موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ مرتضى البروجردي

[٢٥٧٦] مسألة ١٧ : لو نذر زماناً معيّناً شهراً أو غيره وتركه نسياناً أو عصياناً أو اضطراراً وجب قضاؤه (*) (١).

______________________________________________________

نعم ، هي قاصرة عن الشمول للواجب المعيّن ، لكنّه ملحق ، للقطع بعدم الفصل حسبما عرفت.

(١) العمدة في المقام إنّما هو الإجماع الذي ادّعاه جمع من الأعلام ، ومنهم من لا يعتني بالشهرات والإجماعات المنقولة كصاحب المدارك ، حيث صرّح بأنّه مقطوع به في كلام الأصحاب (١) ، ولا يبعد تحقّقه ، بل هو الظاهر ، فهو المستند في المسألة ، ولولاه لكان الحكم في غاية الإشكال ، لضعف سائر ما يستدلّ له.

فإنّ ما يتوهّم الاستدلال به من النصوص روايات ثلاث ، ثنتان منها مرسلتان :

أحدهما النبوي المرسل : «اقض ما فات كما فات» (٢).

والأُخرى المرسل عنهم (عليهم السلام) : «من فاتته فريضة فليقضها» (٣).

ولم يلتزم الأصحاب بمضمونها من وجوب القضاء لكلّ فريضة فائتة ليدّعى الانجبار بالعمل على تقدير تسليم كبرى الانجبار ، فإنّ من نذر قراءة القرآن أو الدعاء أو زيارة الحسين (عليه السلام) مثلاً في وقتٍ معيّن ففاتته لعذر أو لغير عذر لم يلتزم أحد بوجوب قضائها ، والقضاء في الصوم المنذور المعيّن محلّ خلاف وإن كان عليه الأكثر ، للنصّ الخاصّ.

__________________

(*) على الأحوط.

(١) المدارك ٦ : ٣٣٧.

(٢) تقدّم في ص ٣١٢.

(٣) التهذيب ٣ : ١٦٤ / ٣٥٣.

٤٢١

.................................................................................................

______________________________________________________

وبالجملة : فلم يعهد من أحد منهم الالتزام بالقضاء فيما عدا الصوم والاعتكاف المنذورين. على أنّ لفظ الفريضة المذكور في المرسلة منصرف إلى ما ثبت وجوبه في أصل الشرع وبحسب الجعل الأولي ، ولا يكاد يشمل ما التزم به الناذر على نفسه ، فالرواية على تقدير صحّتها منصرفة عن المقام قطعاً.

والثالثة : صحيحة زرارة ، قال : قلت له : رجل فاتته صلاة من صلاة السفر فذكرها في الحضر «قال : يقضي ما فاته كما فاته ، إن كانت صلاة السفر أدّاها في الحضر مثلها» إلخ (١).

وهي كما ترى واضحة الدلالة بقرينة الصدر والذيل ، على أنّ المراد بالمماثلة في قوله (عليه السلام) : «يقضي ما فاته كما فاته» التماثل من حيث القصر والتمام وأنّ العبرة في قضائهما برعاية حال الفوت لا حال الأداء ، فلا دلالة فيها على وجوب قضاء نفس الصلاة من غير هذه الناحية فضلاً عن الدلالة على وجوب قضاء مطلق الفريضة الفائتة ليستدلّ بها على المقام ، فالروايات قاصرة إمّا سنداً أو دلالةً.

وربّما يستدلّ بوجهين آخرين :

أحدهما : الاستفادة ممّا دلّ على وجوب قضاء الصوم المنذور المعيّن لدى فوته لعذرٍ أو لغيره ، كصحيحة ابن مهزيار الواردة في النذر كما تكرّرت الإشارة إليه ، فإنّها ترشدنا إلى ثبوته في الاعتكاف أيضاً ، لمكان اشتماله على الصوم.

وفيه ما لا يخفى من وضوح الفرق المانع من صحّة القياس ، فإنّ الصوم بنفسه متعلّق للنذر في الأول ، وأمّا في الثاني فهو شرط في صحّة شي‌ء آخر تعلّق به النذر وهو الاعتكاف ، فوجوبه في الأوّل للنذر ، وفي الثاني للشرط ،

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٢٦٨ / أبواب قضاء الصلوات ب ٦ ح ١.

٤٢٢

.................................................................................................

______________________________________________________

وثبوت القضاء في أحدهما لا يستلزم الثبوت في الآخر بوجه.

فلو فرضنا أنّ أحداً سقط عنه الأمر بقضاء الاعتكاف المنذور لعجزٍ ونحوه ممّا لا يرجى زواله ، فهل يحتمل وجوب قضاء الصوم عليه استناداً إلى تلك الصحيحة الدالّة على وجوب قضاء الصوم المنذور؟! ثانيهما : ما ذكره كسابقه في الجواهر من أنّه قد ثبت القضاء لدى عروض ما يمنع عن إتمام الاعتكاف من حيض أو مرض وغيرهما ممّا قد اشتملت عليه النصوص والفتاوى ، فيكشف ذلك عن ثبوته عند فوت الاعتكاف بأيّ نحو كان ، لعدم القول بالفصل (١).

