موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ مرتضى البروجردي

.................................................................................................

______________________________________________________

يوم العيد وأيّام التشريق.

وعليه ، فلا مناص من رفع اليد عن إطلاق ما دلّ على كفاية صوم شهر كامل وشي‌ء من الشهر الآخر في حصول التتابع ، والالتزام بلزوم صوم ذي القعدة وذي الحجّة بتمامها أو صوم ذي الحجّة ومحرّم كذلك في خصوص القتل في أشهر الحرم ، تحفّظاً على ما دلّت عليه صحاح زرارة ، ولم نر في كلمات الفقهاء من تنبّه لذلك أيضاً.

المورد الثاني : ما ذكره في المتن وهو صوم ثلاثة أيّام بدل هدي التمتّع.

فإنّه لو صام الثلاثة في اليوم السابع والثامن والتاسع من ذي الحجّة فلا إشكال فيه ، لحصول المتابعة ، بل لا يبعد جواز الصوم من أوّل ذي الحجّة ، لدلالة النصوص المعتبرة عليه.

وأمّا لو لم يصم كذلك أو ورد ليلة التروية ولم يتمكّن من الهدي فالمعروف أنّه يجوز الصوم يوم التروية ويوم عرفة ويؤخّر الثالث إلى ما بعد العيد ، أو بعد أيّام التشريق لمن كان بمنى ، لحرمة الصوم له في هذه الأيّام كيوم العيد.

وهل يجب الاتّصال حينئذٍ ، أو أنّه يجوز الفصل إلى نهاية ذي الحجّة؟

كلام آخر خارج عن محلّ البحث وإن أشار إليه في المتن بقوله : بلا فصل.

والذي يهمّنا فعلاً البحث عن نفس التفريق وترك التتابع ، وقد عرفت أنّ المشهور ذهبوا إلى جوازه ، استناداً إلى الروايتين الآتيتين.

ولكن ناقش فيه صاحب المدارك بضعفهما سنداً ، فكيف يرفع اليد بهما عن الروايات الصحيحة الصريحة في أنّ من لم يتمكّن أو لم يصم الثلاثة قبل العيد فليصمها بعد أيّام التشريق؟! هذا ، والروايتان إحداهما :

٢٨١

.................................................................................................

______________________________________________________

ما رواه الشيخ بإسناده عن موسى بن القاسم وطريقه إليه صحيح عن محمّد بن أحمد عن مفضل بن صالح ، عن عبد الرحمن بن الحجّاج ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) : فيمن صام يوم التروية ويوم عرفة «قال : يجزيه أن يصوم يوماً آخر» (١).

وهي ضعيفة السند بمفضّل بن صالح أبي جميلة الذي ضعّفه النجاشي (٢) وغيره صريحاً ، ومعه لا حاجة للتكلّم حول محمّد وأحمد وأنّهما من هما.

وثانيتهما : ما رواه الشيخ عنه أيضاً عن النخعي وهو أيّوب بن نوح عن صفوان ، عن يحيى الأزرق ، عن أبي الحسن (عليه السلام) قال : سألته عن رجل قدم يوم التروية متمتّعاً وليس له هدي فصام يوم التروية ويوم عرفة «قال : يصوم يوماً آخر بعد أيّام التشريق» (٣) ، ورواها الصدوق أيضاً بإسناده عن يحيى الأزرق.

وقد نوقش في سندها بأنّ يحيى الأزرق مردّد بين ابن حسّان الضعيف وابن عبد الرحمن الثقة ، ولا يبعد أنّ هذا هو الأوّل ، فإنّ الصدوق يرويها عن يحيى الأزرق كما عرفت ، ثمّ يقول في المشيخة : وما أرويه عن يحيى الأزرق فقد رويته عن ... إلى أن يقول : عن يحيى بن حسّان الأزرق (٤). فيعلم من ذلك أنّ مراده ممّا أطلقه في الفقيه هو ابن حسّان الضعيف ، فيكون هو المراد في رواية

__________________

(١) الوسائل ١٤ : ١٩٥ / أبواب الذبح ب ٥٢ ح ١ ، التهذيب ٥ : ٢٣١ / ٧٨٠ ، الاستبصار ٢ : ٢٧٩ / ٩٩١.

(٢) رجال النجاشي : ١٢٨ / ٣٣٢.

(٣) الوسائل ١٤ : ١٩٦ / أبواب الذبح ب ٥٢ ح ٢ ، التهذيب ٥ : ٢٣١ / ٧٨١ ، الاستبصار ٢ : ٢٧٩ / ١٩٢ ، الفقيه ٢ : ٣٠٤ / ١٥٠٩.

(٤) الفقيه (المشيخة) ٤ : ١١٨.

٢٨٢

.................................................................................................

______________________________________________________

الشيخ أيضاً كما لا يخفى.

ولا يصغي إلى ما احتمله بعضهم من كون النسخة في المشيخة مغلوطة وأنّ الصحيح : عبد الرحمن ، بعد تطابق النسخ فيما ندري على كلمة «حسّان» كما ذكرناه.

وما في خاتمة الوسائل نقلاً عن مشيخة الفقيه من قوله : وما كان فيه عن يحيى بن حسّان الأزرق فقد رويته عن أبي إلى قوله : عن يحيى بن حسّان الأزرق (١). حيث كرّر ذكر حسان في الصدر والذيل.

غلط قطعاً ، إذ لم يرو الصدوق في الفقيه ولا رواية واحدة بعنوان يحيى بن حسّان الأزرق ، بل كلّه بعنوان يحيى الأزرق ، والصحيح ما أثبتناه من ذكر حسّان في الذيل وحذفه عن الصدر.

