موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ مرتضى البروجردي

.................................................................................................

______________________________________________________

منها : كفّارة جزّ المرأة شعرها في المصاب التي أشرنا إليها آنفاً.

ومنها : كفّارة الإفطار في شهر رمضان ، وقد تقدّم الكلام حولها مستقصًى (١) ، وعرفت أنّ في بعض النصوص الأمر بالكفّارة مرتّبة لا مخيّرة ، المحمول على الاستحباب جمعاً.

ومنها : كفّارة الاعتكاف ، أي الإفطار بالجماع في صوم الاعتكاف ، ومنه تعرف أنّ في العبارة مسامحة ظاهرة ، والأمر سهل بعد وضوح المراد. وفيها قولان ، فالمشهور على أنّها مخيّرة ، وقيل : أنّها مرتّبة ، ومنشأ الخلاف اختلاف الأخبار الواردة في المقام :

ففي موثّقتين لسماعة ولا يبعد كونهما رواية واحدة مرويّة بطريقين أنّها مخيّرة ككفّارة شهر رمضان :

إحداهما : ما رواه الصدوق عنه ، قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن معتكف واقع أهله «فقال : هو بمنزلة من أفطر يوماً من شهر رمضان» (٢).

والأُخرى : ما رواه الشيخ بإسناده عنه عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال : سألته عن معتكف واقع أهله «قال : عليه ما على الذي أفطر يوماً من شهر رمضان متعمّداً : عتق رقبة ، أو صيام شهرين متتابعين ، أو إطعام ستّين مسكيناً» (٣).

وبإزاء ذلك صحيحتان دلّتا على أنّها مرتّبة كما في كفّارة الظهار :

__________________

(١) شرح العروة ٢١ : ٣١٠ ٣١٣.

(٢) الوسائل ١٠ : ٥٤٧ / كتاب الاعتكاف ب ٦ ح ٢ ، الفقيه ٢ : ١٢٣ / ٥٣٤.

(٣) الوسائل ١٠ : ٥٤٧ / كتاب الاعتكاف ب ٦ ح ٥ ، التهذيب ٤ : ٢٩٢ / ٨٨٨ ، الاستبصار ٢ : ١٣٠ / ٤٢٥.

٢٤١

.................................................................................................

______________________________________________________

إحداهما : صحيحة زرارة ، قال : سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن المعتكف يجامع أهله «قال : إذا فعل فعليه ما على المظاهر» (١).

والأُخرى : صحيحة أبي ولّاد الحنّاط : عن امرأة كان زوجها غائباً فقدم وهي معتكفة بإذن زوجها ، فخرجت حين بلغها قدومه من المسجد إلى بيتها فتهيّأت لزوجها حتّى واقعها «فقال : إن كانت خرجت من المسجد قبل أن تقضي ثلاثة أيّام ولم تكن اشترطت في اعتكافها فإن عليها ما على المظاهر» (٢).

ثمّ إنّ موثّقة سماعة معتبرة بطريقيها :

أمّا طريق الشيخ : فلأنه وإن رواها بإسناده عن علي بن الحسن بن فضّال وهو ضعيف بابن الزبير ألّا أنّنا صحّحنا أخيراً طريق الشيخ إليه بوجهٍ مرّت الإشارة إليه في بعض الأبحاث السابقة ، وملخّصه : أنّ الكتاب الذي وصل إلى الشيخ بوساطة شيخه أحمد بن عبدون عن ابن الزبير عن ابن فضّال هو الذي وصل إلى النجاشي بعين هذا الطريق ، فالكتاب واحد لا محالة وقد وصل إليهما بوساطة شيخهما أحمد ابن عبدون ، وبما أنّ للنجاشي طريقاً آخر إلى هذا الكتاب بعينه وهو صحيح فيحكم بصحّة ما عند الشيخ أيضاً.

وأمّا طريق الصدوق : فصحيح أيضاً وإن عبّر الأردبيلي عن طريقه إلى عبد الله بن المغيرة بالحسن من أجل إبراهيم بن هاشم (٣) ، فإنّ هذا غفلة منه (قدس سره) ، لأنّ له إليه طرقاً ثلاثة : بعضها ما ذكره ، وفي البعض الآخر إبراهيم بن هاشم وأيّوب بن نوح معاً ، وأيّوب هذا ثقة بلا إشكال. نعم ، لو كان الطريق منحصراً في الأوّل ، أو لم يكن أيّوب منضمّاً إلى إبراهيم لتمّ ما ذكره.

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ٥٤٦ / كتاب الاعتكاف ب ٦ ح ١.

(٢) الوسائل ١٠ : ٥٤٨ / كتاب الاعتكاف ب ٦ ح ٦.

(٣) جامع الرواة ١ : ٥١١.

٢٤٢

.................................................................................................

______________________________________________________

وكيفما كان ، فرواية سماعة موثّقة بلا إشكال ، وقد عارضتها صحيحتا زرارة وأبي ولّاد كما عرفت.

وقد جمع المشهور بينهما بحمل الصحيحتين على الاستحباب.

ويمكن الخدش فيه بأنّ الموثّقة غير صريحة في التخيير ، لجواز أن يكون المراد من قوله : «بمنزلة من أفطر يوماً من شهر رمضان» وكذا قوله : «عليه ما على الذي» إلخ : أنّهما متماثلان في ذات الكفّارة والفرد المستعمل في مقام التكفير ، وأمّا كيفيّة التكفير من كونه على سبيل الترتيب أو التخيير فغير صريحة فيها ، غايته أنّها ظاهرة بمقتضى الإطلاق في الثاني ، فيمكن رفع اليد عنه بصراحة الصحيحتين في أنّها كفّارة الظهار التي لا شك أنّها على سبيل الترتيب ، فتكون الصحيحتان مقيِّدتين لإطلاق الموثّقة ، وتكون نتيجة الجمع بعد ارتكاب التقييد أنّ الكفّارة هي كفّارة الظهار.