ويندفع بمنع ثبوت الحكم في المقيس عليه لو أُريد به القضاء بالمعنى المصطلح أعني : الإتيان خارج الوقت الذي هو المبحوث عنه في المقام ، لقصور النصوص عن إثبات ذلك ، بل مفادها الإعادة والاستئناف كما صرّح بها في بعضها ، فإنّها ناظرة إلى أنّ من كان معتكفاً على النهج الشائع المتعارف من الاعتكاف الندبي أو الوجوبي بالوجوب الموسّع لنذرٍ وشبهه لو عرضه الحيض أو المرض ونحوهما ممّا يمنع عن الإتمام فلا جرم يبطل هذا الاعتكاف ، فيرفع اليد عنه ويأتي بفرد آخر بإعادة ذلك الاعتكاف واستئنافه.

وليست ناظرة إلى القضاء الاصطلاحي ، للزوم حمل النصوص حينئذٍ على الواجب المعيّن بنذرٍ ونحوه كي يتصوّر فيه الفوت ويتّصف بالقضاء ، ولا ريب أنّه فرد نادر جدّاً لا يمكن حمل المطلقات عليه ، سيّما وأنّ مقتضى القاعدة حينئذٍ بطلان النذر ، لكشف العجز الطارئ عن عدم القدرة على الامتثال ، المستلزم لانحلال النذر بطبيعة الحال.

فالمراد هو الإعادة لا محالة وإن عبّر بلفظ القضاء في بعضها.

__________________

(١) الجواهر ١٧ : ١٨٩.

٤٢٣

.................................................................................................

______________________________________________________

ولنعم ما صنع في الوسائل حيث عنون الباب الحادي عشر بقوله : باب وجوب إعادة الاعتكاف إن كان واجباً (١).

إذن لم يثبت القضاء من أصله ليدّعى شموله للمقام بعدم القول بالفصل.

فتحصّل من جميع ما قدّمناه : أنّ المستند الوحيد في المسألة إنّما هو الإجماع ، فإن تمّ كما هو الأظهر حسبما مرّ ، وإلّا فالمسألة غير خالية عن الاشكال.

هذا ، ولا بأس بالإشارة إلى النصوص الدالّة على وجوب قضاء الاعتكاف إذا فات بمرض أو حيض ، وهي ثلاثة وكلّها معتبرة :

أحدها : صحيحة عبد الرحمن بن الحجّاج عن أبي عبد الله (عليه السلام) : «قال : إذا مرض المعتكف أو طمثت المرأة المعتكفة فإنّه يأتي بيته ثمّ يعيد إذا برئ ويصوم» (٢).

فإنّ الأمر بالإعادة لم يكن مولويّاً ليراد به وجوب القضاء. وإنّما هو إرشاد إلى الفساد كما مرّ مراراً ، وأنّ الاعتكاف المأتيّ به قد بطل بعروض الطمث أو المرض المانعين عن الصوم المشروط به الاعتكاف ، فلا مناص من الاستئناف وجوباً إن كان ما شرع فيه واجباً ، وندباً إن كان مستحبّاً ، حسب اختلاف الموارد.

وعلى التقديرين فهو إعادة لما سبق ، وليس من القضاء المصطلح لتوقّفه على فرض عروض الطمث أو المرض في الاعتكاف الواجب المعيّن بنذر وشبهه كي يفوت بخروج الوقت ، ولا ريب في أنّه فرض نادر جدّاً ، فكيف يمكن حمل المطلق عليه؟!

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ٥٥٤.

(٢) الوسائل ١٠ : ٥٥٤ / أبواب الاعتكاف ب ١١ ح ١.

٤٢٤

.................................................................................................

______________________________________________________

فإن قلت : الممنوع حمل المطلق على الفرد النادر لا شمول الإطلاق له ، فأيّ مانع من أن يراد المعنى الجامع بين الأداء والقضاء؟

قلت : القضاء متقوّم بالفوت ، والأداء بعدمه ، ولا جامع بين المتناقضين ، فلا يمكن إرادتهما من دليلٍ واحد ، مضافاً إلى بُعده عن الفهم العرفي جدّاً كما لا يخفى.

إذن فالصحيحة غير ناظرة إلى القضاء بوجه.

الثانية : صحيحة أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) : في المعتكفة إذا طمثت «قال : ترجع إلى بيتها ، فإذا طهرت رجعت فقضت ما عليها» (١).

والتقريب كما سبق وإن تضمّنت التعبير بالقضاء فإنّه بمعناه اللغوي أي مطلق الإتيان ، كما استُعمل فيه كثيراً في الكتاب والسنّة دون الاصطلاحي ، وإلّا كان الأحرى أن يقول هكذا : فقضت ما فاتها ، بدل قوله (عليه السلام) : «فقضت ما عليها» ، فإنّ هذا التعبير ظاهر في أنّها تأتي بما عليها فعلاً لا ما فاتها قبلاً كما لا يخفى ، فهذا التعبير مؤكّد لما استظهرناه من ارادة الاستئناف ومطلق الإعادة دون القضاء.

الثالثة : موثّقة أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) : «قال : وأيّ امرأة كانت معتكفة ثمّ حرمت عليها الصلاة فخرجت من المسجد فطهرت فليس ينبغي لزوجها أن يجامعها حتّى تعود إلى المسجد وتقضي اعتكافها» (٢).

وقد ظهر الحال فيها ممّا مرّ.

على أنّ مضمونها غير قابل للتصديق ، لظهورها في أنّها تقضي من حيث ما قطعت ، لأنّها باقية بعدُ على اعتكافها الأول ، وذلك لتضمّنها منع الزوج إمّا

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ٥٥٤ / أبواب الاعتكاف ب ١١ ح ٣.

