موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ مرتضى البروجردي

.................................................................................................

______________________________________________________

وقيام الدليل على إرادة التلفيق المبني على نوع من العناية في بعض الموارد كالعدّة ومدّة الخيار وأقلّ الحيض ونحو ذلك لا يستدعي إرادته في المقام بعد عرائه عن مثل ذلك الدليل ، فلا مناص من الأخذ بظاهر اللفظ من إرادة المعنى الحقيقي ، أعني : اليوم الكامل كما عرفت. فلا يجزي التلفيق بوجه.

هذا ، وقد سبق نظير ذلك في كتاب الصوم (١) عند التكلّم حول الشهرين المتتابعين وقلنا : إنّ الشهر حقيقة فيما بين الهلالين دون المقدار فلا يجزي التلفيق. وأشرنا هناك إلى أنّ هذه المسألة أعني : كون الشهر حقيقة فيما بين الهلالين ، أو أنّ المراد ما يعمّ المقدار غير معنونة في كلماتهم ، إذ لم نرَ من تعرّض لذلك من قدماء الأصحاب.

نعم ، تعرّض له المحقّق في الشرائع على وجهٍ يظهر منه أنّه أرسل إرادة الأعمّ من المقدار إرسال المسلّمات وأنّ جواز التلفيق من الواضحات ، حيث قال (قدس سره) في أواخر كتاب الكفارات في المسألة الاولى من المقصد الرابع ما لفظه : من وجب عليه شهران متتابعان فإن صام هلالين فقد أجزأه ولو كانا ناقصين ، وإن صام بعض الشهر وأكمل الثاني اجتزأ به وإن كان ناقصاً ، ويكمل الأول ثلاثين ، وقيل : يتمّ ما فات من الأول ، والأول أشبه (٢) ، انتهى.

فإن الإجزاء في الفرض الأوّل ممّا لا خلاف فيه ولا إشكال ، لكون الشهر حقيقة فيما بين الهلالين كما صرّح به في الجواهر في شرح العبارة (٣).

وأمّا في الفرض الثاني فقد تكلّم في كيفيّة التكميل فارغاً عن جواز أصل

__________________

(١) في ص ٢٧٩.

(٢) الشرائع ٣ : ٧٣.

(٣) الجواهر ٣٣ : ٢٧٩.

٣٦١

.................................................................................................

______________________________________________________

التلفيق ، فكأنّه أمر مسلّم مفروغ عنه.

وكيفما كان ، فقد اختار هو أي المحقّق (قدس سره) الرجوع في التكميل إلى العدد أعني : مقدار الشهر وهو الثلاثون وإن كان ناقصاً وذلك نظراً إلى انكساره فيتعذّر اعتبار الهلال فيه ، فيرجع إلى العدد. فلو صام عشرة أيّام من آخر رجب وتمام شعبان أكمل رجب في شوّال بعشرين يوماً وإن كان الشهر ناقصاً.

واختار صاحب الجواهر (قدس سره) القول الآخر ، وهو إتمام ما فات من الأوّل ، فيكفي في الفرض المزبور صيام تسعة وعشرين يوماً مع نقصان الشهر ، لأنّه أقرب إلى الشهر الحقيقي.

ثمّ حكى (قدس سره) قولاً ثالثاً ، وهو انكسار الشهرين بانكسار الأول ، لأنّ الثاني لا يدخل حتّى يكمل الأوّل ، فيتمّ من الثاني الذي يليه ثلاثين يوماً أو مقدار ما فات منه ويتمّ الثاني من الذي يليه كذلك (١). فيرد التلفيق على كلّ من الشهرين.

وتظهر الثمرة بين الأقوال الثلاثة فيما لو صام من آخر رجب يوماً وهو ناقص ثمّ أتبعه بشعبان وهو مثله في النقص.

فعلى قول المحقّق : يقضي تسعة وعشرين يوماً من شوّال ، لأنّ العبرة عنده بالعدد وهو ثلاثون.

وعلى قول صاحب الجواهر : يقضي ثمانية وعشرين يوماً ، لأنّ العبرة بما فات من رجب وليس إلّا ذلك.

__________________

(١) الجواهر ٣٣ : ٢٧٩.

٣٦٢

.................................................................................................

______________________________________________________

وعلى القول الثالث : يبطل التتابع ويجب استئناف الكلّ ، لأنّ مجموع ما صامه ثلاثون يوماً وهو نصف الشهرين ، واللازم في حصول التتابع الزيادة على النصف ولو بيوم ، ولم تحصل.

والصحيح ما عرفت من لزوم كون الشهرين هلاليّين ، لكون الشهر حقيقة فيه كما اعترف به في الجواهر على ما مرّ فلا وجه لرفع اليد عن أصالة الحقيقة من غير قرينة.

وعلى تقدير القول بالانكسار والتلفيق فلا مناص من اختيار القول الأخير أعني : ورود الكسر على الشهرين معاً إذ لا معنى للشروع في الشهر الثاني إلّا بعد استكمال الشهر الأوّل ، فما صامه من شعبان إنّما هو مكمّل لما صام من رجب ، إمّا مكمّل الثلاثين أعني : العدد أو مكمّل لمقدار ما فات منه ، على الخلاف المتقدّم بين المحقّق وصاحب الجواهر ، فلا يمكن عدّ شعبان شهراً بحياله ، بل مكمّل كما عرفت. ونتيجته ورود الكسر على الشهرين بطبيعة الحال ، المستلزم لاستئناف التتابع في الفرض المزبور.