ولكنّه يندفع بأنّ ارتكاب التقييد مبني على تقديم ظهور المقيّد على المطلق الذي هو من فروع تقديم ظهور القرينة على ذيها. حيث إنّ المقيّد بمثابة القرينة للمراد من المطلق عرفاً بحيث لو جمعا في كلام واحد لم يبق العرف متحيّراً ولا يرى بينهما تهافتاً ، كما لو قلنا في جملة واحدة : أعتق رقبة ، وأعتق رقبة مؤمنة ، فما هو قرينة حال الاتصال قرينة حال الانفصال ، غاية الأمر أنّ الأوّل مصادم للظهور ، والثاني مصادم للحجّيّة بعد انعقاد أصل الظهور ، فلأجل هذه النكتة يتقدّم ظهور المقيّد على المطلق حسبما فصّلنا القول حوله في الأُصول (١).

وهذا الضابط كما ترى غير منطبق على المقام ، إذ لو جمعنا بين الروايتين في الكلام وقلنا : إنّ عليه ما على الذي أفطر يوماً من شهر رمضان وعليه ما

__________________

(١) محاضرات في أُصول الفقه ٥ : ٣٧٤ ٣٧٧.

٢٤٣

.................................................................................................

______________________________________________________

على المظاهر ، لكان الكلام متدافعاً وبقي العرف متحيّراً ، لتناقض الصدر مع الذيل من غير تعيين أحدهما في القرينيّة ، إذ كما يمكن أن يكون الثاني قرينة للأول بأن يراد به المماثلة في ذات الكفّارة دون الكيفيّة كما مرّ يمكن العكس بأن يكون الأوّل قرينة للمراد من الثاني وأنّه الاستحباب كما ذكره المشهور لا الوجوب.

فالإنصاف أنّ الطائفتين متعارضتان ولا يمكن الجمع العرفي بينهما بوجه ، ومع ذلك فالأقوى ما ذكره المشهور من أنّها كفّارة الإفطار في شهر رمضان دون الظهار.

إمّا لترجيح موثّقة سماعة على الصحيحتين ، نظراً إلى مخالفتها للعامّة ولو في الجملة ، حيث إنّهم اختلفوا في هذه المسألة.

فعن جماعة منهم : إنكار الكفّارة رأساً فلا تترتّب على جماع المعتكف عدا الحرمة الثابتة بنصّ الآية ، ولا ملازمة بين التحريم والتكفير كما هو ظاهر.

وعن آخرين : ثبوتها ، وهم بين من يقول بأنّها كفّارة يمين ، ومن يقول بأنّها كفّارة ظهار. وأمّا أنّها كفّارة شهر رمضان فلم يذهب إليه أحد منهم ، ولأجله كانت الموثّقة أبعد منهم ، فكانت أقرب إلى الصواب.

وإمّا لأنّه بعد التعارض والتساقط يرجع إلى الأصل العملي ، ومقتضاه البراءة عن التعيين ، فإنّ المقام من مصاديق الدوران بين التعيين والتخيير ، وقد اختُلف في هذه الكبرى على قولين حسبما بيّناه في الأُصول (١).

فمنهم من ذهب إلى التعيين ، نظراً إلى قاعدة الاشتغال ، إذ لا يحرز الخروج عن عهدة التكليف المعلوم بالإجمال إلّا بالإتيان بما يحتمل تعيينه.

__________________

(١) مصباح الأُصول ٢ : ٤٤٩ ٤٥٩.

٢٤٤

وكفّارة النذر (*) (١) ،

______________________________________________________

ومنهم من ذهب إلى التخيير وهو الصحيح إذ لم يعلم تعلّق التكليف إلّا بالجامع ، وأمّا خصوصيّة الفرد المحتمل تعينه كالعتق في المقام فتعلّق التكليف به مشكوك من أصله ، وهي كلفة زائدة مجهولة ، فيدفع بأصالة البراءة إمّا عقلاً وشرعاً كما هو الصحيح ، أو شرعاً فقط بناءً على ما سلكه صاحب الكفاية من إنكار جريان البراءة العقليّة في باب الأجزاء والشرائط (١).

فتحصّل : أنّ الأظهر ما عليه المشهور من أنّها كفّارة شهر رمضان ، فهي مخيّرة لا مرتّبة كما في الظهار وإن كان الأفضل ذلك كما تقدّم في كفّارة شهر رمضان ، للنصّ المحمول عليه ، فلاحظ (٢).

(١) تقدّم الكلام حول هذه الكفّارة سابقاً عند البحث عن موجبات الكفّارة (٣).

وملخّصه : أنّ الأقوال في المسألة ثلاثة :

فقيل ولعلّه المشهور ـ : إنّها كفّارة الإفطار في شهر رمضان.

وذهب جمع منهم المحقّق (٤) إلى أنّها كفّارة اليمين.

وقيل بالتفصيل بين ما لو تعلّق النذر بالصوم وحنث فكفّارة شهر رمضان وإلّا فكفّارة اليمين ، استحسنه صاحب الوسائل بعد أن نقله عن جمع من

__________________

(*) الظاهر أنّ كفّارته كفّارة اليمين.

(١) كفاية الأُصول : ٣٦٨ ٣٦٩.

(٢) شرح العروة ٢١ : ٣١٤.

(٣) شرح العروة ٢١ : ٣٢٧ ٣٣٣.

