تسليم اندراجها في الآية المباركة يلتزم بالتخصيص لأجل هذا النصّ الخاصّ.

وربّما يُتمسّك لذلك أي لنفي القضاء بما رواه الصدوق بإسناده عن ابن مسكان ، عن محمّد بن جعفر ، قال : قلت لأبي الحسن (عليه السلام) : إنّ امرأتي جعلت على نفسها صوم شهرين فوضعت ولدها وأدركها الحبل فلم تقو على

__________________

(١) الخلاف ٢ : ١٩٧.

(٢) المراسم : ٩٧ ، المقنع : ١٩٤.

(٣) الوسائل ١٠ : ٢١٥ / أبواب من يصح منه الصوم ب ١٧ ح ١.

٥١

.................................................................................................

______________________________________________________

الصوم «قال : فلتتصدّق مكان كلّ يوم بمدّ على مسكين» (١).

فكأنّه استفيد من الأمر بالفداء عدم وجوب القضاء.

وفيه ما لا يخفى ، فإنّ موردها الجعل على النفس ابتداءً بنذرٍ أو شبهه ، فهي أجنبيّة عن محلّ الكلام ، فكيف يتعدّى منها إلى صيام شهر رمضان ، سيّما بعد دلالة النصّ على وجوب القضاء فيه كما سمعت؟! على أنّها ضعيفة السند ظاهراً فإنّ ابن مسكان وإن كان من أصحاب الصادق (عليه السلام) إلّا أنّه عاش طويلاً ببركة دعاء الإمام حتّى أدرك الرضا (عليه السلام) أو قريباً منه ، ولذلك يروي عنه محمّد بن سنان كثيراً ، كما يروي هو أيضاً عن ابن سنان.

والمراد بأبي الحسن إمّا أن يكون هو الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) الذي هو الأشهر وينصرف اللفظ إليه عند الإطلاق ، أو الرضا (عليه السلام) دون الهادي (عليه السلام) ، لعدم إمكان رواية ابن مسكان عنه (عليه السلام) بواسطة واحدة كما لا يخفى.

إذن فمحمّد بن جعفر الواقع في هذه الطبقة الذي يروى عنه ابن مسكان وهو يروي عن أبي الحسن (عليه السلام) مجهول ، إذ لا نعرف في هذه الطبقة من يسمّى بهذا الاسم ويكون ثقة ، فإنّ محمّد بن جعفر الأشعري ثقة ولكنّه في طبقة متأخّرة.

هذا ، مضافاً إلى أنّ الاقتصار على ذكر المدّ وعدم ذكر القضاء لا يكون دليلاً على عدم الوجوب بوجهٍ كما لا يخفى ، فهي إذن قاصرة سنداً ودلالةً ، فلا يصحّ التعويل عليها بوجه.

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ٢١٦ / أبواب من يصح منه الصوم ب ١٧ ح ٢ ، الفقيه ٢ : ٩٥ / ٤٢٤.

٥٢

.................................................................................................

______________________________________________________

وعليه ، فلا مناص من الحكم بوجوب القضاء ، لصريح صحيح ابن مسلم ، ولما ثبت من الخارج من أنّ كلّ من كان مأموراً بالصيام وقد أفطر لعارضٍ من ضررٍ على نفسه أو على غيره لا بدّ له من القضاء. فالقول بعدم الوجوب ضعيفٌ غايته.

الجهة الثالثة : في وجوب الصدقة ، وهي في الجملة ممّا لا إشكال فيه.

وإنّما الكلام في أنّها هل تختصّ بما إذا كان الخوف على الحمل ، أو أنّها تعمّ الخوف على النفس أيضاً؟

الظاهر هو الاختصاص ، لانصراف النصّ إلى هذه الصورة خاصّةً ، وعدم الإطلاق لغيرها.

والوجه فيه : تقييد الحامل بالمقرب في كلامه (عليه السلام) في صحيح ابن مسلم المتقدّم ، إذ لو كان الخوف على النفس كافياً في وجوب الصدقة لم يكن إذن فرقٌ بين المقرب وغيرها وأصبح التقييد به لغواً محضاً ، فهذا القيد وهو في كلامه (عليه السلام) مانعٌ عن التمسّك بالإطلاق ، وكاشفٌ عن الاختصاص المزبور كما لا يخفى.