نعم ، لو أمكن احتساب الزائد على الشهر قبل تحقّقه بأن يكون صيام شعبان ويوم من رجب مصداقاً لصيام شهر وزيادة لم يرد الكسر حينئذٍ على الشهر الثاني ، ولكنّه لا وجه له وإن كان ذلك هو ظاهر عبارة الجواهر ، بل صريح الوسائل ، حيث أخذه في عنوان الباب في كتابي الصوم والكفّارات ، فقال : باب أنّ من وجب عليه صوم شهرين متتابعين لم يجز له الشروع في شعبان إلّا أن يصوم قبله ولو يوماً (١) ، غير أنّه (قدس سره) في كتاب الكفّارات

__________________

(١) الوسائل ٢٢ : ٣٦٤ / أبواب الكفارات ب ٤ وج ١٠ : ٣٧٥ / أبواب بقية الصوم الواجب ب ٤.

٣٦٣

.................................................................................................

______________________________________________________

لم يأت برواية تدلّ على الاستثناء المأخوذ في العنوان.

نعم ، في كتاب الصوم ذكر صحيحة منصور التي استدلّ بها في الجواهر أيضاً عن أبي عبد الله (عليه السلام) : أنه قال في رجل صام في ظهار شعبان ثمّ أدركه شهر رمضان «قال : يصوم شهر رمضان ويستأنف الصوم ، فإن هو صام في الظهار فزاد في النصف يوماً قضى بقيّته» (١).

ولكنّها كما ترى قاصرة الدلالة على ما ذكراه من كفاية صيام يوم قبل شعبان زائداً عليه ، لوضوح أنّ قوله (عليه السلام) : «فزاد» ظاهرٌ بمقتضى فاء التفريع في كون الزائد حاصلاً بعد صيام النصف بأن يصوم النصف أوّلاً وهو الشهر ثمّ يزيد عليه بيوم ، وعليه فلا أثر لصيام يوم من رجب ، لأنّ الحاصل من ذي قبل لا يكاد يتّصف بعنوان الزيادة على شعبان بوجه.

وأصرح منها صحيحة أبي أيّوب ، قال (عليه السلام) فيها : «ولا بأس إن صام شهراً ثمّ صام من الشهر الذي يليه أيّاماً ثمّ عرضت علّة أن يقطعه يقضي بعد تمام الشهرين» (٢).

فإنّها تنادي بلزوم كون الزائد من الشهر الذي يليه ، فلا اعتبار بما صام من الشهر السابق بتاتاً. ونتيجة ذلك ورود الكسر على الشهر الثاني أيضاً كما ذكرناه.

وعلى الجملة : لم تحرَّر المسألة في كلماتهم بحيث تعنوَن ويُنقل الخلاف ، غير أنّه يظهر من المتأخّرين كالمحقّق وصاحب الجواهر (٣) وغيرهما المفروغيّة

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ٣٧٥ / أبواب الكفارات ب ٤ ح ١.

(٢) الوسائل ١٠ : ٣٧٣ / أبواب بقية الصوم الواجب ب ٣ ح ٨.

(٣) الشرائع ٣ : ٧٣ ، الجواهر ٣٣ : ٢٧٩ و٣٢ : ٢٤٩.

٣٦٤

السادس : أن يكون في المسجد الجامع (١) فلا يكفي في غير المسجد ولا في مسجد القبيلة والسوق ولو تعدد الجامع تخير بينها ولكن الأحوط مع الإمكان كونه في أحد المساجد الأربعة مسجد الحرام ومسجد النبيّ (صلّى الله عليه وآله) ومسجد الكوفة ومسجد البصرة.

______________________________________________________

عن إرادة الأعمّ ممّا بين الهلالين الذي هو المعنى الحقيقي ومن المقدار الذي هو معنى مجازي ولم يلتزموا بخصوص الثاني ، لبنائهم على الاجتزاء بصيام الهلالين وإن كانا ناقصين كما عرفت ، وهذا يحتاج إلى قرينة واضحة ، فإنّ الاستعمال في المعنى الأعمّ من الحقيقي والمجازي من أبعد المجازات لا يصار إليه من غير قرينة قاطعة ، وحيث أنّها منفيّة لدينا فلا مناص من الجمود على المعنى الحقيقي والأخذ بظاهر لفظ الشهر ، أعني : ما بين الهلالين حسبما عرفت بما لا مزيد عليه.

(١) لا إشكال كما لا خلاف في لزوم إيقاع الاعتكاف في المسجد ، وإنّما الكلام في تشخيصه وتعيينه :

فعن جماعة منهم : المفيد والمحقّق في المعتبر والشرائع والشهيدين (١) وكثير من المتأخّرين ـ : أنّه كلّ مسجد جامع ، فلا ينعقد في مسجد القبيلة أو السوق.

وعن جماعة آخرين منهم الشيخ (٢) ـ : أنّه لا يصحّ إلّا في المساجد الأربعة : المسجد الحرام ، ومسجد النبيّ (صلّى الله عليه وآله) ، ومسجد الكوفة ، ومسجد

__________________

(١) المقنعة : ٣٦٣ ، المعتبر ٢ : ٧٣٢ ، الشرائع ١ : ٢٤٥ ، الدروس ١ : ٢٩٨ ، المسالك ٢ : ٩٩.

(٢) الخلاف ٢ : ٢٣٣.

٣٦٥

.................................................................................................

______________________________________________________

البصرة. بل في محكيّ المنتهي : أنّه المشهور (١) ، بل عن جماعة دعوى الإجماع عليه.

وربّما يقال بصحّة الاعتكاف في كلّ مسجد تنعقد به الجماعة الصحيحة.

ويدلّ على القول الأوّل جملة من النصوص التي منها :

صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) «قال : لا اعتكاف إلّا بصوم في مسجد الجامع» (٢).

وصحيحة داود بن سرحان : «إنّ عليّاً (عليه السلام) كان يقول : لا أرى الاعتكاف إلّا في المسجد الحرام ومسجد الرسول أو مسجد جامع» (٣).