(٤) انظر الشرائع ١ : ٢٢٠.

٢٤٥

.................................................................................................

______________________________________________________

الأصحاب ، جمعاً بين الأخبار (١).

ومنشأ الخلاف اختلاف الأخبار ، ففي جملة منها أنّها كفّارة اليمين ، كصحيحة الحلبي : «إن قلت : لله عليّ ، فكفّارة يمين» (٢) ، ونحوها غيرها.

وفي صحيح جميل بن درّاج عن عبد الملك بن عمرو : أنّها كفّارة رمضان ، قال : سألته عمّن جعل لله عليه أن لا يركب محرّماً سمّاه فركبه ، قال : لا ولا أعلمه إلّا قال : «فليعتق رقبة ، أو ليصم شهرين متتابعين ، أو ليطعم ستّين مسكيناً» (٣).

وأمّا صحيحة ابن مهزيار : رجل نذر أن يصوم يوماً فوقع ذلك اليوم على أهله ، ما عليه من الكفّارة؟ فكتب إليه : «يصوم يوماً بدل يوم ، وتحرير رقبة مؤمنة» (٤).

فظاهرها وهو تعيّن العتق مقطوع العدم ، إذ لم يقل به أحد من الأصحاب ، فلا بدّ من تأويله بكونه عِدلاً للواجب التخييري ، وحينئذٍ فكما يمكن أن يكون عدلاً للتخيير في كفّارة رمضان يمكن أن يكون عدلاً له في كفّارة اليمين ، لتساويهما من هذه الجهة ، فلا شهادة لهذه الصحيحة بشي‌ء من القولين.

والأقوى أنّها كفّارة اليمين ، لسلامة نصوصها المستفيضة عمّا يصلح للمعارضة ، فإنّ المعارض إنّما هو صحيح جميل كما عرفت ، وهي غير نقيّة السند. نعم ،

__________________

(١) الوسائل ٢٢ : ٣٩٤.

(٢) الوسائل ٢٢ : ٣٩٢ / أبواب الكفّارات ب ٢٣ ح ١.

(٣) الوسائل ٢٢ : ٣٩٤ / أبواب الكفّارات ب ٢٣ ح ٧.

(٤) الوسائل ٢٢ : ٣٩٢ / أبواب الكفّارات ب ٢٣ ح ٢.

٢٤٦

والعهد (١) ، وكفّارة جزّ المرأة شعرها (*) في المصاب ، فإنّ كلّ هذه مخيّرة بين الخصال الثلاث على الأقوى ،

______________________________________________________

هي صحيحة إلى جميل ، وأمّا من بعده أعني : عبد الملك ابن عمرو فلم يرد فيه أيّ توثيق ، عدا ما رواه هو بنفسه عن الصادق (عليه السلام) أنّه دعا له ولدابّته (١) ، وهذا كما ترى غير صالح للتوثيق ، فإنّه (عليه السلام) يدعو لجميع المؤمنين والمؤمنات ، على أنّه لا يمكن إثبات التوثيق بما يرويه هو بنفسه كما هو ظاهر.

وممّا ذكرنا يظهر ضعف التفصيل بين الصوم وغيره الذي جُعِل وجهاً للجمع بين الأخبار كما مرّ ، فإنّ رواية جميل وإن تضمّنت كفّارة رمضان لكن موردها ليس هو الصوم وإن حملوها عليه ، مضافاً إلى ضعفها كما عرفت.

نعم ، مورد صحيحة ابن مهزيار ذلك ، وكأنّهم فهموا من العتق المذكور فيها أنّ المراد به ما هو عدل في كفّارة شهر رمضان ، ولأجله رأوا أنّ مقتضى الجمع بين الأخبار هو التفصيل المزبور ، لكنّك عرفت إجمال الصحيحة من هذه الجهة ، إذ كما أنّ العتق عدل لما ذكر كذلك هو عدل في كفّارة اليمين ، فلم يظهر لهذا التفصيل أيّ مستند يعوّل عليه.

(١) لروايات ثلاث :

إحداها : ما رواه الشيخ بإسناده عن علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر (عليه السلام) ، قال : سألته عن رجل عاهد الله في غير معصية ، ما عليه

__________________

(*) على الأحوط ، ولا يبعد عدم وجوبها.

(١) رجال الكشي : ٣٨٩ / ٧٣٠ ، معجم رجال الحديث ١٢ : ٣٠ / ٧٣٢٠.

٢٤٧

.................................................................................................

______________________________________________________

إن لم يف بعهده؟ «قال : يعتق رقبة ، أو يتصدّق بصدقة ، أو يصوم شهرين متتابعين» (١).

أمّا من حيث السند : فالظاهر أنّها معتبرة ، فإنّ المراد بمحمّد بن أحمد المذكور في أوّل السند هو محمّد بن أحمد بن يحيى كما صرّح به في الاستبصار وتبعه في الوسائل ، وإن لم يقيّده به في التهذيب.

وأمّا العمركي فهو من الثقات الأجلّاء.

نعم ، محمّد بن أحمد العلوي ، أو الكوكبي ، أو الهاشمي ، لم يوثّق في كتب الرجال صريحاً ، ولكن النجاشي عند ترجمة العمركي والثناء عليه قال : روى عنه شيوخ أصحابنا ، منهم : عبد الله بن جعفر الحميري (٢). وظاهر هذا التعبير أنّهم من الأكابر والأجلّاء الممدوحين نظراء عبد الله بن جعفر. ثمّ إنّه (قدس سره) ذكر طريقه إلى كتاب العمركي ، وقد اشتمل الطريق على العلوي المزبور ، فيظهر منه بعد ضمّ الكبرى إلى الصغرى أنّه من شيوخ الأصحاب.