وعلى تقدير تسليم الإطلاق فلا ريب أنّ النسبة بين هذه الصحيحة وبين ما دلّ من الكتاب والسنّة على أنّ المريض لا يجب عليه إلّا القضاء عمومٌ من وجه ، لشمول الثاني للحامل المقرب وغيرها مع اختصاص المرض أي الضّرر كما مرّ بنفسه ، وشمول الأوّل لما إذا كان الخوف على النفس أو الحمل مع الاختصاص بالحامل ، ففي مورد الاجتماع وهو الحامل التي تخاف على نفسها يتعارض الإطلاقان ، فإنّ مقتضى الأوّل وجوب الفداء ، ومقتضى الثاني عدمه ، فلا جرم يتساقطان ، ومعه لم يبق لدينا بعدئذٍ دليل على وجوب التصدّق.

وأمّا القضاء فهو ثابت على التقديرين ، لاتّفاق الطرفين عليه كما هو واضح.

٥٣

فتفطر وتتصدّق (*) من مالها (١) بالمدّ أو المدّين ، وتقضي بعد ذلك.

______________________________________________________

إذن فلا دليل على وجوب الفداء على الحامل التي تخاف على نفسها من الصوم دون ولدها ، بل حالها حال سائر المرضى من الإفطار ثمّ القضاء حسبما عرفت.

الجهة الرابعة : في تحديد الفداء وأنّه مدّ أو مدّان.

تقدّم في الشيخ والشيخة أنّ النصوص الواردة في ذلك مختلفة ، وكان مقتضى الجمع الحمل على الاستحباب.

وأمّا في المقام فلم يرد المدّان في شي‌ء من الروايات ، وإنّما الوارد في صحيح ابن مسلم مدّ من الطعام من غير أيّ معارض.

اللهمّ إلّا أن يقال بالقطع بعدم الفرق في الفدية بين مواردها. وعليه ، فتكون هذه أيضاً معارضة مع تلك الروايات ، ويكون الاحتياط بالمدّين في محلّه.

(١) مراده (قدس سره) واضح وإن كانت العبارة قاصرة ، فإنّه لا شك في عدم اشتراط الصدقة بكونها من مال المتصدّق حتّى في الصدقات الواجبة كزكاة المال أو الفطرة ، فإنّه يجوز الأداء من مال الغير إذا كان بإذنه وإجازته ، وكذلك الحال في الكفّارات وأداء الديون ونحوها من الحقوق الماليّة ، فلا يشترط في كفّارة العتق مثلاً أن يكون العبد ملكاً للمعتق ، وهذا واضح.

وغرضه (قدس سره) من العبارة : أنّ التكليف بالصدقة كالتكليف بالقضاء متوجّه إليها لا إلى زوجها لتثبت في ماله وتكون من النفقات الواجبة عليه ،

__________________

(*) وجوب التصدّق فيما إذا كان الإفطار لتضرّر الحامل نفسها محلّ إشكال بل منع ، وكذا الحال في المرضعة.

٥٤

الخامس : المرضعة القليلة اللبن (١) إذا أضرّ بها الصوم أو أضرّ بالوالد ، ولا فرق بين أن يكون الولد لها أو متبرّعة برضاعه أو مستأجرة. ويجب عليها التصدّق بالمدّ أو المدّين أيضاً من ملها والقضاء بعد ذلك ، والأحوط بل الأقوى الاقتصار على صورة عدم وجود من يقوم مقامها في الرضاع تبرّعاً أو بأُجرة من أبيه أو منها أو من متبرّع.

______________________________________________________

فهي المخاطبة بوجوب الفداء وإخراج المدّ ، سواء أكان المدّ من مالها أم من مال غيرها وكانت مجازة عنه في التصدّق ، ووجهه ظاهر ، فإنّه المنسبق من الأمر الوارد في ظاهر الدليل كما لا يخفى.

(١) لصحيح محمّد بن مسلم المتقدّم في الحامل المقرب (١) ، ولأجله يجري البحث السابق بخصوصيّاته هنا أيضاً بمناط واحد بعد وحدة المستند.

كما أنّ الكلام من حيث الاختصاص بخوف الضرر على الولد أو الشمول للخوف على النفس هو الكلام المتقدّم بعينه.

وقد عرفت أنّ الأظهر هو الأوّل ، نظراً إلى أنّ تقييد المرضعة بكونها قليلة اللبن قرينة واضحة على ذلك ، ضرورة عدم الفرق في الخوف على النفس بين كونها قليلة اللبن أو كثيرته ، مرضعة أو غير مرضعة ، فإنّ الخوف المزبور أنّى عرض ولأيّ شخص تحقّق فهو داخل في عنوان المريض حسبما مرّ ومحكوم بالإفطار والقضاء دون الفداء.