فإنّها وإن كانت ضعيفة بطريق الكليني والشيخ من أجل سهل بن زياد ، ولكنّها صحيحة بطريق الصدوق عن البزنطي عن داود بن سرحان.

ومنها : معتبرة علي بن عمران كما في التهذيب عن أبي عبد الله (عليه السلام) عن أبيه (عليه السلام) : «قال : المعتكف يعتكف في المسجد الجامع» (٤).

وهي معتبرة كما وصفناها ، لصحّة طريق الشيخ إلى علي بن الحسن بن فضّال ، من أجل صحّة طريق النجاشي كما مرّ غير مرّة.

وعلي بن عمران ثقة ، غير أنّ الرواية رواها الشيخ (قدس سره) في الاستبصار بعين السند والمتن إلّا أنّه أبدل علي بن عمران ب : علي بن غراب ،

__________________

(١) المنتهي ٢ : ٦٣٢.

(٢) الوسائل ١٠ : ٥٣٨ / أبواب الاعتكاف ب ٣ ح ١.

(٣) الوسائل ١٠ : ٥٤١ / أبواب الاعتكاف ب ٣ ح ١٠ ، الكافي ٤ : ١٧٦ / ٢ ، الفقيه ٢ : ١٢٠ / ٥٢١ ، التهذيب ٤ : ٢٩٠ / ٨٨٤ ، الإستبصار ٢ : ١٢٦ / ٤١١.

(٤) الوسائل ١٠ : ٥٣٩ / أبواب الاعتكاف ب ٣ ح ٤ ، التهذيب ٤ : ٢٩٠ / ٨٨٠ ، الاستبصار ٢ : ١٢٧ / ٤١٣.

٣٦٦

.................................................................................................

______________________________________________________

وهذا لم يوثّق. ولأجله لا يمكن الاعتماد على هذه الرواية من جهة تردّد الراوي بين الثقة وغيره.

ولا يحتمل تعدّد الرواية بعد اتّحاد السند والمتن ما عدا الراوي الأخير الذي اختلفت فيه نسخة التهذيب عن الاستبصار ، وكأنّ صاحب الوسائل استفاد أنّها روايتان ، ولذا ذكر الرواية عن الرجلين ، وقد عرفت أنّها رواية واحدة ، فلولا روايتها في الاستبصار لصحّ بها الاستدلال ، وأمّا بملاحظتها فلا تصلح إلّا للتأييد ، نظراً إلى الترديد المزبور.

ويستدلّ للقول الثاني بروايتين :

إحداهما : مرسلة المفيد في المقنعة ، قال : روى أنّه لا يكون الاعتكاف إلّا في مسجد جمع فيه نبي أو وصي نبي ، قال : وهي أربعة مساجد : المسجد الحرام جمع فيه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، ومسجد المدينة جمع فيه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام) ، ومسجد الكوفة ومسجد البصرة جمع فيهما أمير المؤمنين (عليه السلام) (١).

وضعفها بالإرسال ظاهر ، ولا سيّما مع وهنها بأنّ مرسلها وهو المفيد لم يعمل بها ، إذ المحكي عنه هو القول الأوّل كما عرفت.

الثانية وهي العمدة ـ : صحيحة عمر بن يزيد ، قال : قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) : ما تقول في الاعتكاف ببغداد في بعض مساجدها؟ «فقال : لا اعتكاف إلّا في مسجد جماعة قد صلّى فيه إمام عدل صلاة جماعة ، ولا بأس أن يعتكف في مسجد الكوفة والبصرة ومسجد المدينة ومسجد مكّة» (٢).

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ٥٤٢ / أبواب الاعتكاف ب ٣ ح ١٢ ، المقنعة : ٣٦٣.

(٢) الوسائل ١ : ٥٤٠ / أبواب الاعتكاف ب ٣ ح ٨ ، الكافي ٤ : ١٧٦ / ١ ، الفقيه ٢ : ١٢٠ / ٥٢٠ ، التهذيب ٤ : ٢٩٠ / ٨٨٣ ، الاستبصار ٢ : ١٢٦ / ٤١٠.

٣٦٧

.................................................................................................

______________________________________________________

وقد رويت بطرق ثلاثة :

أحدها : طريق الكليني ، وهو ضعيف بسهل بن زياد.

الثاني : طريق الشيخ ، والظاهر أنّه معتبر ، لأنّ المراد بمحمّد بن علي الواقع في السند هو محمّد بن علي بن محبوب بقرينة روايته عن الحسن ابن محبوب.

ومع الغضّ عن ذلك فالطريق الثالث وهو طريق الصدوق صحيح قطعاً ، لصحّة طريقه إلى الحسن بن محبوب بلا إشكال.

فلا ينبغي التأمّل في صحّة السند ولا مجال للخدش فيه بوجه.

إنّما الكلام في الدلالة ، وهي مبنيّة على أنّ المراد بالإمام العدل المذكور فيها من هو إمامٌ على جميع المسلمين من الموجودين والمعدومين أعني : الإمام المعصوم (عليه السلام) ليكون الحكم منحصراً في المساجد الأربعة المذكورة في الصحيحة التي قد صلّى المعصوم (عليه السلام) فيها. ولكنها غير ظاهرة في ذلك ، بل الإمام العدل كالشاهد العدل لا ينسبق إلى الذهن منه عند الإطلاق إلّا من يصحّ الاقتداء به في الجماعة في قبال من لا يصحّ كحكّام الجور والأئمّة الفسقة المتصدّين لإقامة الجماعات في بغداد آن ذاك.