(٢) الوسائل ٢ : ٣٦٨ / أبواب الحيض ب ٥١ ح ٢.

٤٢٥

ولو غمت الشهور فلم يتعيّن عنده ذلك المعيّن عمل بالظنّ (*) (١) ، ومع عدمه يتخيّر بين موارد الاحتمال.

______________________________________________________

تحريماً كما نستظهره من كلمة : «ليس ينبغي» ، أو تنزيهاً على ما يراه القوم عن مجامعتها حتّى تعود إلى المسجد ، إذ لو كانت خارجة عن الاعتكاف وغير متلبّسة به فعلاً فأيّ مانع من وطئها حتّى لو كان الطهر قبيل الفجر؟! ولو كان الطهر أثناء النهار أو أوائل الليل فالأمر أوضح ، لسعة الوقت إلى أوّل الفجر الذي هو مبدأ الاعتكاف ، فلا يكون الوطء مزاحماً ومنافياً له بوجه. فالمنع عن الجماع لا يجتمع إلّا مع فرض البقاء على الاعتكاف مدّة حيضها إلى أن تعود إلى المسجد التي أقلّها ثلاثة أيّام ، وربّما تبلغ عشرة. وهذا غير قابل للتصديق كما ذكرناه ، لانمحاء صورة الاعتكاف في أقلّ من هذه المدّة قطعاً ، فإنّه مشروط باستدامة اللبث كما مرّ ، ولذا تقدّم أنّه لو خرج ولو لحاجة ضروريّة وطالت المدّة بحيث انمحت الصورة بطل الاعتكاف ، فلا بدّ من طرحها وردّ علمها إلى أهله.

فاتّضح من جميع ما قدّمناه : أنّ الحكم بالقضاء في الحائض والمريض غير ثابت في حدّ نفسه وإن كانت دعوى عدم القول بالفصل على تقدير الثبوت غير بعيدة ، لعدم احتمال الفرق بينهما وبين غيرهما كما لا يخفى.

فالعمدة في المسألة إنّما هو الإجماع ، لضعف ما استدلّ به سواه حسبما عرفت.

(١) فيتنزّل عن الامتثال القطعي إلى الظنّي إن كان ، وإلّا فالى الاحتمالي الذي

__________________

(*) بل الظاهر وجوب الاحتياط إلى زمانٍ يكون الاعتكاف فيه حرجيّا ، وحكم الظنّ هنا حكم الشكّ.

٤٢٦

.................................................................................................

______________________________________________________

نتيجته التخيير بين موارد الاحتمال.

هذا ، وقد مرّ نظير هذا الفرع في كتاب الصوم وعرفت أنّ الظنّ لم ينهض دليل على اعتباره في المقام ما عدا صحيحة عبد الرّحمن (١) ، وحيث إنّ موردها خصوص شهر رمضان والتعدّي عنه قياس محض فلا دليل يعوّل عليه في الخروج عن أصالة عدم حجّيّة الظنّ. إذن فيجري عليه حكم الشكّ.

وعرفت أيضاً أنّ حكمه لزوم الاحتياط عملاً بالعلم الإجمالي ، وذلك لأجل أنّ مقتضى الاستصحاب وإن كان هو جواز التأخير إلى الشهر الأخير وبعده يستصحب بقاء الشهر المنذور ، ولكنّه معارض بأصالة البراءة عن الوجوب في خصوص الشهر الأخير بعد معارضة استصحاب بقاء الشهر المزبور باستصحاب بقاء عدمه ، المردّد بين كونه عدماً أزليّاً زائلاً أو عدما حادثاً باقياً ، نتيجة الجهل بالمتقدّم منهما والمتأخّر ، وبعد التساقط كان المتّبع هو العلم الإجمالي ، ومقتضاه ما عرفت من وجوب الاحتياط إلى أن يبلغ حدّ الحرج بحيث يقطع معه بسقوط التكليف ، إمّا للامتثال سابقاً ، أو لعروض المسقط وهو الحرج لاحقاً.

وعليه ، فالأظهر في المقام وجوب الاحتياط إلى زمانٍ يكون الاعتكاف فيه حرجيّا.

وإن شئت مزيد التوضيح فراجع المسألة في كتاب الصوم (٢).

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ٢٧٦ / أبواب أحكام شهر رمضان ب ٧ ح ١.

(٢) في ص ١٢٦ ١٣٦.

٤٢٧

[٢٥٧٧] مسألة ١٨ : يعتبر في الاعتكاف الواحد وحدة المسجد (١) ، فلا يجوز أن يجعله في مسجدين ، سواء أكانا متّصلين أم منفصلين. نعم ، لو كانا متّصلين على وجهٍ يعدّ مسجداً واحداً فلا مانع.

______________________________________________________

(١) لظهور النصوص الدالّة على لزوم الاعتكاف في مسجد الجامع في وحدة المسجد بحكم الانصراف كما صرّح به في الجواهر (١) ، فإنّ الحمل على إرادة الجنس بعيدٌ عن مساقها غايته كما لا يخفى.

ومع الغضّ عن هذا الانصراف فيمكن الاستدلال بإطلاق طائفتين من الروايات :

إحداهما : النصوص الدالّة على أنّ من خرج عن المسجد لحاجةٍ لزمه الرجوع بعد الفراغ عنها إلى مجلسه ، فإنّه لو جاز الاعتكاف في مسجدين لم يلزمه الرجوع إلى نفس المكان ، بل جاز الدخول في مسجد آخر. ومقتضى إطلاق هذه النصوص عدم جواز المكث خارج المسجد الذي اعتكف فيه بعد انقضاء الحاجة ، من غير فرق بين مسجد آخر وسائر الأمكنة بمقتضى الإطلاق.