وكيفما كان ، فالمراد بالرجل في رواية الفقيه هو ابن حسّان ، فيكون كذلك في رواية الشيخ أيضاً ، إذ هي رواية واحدة لا فرق بينهما ، غير أنّ الصدوق يرويها عن أبي إبراهيم (عليه السلام) ، والشيخ عن أبي الحسن (عليه السلام) ، الذي لا تأثير له في المطلوب بعد أن كان كلّ منهما كنية للإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) ، ولأجله يحكم بضعف الرواية ، فيبتني على البحث المعروف من أنّ عمل المشهور هل يكون جابراً لها أم لا؟ وحيث لا نقول بالجبر فتسقط الرواية ، ولا يبقى مستند لفتوى المشهور كما صرّح به في المدارك (٢).

هذا ، ولكن الظاهر أنّ الرواية معتبرة ، وأنّ المراد بيحيى الأزرق هو ابن عبد الرّحمن الثقة دون ابن حسّان الضعيف.

__________________

(١) الوسائل ٣٠ : ١٠٨ / ٣٤٦.

(٢) لاحظ المدارك : ٨ ٥٠ ٥١.

٢٨٣

.................................................................................................

______________________________________________________

أمّا أوّلاً : فلأنّ ابن حسّان من أصحاب الصادق (عليه السلام) كما نصّ عليه الشيخ في رجاله (١) ، وابن عبد الرّحمن من أصحاب الكاظم (عليه السلام) ، والرواية مرويّة عن موسى بن جعفر (عليه السلام) كما عرفت.

وثانياً : إنّ ابن حسّان لم تُروَ عنه في مجموع الفقه ولا رواية واحدة ، فليس هو من الرواة وإن عدّه الشيخ من أصحاب الصادق (عليه السلام) ، فإنّ شأنه استقصاء كلّ من صاحب الإمام (عليه السلام) وعاصره ، سواء أرَوى عنه أم لا ، حتّى أنّه عدّ المنصور أيضاً من أصحاب الصادق (عليه السلام) (٢).

وأمّا يحيى بن عبد الرّحمن فهو من الرواة المشهورين ، وله كتاب رواه عنه علي بن الحسن بن رباط وابن سماعة والقاسم بن إسماعيل القرشي ، فاشتهاره بين الرواة ولا سيّما بضميمة عدم وجود رواية عن ابن حسّان كما عرفت يستدعي انصراف اللفظ عند الإطلاق إليه.

ويؤيّده أنّ الشيخ روى في التهذيب في باب الخروج إلى الصفا رواية عن صفوان وعلي بن النعمان عن يحيى بن عبد الرّحمن الأزرق (٣) ، وروى في باب الزيادات في فقه الحجّ نفس هذه الرواية بعين السند والمتن ولكن عن يحيى الأزرق (٤) ، كما أنّ الصدوق أيضاً رواها في الفقيه في باب حكم من قطع عليه السعي كذلك (٥).

__________________

(١) رجال الطوسي : ٣٢١ / ٤٧٨٨.

(٢) انظر رجال الطوسي : ٣٠٥ ٣٠٦ / ٤٥٠٦ ٤٥١١ ، وص ٣١٤ / ٤٦٦١.

(٣) الوسائل ١٣ : ٥٠٠ / أبواب السعي ب ١٩ ح ١ ، التهذيب ٥ : ١٥٧ / ٥٢٠.

(٤) الوسائل : ٥٠٠ / أبواب السعي ب ١٩ ح ٢ ، التهذيب ٥ : ٤٧٢ / ١٦٦٢.

(٥) الفقيه ٢ : ٢٥٨ / ٢.

٢٨٤

.................................................................................................

______________________________________________________

فيظهر أنّ المراد من يحيى الأزرق عند الإطلاق هو ابن عبد الرحمن كما عرفت.

ومن ذلك كلّه يظهر أنّ ما ذكره الفقيه في المشيخة من قوله : عن يحيى بن حسّان الأزرق كما تقدّم إمّا غلط من النسّاخ ، أو سهو من قلمه الشريف ، أو اجتهاد منه ، فتخيّل أنّ ما تلقّاه من مشايخه عن يحيى الأزرق يراد به ابن حسّان ، وقد أخطأ فيه.

ولو تنازلنا وسلمنا صحّة نسخة المشيخة وعدم الخطأ والاشتباه فغايته أن يكون المراد بيحيى الأزرق في رواية الصدوق هو ابن حسّان بقرينة التصريح به في المشيخة ، وأمّا في رواية الشيخ فكلّا ، إذ لا مقتضي له أبداً بعد انصراف المطلق إلى الفرد المشهور وسائر القرائن التي تقدّمت ، فهو في رواية الشيخ يراد به ابن عبد الرّحمن الثقة البتّة.

فغاية ما هناك أن تكون الرواية مرويّة عن الكاظم (عليه السلام) بطريقين عن رجلين : أحدهما طريق الصدوق بإسناده عن أبان عن يحيى بن حسّان ، والآخر طريق الشيخ بإسناده عن صفوان بن يحيى بن عبد الرّحمن ، ولا ضير في روايتها عن الكاظم (عليه السلام) مرّتين ، فإذا كان الطريق الثاني صحيحاً كفى في اعتبار الرواية وإن كان الطريق الأوّل ضعيفاً.

فتحصّل : انّه لا ينبغي التأمّل في صحّة الرواية واعتبارها ، وأنّ مناقشة صاحب المدارك في غير محلّها ، فالأقوى ما عليه المشهور من صحّة الاستثناء.

