موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ مرتضى البروجردي

وأمّا لو خرج ناسياً أو مكرهاً فلا يبطل (*) ، وكذا لو خرج لضرورة (١)

______________________________________________________

الدليل في الاعتكاف كان اللازم الحكم بالفساد لدى انكشاف الخلاف ، فلو اعتكف ولم يستدم اللبث جهلاً وإن كان عن قصور بطل ووجبت الإعادة لو كان الاعتكاف واجباً بإجارة أو نذر ونحوهما ، عملاً بإطلاق الأدلّة.

هذا مع أنّا ذكرنا في الأُصول عند التكلّم حول الحديث حديث رفع التسعة أنّ سنده ضعيف ، نظراً إلى أنّ الصدوق يرويه عن شيخه أحمد بن محمّد بن يحيى ولم يوثّق ، ومجرّد الشيخوخة وروايته عنه كثيراً لا تقتضي التوثيق كما مرّ غير مرّة ، فإنّه يروي عن الثقة والضعيف ، لأنّ دأبه الرواية عن كلّ من سمع منه الحديث ، ولم يلتزم بأن لا يروي إلّا عن الثقة.

نعم ، في بعض نسخ الخصال رواية هذا الحديث عن محمّد بن أحمد بن يحيى الذي هو من الثقات ، ولكن هذا الرجل من مشايخ الكليني ولا يمكن أن يروى عنه الصدوق ، لاختلاف الطبقة ، وإنّما يروي هو عن ابنه أحمد بن محمّد بن أحمد بن يحيى الذي عرفت أنّه مجهول. فهذه النسخة مغلوطة جزماً ، أو فيها تقديم وتأخير ، والصحيح ما في الفقيه كما عرفت (١).

(١) قد عرفت حكم الخروج جهلاً.

وأمّا الخروج اضطراراً لضرورة دعته إليه فلا إشكال في عدم قدحه في الصحّة ، كما دلّت عليه النصوص المعتبرة والصحاح المتعدّدة ، التي منها صحيحة داود بن سرحان ، قال (عليه السلام) فيها : «لا تخرج من المسجد إلّا لحاجة لا بدّ منها» (٢) ،

__________________

(*) في عدم البطلان مع الخروج نسياناً إشكال ، بل لا يبعد البطلان به.

(١) لاحظ مصباح الأُصول ٢ : ٢٥٧.

(٢) الوسائل ١٠ : ٥٥٠ / أبواب الاعتكاف ب ٧ ح ٣.

٣٨١

.................................................................................................

______________________________________________________

ونحوها غيرها.

وهل يعتبر في الحاجة بلوغها حدّ الضرورة واللابدّيّة كما هو ظاهر هذه الصحيحة ، أو أنّ الأمر أوسع من ذلك؟ سيأتي الكلام عليه عند تعرّض الماتن.

وعلى أيّ حال ، فالحاجة الملحّة أعني : الاضطرار هو القدر المتيقّن من تلك الأدلّة ، فلا ريب في جواز الخروج لذلك.

وأمّا الخروج إكراهاً فلا ريب أيضاً في جوازه ، لا لحديث رفع الإكراه وإن ورد في رواية أُخرى بسند صحيح كما سنذكره في رفع النسيان ، بل لأجل أنّ الإكراه من مصاديق الاضطرار حقيقةً ، غايته أنّ الضرورة في مورده نشأت من توعيد الغير لا من الأُمور الخارجيّة كما في سائر موارد الاضطرار ، ولا فرق بين المنشأين فيما هو المناط في صدق الاضطرار عرفاً ، فكما يصدق الاضطرار والحاجة إلى الخروج التي لا بدّ منها فيما لو كان له مال خارج المسجد في معرض الحرق أو الغرق ، كذلك يصدق مع توعيد الغير بالإحراق أو الإغراق لو لم يخرج. وعليه ، فتشمله الأدلّة المتقدّمة الواردة في صورة الاضطرار إلى الخروج.

وأمّا الخروج نسياناً فالمشهور عدم قدحه أيضاً ، بل في الجواهر عدم الخلاف فيه (١).

ويستدلّ له تارةً : بانصراف دليل النهي عن الخروج عن مثله ، حيث لا يصدر الفعل منه عن اختيارٍ والتفات.

وفيه ما لا يخفى ، فإنّ الناسي يصدر عنه الفعل عن إرادة واختيار ، غايته أنّه مستند إلى النسيان ، فلا فرق بينه وبين ما يصدر عن الملتفت في أنّ كلّاً منهما

__________________

(١) الجواهر ١٧ : ١٨٧.

٣٨٢

.................................................................................................

______________________________________________________

مشمول للإطلاق ، فالانصراف ممنوع جدّاً.

وأُخرى : بحديث رفع النسيان الوارد بسند صحيح (١) ، بدعوى أنّ معنى رفعه : فرض الفعل الصادر عن الناسي في حكم العدم وكأنّه لم يكن. ومرجع هذا الرفع في عالم التشريع إلى رفع الحكم المتعلّق به لولا النسيان. وعليه ، فالخروج الصادر عن المعتكف نسياناً في حكم العدم ، أي لا يترتّب عليه أثره وهو البطلان ، فإذا كان البطلان مرفوعاً بمقتضى الحديث صحّ الاعتكاف بطبيعة الحال. وبمثل هذا البيان يقال في صورة الإكراه أيضاً.

ويندفع : بأنّ الصحّة والبطلان بالإضافة إلى الواقعيّات من الأحكام العقليّة التي لا تكاد تنالها يد الجعل التشريعي لا وضعاً ولا رفعاً ، إذ هما من الأُمور التكوينيّة المنتزعة من مطابقة المأتيّ به مع المأمور به وعدمها ، فلا معنى لرفع البطلان بحديث النسيان.