ثانيهما : النصوص الدالّة على أنّ من خرج عن المسجد لحاجة فحضرت الصلاة لا يجوز له أن يصلّى في غير مكّة إلّا في المسجد الذي سمّاه ، أي اعتكف فيه. فإنّ مقتضى الإطلاق عدم جواز الصلاة حتّى في مسجد آخر ، فيكشف ذلك عن اعتبار وحدة المكان وعدم جواز الاعتكاف في مسجدين.

وهذا من غير فرق فيه بين كون المسجدين متّصلين أو منفصلين ن بمقتضى

__________________

(١) الجواهر ١٧ : ١٧١.

٤٢٨

[٢٥٧٨] مسألة ١٩ : لو اعتكف في مسجدٍ ثمّ اتّفق مانع من إتمامه فيه من خوفٍ أو هدمٍ أو نحو ذلك ، بطل (١) ووجب استئنافه أو قضاؤه إن كان واجباً في مسجدٍ آخر أو ذلك المسجد إذا ارتفع عنه المانع ، وليس له البناء سواء كان في مسجد آخر أو في ذلك المسجد بعد رفع المانع.

______________________________________________________

الإطلاق ، وما عرفت من ظهور الأدلّة ولو بحكم الانصراف في اعتبار الوحدة ، إلّا أن يكون الاتّصال على نحوٍ يعدّ المجموع مسجداً واحداً ، كما لو وسّع المسجد بوقف الأرض المتّصلة وإلحاقها به كما سيأتي إن شاء الله لصدق الوحدة حينئذٍ كما هو ظاهر (١).

(١) لعدم التمكّن من الإتمام لا في هذا المسجد بعد ارتفاع المانع ، لاعتبار الاتّصال واستدامة اللبث ، المتعذّر بعد حصول الفصل الفاحش. ولا في مسجد آخر ، لاعتبار وحدة المكان المعتكف فيه كما هو ظاهر ممّا تقدّم.

واحتمال جواز الإتمام في مسجد آخر كما عن الجواهر (٢) لم يعرف له أيّ وجه بعد فرض اشتراط الوحدة في المكان كما مرّ ، وتعذّر الشرط يستلزم تعذّر المشروط المستلزم للبطلان بطبيعة الحال. وحينئذٍ فإن كان الاعتكاف واجباً غير معيّن وجب الاستئناف ، وإن كان معيّناً كما لو نذر الاعتكاف في مكان

__________________

(١) وقد حرّرت هذه الأبحاث مع مزيدٍ من الحزن والأسى ، وتشتّت البال واضطراب الحال ، لخطبٍ نزل بي ، وهو ارتحال سماحة آية الله شيخنا الوالد طاب ثراه في بلدة بروجرد ، عن عمرٍ يناهز الثالثة والثمانين ، فطيّب الله رمسه ونوّر مضجعه ، وجزاه عنّا وعن الإسلام والمسلمين خيراً ، ورفع له ذكرا ، وكانت وفاته في اليوم الخامس عشر من شهر محرّم الحرام من السنة الخامسة والتسعين بعد الألف والثلاثمائة من الهجرة.

(٢) الجواهر ١٧ : ١٧٤.

٤٢٩

[٢٥٧٩] مسألة ٢٠ : سطح المسجد وسردابه ومحرابه منه ما لم يعلم خروجها (١) ، وكذا مضافاته إذا جعلت جزءاً منه كما لو وسّع فيه.

______________________________________________________

خاصّ في زمان معيّن وجب القضاء لو قلنا بوجوبه حتّى في هذه الموارد ولم نقل بانكشاف عدم الانعقاد من الأوّل بطروّ العجز. وكيفما كان ، فيبتني الحكم على وجوب القضاء حتّى في هذه الموارد.

(١) لا ريب في لزوم إحراز المسجديّة في ترتيب آثارها التي منها جواز الاعتكاف ولو من أجل يد المسلمين ، حيث تلقّوها كذلك جماعة عن جماعة وخلفاً عن سلف ، وبعد الإحراز يجوز الاعتكاف في أيّ جزء منه من سطح أو سرداب أو محراب ونحو ذلك ممّا يحتوي عليه سور المسجد ما لم يثبت خلافه بقرينة خارجيّة.

ولعلّ مخالفة الشهيد حيث نُسب إليه البطلان وتحقّق الخروج عن المسجد بالصعود على السطح (١) ، محمول على ذلك ، أي ما لو علم بخروج السطح عن المسجد ، وإلّا فهو بظاهره ظاهر الضعف ، بل لا يحتمل من مثله دعوى اختصاص الاعتكاف بجزء خاصّ من المسجد ، لعدم خصوصيّة له بعد صدق عنوان المسجديّة الذي هو الموضوع للحكم على الجميع بمناط واحد. ولذا لو اعتكف في نقطة معيّنة كحجرة من حجر المسجد فأراد الانتقال إلى حجرة اخرى جاز له ذلك بلا إشكال.

ومنه يظهر الحال في مضافات المسجد إذا جُعلت جزءاً منه ، كما لو وُسع فيه ، فإنّ الزائد بعد ما الحق به محكوم بحكم الأصل كما هو ظاهر.