ويؤكّده أنّه لو أُريد به المعصوم (عليه السلام) لزم ارتكاب التقييد في صحيحتي الحلبي وداود بن سرحان المتقدّمتين ، بحمل المسجد الجامع على المسجد الذي صلّى فيه المعصوم (عليه السلام) ، وهو حملٌ للمطلق على الفرد النادر ، ولا سيّما في صحيحة داود حيث ذكر فيها مسجد الحرام ومسجد الرسول ، فيراد بالمسجد الجامع المذكور فيها خصوص مسجد الكوفة ومسجد البصرة اللذين قد صلّى فيها الإمام المعصوم (عليه السلام).

وهو كما ترى ليس من الجمع العرفي في شي‌ء أبداً ، فلا مناص من أن يراد به إمام الجماعة كما عرفت.

٣٦٨

.................................................................................................

______________________________________________________

وعليه ، فتكون مقتضى الصناعة تقييد مطلقات المسجد الجامع بما قد صلّى فيه الإمام العادل ، فيكون مكان الاعتكاف مشروطاً بأمرين : أحدهما كونه مسجداً ، والثاني أن يكون قد صلّى فيه الإمام العادل. ولكن حيث إنّ هذا خرق للإجماع المركّب إذ لم يقل بهذا القول أحد فيما نعلم فلا مناص من حمل القيد على الأفضليّة والاستحباب.

وملخّص الكلام : أنّ نصوص المقام على طوائف :

فمنها : ما جعل الاعتبار فيها بالمسجد الجامع في قبال مسجد القبيلة أو السوق ، كصحيحتي الحلبي وداود بن سرحان وغيرهما ممّا مرّ.

ومنها : ما جعل الاعتبار فيها بالمساجد الأربعة كمرسلة المفيد وصحيحة عمر بن يزيد.

لكن الأُولى واضحة الضعف من غير جابر.

والثانية قاصرة الدلالة إلّا على اعتبار كون المسجد الجامع ممّا قد صلّى فيه الإمام العادل جماعة ، لا خصوص الإمام الحقيقي المنصوب من قبل الله تعالى لينحصر في المساجد الأربعة ، للزوم حمل المطلق على الفرد النادر حينئذٍ ، الذي هو بعيد في صحيحة الحلبي وأشدّ بعداً في صحيحة داود بن سرحان كما تقدّم ، إذ قد ذُكر فيها من المساجد اثنان ، فيلزم حمل الجامع فيها على الاثنين الآخرين ، وهو كما ترى. فمفادها التقييد بإقامة جماعة صحيحة من إمام عادل في قبال أئمّة الجور. وهذا ممّا لا قائل به ، فإن كان إجماع على خلافه كما لا يبعد فلا بدّ من حمل الرواية على الاستحباب ، أو ردّ علمها إلى أهله ، وإلّا فلا مناص من الأخذ بها وارتكاب التقييد حسبما عرفت.

ومنها : ما تضمّن التقييد بمسجد الجماعة ، كصحيحة عبد الله بن سنان : «لا يصلح العكوف في غيرها يعني : غير مكّة إلا أن يكون في مسجد رسول

٣٦٩

.................................................................................................

______________________________________________________

الله (صلّى الله عليه وآله) ، أو في مسجد من مساجد الجماعة» (١).

وصحيحة يحيى بن العلاء الرازي : «لا يكون الاعتكاف إلّا في مسجد جماعة» (٢).

وإنّما عبّرنا بالصحيحة نظراً إلى أن أبان بن عثمان من أصحاب الإجماع ، وإلّا ففي مذهبه كلام وإن كان ثقة بلا إشكال.

وصحيحة الحلبي : «لا يصلح الاعتكاف إلّا في المسجد الحرام ، أو مسجد الرسول (صلّى الله عليه وآله) ، أو مسجد الكوفة ، أو مسجد جماعة» (٣).

والظاهر أنّ الجماعة في هذه النصوص وصفٌ لنفس المسجد لا للصلاة المنعقدة فيه لتدلّ على اعتبار إقامة الجماعة ، فمفادها أن يكون المسجد مورداً لاجتماع الناس ومحلّاً لتجمّعهم ، إمّا لإقامة الجمعة أو لغيرها ، وهو معنى كون المسجد جامعاً في قبال مسجد السوق أو القبيلة. وعليه ، فيتّحد مفادها مع مفاد نصوص الطائفة الأُولى الدالّة على اعتبار كون المسجد جامعاً من صحيحتي الحلبي وداود بن سرحان وغيرهما.

وأمّا رواية أبي الصباح الكناني عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال : سُئل عن الاعتكاف في رمضان في العشر الأواخر «قال : إنّ علياً (عليه السلام) كان يقول : لا أرى الاعتكاف إلّا في المسجد الحرام ، أو مسجد الرسول (صلّى الله عليه وآله) ، أو في مسجد جامع (جماعة)» (٤).

فليست هي مجمعاً للأمرين لتكون في قبال الطوائف المتقدّمة كما توهّم ،

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ٥٣٩ / أبواب الاعتكاف ب ٣ ح ٣ ، ٦.

(٢) الوسائل ١٠ : ٥٣٩ / أبواب الاعتكاف ب ٣ ح ٣ ، ٦.

(٣) الوسائل ١٠ : ٥٤٠ / أبواب الاعتكاف ب ٣ ح ٧.

(٤) الوسائل ١٠ : ٥٣٩ / أبواب الاعتكاف ب ٣ ح ٥ ، التهذيب ٤ : ٢٩١ / ٨٨٥.

٣٧٠

.................................................................................................