وعليه ، فلا بدّ وأن يكون المرفوع إمّا مانعيّة الخروج الصادر نسياناً ، أو جزئيّة اللبث في المسجد حال الخروج المستند إلى النسيان ، حيث إنّ الواجب هو مجموع اللبثات والمكثات على سبيل الارتباط من أوّل اليوم الأوّل إلى آخر اليوم الثالث ، فتكون الجزئيّة مرفوعة عن بعضها في بعض الأحوال ، فالذي يعقل من رفع الأثر أحد هذين.

وحيث إن الجزئيّة والمانعيّة كالشرطيّة من الأحكام الوضعيّة التي لا تكون مستقلّة بالجعل إلّا بتبع منشأ الانتزاع وضعاً ورفعاً كما تقدّمت الإشارة إليه ، فمعنى تعلّق الرفع بهذه الأُمور تعلّقه بمناشئ انتزاعها ، فرفع الجزئيّة عن اللبث مرجعه إلى رفع الأمر المتعلّق بالمركّب منه ، كما أنّ معنى رفع المانعيّة عن الخروج

__________________

(١) الوسائل ١٥ : ٣٦٩ / أبواب جهاد النفس ب ٥٦ ح ١.

٣٨٣

عقلاً أو شرعاً أو عادةً كقضاء الحاجة من بول أو غائط ، أو للاغتسال من الجنابة أو الاستحاضة ونحو ذلك (١).

______________________________________________________

رفع الأمر المتعلّق بالمقيّد بعدمه.

وعليه ، فإذا كان هذا الأمر مرفوعاً فبأيّ دليل يثبت تعلّق الأمر بالباقي ليحكم بصحّته بعد أن لم يكن شأن الحديث إلا الرفع دون الوضع؟! ولا يقاس ذلك بما تقدّم في الجهل ، ضرورة أنّ الجاهل بوجوب الأكثر يعلم إجمالاً بتعلّق التكليف بالجامع بينه وبين الأقلّ ، ولذا يستحقّ العقاب لو ترك الكلّ ، لمخالفته التكليف المعلوم له بالوجدان ، فوجوب الأقلّ لا بشرط وجداني ، وصحّة الباقي وتعلّق الأمر به ثابت بالعلم لا بالأصل ، وإنّما يُنفى به الزائد المشكوك فيه ، وأمّا في المقام فليس للناسي مثل هذا العلم كما لا يخفى.

وعلى الجملة : لا يترتّب على النسيان ما عدا المعذوريّة في ترك الجزء أو الإتيان بالمانع بمقتضى حديث الرفع ، وأمّا صحّة الباقي ليجتزئ به عن الواقع لدى تبدّله بالذكر فلا يمكن إثباتها بدليل وإن نُسب ذلك إلى المشهور حسبما مرّ ، بل الأقوى البطلان ، فلو اتّفق مثل ذلك في اعتكاف واجب إمّا بإجارة أو نذر ونحوهما وجبت الإعادة كما تجب هي أو القضاء لو اتّفق ذلك في الصلاة فيما إذا كان المنسي من الأركان.

(١) قد عرفت جواز الخروج للضرورة ، لتقييد الحاجة باللابدّيّة في صحيحة الحلبي وصحيحتي داود بن سرحان (١).

نعم ، صحيحة عبد الله بن سنان مطلقة ، قال (عليه السلام) فيها : «ولا يخرج

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ٥٤٩ ٥٥٠ / أبواب الاعتكاف ب ٧ ح ١ ، ٢ ، ٣.

٣٨٤

.................................................................................................

______________________________________________________

المعتكف من المسجد إلّا في حاجة» (١).

فتشمل الحاجة البالغة حدّ الضرورة وما دونها ، إلّا أنّه لا بدّ من حملها على ذلك ، جمعاً ورعايةً لصناعة الإطلاق والتقييد.

ولا فرق بمقتضى الإطلاق بين ما إذا كانت الضرورة واللابدّيّة عقليّة كما لو مرض فتوقّف علاجه على الخروج أو شرعيّة كقضاء الحاجة لحرمة تلويث المسجد ، وكالاغتسال بناءً على عدم جوازه فيه أو عرفيّة بحيث يعدّ في نظر العرف من الضروريّات ، كما لو قدم ضيف كريم أو ذو منصب رفيع لا بدّ من الخروج عن المسجد لملاقاته.

وعلى الجملة : ففي موارد صدق الضرورة على إطلاقها لا شكّ في جواز الخروج بمقتضى هذه النصوص ، وفيما عداها لا يجوز إلّا إذا قام الدليل عليه بالخصوص ، كعيادة المريض ، أو الخروج للجنازة تشييعاً أو تجهيزاً من كفنٍ أو دفنٍ أو تغسيلٍ أو صلاة ، بمقتضى إطلاق النصّ الدالّ عليه وهو صحيح الحلبي ، وكذا صحيح ابن سنان الذي تضمّن جواز الخروج للجمعة أيضاً. ففي هذه الموارد المنصوصة يجوز الخروج وإن لم يكن من مصاديق الضرورة.

وأمّا التعدّي عن ذلك إلى كلّ مورد كان الخروج راجحاً شرعاً كمشايعة المؤمن ونحو ذلك ، فهو وإن ذكره غير واحد لكنّه يتوقّف على تحصيل المناط القطعي كي تحمل تلك الموارد المنصوصة على المثاليّة لكلّ أمر راجح ، فإن تحصّل هذا المناط لأحد فهو ، وإلّا كما هو الصحيح ، إذ لا سبيل لنا إلى الإحاطة بالمناطات الواقعيّة للأحكام الشرعيّة ، فالتعدّي حينئذٍ في غاية الإشكال.