ثمّ إنّ صاحب الجواهر ذكر في كتاب الصوم في بحث اشتراط التتابع (١) صحيحة عبد الرّحمن بن الحجّاج : قال : كنت قائماً أُصلّي وأبو الحسن قاعد قدّامي وأنا لا

__________________

(١) لاحظ الجواهر ١٧ : ٨٣.

٢٨٥

.................................................................................................

______________________________________________________

أعلم ، فجاءه عباد البصري فسلّم ثمّ جلس ، فقال له : يا أبا الحسن ، ما تقول في رجل تمتّع ولم يكن له هدي؟ «قال : يصوم الأيّام التي قال الله تعالى» قال ، فجعلت سمعي إليهما ، فقال له عباد : وأيّ أيّام هي؟ «قال : قبل التروية بيوم ، ويوم التروية ، ويوم عرفة» قال : فإن فاته ذلك؟ «قال : يصوم صبيحة الحصبة ويومين بعد ذلك» قال : فلا تقول كما قال عبد الله بن الحسن؟ «قال : فأيّ شي‌ء قال؟» قال : يصوم أيام التشريق «قال : إنّ جعفراً كان يقول : إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أمر بديلاً ينادي : إنّ هذه أيّام أكل وشرب فلا يصومنّ أحد» قال : يا أبا الحسن ، إن الله قال (فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ) (١) «قال كان جعفر يقول : ذو الحجّة كلّه من أشهر الحجّ» (٢).

قال الشيخ (قدس سره) في التهذيب بعد نقل الرواية كما ذكرناها ما لفظه : ومن صام يوم التروية ويوم عرفة فإنّه يصوم يوماً آخر بعد أيّام التشريق ، ومتى لم يصم يوم التروية لا يجوز له أن يصوم يوم عرفة ، بل يجب عليه أن يصوم بعد انقضاء أيّام التشريق ثلاثة أيّام متتابعات ، يدلّ على ذلك ما رواه موسى بن القاسم ... إلخ (٣).

وهذه الزيادة كما ترى من عبارة الشيخ وليست جزء من الرواية ، ولم يلحقها بها أحد لا صاحب الوسائل ولا غيره ، إلّا أنّ صاحب الجواهر (قدس سره) جعلها جزءاً منها ، ولأجله ذكرها في جملة الروايات المستدل بها للمشهور ، ولكنّه سهو منه (قدس سره) ، ولذا لم يذكرها في باب الذبح ، بل اقتصر على الروايتين المتقدّمتين.

__________________

(١) البقرة ٢ : ١٩٦.

(٢) الوسائل ١٤ : ١٩٢ / أبواب الذبح ب ٥١ ح ٤.

(٣) التهذيب ٥ : ٢٣١.

٢٨٦

[٢٥٥٣] مسألة ٥ : كلّ صوم يشترط فيه التتابع إذا أفطر في أثنائه لا لعذر اختياراً يجب استئنافه (١) ، وكذا إذا شرع فيه في زمانٍ يتخلّل فيه صوم

______________________________________________________

ثمّ لا يخفى أنّا إذا بنينا على تماميّة مقالة المشهور من جواز التفريق استناداً إلى النصّ الذي عرفت صحّته ، فلا بدّ حينئذٍ من الاقتصار على مورده ، أعني : صيام يوم التروية وعرفة ، وتأخير الثالثة. وأمّا صيام يوم واحد قبل العيد أمّا التروية أو عرفة وتأخير يومين بحيث يكون التفريق بين يوم ويومين فالظاهر عدم جوازه ، لعدم الدليل على صحّة التفريق بهذا النحو ، فيبقى تحت عمومات المنع.

وبعبارة اخرى : مقتضى إطلاق الأدلّة اعتبار المتابعة وعدم جواز التفريق مطلقاً ، خرجنا عن ذلك في مورد واحد بموجب النصّ ، وهو تقديم يومين على العيد وتأخير يوم ، فيُرتكب التخصيص بهذا المقدار ، وأمّا عكس ذلك أعني : تقديم يوم وتأخير يومين فلم يدلّ دليل على جواز هذا النوع من التفريق ، فيشمله عموم المنع.

وقد ورد في بعض النصوص المنع عن صوم يوم التروية ويوم عرفة ، وقد حمله الشيخ على إرادة صوم كلّ منهما على سبيل الانفراد (١). وهو جيّد ومؤيّد لما ذكرناه من عدم جواز التفريق المزبور.

(١) قد يكون التتابع شرطاً في الصوم ، وأُخرى من قبيل الواجب في واجب من دون افتراض الاشتراط.

__________________

(١) التهذيب ٥ : ٢٣٢.

٢٨٧

واجب اخرى من نذرٍ ونحوه.

وأمّا ما لم يشترط فيه التتابع وإن وجب فيه بنذرٍ أو نحوه فلا يجب استئنافه وإن أثم بالإفطار ، كما إذا نذر التتابع في قضاء رمضان فإنّه لو خالف وأتى به متفرّقاً صحّ وإن عصى من جهة خلف النذر.

______________________________________________________

أمّا الأوّل : فكما في صوم الشهرين المتتابعين في كفّارة رمضان ، أو الظهار ، أو القتل ، حيث إنّ ظاهر الأدلّة بل صريحها تعلّق أمر واحد بالمجموع المركّب من المقيّد وقيده ، فليس الواجب صوم الشهرين على إطلاقه ، بل حصّة خاصّة منه المتّصفة بالتتابع ، فلو أخلّ بالقيد عامداً فصام الشهرين متفرّقاً فقد أخلّ بأصل الواجب ، لانتفاء المشروط بانتفاء شرطه ، فلم تفرغ الذمّة عن الكفّارة بوجه.