وعليه ، فتكون روايته معتبرة ، ولا أقلّ من أنّها حسنة.

ويؤيّده أنّ ابن الوليد لم يستثنه ممّن يروي عنه محمّد بن أحمد بن يحيى ، فكان فيه نوع إشعار بل شهادة على التوثيق ، وإن كان هذا محلّ تأمّل ، بل منع ذكرناه في محلّه.

هذا ، مع أنّ الرجل مذكور في إسناد تفسير علي بن إبراهيم ، وقد بنينا على وثاقة من وقع في هذا الإسناد كالواقع في إسناد كامل الزيارات إلّا ما خرج بالدليل ، فلا ينبغي التأمّل في اعتبار الرواية.

__________________

(١) الوسائل ٢٢ : ٣٩٥ / أبواب الكفّارات ب ٢٤ ح ١ ، التهذيب ٨ : ٣٠٩ / ١١٤٨ ، الإستبصار ٤ : ٥٥ / ١٨٩.

(٢) رجال النجاشي : ٣٠٣ / ٨٢٨.

٢٤٨

.................................................................................................

______________________________________________________

وأمّا من حيث الدلالة : فهي أيضاً ظاهرة ، فإنّ الصدقة وإن كانت مطلقة إلّا أنّ المراد بها بقرينة ذكر العدلين أعني : العتق وصيام الشهرين هي الصدقة المعروفة ، أي إطعام الستّين كما فهمه الأصحاب ، ويؤيّده التصريح به في الرواية الآتية.

الثانية : رواية أبي بصير عن أحدهما (عليهما السلام) «قال : من جعل عليه عهد الله وميثاقه في أمرٍ لله طاعة فحنث فعليه عتق رقبة ، أو صيام شهرين متتابعين ، أو إطعام ستّين مسكيناً» (١).

ولكنّها ضعيفة السند بحفص بن عمر الذي هو بيّاع السابري على ما صرّح به في التهذيب ، فإنّه لم يوثّق وإن كان والده وهو عمر بن محمّد بن يزيد ثقة جليلاً كما نصّ عليه النجاشي (٢).

نعم ، المذكور في الاستبصار : حفص عن عمر بيّاع السابري ، بدل : حفص ابن عمر ، وهو أيضاً مجهول.

وكيفما كان ، فلا تصلح الرواية إلّا للتأييد.

الثالثة : ما رواه صاحب الوسائل في آخر كتاب النذر عن أحمد بن حمد بن عيسى في نوادره عن أبي جعفر الثاني (عليه السلام) : في رجل عاهد الله عند الحجر أن لا يقرب محرّماً أبداً ، فلمّا رجع عاد إلى المحرّم ، فقال أبو جعفر (عليه السلام) : «يعتق ، أو يصوم ، أو يتصدّق على ستّين مسكيناً ، وما ترك من الذنب أعظم ، ويستغفر الله ويتوب إليه» (٣).

__________________

(١) الوسائل ٢٢ : ٣٩٥ / أبواب الكفّارات ب ٢٤ ح ٢ ، التهذيب ٨ : ٣١٥ / ١١٧٠ ، الاستبصار ٤ : ٥٤ / ١٨٧.

(٢) رجال النجاشي : ٢٨٣ / ٧٥١.

(٣) الوسائل ٢٣ : ٣٢٧ / كتاب النذر ب ٢٥ ح ٤ ، نوادر أحمد بن محمّد بن عيسى : ١٧٣ / ٤٥٤ بتفاوت يسير.

٢٤٩

وكفّارة حلق الرأس في الإحرام (١) ، وهي دم شاة أو صيام ثلاثة أيّام أو التصدّق على ستّة مساكين لكلّ واحد مدّان.

______________________________________________________

وقد صرّح فيها بالتصدّق على ستّين مسكيناً ، فتكون شارحة للمراد من الصدقة في رواية علي بن جعفر المتقدّمة من غير حاجة إلى ضمّ القرينة الخارجيّة التي تقدّمت الإشارة إليها.

نعم ، الصوم المذكور هنا مجمل ، ولكن يفسّره التصريح بالستّين في تلك الرواية ، فكلّ من فقرتي الروايتين قرينة للمراد من تلك الفقرة من الرواية الأُخرى.

والرواية هذه صحيحة السند ، فإنّ أحمد بن محمّد بن عيسى ثقة عظيم المنزلة جليل القدر ، له كتب عديدة منها كتاب النوادر ، وطريق صاحب الوسائل إليه صحيح فإنّه ينتهي إلى الشيخ ، وطريق الشيخ إليه طريق صحيح. وهو (قدس سره) من أصحاب الرضا والجواد والهادي (عليهم السلام) وإن لم نعثر على روايته عن الأول ، كما أنّ روايته عن الثاني قليلة جدّاً ، بل لم يرو عنه (عليه السلام) في نوادره ما عدا هذه الرواية ، كما أنّه لم يرو عنه (عليه السلام) في غيره إلّا رواية واحدة أيضاً ذكرها في التهذيب وفي الاستبصار (١) ، فمجموع ما رواه عن الجواد (عليه السلام) ليس إلّا هاتين الروايتين.

وكيفما كان ، فالرواية معتبرة مؤكّدة لصحيحة ابن جعفر المتقدّمة.

(١) كما يشهد للتخيير المذكور في المتن قوله تعالى : (وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ

__________________

(١) التهذيب ٥ : ٢٦٧ / ٩٠٨ ، الاستبصار ٢ : ٢٩٨ / ١٠٦٢.

