موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ مرتضى البروجردي

.................................................................................................

______________________________________________________

جارٍ في المرتدّ يقيناً ، إذ لا موجب ولا وجه كما لا قائل بسقوط التكليف بالارتداد ، بل هو مكلّف فعلاً كما كان مكلّفاً بالفروع سابقاً بمقتضى إطلاقات الأدلّة ، حتّى الفطري منه ، بناءً على ما هو الصحيح من قبول توبته واقعاً وإن لم تُقبل ظاهراً ، بمعنى : أنّ آثار الارتداد من القتل وبينونة الزوجة وتقسيم التركة بين الورثة لن ترتفع بالتوبة ، وأمّا فيما بينه وبين ربّه فلا مانع من قبول توبته وغفران زلله مع عظيم جرمه وذنبه ، فإنّ عفو ربّه أعظم ورحمته أشمل وأتمّ ، فيكون وقتئذٍ مشمولاً للأحكام الإسلاميّة كما كان مأموراً بها سابقاً بعد أن كان قادراً عليها بالقدرة على مقدّمتها وهي التوبة حسبما عرفت.

وأمّا المرتدّ الملّي فالأمر فيه أوضح ، لقبول توبته ظاهراً وواقعاً ، فإنّه يستتاب ثلاثة أيّام ، فإن تاب كان كسائر المسلمين وإلّا قُتل.

إذن فالمرتدّ بقسميه وغيره سيّان تجاه الأحكام الشرعيّة التي منها القضاء إمّا وحده أو مع الكفّارة حسب اختلاف الموارد ، بمقتضى إطلاق الأدلّة ، فإنّها غير قاصرة الشمول له.

وما في الحدائق من زعم القصور ، بدعوى أنّه فرد نادر ينصرف عنه الإطلاق (١).

كما ترى ، بداهة أنّ الفرد النادر لا يختصّ به المطلق ، فلا يمكن تنزيله عليه ، لا أنّه لا يشمله ، إذ لا مانع من شمول المطلق حصصاً وأصنافاً يكون بعضها نادر التحقّق.

وعليه ، فكلّ من وجب عليه الصوم ومنه المرتدّ بمقتضى الإطلاق تجب عليه الكفّارة والقضاء لو أفطر متعمّداً ، أو القضاء فقط كما في موارد أُخر.

__________________

(١) الحدائق ١٣ : ٢٩٧.

١٦١

.................................................................................................

______________________________________________________

بل يجب القضاء على المرتدّ وإن لم يرتكب شيئاً من المفطرات ، لعدم كونه ناوياً للصوم الذي هو أمر عبادي يعتبر قصده على الوجه الشرعي ، حيث عرفت سابقاً أنّ الإخلال بالنيّة أيضاً من موجبات القضاء ، فإنّه وإن لم يتضمّن إخلالاً بذات الصوم ولكنّه إخلال بالصوم المأمور به كما ورد النصّ في بعض موارده ، التي منها : «من صام يوم الشك بنيّة رمضان» (١).

وكيفما كان ، فلا تحتاج المسألة إلى مزيد بيّنة وبرهان بعد أن كان المرتدّ وغيره سيّان في المشموليّة للأحكام ، من غير دليل مخرج ، عدا توهّم شمول النصوص النافية للقضاء عن الكافر متى أسلم للمقام ، الذي لا ريب في فساده بعد وضوح انصرافها إلى الكافر الأصلي الذي يحدث فيه الإسلام ، لا مثل المقام الذي مورده الرجوع إلى الإسلام لا حدوثه فيه ، فإنّه غير مشمول لتلك الأخبار كما لا يخفى.

وما في الحدائق أيضاً من عدم تمكّن المرتدّ من القضاء ، لكونه محكوماً بالقتل إمّا ابتداءً كالفطري ، أو بعد الاستنابة ثلاثة أيّام كالملّي ، فكيف يمكن تكليفه به (٢)؟! مردودٌ بما لا يخفى ، لوضوح أنّ المحكوميّة أعمّ من الوقوع ، فربّما لا يتحقّق القتل خارجاً ، لعدم السلطة عليه كما في زماننا فيبقى سنين ، أو يُفرض الكلام في المرأة التي لا تُقتل بالارتداد بل تُحبس وتُضرب ويضيَّق عليها حتّى ترجع إلى الإسلام.