ودعوى أنّ التتابع حينئذٍ واجب تعبّدي.

خلاف ظواهر الأدلّة جدّاً ، بل صريحها حسبما عرفت.

وأمّا الثاني : فكما لو نذر أن يصوم ما فاته من قضاء شهر رمضان متتابعاً ، فإنّ الأمر المتعلّق بالقضاء موسّع ، وإطلاق دليله لا يتقيّد بالنذر بحيث ينقلب قلم التشريع من الإطلاق إلى التضييق ، ضرورة أنّ النذر لا يكون مشرّعاً ولا يتغيّر ولا يتبدّل به حكمٌ من الأحكام المجعولة بالجعل الأولي ، غايته أنّ الناذر قد جعل على نفسه شيئاً وقد أمضاه الشارع ، وهذا حكم آخر نشأ عن ملاكٍ آخر ، فهو تكليف مستقلّ لا يترتّب على مخالفته إلّا الإثم والكفّارة لو كان عامداً ، وإلّا فلا شي‌ء عليه ، فلو قضى الناذر المزبور صيامه متفرّقاً فقد برئت

٢٨٨

[٢٥٥٤] مسألة ٦ : إذا أفطر في أثناء ما يشترط فيه التتابع لعذرٍ من الأعذار كالمرض والحيض (١) والنفاس

______________________________________________________

ذمّته عن القضاء وصحّ صومه وإن عصى من جهة مخالفة النذر ، وهذا مثل ما لو نذر أن يقضي ما فاته من صلواته متتابعاً أو أن يصلّى الظهر جماعةً أو في المسجد أو أوّل الوقت ، فإنّه لو أخلّ به صحّت صلاته وإن أثم من أجل حنث النذر ، ولزمته الكفّارة مع العمد حسبما عرفت.

(١) يقع الكلام تارةً فيما لو أفطر لعذرٍ أثناء الشهرين المتتابعين ، وأُخرى فيما لو أفطر في غير الشهرين من سائر أقسام الصوم المشروط فيه التتابع ، فهنا مقامان :

أمّا المقام الأوّل : فلا خلاف كما لا إشكال في أنّه يبني على ما مضى ، بل هو مورد للإجماع والاتّفاق ، فلا يعتني بالإفطار المتخلّل في البين المستند إلى عذرٍ من الأعذار من مرضٍ أو حيضٍ أو نفاسٍ ونحوها ، بل يفرض كالعدم ، وينضمّ اللاحق إلى السابق.

وقد دلّت عليه جملة من النصوص معلّلاً في بعضها بأنّه ممّا غلب الله عليه ، وليس على ما غلب الله عليه شي‌ء ، التي منها صحيحة رفاعة : عن رجل عليه صيام شهرين متتابعين فصام شهراً ومرض «قال : يبني عليه ، الله حبسه» قلت : امرأة كان عليها صيام شهرين متتابعين فصامت وأفطرت أيّام حيضها «قال : تقضيها» قلت : فإنّها قضتها ثمّ يئست من المحيض «قال : لا تعيدها ، أجزأها ذلك» (١).

وصحيحة سليمان بن خالد : عن رجل كان عليه صيام شهرين متتابعين

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ٣٧٤ / أبواب بقية الصوم الواجب ب ٣ ح ١٠.

٢٨٩

.................................................................................................

______________________________________________________

فصام خمسة وعشرين يوماً ثمّ مرض ، فإذا برئ يبني على صومه أم يعيد صومه كلّه؟ «قال : بل يبني على ما كان صام ثمّ قال : هذا ممّا غلب الله عليه ، وليس على ما غلب الله عزّ وجلّ عليه شي‌ء» (١) ، ونحوهما غيرهما.

ولكن بإزائها صحيحة جميل ومحمّد بن حمران عن أبي عبد الله (عليه السلام) : في الرجل الحرّ يلزمه صوم شهرين متتابعين في ظهار فيصوم شهراً ثمّ يمرض «قال : يستقبل ، فإن زاد على الشهر الآخر يوماً أو يومين بنى على ما بقي» (٢).

والنكتة في التقييد بالحرّ أنّ كفّارة العبد شهر واحد نصف الحرّ.

وقد حُملت تارةً : على الاستحباب ، وهو كما ترى ، لما تكرّر في مطاوي هذا الشرح من أنّ قوله : «يستقبل» أو : «يعيد» ونحو ذلك ، ظاهرٌ في الإرشاد إلى الفساد ، كما أنّ : «لا يعيد» إرشادٌ إلى الصحّة والإجزاء من غير أن يتضمّن حكماً تكليفيّاً ، ولا معنى لاستحباب الفساد كما لا يخفى.

وأُخرى كما فعله الشيخ (٣) ـ : على ما إذا لم يبلغ المرض حدّا يمنع عن الصوم ، فقوله : «يستقبل» أي يسترسل في صيامه ولا يفطر.

وهو أيضاً بمكانٍ من البعد وعريّ عن الشاهد ، فإنّ ظاهر كلمة «يستقبل» هو أنّه يستأنف ويشرع من الأول ، بل أنّ مفهوم الذيل يجعله كالصريح في ذلك كما لا يخفى.

فهذان الحملان بعيدان عن المتفاهم العرفي جدّاً.

وعليه ، فلو كنّا نحن وهذه الصحيحة وكانت سليمة عن المعارض لالتزمنا بالتخصيص في النصوص المتقدّمة ، لأنّها مطلقة من حيث الكفّارة ومن حيث

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ٣٧٤ / أبواب بقية الصوم الواجب ب ٣ ح ١٢.