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ٥٥٠ / أبواب الاعتكاف ب ٧ ح ٥.

٣٨٥

.................................................................................................

______________________________________________________

هذا ، وربّما يستدلّ لجواز الخروج عن المسجد لقضاء حاجة المؤمن بما رواه الصدوق بإسناده عن ميمون بن مهران ، قال : كنت جالساً عند الحسن بن علي (عليهما السلام) فأتاه رجل فقال له : يا بن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، إنّ فلاناً له عليّ مال ويريد أن يحبسني «فقال : والله ، ما عندي مال فأقضي عنك» قال : فكلّمه ، قال : فلبس (عليه السلام) نعله ، فقلت له : يا بن رسول الله ، أنسيت اعتكافك؟ فقال له : «لم أنس ، ولكنّي سمعت أبي يحدّث عن جدّي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال : من سعى في حاجة أخيه المسلم فكأنّما عبد الله عزّ وجلّ تسعة آلاف سنة صائماً نهاره قائماً ليله» (١).

ولكنّها مخدوشة سنداً ودلالةً :

أمّا الأوّل : فلأنّ ميموناً نفسه وإن كان ممدوحاً وهو من أصحاب علي (عليه السلام) ، إلّا أنّ طريق الصدوق إليه مشتمل على عدّة من الضعاف ، فهي ضعيفة السند جدّاً.

وأمّا الثاني : فلعدم دلالتها على خروجه (عليه السلام) باقياً على اعتكافه ، ولعلّه (عليه السلام) عدل عنه وتركه للاشتغال بالأهمّ ، ولم يفرض فيها أنّ ذلك كان في اليوم الثالث كي لا يجوز النقض ، فلعلّه كان في اليومين الأولين ، وهي قضيّة في واقعة ، فلا معنى للتمسّك بالإطلاق من هذه الجهة كما هو ظاهر ، والعمدة ما عرفت من ضعف السند.

فتحصّل : أنّه لا دليل على جواز الخروج لمطلق الحاجة وإن كانت راجحة دنيا أو ديناً ، بل لا بدّ من الاقتصار على مورد قيام النصّ حسبما عرفت.

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ٥٥٠ / أبواب الاعتكاف ب ٧ ح ٤ ، الفقيه ٢ : ١٢٣ / ٥٣٨.

٣٨٦

.................................................................................................

______________________________________________________

ثمّ إنّ كلّ مورد حكمنا فيه بجواز الخروج لا بدّ من الاقتصار فيه على المقدار الذي لا يزول معه عنوان الاعتكاف بأن يكون زمانه يسيراً كربع ساعة أو نصف ساعة مثلاً وأمّا المكث الطويل خارج المسجد كما لو خرج لمحاكمةٍ فاستوعب تمام النهار ، فضلاً عمّا لو استوعب تمام الأيّام الثلاثة لضرورةٍ دعته للخروج بعد ساعة من اعتكافه مثلاً فلا ينبغي التأمّل في البطلان حينئذٍ ، للزوم صدق العنوان وبقائه في الحكم بالصحّة كما هو ظاهر ، والمفروض انتفاؤه.

ثمّ إنّ القادح في الصحّة إنّما هو الخروج الاختياري ، دون ما لا يستند إلى الاختيار كما لو أُخذ وجُرَّ عن المسجد أو مشى في نومه وخرج عن المسجد كما ربّما يتّفق لبعض الأشخاص ، لانصراف النصوص عن ذلك ، فإنّها ظاهرة ولا سيّما بملاحظة استثناء الحاجة في الخروج الاختياري ، فإنّ النهي عن الخروج في هذه النصوص وإن لم يتضمّن التكليف إلّا في اليوم الثالث وإنّما هو إرشاد إلى الفساد ، إلّا أنّ المنسبق منها بحكم الانصراف أنّ المفسد إنّما هو الخروج المستند إلى الإرادة والاختيار كما لا يخفى.

وأوضح من الكلّ الصحيحة الثانية لداود بن سرحان ، حيث سأل الإمام (عليه السلام) عمّا يفرضه على نفسه لدى التصدّي للاعتكاف فأجاب (عليه السلام) بقوله : «لا تخرج» إلخ ، فإنّ من الواضح أنّ افتراض الإنسان والتزامه لا يكاد يتعلّق إلّا بالأمر الاختياري ، وقد أقرّه (عليه السلام) على ذلك ، فيكشف هذا عن أنّ المراد بالخروج في الجواب هو الاختياري منه ، فغير الاختياري لا مانع منه إلّا إذا بلغ حدّا زال معه عنوان الاعتكاف كما مرّت الإشارة إليه آنفاً.

٣٨٧

ولا يجب الاغتسال في المسجد وإن أمكن (١) من دون تلويث وإن كان أحوط (*).

______________________________________________________

(١) قد يفرض الاغتسال عن حدثٍ يجوز معه المكث في المسجد كمسّ الميّت ، وأُخرى عمّا لا يجوز كالجنابة.

أمّا الأوّل : فلا ينبغي الإشكال في جوازه في المسجد فيما إذا لم يستلزم مهانة أو هتكاً للحرمة ، كما لو كان هناك حوض فاغتسل فيه ، أو ظرف تجتمع فيه الغسالة ثمّ تطرح خارج المسجد ، بل لا يبعد تعيّنه حينئذٍ لعدم ضرورة تدعوه إلى الخروج بعد إمكان الاغتسال في المسجد من غير أيّ محذور ، كما هو الحال في الوضوء أو الغسل المندوب. ولا ريب أنّ هذا هو الأحوط.