فالنصّ إذن لا إطلاق له ، بل منصرف إلى خصوص صورة الخوف على الولد.

ولو منعنا الانصراف وسلمنا الإطلاق يجري أيضاً ما تقدّم من المعارضة

__________________

(١) راجع ص ٥١.

٥٥

.................................................................................................

______________________________________________________

بينها وبين ما دلّ على نفي الفدية عن المريض من الكتاب باعتبار أنّ التفصيل قاطع للشركة ومن السنّة ، وهي الروايات الكثيرة الواردة في اقتصار المريض على القضاء ، وفي أنّ من استمرّ به المرض إلى القابل يتصدّق ، الكاشف عن اختصاص الصدقة به ، أمّا غير المستمرّ فعليه القضاء فحسب.

وبما أنّ النسبة بينهما عموم من وجه ويتعارضان في مادّة الاجتماع وهي المرضعة القليلة اللبن التي تخاف على نفسها ، حيث إنّ مقتضى الأوّل وجوب الفداء ، ومقتضى الثاني عدمه فلا جرم يتساقطان ، ويرجع في وجوب الفدية إلى أصالة العدم حسبما تقدّم.

نعم ، يختصّ المقام بالبحث عن أمرين.

أحدهما : في أنّ الحكم هل يختصّ بالأُمّ أو يعمّ مطلق المرضعة بتبرعٍ أو استئجار؟

الظاهر هو الثاني ، بل لا ينبغي التأمّل فيه ، لإطلاق النصّ.

ثانيهما : في أنّ الحكم هل يختصّ بصورة الانحصار وعدم وجود من يقوم مقامها في الرضاع ، أو يعمّ صورة وجود المندوحة من مرضعة أُخرى ، أو الانتفاع من حليب الدواب أو من الحليب المصنوع كما هو المتداول في العصر الحاضر بحيث يمكن التحفّظ على حياة الطفل من غير تصدّي هذه المرأة بخصوصها للإرضاع؟

ذهب جماعة إلى الثاني ، عملاً بإطلاق النصّ ، وجماعة آخرون ومنهم الماتن إلى الأوّل ، وهو الأظهر.

لا لمكاتبة علي بن مهزيار التي يرويها صاحب الوسائل عن ابن إدريس في مستطرفات السرائر نقلاً عن كتاب مسائل الرجال ، قال : كتبت إليه يعني : علي بن محمّد (عليهما السلام) أسأله عن امرأة ترضع ولدها وغير ولدها في

٥٦

.................................................................................................

______________________________________________________

شهر رمضان فيشتدّ عليها الصوم وهي ترضع حتّى يُغشى عليها ولا تقدر على الصيام ، أترضع وتفطر وتقضي صيامها إذا أمكنها ، أو تدع الرضاع وتصوم؟ فإن كانت ممّن لا يمكنها اتّخاذ من يرضع ولدها فكيف تصنع؟ فكتب : «إن كانت ممّن يمكنها اتّخاذ ظئر استرضعت لولدها وأتمّت صيامها ، وإن كان ذلك يمكنها أفطرت وأرضعت ولدها وقضت صيامها متى ما أمكنها» (١).

فإنّها وإن كانت واضحة الدلالة على الاختصاص بصورة الانحصار وعدم التمكّن من الظئر ، أمّا معه فتتمّ الصيام ولا تفطر ، كما أنّها مؤيّدة لما ذكرناه من الاختصاص بصورة الخوف على الولد ، أمّا مع الخوف على النفس كما هو مورد المكاتبة بشهادة قوله : حتّى يُغشى عليها ، فليس عليها إلّا القضاء دون الفداء.

إلّا أنّها ضعيفة السند ، لجهالة طريق ابن إدريس إلى الكتاب المزبور.

وتوضيحه : أنّ صاحب الوسائل تعرّض في خاتمة الكتاب للكتب التي روى عنها وقسّمها إلى قسمين :

فقسم وصل الكتاب بنفسه إليه فروى عنه مباشرةً ، كالكتب الأربعة وجملة من كتب الصدوق ونحو ذلك.

وقسم آخر لم يصل إليه وإنّما نقل عنه مع الواسطة ، ومن جملته هذا الكتاب الحاوي لمجموعة روايات أحمد بن محمّد بن الجوهري وعبد الله بن جعفر الحميري عن علي بن مهزيار ، المسمّى بكتاب مسائل الرجال ، كما نصّ عليه صاحب الوسائل في المقام ، أو مشاغل الرجال ، كما صرّح به في الخاتمة (٢) ، ولعلّ الأصحّ هو الأوّل.