(٢) الوسائل ١٠ : ٣٧١ / أبواب بقية الصوم الواجب ب ٣ ح ٣.

(٣) التهذيب ٤ : ٢٨٥ ، الاستبصار ٢ : ١٢٥.

٢٩٠

.................................................................................................

______________________________________________________

العذر ، وهذه خاصّة بكفّارة الظهار وبعذر المرض ، فيخصص ويلتزم بالاستئناف وعدم جواز البناء على ما مضى في خصوص هذا المورد ، فتأمّل.

إلّا أنّها في موردها مبتلاة بالمعارض ، وهي صحيحة أُخرى لرفاعة الواردة في الظهار بعينه «قال : المظاهر إذا صام شهراً ثمّ مرض اعتدّ بصيامه» (١).

ومعلوم أنّ المخصّص المبتلى في مورده بالمعارض غير صالح للتخصيص. إذن تسقط الروايتان بالمعارضة ، فيرجع إلى عموم الروايات المتقدّمة المتضمّنة للبناء على الإطلاق.

نعم ، قد يتوهّم معارضتها بصحيحة الحلبي التي هي أيضاً مطلقة تشمل الظهار وغيره عن أبي عبد الله (عليه السلام) : عن قطع صوم كفّارة اليمين وكفّارة الظهار وكفّارة القتل «فقال : إن كان على رجل صيام شهرين متتابعين إلى أن قال : وإن صام شهراً ثمّ عرض له شي‌ء فأفطر قبل أن يصوم من الآخر شيئاً فلم يتابع أعاد الصوم كلّه» (٢).

ويندفع : بأنّ قوله (عليه السلام) : «ثمّ عرض له شي‌ء» إلخ ، مطلق من حيث كون العارض أمراً غير اختياري وممّا غلب الله عليه مثل المرض والحيض ونحوهما ، أو اختياريّاً مثل ما لو عرض شي‌ء يقتضي سفره اختياراً من عرس أو موت أو معالجة ونحو ذلك من الضروريّات العرفيّة المستدعية للإفطار الاختياري من غير أن يكون معذوراً فيه شرعاً ، إذ يصدق معه أيضاً عرض له شي‌ء كما لا يخفى.

فلا جرم تكون هذه الصحيحة أعمّ من النصوص المتقدّمة الخاصّة بمورد

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ٣٧٥ / أبواب بقية الصوم الواجب ب ٣ ح ١٣.

(٢) الوسائل ١٠ : ٣٧٣ / أبواب بقية الصوم الواجب ب ٣ ح ٩.

٢٩١

.................................................................................................

______________________________________________________

العذر الذي غلب الله عليه ، فتحمل هذه على غير مورد العذر من العوارض الاختياريّة ، وتخصّص بتلك النصوص ، فلا تعارض.

فتحصّل : أنّ النصوص المتضمّنة للبناء في مورد العذر سليمة عن المعارض ، والمسألة اتّفاقيّة كما عرفت.

وأمّا المقام الثاني أعني : حكم القطع من حيث البناء وعدمه في غير الشهرين المتتابعين من سائر أقسام الصيام المشروط فيها التتابع ، كصوم الشهر في كفّارة الظهار من العبد الذي هو نصف كفّارة الحرّ ، وصوم الثمانية عشر بدل البدنة ، أو التسعة أو الثلاثة ونحو ذلك ـ : فيقع الكلام تارةً فيما لو قطع اختياراً ، وأُخرى لعذرٍ من مرضٍ أو حيضٍ ونحوهما.

أمّا الأوّل : فسيأتي الكلام حوله عند تعرّض الماتن له في المسألة الآتية إن شاء الله عالي.

وأمّا الثاني : فالأكثر بل المشهور هو البناء بعد ارتفاع العذر على ما قطع مطلقاً ، كما هو الحال في الشهرين ، نظراً إلى عموم التعليل الوارد في ذيل صحيحة سليمان بن خالد المتقدّمة في صوم الشهرين من قوله (عليه السلام) : «وليس على ما غلب الله عزّ وجلّ عليه شي‌ء» ، فإنّه يقتضي سريان الحكم لكلّ مورد غلب الله عليه من غير اختصاص بمورده ، فعموم العلّة حاكم على الأدلّة الأوليّة ، وموجب لشمول الحكم لكلّ صوم مشروط فيه التتابع وأنّه يبني في صورة العذر.

وبإزاء المشهور أقوال :

منها : ما عن صاحب المدارك من إنكار البناء مطلقاً ، نظراً إلى اختصاص النصوص بالشهرين بأجمعها ما عدا رواية ابن أشيم الضعيفة (١) على المشهور ،

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ٣٧١ / أبواب بقية الصوم الواجب ب ٣ ح ٢.

٢٩٢

.................................................................................................

______________________________________________________

فلا بدّ من الاقتصار في الحكم المخالف لمقتضى القاعدة على مورد النصّ ، فيبقى المكلّف في غيره تحت العهدة إلى أن يتحقّق الامتثال بالإتيان بالمأمور به على وجهه المقتضي لرعاية المتابعة عملاً بعموم أدلّتها (١).

ويندفع : بأنّ مورد النصوص وإن كان مخصوصاً بالشهرين كما ذكره (قدس سره) إلّا أنّ التعليل المزبور الوارد في ذيل صحيحة سليمان بن خالد قرينة عرفيّة على التعدّي وارتكاب التخصيص في عمومات التتابع ، إذ لم يكن مختصّاً بمورده ، وإلّا لم يكن وجهٌ للتعليل كما لا يخفى ، فهو بحسب الفهم العرفي يقتضي التوسعة في نطاق الحكم وأنّ كلّ ما كان مصداقاً لغلبة الله فهو محكوم بالبناء.