وأمّا الثاني : فلا شكّ في وجوب الخروج فيما إذا استلزم التلويث ، فإنّ ذلك من موارد الضرورة الشرعيّة كما هو ظاهر.

وأمّا إذا لم يستلزم : فإن أمكن الاغتسال حال الخروج من غير أن يستلزم مكثاً زائداً على زمان الخروج كما لو فرض أنّ زمانه دقيقتان وزمان الغسل أيضاً دقيقتان أو أقلّ فالظاهر أنّه لا ينبغي التأمّل في جواز الاغتسال ماشياً حالة الخروج ، بل لا حاجة حينئذٍ إلى المشي ، فيجوز واقفاً أيضاً ، لأنّ ذلك إنّما وجب عليه مقدّمةً للخروج كي يغتسل خارج المسجد ولا يبقى فيه جنباً ، والمفروض ارتفاع الجنابة وحصول الاغتسال قبل تحقّق الخروج ، فلا مقتضي

__________________

(*) لا يبعد وجوبه على المستحاضة ونحوها ممّن لا يكون مكثه في المسجد محرّماً إذا لم يترتّب عليه محذور من هتك أو نحوه ، وأمّا بالإضافة إلى الجنب ونحوه ممّن يمكن مكثه في المسجد محرّماً ، فإن لم يكن زمان غسله فيه أكثر من زمان خروجه عنه وجب عليه الغسل فيه إذا لم يستلزم محذوراً آخر من هتك أو نحوه.

٣٨٨

والمدار على صدق اللبث ، فلا ينافيه خروج بعض أجزاء بدنه من يده أو رأسه أو نحوهما (١).

______________________________________________________

لوجوبه ولا خصوصيّة للمشي في ذلك بعد فرض اتّحاد زمانه مع المكث ولزوم كونه باقياً في المسجد خلال الدقيقتين مثلاً سواء أكان ماشياً أم واقفاً.

وعلى الجملة : ففي هذه الصورة لا موجب للاغتسال خارج المسجد فيجوز فيه ، بل لعلّه يجب رعايةً لاستدامة المكث بعد عدم ضرورة في الخروج ، ولم يكن الخروج لأجل الغسل منصوصاً ليتمسّك بإطلاق الدليل ، فعدم الجواز حينئذٍ لو لم يكن أقوى فلا ريب أنّه أحوط.

وأمّا إذا لم يمكن الاغتسال حال الخروج ، أو كان زمانه أكثر من الزمان الذي يستوعبه نفس الخروج بأن كان أكثر من الدقيقتين في المثال المزبور ، فالمتعيّن حينئذٍ الغسل خارج المسجد حذراً من اللبث المحرّم ، وكان ذلك من موارد الضرورة الشرعيّة المسوّغة للخروج كما تقدّم.

فالظاهر هو التفصيل بين إمكان الاغتسال في المسجد في زمانٍ لا يكون أكثر من زمان الخروج وعدمه ، ففي الأوّل يغتسل في المسجد حال المشي بل بدونه كما مرّ ، وفي الثاني يتعيّن عليه الخروج حسبما عرفت.

(١) كما لو أخرج يده عن المسجد لاستلام شي‌ء ، أو رأسه من الروشن أو الجناح ونحوهما لرؤية الهلال أو الشفق أو غاية أُخرى وإن كانت غير ضروريّة ، لصدق المكث في المسجد بعد كون معظم البدن فيه ، الذي هو المناط في تحقّق البقاء المتقوّم به الاعتكاف كما هو ظاهر جدّاً.

٣٨٩

[٢٥٦٠] مسألة ١ : لو ارتدّ المعتكف في أثناء اعتكافه بطل وإن تاب بعد ذلك (١) إذا كان ذلك في أثناء النهار ، بل مطلقاً على الأحوط (*).

______________________________________________________

(١) وقلنا بقبول توبته فيما بينه وبين الله وإن أُجريت عليه الأحكام ظاهراً من البينونة والتقسيم والقتل كما في الفطري ، أو فرض الكلام في الملّي الذي تقبل توبته بلا إشكال. وعلى أيّ حال ، فلا ريب في بطلان اعتكافه.

أمّا إذا كان الارتداد في النهار فلوجوه :

أحدها : إنّ الارتداد مانع عن صحّة الصوم ، لاشتراطه حدوثاً وبقاءً بالإيمان فضلاً عن الإسلام كما مرّ في محلّه ، فإذا بطل بطل الاعتكاف أيضاً ، لتقوّمه به.

الثاني : إنّ الكافر يحرم عليه اللبث في المسجد ويجب إخراجه منه إجماعاً وإن كانت الآية الشريفة خاصّة بالمشركين وبمسجد الحرام ، لكن الحكم مطلق من كلتا الناحيتين من غير خلاف ، فإذا كان المكث في هذا الجزء من الاعتكاف أعني : حالة الارتداد حراماً فكيف يقع مصداقاً للواجب؟! وهل يمكن التقرّب بما هو مبغوض للمولى (١)؟! الثالث : إنّ الاعتكاف عبادة ، ولا تصحّ العبادة من الكافر ، لاشتراطها بالإسلام ، بل بالإيمان كما نطقت به النصوص ، مضافاً إلى عدم تمشّي قصد القربة منه.

__________________

(*) بل على الأظهر.

(١) هذا إنّما يتّجه على المسلك المشهور من كون الكفّار مكلّفين بالفروع كالأُصول ، لا على مسلكه (دام ظلّه) من إنكار ذلك ، على أنّ وجوب إخراج غير المشرك من مطلق المسجد مبني عنده (دام ظلّه) على الاحتياط.