______________________________________________________

فإنّها مذكورة في التهذيب المطبوع الذي بأيدينا بلفظ «جامع» فقط من غير إضافة جماعة في متن الرواية ، وإنّما ذكر ذلك بعنوان النسخة كما في الوسائل الطبعة الحديثة فالصادر عن المعصوم (عليه السلام) ليس هو اللفظين معاً ، بل إمّا «الجامع» فتلحق بالطائفة الأُولى ، أو «الجماعة» فتلحق بالأخيرة التي هي أيضاً ترجع إلى الأُولى كما عرفت. فلا يكون مفادها شيئاً آخر وراء النصوص المتقدّمة.

على أنّها ضعيفة السند من أجل تردّد محمّد بن علي الراوي عن علي بن النعمان بين ابن محبوب الثقة وبين الكوفي الصيرفي الهمداني الملقّب بأبي سمينة الضعيف جدّاً كما تقدّم.

بقي الكلام فيما رواه العلّامة في المنتهي نقلاً عن جامع أحمد بن محمّد بن أبي نصر ، عن داود بن الحصين ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) : «قال : لا اعتكاف إلّا بصوم ، وفي المصر الذي أنت فيه» (١).

فإنّه قد يقال بظهورها في اعتبار كون المسجد مسجد البلد.

ولكنّها مخدوشة سنداً ودلالةً :

أمّا الأول : فلجهالة طريق العلّامة إلى جامع البزنطي ، فهي لا محالة في حكم المرسل.

وأمّا الثاني : فلأنّها لو كانت بلسان النهي بأن كان التعبير هكذا : لا يعتكف ... إلخ ، أمكن أن يراد بها النهي عن الاعتكاف في السفر ، وأنّ اللازم عليه أن يقيم فيعتكف في المصر الذي هو فيه ، ولكنّها بلسان النفي الظاهر في نفي الطبيعة ، وأنّ طبيعي الاعتكاف لا يتحقّق إلّا في المصر الذي هو فيه. وهذا كما ترى ـ

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ٥٤١ / أبواب الاعتكاف ب ٣ ح ١١ ، المنتهي ٢ : ٦٣٣.

٣٧١

السابع : إذن السيِّد بالنسبة إلى مملوكه (١) ، سواء كان قِنّاً أو مدبّراً أو أُمّ ولد أو مكاتباً لم يتحرّر منه شي‌ء ولم يكن اعتكافه اكتساباً ، وأمّا إذا كان اكتساباً فلا مانع منه ، كما أنّه إذا كان مبعّضاً فيجوز منه في نوبته إذا هاياه مولاه من دون إذن ، بل مع المنع منه أيضاً.

______________________________________________________

غير قابل للتصديق حتّى لو كان المراد خصوص مسجد الكوفة بقرينة كون الراوي كوفيّاً أسديّاً كما قيل ، ضرورة جواز إيقاعه في سائر المساجد أيضاً ، ولا أقلّ من مسجدي الحرمين الشريفين ، فلا موقع للحصر بوجه.

فالمتحصّل من النصوص بعد ضمّ بعضها إلى بعض : جواز الاعتكاف في كلّ مسجد جامع ، وهو موجود في غالب البلدان ، ولا سيّما بغداد البلدة العظيمة آن ذاك ، التي كانت مقرّاً للخلافة ردحاً من الزمن ، سواء أصلّي فيها إمام عادل أم لا ، بناءً على قيام الإجماع على عدم اعتبار هذا الشرط كما مرّ ، وإن كان الأفضل بل الأحوط كونه في أحد المساجد الأربعة.

(١) ظاهر كلامه (قدس سره) حيث جعل الإذن من السيّد وكذا الزوج والوالد والمستأجر شرطاً برأسه : أنّ هذا يعتبر بنفسه في الاعتكاف من حيث هو اعتكاف لا من حيث اشتماله على الصوم ليكون ذلك من شؤون اشتراطه في صحّة الصوم المندوب ، فإنّ ذلك بحث آخر أجنبي عن محطّ نظره (قدس سره) في المقام كما لا يخفى.

فلو فرضنا أنّ صوم المعتكف كان وجوبيّاً غير مشترط بالإذن المزبور قطعاً ، أو بنينا على عدم اعتبار الإذن في صوم التطوّع كما تقدّم (١) أو فرضنا

__________________

(١) في ص ٣٢٥.

٣٧٢

وكذا يعتبر إذن المستأجر بالنسبة إلى أجيره الخاصّ (١).

______________________________________________________

حصول الإذن بالنسبة إلى الصوم دون الاعتكاف ، جرى هذا البحث أيضاً وأنّه هل يشترط في صحّة الاعتكاف الإذن من هؤلاء أو لا؟

فنقول : لا ينبغي الشك في اعتبار إذن السيّد بالنسبة إلى مملوكه الذي هو عبد محض ، سواء أكان قِنّاً أم مدبّراً أم أُمّ ولد أم مكاتباً لم يتحرّر منه شي‌ء إمّا لعدم أدائه شيئاً من مال الكتابة أو لكون الكتابة مشروطة ، وذلك لوضوح أنّ العبد بجميع منافعه مملوك لمولاه ، فتصرّفه في نفسه من حركاته وسكناته التي منها اللبث في المسجد كالتوقّف في مكان آخر من سوق أو دار شخص كلّ ذلك منوط بإذن المالك ، وإلّا فهو تصرّف في ملك الغير بغير إذنه ، الذي لا ريب في عدم جوازه كما هو ظاهر.

نعم ، في العبد المكاتب إذا اعتكف بعنوان الاكتساب كما لو صار أجيراً لأحد لم يحتج حينئذٍ إلى الإذن ، لأنّ ذلك هو مقتضى عقد الكتابة ، فيختصّ الافتقار إليه بما إذا لم يكن اعتكافه اكتساباً.

هذا كلّه في العبد المحض.