ومنها : ما عن جماعة من التفصيل بين كلّ ثلاثة يجب تتابعها ككفّارة اليمين ونحوها ، وبين غيرها ، فيختصّ البناء بالثاني ، أمّا الأوّل فيجب الاستئناف إذا أفطر بينها لعذرٍ أو لغير عذر إلّا ثلاثة الهدي كما تقدّم (٢).

ويندفع : بعدم الدليل على الاختصاص ، عدا ما ورد في ذيل صحيحة الحلبي من قوله (عليه السلام) : «صيام ثلاثة أيّام في كفّارة اليمين متتابعات ولا تفصل بينهنّ» (٣) ، ونحوه صحيح ابن سنان (٤) ، وخبر الجعفري (٥). ولكنّها مطلقة من حيث الاختيار والاضطرار ، فتقيَّد بمقتضى عموم التعليل المزبور وتُحمل على إرادة عدم جواز الفصل اختياراً دون ما غلب الله عليه من مرض ونحوه ، إذ لا قصور في صلوح التعليل المزبور لتخصيص هذه الأدلّة أيضاً كغيرها حسبما عرفت.

__________________

(١) المدارك ٦ : ٢٤٧.

(٢) في ص ٢٨١ ٢٣٣.

(٣) الوسائل ١٠ : ٣٨٣ / أبواب بقية الصوم الواجب ب ١٠ ح ٤.

(٤) الوسائل ١٠ : ٣٨٢ / أبواب بقية الصوم الواجب ب ١٠ ح ١ ، ٣.

(٥) الوسائل ١٠ : ٣٨٢ / أبواب بقية الصوم الواجب ب ١٠ ح ١ ، ٣.

٢٩٣

.................................................................................................

______________________________________________________

ومنها : ما عن الشيخ (قدس سره) في النهاية من التفصيل فيمن نذر أن يصوم شهراً متتابعاً فعرض ما يفطر فيه بين بلوغ النصف وعدمه فيبني في الأوّل ويستأنف في الثاني (١).

والظاهر أنّ مستنده في ذلك هي رواية موسى بن بكر إمّا بواسطة الفضيل أو بدونه ، عن الصادق أو أبي جعفر (عليهما السلام) ، على اختلاف طريق الكليني والشيخ حسبما مرّ : في رجل جعل عليه صوم شهر فصام منه خمسة عشر يوماً ثمّ عرض له أمر «فقال : إن كان صام خمسة عشر يوماً فله أن يقضي ما بقي ، وإن كان أقلّ من خمسة عشر يوماً لم يجزه حتّى يصوم شهراً تامّاً» (٢).

فإنّها وإن لم يصرّح فيها بنذر التتابع إلّا أنّ قوله (عليه السلام) في الجواب : «حتّى يصوم شهراً تامّاً» يكشف عن تعلّق النذر بالمتابعة ، كيف؟! ولو لا ذلك لم يكن موقع للسؤال من أصله ، ضرورة وضوح عدم لزوم الاستئناف فيما لو كان مطلقاً أو على سبيل التفريق كأن يصوم شهراً خلال أربعة أشهر كلّ شهر أُسبوع مثلاً كما هو ظاهر.

ويندفع : بأنّ الرواية وإن كانت معتبرة السند ، لوجود موسى بن بكر في إسناد تفسير علي بن إبراهيم وإن لم يوثّق (٣) صريحاً في كتب الرجال كما تقدّم (٤) ،

__________________

(١) النهاية : ١٦٧.

(٢) الوسائل ١٠ : ٣٧٦ / أبواب بقية الصوم الواجب ب ٥ ح ١ ، الكافي ٤ : ١٣٩ / ٦ ، التهذيب ٤ : ٢٨٥ / ٨٦٣ و٨٦٤.

(٣) بل في المعجم ٢٠ : ٣٣ ٣٤ استظهار وثاقته ، نظراً إلى شهادة صفوان بأنّ كتابه ممّا لا يختلف فيه أصحابنا.

(٤) في ص ٢٦٥ ٢٦٦.

٢٩٤

والسفر الاضطراري دون الاختياري (١) لم يجب استئنافه ، بل يبني على ما مضى.

______________________________________________________

إلّا أنّها قاصرة الدلالة على المطلوب إلّا بالإطلاق ، إذ العارض المفروض في السؤال مطلق من حيث الاضطرار والاختيار ، فكما أنّه يصدق مع العذر الذي يكون ممّا غلب الله عليه ، كذلك يصدق مع عروض الضرورة العرفيّة المقتضية للإفطار اختياراً ، كما لو دعت الحاجة إلى السفر لأجل زفاف أو استقبال مسافر ، أو معالجة ، أو تجارة ونحو ذلك.

ومقتضى الجمع بينها وبين التعليل في صحيحة ابن خالد المتقدّمة ارتكاب التقييد ، فتحمل هذه على العارض الاختياري. إذن تكون هذه الرواية من أدلّة التفصيل في العارض الاختياري بين بلوغ النصف وعدمه في صوم الشهر المشروط فيه التتابع ، الذي يقع الكلام حوله في المسألة الآتية إن شاء الله تعالى ، وأجنبيّة عن الإفطار لعذر الذي هو محلّ الكلام.

(١) وقع الخلاف في السفر الواقع أثناء الصوم المشروط فيه التتابع من حيث القطع وعدمه على أقوال ثلاثة :

فقد ذهب في المستند إلى أنّ السفر قاطع للتتابع من غير فرق بين الاختياري والاضطراري ، بل استظهر الإجماع عليه (١) ، واختاره في محكيّ الوسيلة والسرائر وظاهر الخلاف (٢) ، نظراً إلى استناده حتّى الاضطراري منه إلى فعل العبد ، فلا يكون ممّا غلب الله عليه.