٣٩٠

[٢٥٦١] مسألة ٢ : لا يجوز العدول بالنيّة من اعتكافٍ إلى غيره (١) وإن اتّحدا في الوجوب والندب ، ولا عن نيابة ميّتٍ إلى آخر أو إلى حيّ ، أو عن نيابة غيره إلى نفسه أو العكس.

______________________________________________________

وعلى الجملة : فيبطل الاعتكاف بالارتداد ، لأجل هذه الوجوه الثلاثة.

وأمّا لو كان الارتداد في الليل فيبتني البطلان على دخول الليلتين المتوسّطتين في الاعتكاف وخروجهما عنه ، وحيث إنّا استظهرنا الدخول لظهور الدليل في الاتّصال والاستمرار فعليه يتّجه البطلان بالارتداد استناداً إلى الوجهين الأخيرين من الوجوه الثلاثة المتقدّمة ، لعدم جريان الأوّل كما هو ظاهر ، ولعلّ خلاف الشيخ حيث منع (قدس سره) عن البطلان بالارتداد (١) محمولٌ على ما لو كان في الليل ، بناءً على مسلكه من خروج الليل عن الاعتكاف.

(١) سواء أكانا واجبين أم مستحبّين أم مختلفين ، عن نفسه أو عن غيره أو بالاختلاف ، كلّ ذلك لأجل أنّ العدول بالنيّة خلاف الأصل لا يمكن المصير إليه ما لم يقم عليه دليل بالخصوص.

والوجه فيه : أنّ الأمر المتعلّق بالمركّب من عدّة أجزاء كالصلاة وكالاعتكاف المؤلّف من المكث في الأيّام الثلاثة ينحلّ لدى الدقّة إلى أوامر ضمنيّة متعلّقة بتلك الأجزاء ، وحيث إنّها ارتباطيّة حسب الفرض فلا جرم كان كلّ أمر مشروطاً بشرط متأخّر أو متقدّم أو بهما معاً ، فالأمر بالتكبير مشروط بنحو الشرط المتأخّر بملحوقيّته بالقراءة والركوع إلى آخر الصلاة ، كما أنّ الأمر بالركوع مشروط بكونه ملحوقاً بالسجود ومسبوقاً بالقراءة ، والأمر

__________________

(١) المبسوط ١ : ٢٩٤.

٣٩١

[٢٥٦٢] مسألة ٣ : الظاهر عدم جواز النيابة عن أكثر من واحد في اعتكاف واحد (١). نعم ، يجوز ذلك بعنوان إهداء الثواب ، فيصحّ إهداؤه إلى متعدّدين أحياءً أو أمواتاً أو مختلفين.

______________________________________________________

بالسلام مشروط بمسبوقيّته بما تقدّم من الأجزاء ، فاتّصاف كلّ واحد من أجزاء المركّب بالجزئيّة لذلك المركّب مشروطٌ بالانضمام لسائر أجزاء هذا المركّب ، إمّا بنحو الشرط المتأخّر كالجزء الأول ، أو المتقدّم كالجزء الأخير ، أو بهما معاً كما فيما بينهما من الأجزاء ، فإنّ هذا من شؤون فرض الارتباطيّة الملحوظة بينها كما لا يخفى.

وعليه ، فلو عدل في الأثناء فأتى بالركوع مثلاً عن صلاة أُخرى لم يقع جزءاً لا من المعدول عنه لعدم الملحوقيّة بما هو من أجزاء هذا المركّب ، ولا من المعدول إليه لعدم المسبوقيّة كذلك.

ومن هنا كان العدول بالنيّة على خلاف القاعدة ، إذ النصف مثلاً من عملين لا يكون عملاً واحداً إلّا إذا قام الدليل الخاصّ على الاجتزاء به ، كما ثبت في العدول عن الحاضرة إلى الفائتة ، أو اللاحقة إلى السابقة ، أو الفريضة إلى النافلة فيما لو أُقيمت الجماعة على تفصيلٍ مذكور في محالّها ، وحيث لم يقم مثل ذلك الدليل في المقام إذن لا يجوز العدول من اعتكاف إلى آخر مطلقاً ، فلو اعتكف ندباً لم يسغ له العدول إلى اعتكاف آخر مندوب أو واجب بنذر أو إجارة عن حيّ أو ميّت ، أو لو كان أجيراً عن أحد لا يجوز العدول عنه إلى ما كان أجيراً عن غيره أو إلى الاعتكاف عن نفسه ، وهكذا.

(١) فإنّ النيابة في نفسها على خلاف القاعدة ، إذ كيف يكون فعل أحد موجباً لسقوط ذمّة الغير عمّا اشتغلت به ويعتبر وقوعه عنه؟! اللهمّ إلّا إذا قام

٣٩٢

.................................................................................................

______________________________________________________

الدليل على المشروعيّة فيقتصر حينئذٍ على مورد قيام الدليل ، وقد ثبتت المشروعيّة بالأدلّة الخاصّة عن الأموات بل الإحياء أيضاً في بعض الموارد كالحجّ المندوب ، كما تقدّمت الإشارة إليها في قضاء الصلوات وبحث النيابة عن الأموات (١).

والمتيقّن من تلك الأدلّة إنّما هي النيابة عن شخص واحد ، وأمّا الزائد عليه فيحتاج إلى قيام الدليل على قبول الفعل الواحد للاشتراك ، وقد قام الدليل عليه في باب الزيارات وفي الحجّ المندوب ، فيجوز النيابة فيهما عن شخص أو أشخاص ولم يثبت فيما عداهما ، ومقتضى الأصل عدم المشروعيّة ، فمجرّد عدم الدليل كافٍ في الحكم بالعدم استناداً إلى الأصل.