٢٥٠

ومنها : ما يجب فيه الصوم مرتّباً على غيره مخيّراً بينه وبين غيره ، وهي كفّارة الواطئ أمته المحرمة بإذنه (*) (١) ، فإنّها بدنة أو بقرة ومع العجز فشاة أو صيام ثلاثة أيّام.

______________________________________________________

أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) (١) المفسّر في جملة من النصوص بما أثبته في المتن ، التي عمدتها صحيحة زرارة (٢) ، المؤيّدة برواية حريز (٣) ، حيث إنّها وإن كانت صحيحة بطريق الشيخ ولكنّها مرسلة في طريق الكليني (قدس سره) وحيث لا يحتمل تعدّد الرواية سيّما بعد وحدة الراوي عن حريز وهو حمّاد فلا جرم يتعارض الطريقان ، ومن ثمّ لا تصلح إلّا للتأييد.

(١) كما دلّت عليه موثّقة إسحاق بن عمّار المتضمّنة للتفصيل بين ما لو أحرمت بإذنه أو بدون الإذن وأنّه لا شي‌ء عليه على الثاني ، وعلى الأوّل يفصّل بين الموسر والمعسر ، أي القادر والعاجز حسبما ذكره في المتن قال : قلت لأبي الحسن موسى (عليه السلام) : أخبرني عن رجل محلّ وقع على أمة له مُحرِمة إلى أن قال (عليه السلام) : إن كان موسراً وكان عالماً أنّه لا ينبغي له وكان هو الذي أمرها بالإحرام فعليه بدنة ، وإن شاء بقرة ، وإن شاء شاة ، وإن لم يكن أمرها بالإحرام فلا شي‌ء عليه ، موسراً كان أو معسراً ، وإن كان أمرها وهو معسر فعليه دم شاة أو صيام» (٤).

__________________

(*) بل كفّارته إن كان موسراً بدنة أو بقرة أو شاة ، وإن كان معسراً فشاة أو صيام.

(١) البقرة ٢ : ١٩٦.

(٢) الوسائل ١٣ : ١٦٧ / أبواب بقيّة كفّارات الإحرام ب ١٤ ح ٣.

(٣) الوسائل ١٣ : ١٦٥ / أبواب بقيّة كفّارات الإحرام ب ١٤ ح ١ ، التهذيب ٥ : ٣٣٣ / ١١٤٧ ، الإستبصار ٢ : ١٩٥ / ٦٥٦ ، الكافي ٤ : ٣٥٨ / ٢.

(٤) الوسائل ١٣ : ١٢٠ / أبواب كفارات الاستمتاع ب ٨ ح ٢.

٢٥١

[٢٥٤٩] مسألة ١ : يجب التتابع في صوم شهرين (١) من كفّارة الجمع أو كفّارة التخيير ، ويكفي في حصول التتابع فيهما صوم الشهر الأوّل ويوم من الشهر الثاني ،

______________________________________________________

وقد تضمّنت الموثّقة التخيير بين أُمور ثلاثة : بدنة ، أو بقرة ، أو شاة ، وقد اقتصر في المتن على الأُوليين ، ولا وجه له بعد اشتمال النصّ على الثالث وكونه مفتىً به عند الأصحاب.

ثمّ إنّ الصيام المذكور في النصّ مطلق غير محدود بحدّ ، فهو قابل للانطباق حتى على اليوم الواحد ، إلّا أنّ المستفاد من الروايات التي منها صحيحة زرارة الواردة في الحلق المشار إليها آنفاً أنّ بدل التصدّق بالشاة إنّما هو صيام ثلاثة أيّام كما فهمه الأصحاب ، فاحتمال الاكتفاء باليوم الواحد كما في الجواهر (١) ضعيف لا يُعبأ به.

(١) لا إشكال في وجوب التتابع فيما وجب في كفّارته صوم شهرين ، سواء أكانت كفّارة مخيّرة كشهر رمضان ، أم مرتّبة كالظهار ، أو كفّارة جمع كالقتل العمدي ، للتقييد به في أدلّتها من الكتاب والسنّة حسبما مرّت الإشارة إليها.

وإنّما الكلام فيما يتحقّق به التتابع. لا ريب أنّ مقتضى الأدلّة الأوليّة لزوم مراعاته في تمام أجزاء الشهرين بأن يكون كلّ يوم عقيب اليوم الآخر بلا فصل إلى آخر الستين ، كما هو المفهوم من لفظ التتابع عرفاً ، فإذا قيل : صام زيد شهرين أو سنتين أو أُسبوعين متتابعين ، أو تعلّق الأمر بذلك ، فهو ظاهر في حصوله بين تمام الأجزاء.

__________________

(١) الجواهر ٢٠ : ٣٧٠.

٢٥٢

.................................................................................................

______________________________________________________

إلّا أنّ هناك نصوصاً عمدتها صحيحة الحلبي قد دلّت صريحاً على كفاية صيام شهر واحد وبعض من الشهر الثاني ولو يوماً واحداً ، فإذا فعل ذلك ساغ له التفريق بين بقية الشهر الثاني حتّى عامداً ، وبذلك يحصل التتابع المأمور به بين الشهرين ، فكان المراد التتابع بين عنوان الشهرين لا بين تمام أجزائهما. فهي إذن بمفهومها المطابقي تكون حاكمة على الأدلّة الأوليّة وشارحة للمراد منها.

روى الكليني بسنده الصحيح عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) : عن قطع صوم كفّارة اليمين وكفّارة الظهار وكفّارة القتل «فقال : إن كان على رجل صيام شهرين متتابعين ، والتتابع أن يصوم شهراً ويصوم من الآخر شيئاً أو أيّاماً» إلخ (١).