وعليه ، فحال المرتدّ حال غيره ممّن اشتغلت ذمّته بالقضاء في وجوب تفريغها عنه مع التمكّن ، فإن بقي حيّاً وجب ، وإن قُتل سقط عنه ، لا لعدم المقتضي ، بل لوجود المانع وهو العجز ، إذ لا تكليف بعد القتل.

__________________

(١) لاحظ الوسائل ١٠ : ٢٥ / أبواب وجوب الصوم ونيته ب ٦ ح ١.

(٢) الحدائق ١٣ : ٢٩٨.

١٦٢

[٢٥٢٣] مسألة ٢ : يجب القضاء على من فاته لسُكر (١) ، من غير فرق بين ما كان للتداوي أو على وجه الحرام.

[٢٥٢٤] مسألة ٣ : يجب على الحائض والنفساء قضاء ما فاتهما حال الحيض والنفاس ، وأمّا المستحاضة فيجب عليها الأداء ، وإذا فات منها فالقضاء (٢).

______________________________________________________

(١) يظهر الحال هنا ممّا تقدّم في الإغماء.

فإنّا إذا بنينا على أنّ السكر كالإغماء لا ينافي الصوم وأنّ حاله حال النوم فلا إشكال في الصحّة فيما إذا كان مسبوقاً بالنيّة ، ومعه لم يفت عنه شي‌ء كي يجب قضاؤه كما هو واضح.

وأمّا إذا بنينا على المنافاة وأنّ السكر مانع كالجنون كما هو الأظهر فلا جرم يبطل صومه ولا أثر لسبق النيّة ، سواء أكان معذوراً فيه كما لو شربه قبل الفجر خطأً أو للتداوي أم كان آثماً ، فإذا بطل وجب قضاؤه كما في غيره من سائر الموانع على ما يستفاد من عدّة من الأخبار من أنّ من كان مأموراً بالصوم ولم يصم أو أتى به على غير وجهه وجب عليه القضاء ، ولم ينهض دليل في المقام على أنّ السكران لا يقضي ، كما ثبت مثله في المجنون والمغمى عليه حسبما تقدّم.

(٢) بلا خلاف في شي‌ء من ذلك نصّاً وفتوى ، وقد دلّت عليه النصوص الكثيرة حسبما مرّ التعرّض إليها في محلّه من كتاب الطهارة (١).

__________________

(١) شرح العروة ٧ : ٤٢٦ و٨ : ١٩٣ ١٩٧.

١٦٣

[٢٥٢٥] مسألة ٤ : المخالف إذا استبصر يجب عليه قضاء ما فاته ، وأمّا ما أتى به على وفق مذهبه فلا قضاء عليه (١).

______________________________________________________

(١) تقدّم الكلام حول ذلك مستقصًى في مباحث القضاء من كتاب الصلاة ، وعرفت أنّ المخالف قد يأتي بوظيفته من صلاة أو صيام على طبق مذهبه ، ولا شك حينئذٍ في عدم وجوب القضاء عليه بعد ما استبصر ، والحكم وقتئذٍ بصحّة جميع أعماله الصادرة منه وإن كانت محكومة عندنا بالفساد في ظرفها ، وأنّه يندرج بذلك تحت عموم قوله سبحانه (فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) (١) ، وقد دلّت عليه السيرة القطعيّة مضافاً إلى النصوص المستفيضة.

وأُخرى : يأتي بما يراه فاسداً في مذهبه ، بحيث يرى نفسه مشغول الذمّة وكأنّه لم يفعل ، سواء أكان صحيحاً في مذهبنا أم لا ، والظاهر قصور النصوص عن الشمول لمثله ، بل لا ينبغي التأمّل فيه ، لانصراف مورد السؤال في تلك الأخبار إلى المخالف الذي يرى نفسه فارغ البال لولا الاستبصار.

وأمّا دون ذلك فهو كمن لم يصلّ أصلاً بحيث كان فاسقاً في مذهبه خارجٌ عن مدلول تلك النصوص ومحكومٌ عليه بوجوب القضاء على المعروف المشهور ، بل المتسالم عليه عند الأصحاب ، أخذاً بإطلاق دليله.