نعم ، قد يتوهّم الجواز ممّا ورد في بعض أخبار تشريع النيابة في العبادة من قول الصادق (عليه السلام) في صحيحة معاوية بن عمّار : «... يدعو لوالديه بعد موتهما ، ويحجّ ويتصدّق ويعتق عنهما ، ويصلّى ويصوم عنهما» (٢).

ولكن الظاهر منها بمقتضى الفهم العرفي إرادة كلّ منهما على سبيل الانفراد وبنحو الانحلال والاستغراق لا جمعاً لتدلّ على جواز التشريك في الفعل الواحد ، كما هو الحال في استعمالاتنا في العرف الحاضر ، فلو قلنا لأحد : صلّ عن والديك أو صم عنهما ، لا نريد به العموم المجموعي أبداً ، بل المراد عن كلّ منهما مستقلا.

إذن لا دليل على جواز النيابة عن أكثر من واحد في اعتكافٍ واحد ، والمرجع أصالة عدم المشروعيّة كما عرفت.

نعم ، لا بأس بالإتيان به رجاءً ، كما أنّه لا إشكال في جواز ذلك بعنوان إهداء الثواب لا النيابة كما نبّه عليه في المتن.

__________________

(١) شرح العروة (كتاب الصلاة ٥ / ١) : ٢٣٧ ٢٤٢.

(٢) الوسائل ٢ : ٤٤٤ / أبواب الاحتضار ب ٢٨ ح ٦.

٣٩٣

[٢٥٦٣] مسألة ٤ : لا يعتبر في صوم الاعتكاف أن يكون لأجله (١) ، بل يعتبر فيه أن يكون صائماً أيّ صوم كان ، فيجوز الاعتكاف مع كون الصوم استئجاريّاً أو واجباً من جهة النذر ونحوه ، بل لو نذر الاعتكاف يجوز له بعد ذلك أن يؤجر نفسه للصوم ويعتكف في ذلك الصوم ولا يضرّه وجوب الصوم عليه بعد نذر الاعتكاف ، فإنّ الذي يجب لأجله هو الصوم الأعمّ من كونه له أو بعنوان آخر ، بل لا بأس بالاعتكاف المنذور مطلقاً في الصوم المندوب الذي يجوز له قطعه ، فإن لم يقطعه تمّ اعتكافه ، وإن قطعه انقطع ووجب عليه الاستئناف.

______________________________________________________

(١) حقيقة الاعتكاف كما دلّت عليه صحيحة ابن سرحان (١) عبارة عن نفس اللبث والعكوف ، وأمّا الصوم فهو خارج عن الحقيقة ، وإنّما هو شرط في الصحّة ، فهو من قبيل المقدّمات المقارنة ، نظير الطهارة والستر والاستقبال بالإضافة إلى الصلاة.

وعليه ، فإن أنكرنا وجوب المقدّمة إلّا عقلاً من باب اللابدّيّة كما هو الصحيح فواضحٌ أنّ الصوم لم يتّصف بالوجوب من أجل الاعتكاف ، بل هو باقٍ على حكمه الثابت له في حدّ نفسه من الاستحباب أو الوجوب الأصلي كصوم رمضان ، أو العرضي كما في النذر أو الاستئجار ونحو ذلك ، ولا يحكم العقل إلّا بالإتيان بطبيعي الصوم تحصيلاً للشرط وتحقيقاً لما لا يتمّ الواجب إلّا به بأيّ عنوان كان ، بعد أن لم يؤخذ في دليل الاشتراط عنوان خاصّ بمقتضى الإطلاق.

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ٥٥٠ / أبواب الاعتكاف ب ٧ ح ٣.

٣٩٤

.................................................................................................

______________________________________________________

وأمّا إذا بنينا على وجوب المقدّمة شرعاً فالأمر كذلك أيضاً ، لأنّ هذا وجوب غيري ، والأمر الغيري المقدّمي توصليّ لا تعبّدي ، فلا يجب قصد الأمر الناشئ من قبل الاعتكاف ليجب الصوم من أجله ، ومناط العباديّة شي‌ء آخر غير هذا الأمر ، وهو الأمر النفسي العبادي المتعلّق بالصوم إمّا الاستحبابي أو الوجوبي ، فحال الأمر بالصوم هنا حال الأمر المقدّمي المتعلّق بالطهارات التي تكون مناط عباديّتها الأوامر النفسيّة المتعلّقة بذواتها كما حقّقناه في الأُصول.

وعليه ، فلا يزيد الالتزام بوجوب المقدّمة شرعاً على إنكارها في عدم وجوب قصد الصوم لأجل الاعتكاف على التقديرين ، بل اللازم إنّما هو الإتيان بطبيعي الصوم وهو الشرط في الصحّة ، أي الصوم الأعمّ من كونه له أو بعنوان آخر ندبي أو وجوبي أصلّي كشهر رمضان ، أو عرضي من نذر ونحوه.

والروايات الحاكية لاعتكاف النبيّ (صلّى الله عليه وآله) في العشر الأواخر من شهر رمضان دالّة عليه بوضوح كما لا يخفى.

ويتفرّع على ذلك ما سيذكره (قدس سره) في المسألة السادسة من أنّه لو نذر الاعتكاف إمّا مطلقاً أو في أيّامٍ معيّنة وكان عليه صوم واجب لنذر أو استئجار ونحوهما ، جاز له الصوم في تلك الأيّام وفاءً عن النذر أو الإجارة ، لما عرفت من أنّ الشرط في الصحّة إنّما هو جامع الصوم المنطبق على ما كان واجباً بالنذر ونحوه ، اللهمّ إلّا أن يكون نذر اعتكافه مقيّداً بأن يصوم لأجله ، فإنّه لم يجز حينئذٍ أن يصوم عن غيره من نذرٍ ونحوه ، لكونه مخالفاً لنذره كما هو ظاهر جدّاً.