ومحلّ الاستشهاد من الصحيح هو هذا المقدار الذي أثبتناه ، وأمّا ما تضمّنه بعد ذلك من التعرّض لحكم من أفطر عن عذر أو غير عذر فهو حكم آخر نتعرّض له عند تعرّض الماتن له فيما بعد.

وعلى الجملة : فلا إشكال في المسألة بعد أن أفتى المشهور على طبق الصحيحة ، بل الظاهر أنّه ممّا لا خلاف فيه.

وأمّا ما نسب إلى الشيخين والسيّدين من حصول الكفّارة بذلك مع كونه آثماً في التفريق لو كان عامداً (٢).

فغريبٌ جدّاً ، إذ لم يظهر له أيّ مستند.

فإنّا إذا بنينا على اعتبار صحيحة الحلبي وعملنا بمفادها ولأجله حكمنا

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ٣٧٣ / أبواب بقية الصوم الواجب ب ٣ ح ٩ ، الكافي ٤ : ١٣٨ / ٢.

(٢) المقنع : ٣٥٩ ، النهاية : ١٦٦ ، الغنية ٢ : ١٤١ ١٤٣. لاحظ رسائل الشريف المرتضى (جمل العلم والعمل) ٣ : ٥٧ ٥٨.

٢٥٣

وكذا يجب التتابع في الثمانية عشر بدل الشهرين (١) (١) ،

______________________________________________________

بحصول الكفّارة لكونها حاكمة وشارحة كما مرّ ، فما هو الموجب للإثم بعد أن أتى المكلّف بما هو الوظيفة المقرّرة في حقّه من الإتيان بالتتابع على هذه الكيفيّة بمقتضى دلالة الصحيحة؟! وإن لم نعمل بها ، فهو وإن كان آثماً حينئذٍ كما ذكر إلّا أنّ الكفّارة أيضاً لم تحصل والذمّة بعد لم تفرغ ، فلا بدّ من الإعادة ، لعدم تحقّق المتابعة الموجب لعدم حصول الكفّارة على وجهها.

فالتفكيك بين الأمرين بالالتزام بالإثم وعدم الحاجة إلى الإعادة لم يُعرف له وجه أبداً ، بل إمّا لا إثم ولا إعادة ، أو أنّه آثم وعمله باطل ، والصحيح هو الأول حسبما عرفت.

(١) على المشهور.

وناقش فيه غير واحد بأنّ اعتبار التتابع هنا خلاف إطلاق الدليل بعد أن لم يكن الأمر بالصوم بنفسه مقتضياً له ، ولذا قُيّدت نصوص الشهرين بالتتابع ، فلو كان هذا مأخوذاً في المفهوم لكان القيد توضيحيّاً ، وهو خلاف الأصل.

وأُجيب عنه تارةً : بما أرسله المفيد في المقنعة بعد تصريحه بالتتابع من مجي‌ء الآثار عنهم (عليهم السلام) بذلك (٢). ولكنّه لم تصل لدينا من تلك الآثار والأخبار ولا رواية واحدة صحيحة ولا ضعيفة ، إذ لم نعثر على أيّ خبر يدلّ

__________________

(١) على الأحوط ، وقد تقدّم الإشكال في أصل وجوب هذا الصوم في كفّارة التخيير خاصّة.

(٢) المقنعة : ٣٤٥ ٣٤٦.

٢٥٤

.................................................................................................

______________________________________________________

على اعتبار التتابع في المقام ، ومن هنا قد يقوى في الظنّ أنّ هذه الدعوى منه (قدس سره) مبنيّة على الغفلة والاشتباه ، والمعصوم من عصمه الله.

ومع الغضّ عمّا ذُكر فغايته أنّها رواية مرسلة ولا اعتماد على المراسيل.

وأُخرى : بما ذكره في الجواهر من أنّ المأمور به ليس مطلق الثمانية عشر ليطالب بالدليل على اعتبار التتابع ، بل ما كان جزء من الشهرين ، حيث يظهر من دليلها أنّ المراد الاقتصار على هذا المقدار بدلاً عن الأصل ، فأسقط الزائد لدى العجز إرفاقاً وتخفيفاً على المكلّفين ، فتكون متتابعة لا محالة ، لاعتبارها إلى واحد وثلاثين يوماً ، فتكون معتبرة في ثمانية عشر يوماً منها بطبيعة الحال (١).

ويندفع أولاً : بابتنائه على كون الثمانية عشر بدلاً عن صيام الشهرين ، وهو غير ثابت ، ومن الجائز كونه بدلاً عن إطعام الستّين.

بل قد صرّح بذلك في صحيحة أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال : سألته عن رجل كان عليه صيام شهرين متتابعين فلم يقدر على الصيام ، ولم يقدر على العتق ، ولم يقدر على الصدقة «قال : فليصم ثمانية عشر يوماً ، عن كلّ عشرة مساكين ثلاثة أيّام» (٢).

حيث إنّ صيام الثلاثة معادل لإطعام العشرة في كفّارة اليمين ، فلا محالة يكون معادل إطعام الستّين صيام الثمانية عشر ، فهو بدلٌ عن الإطعام لا الصيام.

وثانياً : مع التسليم فإنّما يتّجه ما ذكره (قدس سره) لو كان هذا العدد بدلاً عن الثمانية عشر الواقعة في مبدأ الشهرين ، ومن الجائز كونه بدلاً عمّا وقع في آخر الشهر الثاني ، أو وسطه ، أو ما تلفّق من الشهرين ، فإن جزء الشهرين

__________________

(١) لاحظ الجواهر ١٧ : ٦٧.

(٢) الوسائل ١ : ٣٨١ / أبواب بقية الصوم الواجب ب ٩ ح ١.