__________________

(١) الدروس ١ : ٣٠٠.

٤٣٠

[٢٥٨٠] مسألة ٢١ : إذا عيّن موضعاً خاصّاً من المسجد محلّاً لاعتكافه لم يتعيّن (١) وكان قصده لغواً.

[٢٥٨١] مسألة ٢٢ : قبر مسلم وهاني ليس جزءاً من مسجد الكوفة على الظاهر (٢).

[٢٥٨٢] مسألة ٢٣ : إذا شكّ في موضعٍ من المسجد أنّه جزء منه أو من مرافقه لم يجر عليه حكم المسجد (٣).

______________________________________________________

(١) لأنّ موضوع الحكم كما في النصوص المسجد الجامع الذي هو عنوان صادق على جميع أجزائه بمناط واحد من غير خصوصيّة لبعض دون بعض. وعليه ، فلا أثر لتعلّق القصد بالاعتكاف في محلٍّ خاصّ من المسجد ، بل يصبح قصده لغواً بطبيعة الحال كما أشار إليه في المتن.

(٢) سيجي‌ء في المسألة الآتية أنّه لو شكّ في موضعٍ أنّه جزءٌ من المسجد أم لا ، لم يجر عليه حكم المسجد ، لأصالة العدم ، إلّا أنّه في خصوص قبرهما (عليهما السلام) لا تصل النوبة إلى الشكّ كي يتمسّك بالأصل ، لأنّ شاهد الحال وظاهر الأمر يقتضي الجزم بالعدم ، لأنّ من المعلوم أنّهما (عليهما السلام) قُتلا مظلومين مقهورين من قبل طاغوت الوقت ، ومن هذا شأنه كيف يتيسّر دفنه في المسجد الجامع المبني على نوعٍ من التعظيم والتكريم؟! ومن الذي يتجرّأ على ذلك في قبال تلك السلطة الجبّارة التي تصدّت لذلك الهتك المعروف في كيفيّة القتل وما بعده؟!

(٣) فإنّ عنوان المسجديّة أمر حادث لا بدّ من إحرازه في ترتيب الأحكام بعلمٍ أو علمي ولو يد المصلّى ن ، وإلّا فمع الشكّ في موضعٍ منه أنّه جزء منه أم لا

٤٣١

[٢٥٨٣] مسألة ٢٤ : لا بدّ من ثبوت كونه مسجداً أو جامعاً بالعلم الوجداني أو الشياع المفيد للعلم أو البيّنة الشرعيّة ، وفي كفاية خبر العدل الواحد إشكال (*) (١).

______________________________________________________

كمخزن في المسجد يجعل فيه الأثاث لم يعلم أنّه جزء أو وقف بعنوان آخر فالمرجع أصالة لعدم.

(١) هذا بحث كلّي قد تعرّضنا له في مطاوي هذا الشرح مراراً ، وهو أنّ الموضوعات هل تثبت بخبر العدل الواحد خبراً حسّيّا لا حدسيّا كما تثبت به الأحكام أو لا ، مثل : الإخبار بالطهارة أو النجاسة أو دخول الوقت ونحو ذلك ، ومنها المسجديّة أو الجامعيّة فيما نحن فيه؟

وقلنا : إنّ الأوجه ثبوت كلّ شي‌ء بخبر الواحد إلّا ما ثبت خلافه بدليل خاصّ ، كما في الترافع حيث يحتاج إلى شاهدين عادلين ، أو في الدعوى على الأموال المفتقرة إلى شاهد واحد ويمين ، وقد يحتاج إلى شاهد وامرأتين كالدعوى في غير الأموال أيضاً كالزواج ، وقد يحتاج إلى أربعة رجال أو ثلاثة وامرأتين كما في الزنا ، إلى غير ذلك. فكلّما دلّ الدليل على اعتبار العدد أو ضمّ اليمين يتّبع ، وإلّا فبما أنّ عمدة المستند لحجّيّة خبر الواحد إنّما هي السيرة العقلائيّة الممضاة عند الشارع بعدم الردع التي لا يفرّق فيها قطعاً بين الموضوعات والأحكام كان خبر الواحد حجّة في الشبهات الحكميّة والموضوعيّة بمناط واحد ، إذ لا خصوصيّة للأحكام في ثبوت السيرة بالضرورة.

وأمّا رواية مسعدة بن صدقة : «... والأشياء كلّها على هذا حتّى تستبين أو

__________________

(*) لا تبعد كفايته.

٤٣٢

.................................................................................................

______________________________________________________

تقوم به البيّنة» (١) فغير صالحة للرادعيّة ، لا لأجل ضعف السند بجهالة مسعدة وإن كنّا تناقش فيها سابقاً من هذه الجهة ، وذلك لوجوده في إسناد كامل الزيارات. بل لقصور الدلالة.

وتوضيحه : أنّه قد ذكر في موردها أمثلة ثلاثة كلّها مجرى لأصالة الحلّ أي محكوم بالحلّيّة في ظاهر الشرع ـ :

أحدها : الثوب ولعلّه سرقة. فإنّ هذا الاحتمال ملغى بمقتضى حجّيّة يد المسلم الذي اشترى منه الثوب.

الثاني : امرأة تحتك لعلّها أُختك أو رضيعتك. وهو أيضاً مدفوع باستصحاب عدم النسب أو الرضاع الذي يترتّب عليه صحّة النكاح.