__________________

(١) المستند للنراقي ١٠ : ٥٣٥.

(٢) الوسيلة : ١٤٦ ، السرائر ١ : ٤١٤ ، الخلاف ٤ : ٥٥٤ ٥٥٥.

٢٩٥

.................................................................................................

______________________________________________________

وبإزاء ذلك ما قوّاه في الجواهر من عدم القطع مطلقاً ، استناداً إلى أنّه بعد السفر حتّى الاختياري محبوسٌ عن الصوم ، مقهورٌ من قبل الله تعالى على الإفطار (١).

وذهب المحقّق في المعتبر وتبعه جمع منهم الماتن (قدس سره) إلى التفصيل بين السفر الاختياري فيقطع دون الاضطراري (٢).

أقول : مبنى النزاع هو الاختلاف في تفسير المراد ممّا غلب الله المذكور في التعليل الوارد في ذيل صحيحة سليمان بن خالد المتقدّمة.

فصاحب المستند يفسّره بما لا يكون لإرادة العبد مدخل في تحقّق السبب الموجب للإفطار مثل المرض والحيض ونحوهما ، أمّا السفر فهو فعل إرادي يفعله المكلّف باختياره وإن كان الباعث عليه هو الاضطرار والضرورة الملحّة ، فهو إذن ليس ممّا غلب الله عليه في شي‌ء ، بل هو بنفسه عامد في ترك التتابع ، فلا تشمله الصحيحة ، وعلى تقدير الشمول فهو معارض بإطلاق قوله (عليه السلام) في صحيحة الحلبي : «وإن صام شهراً ثمّ عرض له شي‌ء فأفطر قبل أن يصوم من الآخر شيئاً فلم يتابع أعاد الصوم كلّه» (٣) ، فإنّ العارض يشمل السفر أيضاً ، وبعد التساقط يرجع إلى عمومات أدلّة التتابع.

وصاحب الجواهر يفسّره بما إذا كان الإفطار المخلّ بالتتابع ممّا غلب الله وألزم عليه بحيث يكون هو الذي حبسه ومنعه عن الصوم ، سواء أكان السبب المؤدّي للإفطار المزبور اختياريّاً للمكلّف أم اضطراريّاً ، فهو (قدس سره) يقصر النظر على المسبَّب أعني : الإفطار ويجعله مركز لغلبة الله في قبال الإفطار

__________________

(١) الجواهر ١٧ : ٧٦.

(٢) المعتبر ٢ : ٧٢٣.

(٣) الوسائل ١٠ : ٣٧٣ / أبواب بقية الصوم الواجب ب ٣ ح ٩.

٢٩٦

.................................................................................................

______________________________________________________

الذي يفعله المكلّف من تلقاء نفسه ، كما أنّ نظر صاحب المستند مقصور على السبب فقط ، الموجب للإفطار حسبما عرفت.

والصحيح لزوم الجمع بين النظرين وملاحظة كلا الأمرين ، الذي نتيجته اختيار حدّ وسط بين القولين ، معتدل بين جانبي الإفراط والتفريط ، وهو الذي اختاره في المتن تبعاً للمحقّق.

إذ لا وجه لقصر النظر على المسبَّب وإلغاء السبب ، ضرورة أنّ الإفطار بعد اختيار السفر وإن كان ممّا ألزم عليه الشارع ، إلّا أنّ هذا المقدار لا يكفي في جعله ممّا غلب الله بعد أن كانت تلك المقهوريّة الشرعيّة مستندة إلى اختيار المكلّف ، فإنّه هو الذي أوقع نفسه في هذه الورطة باختيار مقدّمتها وهو السفر من غير ضرورة تقتضيه ، فمجرّد الحبس التشريعي غير كافٍ في صدق الغلبة بعد أن كان مستنداً ومسبّباً عن الاختيار التكويني ، فلا يكون الإخلال بالمتابعة حينئذٍ إلّا من قبل المكلّف نفسه باختياره ما يؤدّي إليه.

كما لا وجه لقصر النظر على السبب ، فإنّ السفر وإن كان فعلاً اختياريّاً للعبد ، إلّا أنّه إذا كان مسبوقاً بالاضطرار أو بالإكراه أي كان الباعث عليه الإلزام من قبل العقل أو الشرع بحيث لا يسعه التخلّف عنه فهو لا جرم مقهور عليه في إرادته لا مفرّ منها ولا مخلص عنها ، ومثله مصداق لغلبة الله بطبيعة الحال.

أترى أنّ الصائم لو شاهد غريقاً يمكنه استنقاذه المتوقّف على الارتماس ، وهو حينئذٍ ملزم من قبل الشارع بهذا الارتماس مقهورٌ عليه ، لا يكون ذلك ممّا غلب الله عليه؟ كلّا ، بل هو من أظهر مصاديق هذا العنوان في نظر العرف وإن كان الارتماس فعلاً اختياريّاً له.

وعلى الجملة : فالتعليل ينطبق على السفر أيضاً فيما إذا كان اضطراريّاً كما

٢٩٧

ومن العذر ما إذا نسي النيّة حتّى فات وقتها (١) بأن تذكّر بعد الزوال.

ومنه أيضاً ما إذا نسي فنوى صوماً آخر ولم يتذكّر إلّا بعد الزوال.