نعم ، يظهر من رواية الشهيد عدم الوجوب ، حيث روى في الذكرى نقلاً من كتاب الرحمة لسعد بن عبد الله مسنداً عن رجال الأصحاب ، عن عمّار الساباطي ، قال : قال سليمان بن خالد لأبي عبد الله (عليه السلام) وأنا جالس : إنّي منذ عرفت هذا الأمر أُصلّي في كلّ يوم صلاتين ، أقضي ما فاتني قبل معرفتي «قال :

__________________

(١) الفرقان ٢٥ : ٧٠.

١٦٤

[٢٥٢٦] مسألة ٥ : يجب القضاء على من فاته الصوم للنوم بأن كان نائماً قبل الفجر إلى الغروب (*) من غير سبق نيّة (١) ، وكذا من فاته للغفلة كذلك.

______________________________________________________

لا تفعل ، فإنّ الحال التي كنت عليها أعظم من ترك ما تركت من الصلاة» (١).

ولكنّها ضعيفة السند جدّاً ، لجهالة طريق الشهيد إلى كتاب سعد بن عبد الله ، ولم توجد في غيره من كتب الأخبار ، أضف إلى ذلك جهالة الرجال المتخلّلين ما بين سعد وعمّار ، فهي إذن ساقطة عن درجة الاعتبار ، ولا يمكن التعويل عليها في الخروج عن مقتضى القواعد.

وعلى الجملة : مورد النصوص المتقدّمة إمضاء الأعمال السابقة على سبيل الشرط المتأخّر وأنّها محكومة بالصحّة على تقدير التعقّب بالاستبصار ، فلا يجب عليه القضاء.

وأمّا تصحيح عمل لم يأت به أصلاً لعذر أو لغير عذر ، أو أتى به فاسداً بحيث كان عنده في حكم العدم كي لا يجب قضاؤه كما في الكافر ، فلم ينهض عليه أيّ دليل ، والنصوص المزبورة لا تقتضيه حسبما عرفت.

(١) لبطلان الصوم غير المسبوق بالنيّة فوجب قضاؤه ، أمّا مع السبق فلا يضرّ النوم ، لعدم منافاته مع عباديّة الصوم كما تقدّم (٢).

ثمّ إنّه في فرض عدم السبق لا حاجة في الحكم بالبطلان والقضاء إلى فرض استمرار النوم إلى الغروب كما صنعه في المتن ، بل يكفي فيه الانتباه عند الزوال ، لعدم الدليل على جواز تجديد النيّة بعد الزوال في صوم الفريضة بلا إشكال ، بل

__________________

(*) بل إلى الزوال والاحتياط فيما إذا انتبه بعد الفجر لا يترك.

(١) الوسائل ٨ : ١٢٧ / أبواب مقدّمة العبادات ب ٣١ ح ٤ ، الذكرى : ١٣٦.

(٢) شرح العروة ٢١ : ٣٧ ٤٥.

١٦٥

[٢٥٢٧] مسألة ٦ : إذا علم أنّه فاته أيّام من شهر رمضان ودار بين الأقلّ والأكثر (١) يجوز له الاكتفاء بالأقلّ ، ولكن الأحوط قضاء الأكثر خصوصاً إذا كان الفوت لمانع من مرض أو سفر أو نحو ذلك وكان شكّه في زمان زواله ، كأن يشكّ في أنّه حضر من سفره بعد أربعة أيّام أو بعد خمسة أيّام مثلاً من شهر رمضان.

______________________________________________________

وكذا قبله على الأصحّ ، بناءً على ما عرفت سابقاً من أنّ تجديد النيّة والاجتزاء بالناقص بدلاً عن الكامل خلاف الأصل يقتصر فيه على مورد قيام الدليل كالمسافر الذي يقدم أهله قبل الزوال ولم يحدث شيئاً ، وأمّا غيره ومنه المقام فهو باقٍ تحت مقتضى الأصل الذي نتيجته البطلان حسبما عرفت.

وعليه ، فيكفي مع عدم سبق النيّة الانتباه بعد الفجر ولو آناً ما ، لفوات محلّ النيّة حينئذٍ ، المستلزم للبطلان والقضاء وإن وجب الإمساك بقيّة النهار على ما تقدّم.