الثالث : العبد ولعلّه حرّ قُهِر فبيع. وهو أيضاً لا يعتنى به بمقتضى حجّيّة سوق المسلمين ، بل لو ادّعى العبد بنفسه ذلك أيضاً لا يسمع منه.

وبعد ذلك كلّه يقول (عليه السلام) : إنّ الأشياء كلّها على هذا ، أي على أصالة الحلّ والجواز حتّى يستبين ، أي يظهر خلافه بنفسه وبالعلم الوجداني ، أو تقوم به البيّنة ، أي يقوم دليل من الخارج على الحرمة.

وليس المراد بالبيّنة المعنى الاصطلاحي أعني : الشاهدين العادلين ، لتكون الرواية رادعة عن السيرة العقلائيّة القائمة على حجّيّة خبر الواحد في الموضوعات الخارجيّة ، إذ لم تثبت لهذه اللفظة حقيقة شرعيّة في كلمات النبي (صلّى الله عليه وآله) أو المعصومين (عليهم السلام) بل هي على معناها اللغوي ، أعني : مطلق الدليل وما يتبيّن به الأمر.

__________________

(١) الوسائل ١٧ : ٨٩ / أبواب ما يكتسب به ب ٤ ح ٤.

٤٣٣

.................................................................................................

______________________________________________________

وبهذا المعنى استُعمل في القرآن ، قال تعالى (بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ) (١) ، وقال تعالى (حَتّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) (٢). وكذلك قول النبي (صلّى الله عليه وآله) : «إنّما أقضي بينكم بالأيمان والبيِّنات» (٣) أي بالأدلّة ، وقوله (صلّى الله عليه وآله) : «البيّنة على المدّعى واليمين على المدّعى عليه» (٤) ، فإنّ المراد مطالبة المدّعى بالدليل في قبال المنكر.

نعم ، ثبت من الخارج أنّ من أحد الأدلّة شهادة العدلين ، لا أنّ شهادة العادلين بخصوصها هي المراد من كلمة «البيِّنة» ، فإنّ الأدلّة كثيرة ومنها شاهد واحد ويمين كما تقدّم ، فلا تحصر في البيّنة المصطلحة.

والذي يدلّنا على ذلك مضافاً إلى ما عرفت من عدم ثبوت الحقيقة الشرعيّة أنّ الأدلّة التي تثبت بها الحرمة كثيرة ، كحكم الحاكم ، وإقرار ذي اليد ، والشياع المفيد للاطمئنان ، والاستصحاب كاستصحاب عدم التذكية إلى غير ذلك ، ولا ينحصر رفع اليد عن الحلّيّة بالبيّنة المصطلحة ، فلما ذا خُصَّت من بينها بالذكر في قوله (عليه السلام) : «حتّى يستبين أو تقوم به البيّنة» مع أنّ بعضها كالإقرار أقوى منها في الاعتبار ومقدّمٌ عليها؟! فيكشف ذلك كشفاً قطعيّاً عن أنّ المراد بالبيّنة في هذه الرواية كغيرها من موارد استعمالها في الكتاب والسنّة ممّا تقدّم هو مطلق الدليل والحجّة لا خصوص البيّنة المصطلحة ، وإنّما هي فردٌ من أحد أفراد الأدلّة.

__________________

(١) آل عمران ٣ : ١٨٤.

(٢) البيِّنة ٩٨ : ١.

(٣) الوسائل ٢٧ : ٢٣٢ / أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ٢ ح ١.

(٤) الوسائل ٢٧ : ٢٣٤ / أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ٣ ح ٣.

٤٣٤

والظاهر كفاية حكم الحاكم الشرعي (*) (١).

[٢٥٨٤] مسألة ٢٥ : لو اعتكف في مكان باعتقاد المسجديّة أو الجامعيّة فبان الخلاف تبيّن البطلان (٢).

______________________________________________________

فيكون المعنى : أنّ الأشياء كلّها على الجواز إلى أن تثبت الحرمة إمّا بنفسها أو بقيام دليل شرعي من الخارج ، ومنه خبر الواحد الثابت حجّيّته بالسيرة العقلائيّة. ومعه فكيف تكون هذه الرواية رادعة عن السيرة؟! فالصحيح أنّ خبر الواحد حجّة في الموضوعات مطلقاً كالأحكام إلّا أن يقوم الدليل على خلافه حسبما عرفت.

(١) هذا أيضاً بحث كبروي وأنّ حكم الحاكم هل هو نافذ مطلقاً أو لا؟ وقد تقدّم في بعض الأبحاث السابقة عدم الدليل على ثبوت الولاية المطلقة ليكون حكمه نافذاً في جميع الموارد بنحو الكلّيّة ، بل المتيقّن منه مورد النزاع والترافع ، فلو ادّعى بعض الورثة وقفيّة بعض التركة بعنوان المسجديّة وأنكرها الباقون فرُفع النزاع إلى الحاكم الشرعي فثبت عنده وحكم كان حكمه نافذاً بلا إشكال وترتّب عليه آثار المسجديّة التي منها صحّة الاعتكاف كما هو الحال في بقيّة الأوقاف الواقعة مورداً للنزاع ، وأمّا بدون الترافع فلا دليل على نفوذ حكمه ، ومقتضى الأصل العدم.

(٢) إذ العبرة بالواقع ، ولا أثر للاعتقاد الذي هو خيالٌ محض ، والمشروط ينتفي بانتفاء شرطه كما هو واضح.