______________________________________________________

ينطبق على الحيض والمرض بمناطٍ واحد ، وبذلك يُرتكب التقييد في إطلاق صحيح الحلبي المتقدّم ، ويُحمل على ما إذا كان العارض من سفرٍ ونحوه أمراً اختياريّاً بحيث لا يكون ممّا غلب الله عليه ، جمعاً بينه وبين التعليل المزبور.

فتحصّل : أنّ التفصيل المذكور في المتن بين السفر الاختياري والاضطراري هو المتعيّن ، ويجري مثله في المرض والحيض بنفس المناط كما لا يخفى.

(١) لصدق ما غلب الله عليه المذكور في التعليل على ما فات نسياناً ، سواء أكان المنسي أصل النيّة أم عنوان الصوم.

وناقش فيه في الحدائق بأنّ النسيان من الشيطان كما يفصح عنه قوله تعالى (فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ) (١) ، فهو من غلبته لا من غلبة الله تعالى الذي هو الموضوع في التعليل (٢).

ولعلّ الجواب عنه واضح :

أمّا أوّلاً : فلأنّ الآية المباركة ناظرة إلى قضيّة شخصيّة فلا تدلّ على أنّ النسيان من الشيطان دائماً ، وعلى سبيل الكبرى الكلّيّة فإنّ مفادها قضيّة خارجيّة لا حقيقيّة.

وثانياً : سلّمنا ذلك ، لكن لا يلزم في صدق ما غلب الله أن يكون الفعل

__________________

(١) يوسف ١٢ : ٤٢.

(٢) الحدائق ١٣ : ٣٤٣.

٢٩٨

ومنه أيضاً ما إذا نذر قبل تعلّق الكفّارة صوم كلّ خميس فإن تخلّله في أثناء التتابع لا يضرّ به (*) (١) ، ولا يجب عليه الانتقال إلى غير الصوم من الخصال في صوم الشهرين لأجل هذا التعذّر.

نعم ، لو كان قد نذر صوم الدهر قبل تعلّق الكفّارة اتّجه الانتقال إلى سائر الخصال.

______________________________________________________

مستنداً إليه تعالى مباشرةً ومن غير وساطة أيّ مخلوق ، فلو فرضنا أنّ شخصاً ضرب الصائم فأمرضه ، وبالنتيجة منعه عن التتابع أفلا يكون ذلك من غلبة الله وحبسه لمجرّد استناد المرض إلى الضرب المستند إلى الضارب؟ بل كثيراً ما يستند المرض إلى نفس المريض من أجل عدم مبالاته في المأكل والملبس وعدم وقايته عن البرد أو الحرّ وإن لم يعلم بترتّب المرض حينما يأكل ما يضرّه أو ينام في معرض الاستبراد مثلاً.

وعلى الجملة : فجميع الأفعال الصادرة من العباد من الشيطان أو الإنسان مستندة إليه تعالى على نحو يسلم عن الجبر ويكون أمراً بين الأمرين على ما حقّقناه في الأُصول في مبحث الطلب والإرادة (١).

وعليه ، فالمراد من غلبة الله الواردة في التعليل : ما يقابل الإفطار الاختياري ولو كان بتوسّط المخلوقين كما هو ظاهر.

(١) لما عرفت من صدق غلبة الله الناشئ من وجوب الوفاء بالنذر المانع

__________________

(*) إذا تعلّق النذر بصوم يوم الخميس على وجه الإطلاق فالظاهر أنّه لا يوجب التخلّل بل يحسب من الكفّارة ، وبذلك يظهر الحال في نذر صوم الدهر.

(١) محاضرات في أُصول الفقه ٢ : ٨٧ ٩٩.

٢٩٩

[٢٥٥٥] مسألة ٧ : كلّ من وجب عليه شهران متتابعان من كفّارة معيّنة أو مخيّرة إذا صام شهراً ويوماً متتابعاً يجوز له التفريق في البقيّة ولو اختياراً لا لعذر (١) ، وكذا لو كان من نذر أو عهد لم يشترط فيه تتابع الأيّام جميعها ولم يكن المنساق منه ذلك.

______________________________________________________

من إمكان التتابع ، فمثله لا يكون قادحاً ، فيصوم نذراً ، ثمّ يصوم بدله يوماً آخر إلى أن تكمل الكفّارة.

لكن هذا فيما لو تعلّق نذره بعنوان خاصّ بأن يصوم يوم الخميس بعنوان النذر ، وأمّا لو كان متعلّقه مطلقاً غير معنون بأيّ عنوان ، فنذر أن يكون هذا اليوم صائماً ولو بعنوان آخر من قضاء أو إجارة أو كفّارة ونحو ذلك في قبال أن يكون مفطراً ، فالظاهر أنّ هذا لا يوجب التخلّل من أصله ، بل يحسب من الكفّارة أيضاً ، لعدم منافاته مع النذر بوجه.

ومنه يظهر الحال في نذر صوم الدهر ، فلا يتّجه الانتقال إلى سائر الخصال حتى في هذا الفرض ، لما عرفت من عدم المنافاة ، فيقع امتثالاً لكلٍّ من النذر والكفّارة بعنوانين حسبما عرفت.

(١) كما سبق التعرّض له في المسألة الأُولى وقلنا : إنّ عمدة المستند فيه صحيحة الحلبي المتضمّنة لتفسير التتابع في الشهرين وشرحه وأنّ المراد به متى أطلق ضمّ جزء من الشهر الثاني إلى الأوّل فلا يضرّ التفريق بعدئذٍ اختياراً (١) ، الحاكمة على جميع الأدلّة الأوليّة.

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ٣٧٣ / أبواب بقية الصوم الواجب ب ٣ ح ٩.

٣٠٠