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ٢١٦ / أبواب من يصح منه الصوم ب ١٧ ح ٣ ، مستطرفات السرائر : ٦٧ / ١١.

(٢) الوسائل ٣٠ : ١٦١.

٥٧

.................................................................................................

______________________________________________________

وكيفما كان ، فهذا الكتاب لم يصل بنفسه إلى صاحب الوسائل ، وإنّما يروي عنه بواسطة ابن إدريس ، وبما أنّ الفصل بينه وبين الحميري طويل فهو طبعاً ينقل عنه مع الواسطة ، وحيث أنّها مجهولة عندنا فلا جرم يتّصف الطريق بالضعف ، غايته أن يكون هو متيقّناً بالصحّة ، ولكن يقينه لا يكون حجّة علينا ، فلا علم لنا إذن باستناد الكتاب المزبور إلى الحميري.

ودعوى عدم الحاجة إلى معرفة الطريق فيما يرويه ابن إدريس الذي نعلم بأنّه لا يعمل بأخبار الآحاد ، فلعلّه بلغه على سبيل التواتر أو بالطريق المحفوف بالقرينة القطعيّة.

كما ترى ، فإنّ التواتر بعيد جدّاً في المقام كما لا يخفى ، والقرينة القطعيّة المحفوف بها الطريق ، غايتها أن تكون قطعيّة بالإضافة إليه كما سمعت ، ومن الجائز عدم إفادتها القطع لنا لو عثرنا عليها.

وعلى الجملة : فليس المستند في المسألة هذه المكاتبة ، لعدم كونها نقيّة السند.

بل المستند فيها التعليل الوارد في صحيح ابن مسلم المتقدّم ، قال (عليه السلام) : «الحامل المقرب والمرضع القليلة اللبن لا حرج عليهما أن تفطرا في شهر رمضان ، لأنّهما لا تطيقان الصوم» (١).

فإنّ نفي الحرج كناية عن نفي العقاب ، لا الحرج المصطلح كما هو واضح ، ومن البيّن اختصاص صدق عدم الإطاقة بصورة الانحصار والاضطرار إلى الإرضاع ، وإلّا فمع وجود المندوحة والتمكّن من الإرضاع بلبن آخر لم يكن التصدّي وقتئذٍ مصداقاً لعدم الإطاقة ، فإنّه نظير من يجلس اختياراً في الشمس طول النهار ، حيث إنّه وإن لم يتمكّن من الصوم حينئذٍ لشدّة العطش إلّا أنّه

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ٢١٥ / أبواب من يصح منه الصوم ب ١٧ ح ١.

٥٨

.................................................................................................

______________________________________________________

لا يندرج بذلك في عنوان من لا يطيق ، ولا يصحّ إطلاق هذا الاسم عليه عرفاً بعد تمكّنه من الانحراف إلى الظلّ واستناد العجز المزبور إلى إرادته واختياره.

فالصحيحة بلحاظ الاشتمال على التعليل قاصرة الشمول لهذه الصورة ، فنبقى نحن والقواعد ، ومن الواضح أنّ مقتضاها وجوب الصوم بعد فرض التمكّن منه ، إذ السقوط يحتاج إلى الدليل ، ولا دليل حسب الفرض.

٥٩

فصل

في طرق ثبوت هلال رمضان وشوّال للصوم والإفطار

وهي أُمور (١) :

الأوّل : رؤية المكلّف نفسه.

الثاني : التواتر.

الثالث : الشياع المفيد للعلم ، وفي حكمه كلّ ما يفيد العلم ولو بمعاونة القرائن ، فمن حصل له العلم بأحد الوجوه المذكورة وجب عليه العمل به وإن لم يوافقه أحد ، بل وإن شهد وردّ الحاكم شهادته.

______________________________________________________

(١) المستفاد من الآية المباركة (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) (١) والروايات الكثيرة الناطقة بوجوب الصيام في شهر رمضان : أنّ هذا الشهر بوجوده الواقعي موضوعٌ لوجوب الصوم ، فلا بدّ من إحرازه بعلمٍ أو علمي في ترتّب الأثر ، كما هو الشأن في سائر الموضوعات الخارجيّة المعلّق عليها الأحكام الشرعيّة.

وقد دلّت الروايات الكثيرة أيضاً أنّ الشهر الجديد إنّما يتحقّق بخروج الهلال

__________________

(١) البقرة ٢ : ١٨٥.

٦٠