__________________

(*) هذا فيما إذا حكم بالمسجديّة عند الترافع إليه ، وإلّا ففي كفايته إشكال.

٤٣٥

[٢٥٨٥] مسألة ٢٦ : لا فرق في وجوب كون الاعتكاف في المسجد الجامع بين الرجل والمرأة (١) ، فليس لها الاعتكاف في المكان الذي أعدّته للصلاة في بيتها ، بل ولا في مسجد القبيلة ونحوها.

[٢٥٨٦] مسألة ٢٧ : الأقوى صحّة اعتكاف الصبي المميّز (٢) ، فلا يشترط فيه البلوغ.

______________________________________________________

(١) لخلوّ الروايات عن التقييد بالرجل ، فالحكم فيها ثابت لطبيعيّ المعتكف ، وأنّه لا اعتكاف إلّا في مسجد جامع ، فإنّ نفي الطبيعة يستدعي بمقتضى الإطلاق عدم الفرق بين الرجل والمرأة ، بل قد صرّح في صحيحة داود ابن سرحان بشمول الحكم للمرأة ، قال (عليه السلام) في ذيلها : «والمرأة مثل ذلك» (١) ، فإنّها صحيحة السند بطريق الصدوق وإن كانت ضعيفة بالطريق الآخر من أجل سهل بن زياد.

وكيفما كان ، فلا حاجة إلى الاستدلال بالصحيحة بعد إطلاق النصوص كما عرفت ، فلا يقاس الاعتكاف بالصلاة التي ورد بلحاظها أنّ مسجد المرأة بيتها كما أشار إليه في المتن.

(٢) قد تكرّر البحث في مطاوي هذا الشرح حول عبادات الصبي وقلنا : إنّ المشهور هي المشروعيّة وأنّ غير واحد استدلّ لها بأنّها مقتضى الجمع بين أدلّة العبادات وبين حديث رفع القلم عن الصبي ، نظراً إلى أنّ نتيجة ذلك نفي الإلزام فيبقى أصل المحبوبيّة على حالها.

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ٥٤١ / أبواب الاعتكاف ب ٣ ح ١٠ ، الكافي ٤ : ١٧٦ / ٢ ، الفقيه ٢ : ١٢٠ / ٥٢١.

٤٣٦

.................................................................................................

______________________________________________________

وقلنا : إنّ الجمع العرفي لا يقتضي ذلك ، لتوقّفه على أن يكون المجعول في موارد الأحكام حكمين ، ومدلول الأمر منحلا إلى أمرين : المحبوبيّة والإلزام ، ليبقى الأوّل بعد نفي الثاني ، نظير البحث المعروف من أنّه إذا نُسخ الوجوب بقي الجواز ، وليس الأمر كذلك ، بل مدلول الأمر حكم واحد بسيط ، وليس المدلول في مثل قوله تعالى (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ) (١) إلخ ، إلّا كتابة واحدة لا كتابتين ، إذ لا ينحلّ الوجوب إلى جنس وفصل كما هو المحرّر في محلّة ، فإذا ارتفع فقد ارتفع الحكم من أصله.

بل مقتضى الجمع العرفي بين حديث الرفع والمرفوع تخصيص تلك القوانين بالبالغين وانتفاء الحكم عن الصبي رأساً.

ولكنّا استفدنا المشروعيّة ممّا ورد من قوله (عليه السلام) : «مروا صبيانكم بالصلاة والصيام» (٢) ، نظراً إلى أنّ الأمر بالشي‌ء أمرٌ بذلك الشي‌ء ، بل في بعضها الأمر بالضرب إذا بلغ السبع. وقد ورد النصّ في خصوص الحجّ بإحجاج الصبي ، فيستكشف من ذلك كلّه الاستحباب والمشروعيّة.

ولكن هذا كلّه خاصّ بالأحكام الإلزاميّة مثل الصلاة والصيام ونحوهما.

وأمّا في الأحكام الاستحبابيّة ومنها الاعتكاف المبحوث عنه في المقام ، وكصلاة الليل ، ونحو ذلك فيكفي في إثبات المشروعية نفس الإطلاقات الأوّلية من غير حاجة إلى التماس دليل آخر.

__________________

(١) البقرة ٢ : ١٨٣.

(٢) لاحظ الوسائل ٤ : ١٩ / أبواب أعداد الفرائض ب ٣ ح ٥ ، الوسائل ١٠ : ٢٣٤ / أبواب من يصح منه الصوم ب ٢٩ ح ٣.

٤٣٧

.................................................................................................

______________________________________________________

والوجه فيه ما ذكرناه في الأُصول في مبحث البراءة من أنّ حديث الرفع لا يشمل المستحبّات ، لأنّ المرفوع في مقام الامتنان إمّا المؤاخذة أو حكم إلزامي يكون قابلاً للوضع ليُرفع ، وليس هو إلّا وجوب الاحتياط ، لوضوح أنّ المكلّف لا يتمكّن من امتثال الواقع المجهول ، فوضعه بإيجاب الاحتياط كما أنّ رفعه برفعه. ومن المعلوم أنّ شيئاً منهما لا يجري في المستحبّات ، أمّا الأول فظاهر ، وكذا الثاني ، لأنّ استحباب الاحتياط ثابت جزماً ، وليس في رفعه أيّ امتنان ، ولأجل ذلك ذكرنا أنّ البراءة غير جارية في المستحبّات (١).