وأمّا المبعّض كالمكاتب الذي تحرّر منه شي‌ء من نصف أو ثلث ونحوهما ، وقد هاياه مولاه ، أي قاسمه فجعل له يوماً أو أُسبوعاً أو شهراً ونحو ذلك ، وللعبد كذلك ففي اعتكافه في نوبة مولاه هو الكلام المتقدّم ، وأمّا في نوبته فيجوز من غير إذن ، بل حتّى مع المنع عنه ، إذ لا حقّ له في المنع بعد فرض حصول المهاياة ولزومها كما هو واضح.

(١) الظاهر أنّ مراده (قدس سره) بالأجير الخاصّ من كان جميع منافعه ومنها : منفعة الاعتكاف مختصّاً بالمستأجر ومملوكاً له ، كما لو اتّخذ خادماً له

٣٧٣

.................................................................................................

______________________________________________________

مدّة معينة من شهر أو سنة ، ولا ريب في اعتبار الإذن حينئذٍ في صحّة الاعتكاف ، لعين الوجه المتقدّم في العبد ، إذ لا فرق بينهما إلّا أنّ العبد مملوك لمولاه عيناً ومنفعةً وهذا مملوك للمستأجر منفعة فقط ، ومن المعلوم أنّ مناط الافتقار إلى الإذن إنّما هو مملوكيّة المنفعة المشتركة بينهما.

وأمّا في غير الأجير الخاصّ بالمعنى المزبور ، كمن كان أجيراً لعملٍ معيّن كالسفر في وقت خاصّ فخالف واشتغل بالاعتكاف ، فالظاهر هو الصحّة وإن كان آثماً في المخالفة ، لوضوح أنّ الأمر بالشي‌ء لا يقتضي النهي عن ضدّه ، فيمكن حينئذٍ تصحيح العبادة بالخطاب الترتّبي بأن يؤمَر أوّلاً بالوفاء بعقد الإيجار ، ثمّ على تقدير العصيان يؤمَر بالاعتكاف من غير حاجة إلى الإذن ، إلّا في رفع الإثم لا في صحّة الاعتكاف.

نعم ، قد يتوهّم عدم جريان الترتّب في مثل المقام ، نظراً إلى أنّ مورده ما إذا كان المتزاحمان من الضدّين اللّذين لهما ثالث كي يمكن الأمر بأحدهما على تقدير عصيان الآخر مثل : الصلاة والإزالة ، أمّا ما ليس لهما ثالث كالحركة والسكون فلا يجري فيه الترتّب بوجه ، إذ لا معنى للأمر بالسكون على تقدير عدم الحركة ، فإنّه من تحصيل الحاصل ، لرجوعه إلى قولك : إذا سكنت فأسكن.

ومقامنا من هذا القبيل ، إذ الأجير مأمور بالخروج عن المسجد ليفي بعقد الإجارة من سفرٍ ونحوه ، وهو مضادّ للمكث الذي هو حقيقة الاعتكاف من غير ثالث ، إذ لا واسطة بين الخروج والمكث ، فمرجع الخطاب الترتّبي في المقام إلى قولك إذا لم تخرج أي مكثت في المسجد فأمكث ، ولا محصّل له.

ولكنّه مدفوع من وجوه :

أمّا أوّلاً : فلأنّ المأمور به إنّما هو الوفاء بالعقد الذي هو ضدّ للاعتكاف ولهما ثالث دون الخروج. نعم ، هو مقدّمة للوفاء ، ولا نقول بوجوب المقدّمة إلّا

٣٧٤

.................................................................................................

______________________________________________________

عقلاً لا شرعاً كما هو محرّر في الأُصول (١).

وثانياً : سلّمنا الوجوب الغيري الشرعي ، لكن الواجب هو خصوص المقدّمة الموصلة ، لا الطبيعي على سريانه وإطلاقه كما حقّقناه في محلّه (٢). وعليه ، فالواجب إنّما هو الخروج المتعقّب بالوصول إلى ذي المقدّمة من سفرٍ ونحوه الذي هو مورد للعقد ، ومن البديهي وجود الواسطة بين هذا الخروج وبين الاعتكاف ، وهو الخروج لغايةٍ أُخرى غير المتعقّب بذي المقدّمة.

وثالثاً : سلّمنا وجوب المقدّمة على إطلاقها فكان الخروج مطلقاً واجباً بالوجوب الغيري ، ولكنّه إنّما يكون مضادّاً للاعتكاف من غير ثالث إذا كان الاعتكاف متقوّماً بطبيعي المكث ، وليس كذلك ، بل هو متقوّم بالمكث ثلاثة أيّام ، ومن المعلوم وجود الواسطة بين المكث ثلاثاً وبين الخروج وهو المكث أقلّ من الثلاثة أو أكثر فيقال له : اخرج وإلّا فأمكث ثلاثاً ، وهذا نظير أن يقال : اسكن وإلّا تحرّك نحو الشرق أو إلى الكوفة أو حركة سريعة ، فإنّ الواسطة موجودة حينئذٍ ، وهي الحركة نحو الغرب أو كربلاء أو البطيئة ، فالتقييد بقيد يخرج الضدّين عمّا لا ثالث لهما إلى ما لهما ثالث ، وهو متحقّق في المقام كما عرفت.

ورابعاً : مع الغضّ عن كلّ ذلك فلا ريب أنّ الاعتكاف عبادي ، ومن المعلوم أنّ بين الخروج وبين المكث القربي واسطة ، وهو المكث لا لله ، فهما من الضدّين اللّذين لهما ثالث بالضرورة :

وعلى الجملة : فلا ينبغي التأمّل في جريان الترتّب في المقام وإمكان تصحيح الاعتكاف بذلك.

__________________

(١) محاضرات في أُصول الفقه ٢ : ٢٩٦ و٤٣٦ و٤٣٨.

(٢) محاضرات في أُصول الفقه ٢ : ٤١٤ ٤١٥.