٢٥٥

بل هو الأحوط في صيام سائر الكفّارات (١) ، وإن كان في وجوبه فيها تأمّل وإشكال.

______________________________________________________

طبيعي الثمانية عشر القابل للانطباق على كلّ ذلك ، ومهما احتسبنا الجزئيّة واعتبرناها كان ما عداها زائداً قد أُسقط إرفاقاً ، فلا يتعيّن احتساب العدد المزبور من الشهر الأوّل ليشمله دليل التتابع كما لا يخفى.

فتحصّل : أنّ الأظهر عدم اعتبار المتابعة في المقام ، لعدم الدليل عليه ، والأصل البراءة ، وإن كان الأحوط رعايتها ، حذراً عن مخالفة المشهور.

(١) كما هو المشهور أيضاً بين الأصحاب ، قال المحقّق (قدس سره) في الشرائع : إنّه يعتبر التتابع في جميع أقسام الصيام ما عدا موارد أربع : صوم النذر وأخويه من العهد واليمين فإنّه يتبع قصد الناذر في التتابع وعدمه ، وصوم قضاء شهر رمضان ، وصوم ثمانية عشر بدل البدنة الواجبة في كفّارة الصيد ، وصوم سبعة أيّام بدل الهدي دون الثلاثة المكمّلة للعشرة. ففي هذه الموارد المستثناة يجوز التفريق حتّى اختياراً ، وما عدا ذلك ممّا يجب فيه الصوم مدّة من ثلاثة أيّام أو ثمانية عشر أو شهرين ونحو ذلك يجب فيه التتابع (١).

واستدلّ له في الجواهر بانصراف الإطلاق إلى التتابع ، فإنّه المنسبق عرفاً من الصوم مدّة من شهر أو سنة ونحوهما ، المؤيّد بفتوى الأصحاب بذلك ، وهذا نظير ما ذكروه في ثلاثة الحيض والاعتكاف وعشرة الإقامة من اعتبار الاتّصال والتوالي ، فإنّ المستند في الكلّ هو الانصراف المزبور.

وأيّده بما رواه الصدوق في العلل عن الفضل بن شاذان من تعليل التتابع في

__________________

(١) الشرائع ١ : ٢٣٦.

٢٥٦

.................................................................................................

______________________________________________________

الشهرين بقوله : «وإنّما جعلت متتابعين لئلّا يهون عليه الأداء فيستخفّ به ، لأنّه إذا قضاه متفرّقاً هان عليه القضاء واستخفّ بالإيمان» (١).

فإنّ موردها وإن كان كفّارة الإفطار في شهر رمضان إلّا أنّه يظهر من العلّة عموم الحكم لكلّ كفّارة وأنّها مبنيّة على التصعيب والتشديد. كي لا تهون عليه المخالفة ولا يستخفّ بها.

وقد أمضى (قدس سره) ما ذكره المحقّق واعترف به ، حيث قال (قدس سره) أخيراً ما لفظه : وحينئذٍ بان أنّ الكلّيّة المزبورة في محلّها في المعظم أو الجميع (٢).

أقول : يقع الكلام تارةً في أصل الكلّيّة ، وأُخرى فيما ذكره من موارد الاستثناء.

أمّا دعوى الكلّيّة : فلا تمكن المساعدة على إطلاقها ، والانصراف المزبور بحيث يستند إلى حاقّ اللفظ لدى الإطلاق ممّا لم نتحقّقه.

نعم ، ربّما يستفاد التتابع من القرائن الخارجيّة أو الداخليّة ، وأمّا مع التجرّد عنها وملاحظة نفس الأمر المتعلّق بالصوم مدّة من الزمن من حيث هو ، فلا يكاد ينصرف إلى التوالي والتتابع بوجه.

وممّا يرشدك إلى ذلك ملاحظة الجمل الخبرية ، فإذا قلت : أقمنا في مشهد الرضا (عليه السلام) عشرة أيّام ، فهل ينصرف اللفظ إلى الإقامة المتوالية ، بحيث لو كنت قد خرجت خلالها إلى قرية وبتّ ثَمّة ليلة أو ليلتين وكان مجموع المكث في نفس البلد عشرة لم يسغ لك التعبير المزبور؟ أو لو استأجرت داراً وسكنت فيها سنة ثمّ خرجت وبعد شهرين مثلاً استأجرتها ثانياً سنة

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ٣٧٠ / أبواب بقيّة الصوم الواجب ب ٢ ح ١ ، علل الشرائع : ٢٧٣.

(٢) راجع الجواهر ١٧ : ٦٨.

٢٥٧

.................................................................................................

______________________________________________________

أُخرى وسكنت فيها ثمّ أخبرت أنّي سكنت الدار الفلانيّة سنتين ، أفهل ينصرف اللفظ إلى المتتابعتين بحيث يكون الإخبار المزبور على خلاف منصرف الكلام؟ ولا ينبغي التأمّل في عدم الفرق في ذلك بين الجمل الخبريّة والإنشائيّة.

وعلى الجملة : فدعوى الانصراف عريّة عن الشاهد يدفعها إطلاق الكلام ، ولا شهادة في فتوى الأصحاب كما لا يخفى.

كما لا شهادة في الموارد التي ذكرها ، ضرورة أنّ التتابع فيها مستفاد من القرائن الخارجيّة أو من نفس أدلّتها.

أمّا ثلاثة الحيض : فللتصريح في دليله بأن أقلّ الحيض ثلاثة وأكثره عشرة ، فإنّ مثل هذا التعبير الوارد في مقام التحديد ظاهر في إرادة الاتّصال والاستمرار كما لا يخفى.