وهذا البيان الذي ذكرناه في حديث رفع التكليف جارٍ في حديث رفع القلم عن الصبي بعينه ، لعدم الفرق بينهما إلّا من حيث إنّ الرفع هناك ظاهري وهنا واقعي ، وهذا لا يكاد يؤثّر فرقاً فيما نحن بصدده بوجه.

فتحصّل : أنّ حديث الرفع غير جارٍ في المقام وأمثاله من سائر المستحبّات من أصله ليُتكلّم في تحقيق المرفوع ، وأنّه الإلزام أو أصل المشروعيّة ليُتصدّى لإقامة الدليل على إثباتها.

بل إطلاقات الأدلّة من الأوّل شاملة للصبي من غير مزاحم ، فتستحبّ له قراءة القرآن والزيارة وصلاة اللّيل وغيرها ، ومنها الاعتكاف بنفس الإطلاقات من غير حاجة إلى التمسّك بمثل قوله (عليه السلام) : «مروا صبيانكم بالصلاة والصيام» ، وإنّما نحتاج إلى ذلك في الأحكام الإلزاميّة فقط حسبما عرفت.

__________________

(١) مصباح الأُصول ٢ : ٢٧٠.

٤٣٨

[٢٥٨٧] مسألة ٢٨ : لو اعتكف العبد بدون إذن المولى بطل (١) ، ولو أُعتق في أثنائه لم يجب عليه إتمامه. ولو شرع فيه بأن المولى ثمّ أُعتق في الأثناء : فإن كان في اليوم الأوّل أو الثاني لم يجب عليه الإتمام إلّا أن يكون من الاعتكاف الواجب ، وإن كان بعد تمام اليومين وجب عليه الثالث ، وإن كان بعد تمام الخمسة وجب السادس.

[٢٥٨٨] مسألة ٢٩ : إذا أذن المولى لعبده في الاعتكاف جاز له الرجوع عن إذنه (٢) ما لم يمض يومان ، وليس له الرجوع بعدهما ، لوجوب إتمامه حينئذٍ.

______________________________________________________

(١) لما تقدّم عند التعرّض لبعض فروع هذه المسألة من أنّ العبد مملوك فلا يجوز له التصرّف في ملك الغير بغير إذنه.

وعليه ، فلو اعتكف بغير الإذن ثمّ أُعتق في الأثناء لم يجب عليه الإتمام ، إذ لا موجب لإتمام الفاسد وإن نُسب إلى الشيخ وجوبه (١) ، لبُعده جدّاً وعرائه عن أيّ دليل.

وأمّا إذا كان بإذن المولى فأُعتق جرى عليه ما مرّ من أنّه لو كان لك في اليوم الأوّل أو أثناء الثاني فهو مخيّر بين الإتمام وعدمه ، كما إذا كان حرّا من الأول ، وإذا كان بعد اليومين وجب الثالث ، لإطلاق الدليل الدالّ عليه ، وكذلك الحال في وجوب ضمّ السادس لو أُعتق في الخامس على كلامٍ تقدّم.

(٢) تقدّم في المسألة السابقة بيان وظيفة العبد ، وأمّا بالإضافة إلى المولى فهل له الرجوع عن الإذن بعد تلبّس العبد بالاعتكاف المشروع؟

__________________

(١) المبسوط ١ : ٢٩٠.

٤٣٩

وكذا لا يجوز له الرجوع إذا كان الاعتكاف واجباً بعد الشروع فيه من العبد (١).

______________________________________________________

الصحيح هو التفصيل كما في المتن بين مضيّ اليومين وعدمه ، ففي الثاني يجوز له الرجوع ، إذ لا موجب لسلب سلطنة المولى بعد جواز رفع اليد اختياراً ، وعدم الملزم للإتمام. وفي الأوّل لا يجوز ، لوجوب المضيّ (١) ، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

(١) كما لو نذر العبد أن يتمّ الاعتكاف متى شرع ، وكان النذر بإذن المولى وقد شرع فيه العبد ، فإنّه ليس له الرجوع حينئذٍ ، لكونه على خلاف حقّه سبحانه ، وقد عرفت أنّه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

ولا يخفى أنّ الكبرى وإن كانت تامّة ولكن التطبيق على المثال المزبور لا يتمّ على المختار من أنّ الاعتبار في صحّة النذر بكون متعلّقه راجحاً في ظرف العمل مع قطع النظر عن تعلّق النذر به ، بحيث لا يكون الأمر الناشئ من قبله مزاحماً لواجب أو محرّم ، وإلّا فينحلّ النذر حينئذ من أصله. وهذا من خصوصيّات النذر وشبهه ، فيعتبر في متعلّقه الرجحان حينما يقع خارجاً ، فإذا لم يكن كذلك ولو لأمرٍ عارض مزاحم لم ينعقد.

وعليه ، فلا مانع من منع المولى ، لأنّ منعه يجعله مرجوحاً مع قطع النظر عن تعلّق النذر ، فيخرج عن موضوع وجوب الوفاء بقاءً ، لما عرفت من أنّ

__________________

(١) فيه : أنّ وجوب المضيّ فرع جواز اللبث المنوط بالإذن حدوثاً وبقاءً ، وإلّا فهو تصرّف في ملك الغير الذي هو محرّم ومصداقٌ لمعصية الخالق أيضاً.

وقد أجاب (دام ظلّه) بأنّ مقتضى ذلك جواز منعه عن الفرائض اليوميّة أيضاً ، ولكنّه لا يخلو عن تأمّل ، فلاحظ.

٤٤٠