٣٧٥

وإذن الزوج بالنسبة إلى الزوجة إذا كان منافياً لحقّه (١).

______________________________________________________

هذا كلّه فيما إذا كان العمل المستأجر عليه منافياً للاعتكاف كما في السفر ونحوه.

وأمّا مع عدم المنافاة ، كما لو استؤجر على عمارة المسجد أو كنسه ثلاثة أيّام أو حفر بئر أو خياطة ثوب أو حياكة فرش ونحو ذلك ممّا يمكن إيقاعه في المسجد ، فلا إشكال في الصحّة من غير حاجة إلى الإذن ، بل هو خارج عن محلّ الكلام كما هو ظاهر جدّاً.

(١) فيبطل اعتكافها حينئذٍ بدون إذنه ، لا لوجوب الخروج عن المسجد الذي هو منافٍ للأمر بالاعتكاف المضادّ له ، لما عرفت آنفاً من إمكان تصحيح الأمر ولو بنحو الترتّب ، بل لأجل الروايات الكثيرة الدالّة على عدم جواز خروجها عن البيت بدون إذن الزوج فيما إذا كان منافياً لحقّه دون غير المنافي كالخروج اليسير ولا سيّما نهاراً لملاقاة أبيها أو أُمّها أو لزيارة الحرم الشريف ونحو ذلك فإنّ المستفاد من تلك الأدلّة بمقتضى الفهم العرفي أنّ المحرّم ليس هو الخروج بالمعنى المصدري المتحقّق آناً ما أعني : فتح الباب ووضع القدم خارج الدار بل الحرام هو الكون خارج البيت والبقاء في غير هذا المكان ، فالمنهيّ عنه هو المكث خارج الدار عند كونه منافياً لحقّ الزوج الذي هو القدر المتيقّن من الأدلّة ، فإذا كان المكث المزبور حراماً فكيف يمكن صرفه في الاعتكاف؟! فإنّ الحرام لا يكون مصداقاً للواجب ، والمبغوض لا يكاد يكون مقرّباً فلا يقع عبادة.

وأمّا إذا لم يستلزم الاعتكاف الخروج من البيت بغير الإذن ، كما لو كان الزوج مقيماً معها في المسجد لكونه مسكناً لهما مثلاً أو أذن في الخروج إلى

٣٧٦

وإذن الوالد أو الوالدة بالنسبة إلى ولدهما إذا كان مستلزماً لايذائهما (١) ،

______________________________________________________

المسجد ، أو المكث خارج البيت ، ولكن نهاها عن عنوان الاعتكاف ، فلا دليل على البطلان حينئذٍ بوجه ، لعدم الدليل على وجوب إطاعته في غير ما يرجع إلى حقّه ، فالنهي حينئذٍ غير قادح فضلاً عن اشتراط الاستئذان.

نعم ، لو كان صومها تطوّعاً واعتبرنا في صحّة صوم التطوّع إذن الزوج بطل الاعتكاف ببطلان الصوم المعتبر فيه ، ولكن هذا بحث آخر غير مرتبط بالاعتكاف من حيث هو اعتكاف كما مرّت الإشارة إليه (١).

ثمّ إنّ هذا كلّه في اليومين الأولين من الاعتكاف. وأمّا اليوم الثالث المحكوم بالوجوب فلا أثر لنهيه قطعاً ، إذ لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق (٢).

(١) أمّا إذا لم يستلزم الإيذاء ، كما لو لم يكن عن اطّلاع منهما بأن كانا مثلاً في بلد والولد يعتكف في بلد آخر ، فلا اشكال فيه. وأمّا مع الإيذاء فهل يكون باطلاً؟

لا ريب في عدم جواز إيذاء الوالدين فيما يرجع إليهما ويكون من شؤونهما كالسبّ والهتك والتعدّي ونحو ذلك ، بل أنّ الإيذاء بهذا المعنى حرام بالإضافة إلى كلّ مؤمن ، غايته أنّه فيهما آكد والعقوبة أغلظ وأشدّ.

وأمّا الإيذاء فيما يرجع إلى الشخص نفسه بأن يعمل فيما يعود إلى نفسه ويتصرّف في شأن من شؤونه ، ولكن يترتّب عليه الإيذاء ، فلا ريب أيضاً في عدم حرمة هذا الإيذاء بالإضافة إلى غير الوالدين ، كمن يفتح حانوتاً في محلّ

__________________

(١) في ص ٣٢٠ ٣٢٥.

(٢) الوسائل ١١ : ١٥٧ / أبواب وجوب الحج ب ٥٩ ح ٧.

٣٧٧

وأمّا مع عدم المنافاة وعدم الإيذاء فلا يعتبر إذنهم وإن كان أحوط (١) خصوصاً بالنسبة إلى الزوج والولد.

______________________________________________________

يتأذّى منه رقيبه لمزاحمته له في جلب المشتري بطبيعة الحال ، أو من يعمر داراً ويشيّد قصراً يتأذّى بذلك جاره لحسد أو رقابة ونحو ذلك من غير أن يكون من قصده الإيذاء وإنّما هو قاصد للتجارة أو العمارة ليس إلّا ، فإنّ هذا جائز بلا إشكال وإن ترتّب عليه الإيذاء المزبور.