وأوضح حالاً ثلاثة الاعتكاف ، للزوم المكث في المسجد وبطلانه بالخروج لا لعذر قبل استكمال الثلاثة ، وهذا بنفسه كما ترى يستلزم التتابع والتوالي.

وكذا الحال في عشرة الإقامة ، لوضوح أنّ لكلّ سفر حكماً يخصّه ، وهو موضوع مستقلّ بحياله. فالمراد بقاطعيّة الإقامة للسفر أو لحكمه كونها كذلك بالنسبة إلى هذا السفر الخاصّ وحينما دخل البلدة ، كما يكشف عنه قوله (عليه السلام) : «أنا دخلت بلدة وأزمعت المقام عشرة أيّام» إلخ (١) ، لا هو مع السفر اللاحق. وهذا بنفسه يستدعي الاتّصال والاستمرار ، إذ لو سافر أثناء العشرة فخرج ثمّ دخل فهذا سفر جديد له حكم مستقلّ مغاير لسابقه.

وعلى الجملة : لا بدّ من قصر النظر على كلّ سفر بخصوصه وملاحظته

__________________

(١) لاحظ الوسائل ٨ : ٤٩٩ / أبواب صلاة المسافر ب ١٥ ح ٤.

٢٥٨

.................................................................................................

______________________________________________________

بنفسه ، فإن أقام فيه في مكانٍ عشرة أيّام انقلب القصر إلى التمام ، وإلّا بقي على قصره ، وهذا يستلزم التتابع بطبيعة الحال ، وكذا الحال في المتردّد ثلاثين يوماً كما يكشف عنه قوله (عليه السلام) : «غداً أخرج أو بعد غد» (١).

وأمّا الاستشهاد برواية العلل ففيه أوّلاً : أنّ موردها كفّارة الإفطار في شهر رمضان ، ولعلّ لهذا الشهر خصوصيّة استدعت مزيد الاهتمام بشأنه كما لا يبعد ، نظراً إلى أنّ الصوم في شهر رمضان ممّا بني عليه الإسلام ، فهو من دعائم الدين وأركانه كما في الحديث (٢) ، ولأجله كانت كفّارته مبنيّة على التصعيب والتشديد ، فلا يقاس به غيره ، فلا وجه للتعدّي إلى صيام سائر الكفّارات. وغاية ما هناك أن يتعدّى إلى خصوص صوم الثمانية عشر يوماً بدل الشهرين من كفّارة الإفطار في شهر رمضان المخيّرة ، على كلام فيه قد تقدّم ، وحاصله : منع البدليّة عن الشهرين ، بل هو بدل عن الجامع بين الخاصل أعني العتق والصيام ، والإطعام لدى العجز عنه فإنّه الواجب لا الفرد بخصوصه ، أو بدل عن خصوص الإطعام كما تضمّنه النصّ حسبما مرّ. وعلى أيّ حال ، فليس هو بدلاً عن الشهرين هنا ، وإنّما يكون بدلاً عنهما في موردين فقط :

أحدهما : كفّارة الظهار لدى العجز عن العتق وعن الإطعام وانتهاء النوبة بمقتضى الترتيب إلى الصيام.

والآخر : كفّارة الجمع في قتل العمد ، فإنّه لو عجز عن صيام الشهرين في هذين الموردين يجب عليه صوم ثمانية عشر بدلاً عن ذلك.

وكيفما كان ، فالتعدّي عن مورد الرواية لا مقتضي له بوجه.

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٥٠٠ / أبواب صلاة المسافر ب ١٥ ح ٩.

(٢) الكافي ٢ : ١٨ / ١ و٨.

٢٥٩

.................................................................................................

______________________________________________________

وثانياً : أنّها ضعيفة السند ، لضعف طريق الصدوق إلى الفضل بن شاذان ، فإنّ له إليه طريقين كلاهما ضعيف ، أحدهما بعبد الواحد بن عبدوس وابن قتيبة ، والآخر بجعفر بن علي بن شاذان.

فتحصّل لحدّ الآن : أنّ ما ادّعاه (قدس سره) من اعتبار التتابع لا دليل عليه ، والإطلاقات تدفعه ، بل قد قام الدليل على العدم ، وهو صحيح عبد الله ابن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) «قال : كلّ صوم يفرق إلّا ثلاثة أيّام في كفّارة اليمين» (١).

فكلّ مورد ثبت فيه اعتبار التتابع يخصَّص ، وفي ما عداه يُتمسّك بعموم العامّ ، بل لا يبعد أن لا تكون ناظرة إلى مثل التتابع في الشهرين المنصوص عليه في الكتاب والسنّة.

وكيفما كان ، فلا ضير في العمل بعموم الصحيحة بعد قوّة السند ووضوح الدلالة ، ولا وجه لما صنعه في الجواهر من الحمل على إرادة التفرقة على بعض الوجوه مثل فرض العذر ونحوه (٢) ، فإنّه تصرّف في ظاهر اللفظ بلا موجب ومن غير قرينة تقتضيه كما لا يخفى.

وممّا ذكرنا تعرف اعتبار التوالي في ثلاثة أيّام في كفّارة اليمين ، للتصريح به في هذه الصحيحة وغيرها ، كصحيح الحلبي : «صيام ثلاثة أيّام في كفّارة اليمين متتابعات ولا تفصل بينهنّ» (٣).

وصحيحة علي بن جعفر في كتابه عن أخيه ، قال : سألته عن كفّارة صوم

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ٣٨٢ / أبواب بقية الصوم الواجب ب ١٠ ح ١.

(٢) الجواهر ١٧ : ٧٤ ٧٧.

(٣) الوسائل ١٠ : ٣٨٣ / أبواب بقية الصوم الواجب ب ١٠ ح ٤.

٢٦٠