٣٩٥

[٢٥٦٤] مسألة ٥ : يجوز قطع الاعتكاف المندوب في اليومين الأوّلين (١) ، ومع تمامهما يجب الثالث ، وأمّا المنذور : فإن كان معيّناً فلا يجوز قطعه مطلقاً ، وإلّا فكالمندوب.

______________________________________________________

(١) فصّل (قدس سره) في الاعتكاف المندوب بين اليومين الأولين فيجوز القطع ورفع اليد ، وبين اليوم الثالث فلا يجوز بل يجب المضي ، وألحق (قدس سره) به المنذور إن كان مطلقاً ، دون المعيّن ، فإنّه لا يجوز قطعه مطلقاً حذراً من مخالفة النذر. وقد ذهب إلى هذا التفصيل جماعة من الأصحاب.

وهناك قولان آخران :

أحدهما : ما نُسب إلى الشيخ والحلبي وابن زهرة من عدم جواز القطع مطلقاً (١).

وبإزائه القول الآخر المنسوب إلى السيّد والحلّي والعلّامة من الجواز مطلقاً حتّى في اليوم الأخير (٢).

ويستدلّ للقول الأوّل أعني : عدم الجواز مطلقاً تارةً : بما دلّ على حرمة إبطال العمل ، كقوله تعالى (وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) (٣).

والجواب عنه ما أشار إليه شيخنا الأنصاري (قدس سره) من أنّ الآية المباركة أجنبيّة عمّا نحن فيه من رفع اليد أثناء العمل ، بل هي ناظرة إلى حكم

__________________

(١) المبسوط ١ : ٢٨٩ ، الكافي في الفقه : ١٨٦ ، الغنية ٢ : ١٤٧.

(٢) الناصريات (الحجري) : ٢٤٣ ، الناصريات (مركز البحوث والدراسات العلمية) : ٣٠٠.

(٣) سورة محمّد (صلّى الله عليه وآله) ٤٧ : ٣٣.

٣٩٦

.................................................................................................

______________________________________________________

ما بعد الفراغ عن العمل ، كما قد تقتضيه هيئة باب الإفعال ، فإنّ الإبطال يستدعي فرض وجود عمل صحيح مفروغ عنه ليعرضه هذا الوصف ، فمفادها حرمة الإتيان بعد العمل بما يوجب إبطاله ، أي زوال أثره وحبط ثوابه ، فيتّحد مفادها مع قوله تعالى (لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى) (١) ، فلا دلالة فيها بوجه على لزوم إتمام العمل وعدم جواز قطعه (٢).

على أنّ ذلك موجب لتخصيص الأكثر المستهجن ، لجواز القطع في جميع المستحبّات ما عدا الحجّ المندوب وفي جملة من الواجبات كقضاء شهر رمضان الموسّع والنذر المطلق ونحوهما.

وأُخرى وهي أوجه من الاولى ـ : بما دلّ على وجوب الكفّارة لو جامع خلال الثلاثة ، فإنّها تدلّ بالالتزام على حرمة القطع ، إذ لا معنى للتكفير عن أمر مباح.

ويدفعه أوّلاً : أنّ الكفّارة وإن كانت ثابتة كما تقدّم وسيأتي إن شاء الله (٣) ، إلّا أنّها لا تستلزم الحرمة بوجه كما في كفّارة التأخير إلى أن ضاق الوقت عن قضاء شهر رمضان بحلول السنة الجديدة ، فإنّه جائز على الأقوى وإن وجب الفداء ، وكما في التكفير عن جملة من تروك الإحرام فيما لو اضطرّ إلى ارتكابها.

وثانياً : سلّمنا الملازمة إلّا أنّ غايتها التلازم بين الكفّارة وبين حرمة حصّة خاصّة من الإبطال والقطع أعني : الإبطال بموجب الكفّارة وهو الجماع لا مطلق الإبطال ولو بشي‌ء آخر ، كالخروج عن المسجد عمداً لا لحاجة ، إذ لا مقتضي للملازمة بين وجوب التكفير وبين حرمة طبيعي القطع على إطلاقه

__________________

(١) البقرة ٢ : ٢٦٤.

(٢) فرائد الأُصول ٢ : ٤٩٠ ٤٩١.

(٣) تقدّم في ص ٢٤١ ، وسيأتي في ص ٤٧٧.

٣٩٧

.................................................................................................

______________________________________________________

وسريانه كما هو أوضح من أن يخفى.

ويُستدلّ للقول الآخر بأنّ انقلاب النفل إلى الفرض على خلاف القاعدة ، فيرجع إلى أصالة البراءة عن الوجوب في تمام الثلاثة من غير فرق بين الأخير والأولين.

وفيه : أنّ هذا وجيه لولا قيام الدليل على التفصيل ، والأصل حجّة حيث لا دليل على الخلاف ، ومعه لا تصل النوبة إليه.

وقد دلّت صحيحة ابن مسلم صريحاً على الوجوب في اليوم الثالث ، فقد روى عن أبي جعفر (عليه السلام) : «قال : إذا اعتكف يوماً ولم يكن اشترط فله أن يخرج ويفسخ الاعتكاف ، وإن أقام يومين ولم يكن اشترط فليس له أن يفسخ اعتكافه حتّى تمضي ثلاثة أيّام» (١).