وهل الحال كذلك بالإضافة إلى الوالدين أيضاً ، كما لو أراد الولد أن يتزوّج بامرأة ولكن الامّ تتأذّى لعدم تلاؤم أخلاقها معها خصوصاً أو عموماً ، أو أنّه أراد أن يتصدّى لتحصيل العلوم الدينيّة والأب يتأذّى لرغبته في تحصيل العلوم الحديثة كما يتّفق ذلك في هذه الأزمنة كثيراً ، فهل يحرم مثل هذا الإيذاء؟

الظاهر العدم كما في غير الوالدين حسبما عرفت ، لعدم الدليل على ذلك بوجه ، وإنّما الواجب المعاشرة الحسنة والمصاحبة بالمعروف على ما نطقت به الآية الكريمة وغيرها ، مثل : أن لا يجادل معهما في القول ولا يقول لهما : أُفّ ، وأمّا ارتكاب عمل عائد إلى شأنٍ من شؤون نفسه وإن ترتّب عليه إيذاؤهما من غير أن يكون ذلك من قصده فلم تثبت حرمته بدليل. إذن لا مانع من الاعتكاف وإن ترتّب عليه إيذاؤهما بالمخالفة للأمر والنهي الصادرين من أحدهما وإن كان ذلك بداعي العطف والشفقة.

نعم ، تستحبّ إطاعتهما من باب البرّ إليهما والإحسان. وحينئذٍ تقع المزاحمة

__________________

(١) الظاهر أنّ الاحتياط من جهة اعتبار الصوم في الاعتكاف ، وعليه فلا يترك الاحتياط فيما إذا كان صوم الزوجة تطوّعاً.

٣٧٨

الثامن : استدامة اللبث في المسجد (١) ، فلو خرج عمداً اختياراً لغير الأسباب المبيحة بطل من غير فرق بين العالم بالحكم والجاهل به (٢).

______________________________________________________

بين الاستحباب الثابت بهذا العنوان وبين استحباب الاعتكاف في حدّ نفسه ، فيقدّم الأهمّ منهما والأرجح.

وقد عرفت أنّ الكلام في حكم الاعتكاف من حيث هو ، وأمّا من حيث تضمّنه للصوم المندوب وتوقّفه على الإذن فهو مطلب آخر أجنبي عمّا نحن بصدده.

(١) فلا يكتفى بطبيعي اللبث كيفما كان ، بل لا بدّ من استمراره واستدامته ثلاثة أيّام بلا خلاف فيه ولا إشكال ، وقد دلّت عليه جملة من النصوص التي منها صحيحتان لداود بن سرحان وحسنة كالصحيحة لعبد الله بن سنان (١) ، المتضمّنة للمنع عن الخروج عن المسجد اختياراً ، الظاهر في المنع الوضعي أعني : الإرشاد إلى الفساد لا مجرّد التكليف كما لا يخفى.

وأظهرها الصحيحة الثانية لداود بن سرحان ، حيث إنّ السؤال فيها عن حقيقة الاعتكاف وما ذا يفرضه المعتكف على نفسه لدى النيّة ، فبيّن (عليه السلام) أنّه لا يخرج من المسجد إلّا لحاجة ، فيظهر من ذلك دخله في ماهيّة هذه العبادة.

(٢) أمّا الجاهل المقصّر فلا إشكال في إلحاقه بالعالم ، لأنّه عامد بعد فرض تقصيره في التعلّم.

وأمّا القاصر وهو الذي يكون جهله عن عذر ، كمن أخطأ في اجتهاده

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ٥٤٩ ٥٥٠ / أبواب الاعتكاف ب ٧ ح ١ ، ٣ ، ٥.

٣٧٩

.................................................................................................

______________________________________________________

فبنى مثلاً على أنّ الخروج اليسير من المسجد ولو لا لحاجة غير قادح في الصحّة ، فخرج ورجع ثمّ تبدّل رأيه وانكشف خطأه فهل يكون هذا أيضاً ملحقاً بالعالم في الحكم بالبطلان؟ الظاهر : نعم.

والوجه فيه : ما ذكرناه في الأُصول عند التكلّم حول حديث الرفع (١) ، وملخّصه : إنّ الحديث بفقراته التسع يوجب التقييد في الأدلّة الأوليّة ، فالجزئيّة أو الشرطيّة أو المانعيّة مرفوعة لدى الجهل بها ، وحيث إنّ هذه الأحكام ممّا لا تنالها يد الجعل التشريعي استقلالاً كما حُقّق في محلّه ، وإنّما هي مجعولة بتبع جعل منشأ انتزاعها وهو تعلّق الأمر بالمركّب من هذا الشي‌ء ، أو المقيّد به أو المقيّد بعدمه ، فلا جرم كان رفعها برفع مناشئ انتزاعها ، فيقال لدى الشكّ في جزئيّة السورة مثلاً : إنّ شمول الأمر المتعلّق بالمركّب لهذا الجزء مشكوك ، فهو مرفوع ، فطبعاً لا تكون جزء من الصلاة ، وحيث إنّ أصل الأمر بالصلاة معلوم لدينا بالوجدان فلا محالة يكون الواجب هو الباقي من الأجزاء ، فيحكم بصحّتها لأجل العلم المقرون بالأصل المزبور.

ولكن هذا الرفع مخصوص بحال الجهل ومراعى ببقاء هذه الحالة ، لأنّ الحكومة حكومة ظاهريّة ، وإلّا فالواقع باقٍ على حاله ، ولا تغيّر ولا تبدّل فيه بتاتاً ، ومن هنا يحسن الاحتياط في ظرف الجهل ، وإلّا فمع الانقلاب لا معنى للاحتياط كما لا يخفى.

وعليه ، فمع انكشاف الخلاف وارتفاع الجهل لا مناص من الإعادة ، إذ الاجتزاء بالناقص عن الكامل يحتاج إلى الدليل ، ولا دليل إلّا في خصوص الصلاة فيما عدا الأركان بمقتضى حديث : «لا تعاد» (٢) ، وحيث لم يرد مثل هذا

__________________

(١) مصباح الأُصول ٢ : ٢٥٧.

(٢) الوسائل ٤ : ٣١٢ / أبواب القبلة ب ٩ ح ١.

٣٨٠