والمراد بالاشتراط : التعيين على نفسه بنذرٍ وشبهه ، لا كالاشتراط عند نيّة الإحرام في الحجّ كما لا يخفى ، وإلّا لم تتّجه الشرطيّة الأُولى ، وذلك لجواز الخروج ، سواء اشترط بذاك المعنى أم لا.

وكيفما كان ، فهذه الرواية صحيحة السند ، واضحة الدلالة ، وقد أفتى بمضمونها جماعة من الأصحاب ، فليست بمهجورة ، ومعها لا تصل النوبة إلى الرجوع إلى أصالة البراءة ، فلا مناص من الأخذ بها.

ومن ذلك كلّه يظهر لك صحّة التفصيل المذكور في المتن.

ثمّ إنّ هذه الرواية رواها في الكافي بإسناده عن ابن محبوب ، عن أبي أيّوب ، ورواها الشيخ بإسناده عن الحسن ، عن أبي أيّوب ، وهما أي ابن محبوب

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ٥٤٣ / أبواب الاعتكاف ب ٤ ح ١ ، الكافي ٤ : ١٧٧ / ٣ ، التهذيب ٤ : ٢٨٩ / ٨٧٩ ، الاستبصار ٢ : ١٢٩ / ٤٢١.

٣٩٨

[٢٥٦٥] مسألة ٦ : لو نذر الاعتكاف في أيّامٍ معيّنة (١) وكان عليه صوم منذور أو واجب لأجل الإجارة ، يجوز له أن يصوم في تلك الأيّام وفاءً عن النذر أو الإجارة.

نعم ، لو نذر الاعتكاف في أيّامٍ مع قصد كون الصوم له ولأجله لم يجزئ عن النذر أو الإجارة.

[٢٥٦٦] مسألة ٧ : لو نذر اعتكاف يوم أو يومين : فإن قيّد بعدم الزيادة بطل نذره (*) (٢) ، وإن لم يقيّده صحّ ووجب ضمّ يوم أو يومين.

______________________________________________________

والحسن شخص واحد عبّر الكليني بكنيته والشيخ باسمه ، فالراوي عن أبي أيّوب هو الحسن بن محبوب ، وما في الوسائل الطبعة الأخيرة من ذكر كلمة «الحسين» بدل «الحسن» غلط من النسّاخ ، أو اشتباه منه (قدس سره).

وكيفما كان ، فالرواية صحيحة بكلا الطريقين ، فإنّ طريق الشيخ إلى علي بن الحسن بن فضّال وإن كان ضعيفاً في نفسه إلّا أنّا صحّحناه بوجه آخر وهو صحّة طريق النجاشي إليه مع وحدة الشيخ كما مرّت الإشارة إليه مراراً.

(١) قد ظهر الحال فيها ممّا قدّمناه في المسألة الرابعة ، فلاحظ.

(٢) لا يخفى أنّ الاعتكاف متقوّم بمجرّد اللبث والعكوف ، وهو بنفسه عبادة ولا يعتبر فيه قصد غاية أُخرى كما مرّت الإشارة إليه في صدر الكتاب (١).

نعم ، الاعتكاف المعهود عند المتشرّعة المحكوم بأحكام خاصّة يشترط في

__________________

(*) هذا إذا قصد الاعتكاف المعهود ، وإلّا فالظاهر صحّته.

(١) في ص ٣٣٥.

٣٩٩

.................................................................................................

______________________________________________________

صحّته أن لا يكون أقلّ من ثلاثة أيّام ، ولذا كان له الفسخ ورفع اليد في اليومين الأولين دون اليوم الثالث كما مرّ آنفاً.

وعليه ، فلو نذر الاعتكاف يوماً أو يومين فقد ذكر الماتن (قدس سره) أنّه إن كان مقيّداً بعدم الزيادة بأن كان ملحوظاً بشرط لا ، بطل نذره. لعدم مشروعيّة المنذور بعد أن كانت الصحّة مشروطة بالثلاثة كما عرفت.

وإن لم يقيّد أي كان مطلقاً وملحوظاً بنحو اللااقتضائيّ بشرط صحّ نذره ووجب التتميم ثلاثاً ، إذ لا وجه للبطلان بعد أن كان المطلق قابلاً للانطباق على الفرد الصحيح.

وهذا نظير ما لو نذر أن يتصدّق على إنسان ، فإنه بإطلاقه يشمل من فيه الرجحان كالعبد الصالح ومن يكون التصدّق عليه مرجوحاً كالمشرك أو الضالّ المضلّ المبتدع الذي لا يكون النذر منعقداً بالإضافة إليه ، إلّا أنّه يكفي في صحّة النذر على المطلق اشتمال بعض أفراده على الرجحان فينزل الإطلاق عليه.

وما أفاده (قدس سره) مطابق لما ذكره جماعة من الأصحاب ، إلّا أنّ الحكم بالبطلان في الفرض الأوّل على إطلاقه قابل للمناقشة ، بل لها مجال واسع ، فإنّه إنّما يتّجه لو كان متعلّق النذر الاعتكاف المعهود المحكوم بالأحكام الخاصّة : من الاشتراط بالصوم ، وكونه في المسجد الجامع ، وعدم كونه أقلّ من الثلاثة ، وعدم جواز البيع والشراء ، ونحو ذلك ممّا تقدّم بعضها ويأتي جملة منها.

وبالجملة : لو كان مراد الناذر الاعتكاف المجعول المصطلح عليه في لسان الشرع الذي كان يفعله رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في العشر الأواخر من شهر رمضان المحكوم بالأحكام المزبورة ، تمّ ما ذكر.

وأمّا لو أراد به مجرّد العكوف في المسجد والبقاء ولو ساعة فضلاً عن يوم أو

٤٠٠