(١) لا يخفى أنّ هذا الترديد قد يستند إلى الشكّ في موجب القضاء وهو الإفطار ، إمّا عن غير عذر كما لو علم أنّه أفطر في عهد شبابه أيّاماً مردّدة بين الأقلّ والأكثر ، أو عن عذر كما لو أكل مع الشكّ في طلوع الفجر اعتماداً على استصحاب الليل ثمّ انكشف الخلاف وقد تكرّرت منه هذه الحادثة ولم يعلم عددها.

وأُخرى : يستند إلى الشكّ في مقدار ما هو المانع عن الصحّة الموجب للفوت من سفر أو مرض ونحوهما.

أمّا الأوّل : فلا ريب أنّ المرجع فيه الأصل الموضوعي وهو أصالة عدم

١٦٦

.................................................................................................

______________________________________________________

الإفطار ، وعدم حدوث تلك الحادثة زائداً على المقدار المتيقّن ، كما لو كان الشكّ في أصل الإفطار.

ومع الغضّ عنه فيرجع إلى الأصل الحكمي أعني : أصالة البراءة عن القضاء للشكّ في موضوعه وهو الفوت زائداً على المقدار المعلوم ، كما هو الشأن في كلّ واجب دائر بين الأقلّ والأكثر ، ولا سيّما غير الارتباطيّين منه ، كما في المقام.

هذا ، وقد يقال : إنّ الرجوع إلى البراءة إنّما يتّجه فيما إذا كان المشكوك فيه هو التكليف الواقعي غير المنجّز ، وأمّا لو تعلّق الشكّ بتكليف منجّز ، بمعنى : أنّا احتملنا تكليفاً لو كان ثابتاً واقعاً لكان منجّزاً كما في الشبهات الحكميّة قبل الفحص أو المقرونة بالعلم الإجمالي ، فإنّ المرجع في مثله قاعدة الاشتغال بلا إشكال ، لعدم المؤمّن في تركه.

والمقام من هذا القبيل ، لأنّ الزائد المشكوك فيه لو كان ثابتاً واقعاً لكان معلوماً في ظرفه فكان منجّزاً طبعاً بالعلم. إذن فمتعلّق الاحتمال هو التكليف المنجّز الذي هو مورد لأصالة الاشتغال دون البراءة ، فيجب عليه الاحتياط ، إلّا إذا كان عسراً فيتنزّل عندئذٍ من الامتثال القطعي إلى الظنّي كما نُسب إلى المشهور من ذهابهم إلى التصدّي للقضاء بمقدار يظنّ معه بالفراغ.

ويندفع : بأنّ هذه مغالطة واضحة ، ضرورة أنّ مورد الاشتغال إنّما هو احتمال التكليف المنجّز بالفعل كالمثالين المذكورين لا ما كان منجّزاً سابقاً وقد زال عنه التنجيز فعلاً ، فإنّ صفة التنجيز تدور مدار وجود المنجّز حدوثاً وبقاءً.

ومن ثمّ لو تبدّل العلم بالشكّ الساري سقط عن التنجيز بالضرورة ، فلو كان عالماً بالنجاسة ثمّ انقلب إلى الشكّ فيها لم يكن مانع من الرجوع إلى قاعدة الطهارة أو استصحابها.

١٦٧

.................................................................................................

______________________________________________________

والمفروض في المقام زوال العلم السابق لو كان وتبدّله بالشكّ ، فمتعلّق الاحتمال ليس إلّا تكليفاً غير منجّز بالفعل جزماً ، إذ لا أثر للتنجيز السابق الزائل.

ومن هنا لا يشكّ أحد في الرجوع إلى البراءة عن المقدار الزائد على المتيقّن فيما لو استدان زيد من عمرو مبلغاً سجّلاه في دفترهما عند الاستدانة ثمّ ضاع الدفتر ونسيا المبلغ ، وتردّد بين الأقلّ والأكثر ، مع أنّ الزائد على تقدير ثبوته كان منجّزاً سابقاً لفرض العلم به في ظرف الاستدانة ، وليس ذلك إلّا لما عرفت من أنّ المانع من الرجوع إلى البراءة إنّما هو احتمال التكليف المنجّز فعلاً ، لا ما كان كذلك سابقاً كما هو ظاهر جدّاً.

وعلى الجملة : فلم يتعلّق الاحتمال في المقام بالتكليف المنجّز ، بل بتكليفٍ لعلّه كان منجّزاً سابقاً ، ومن البيّن أنّ العبرة في جريان الأصل بحال التكلّف حال الجريان لا فيما تقدّم وانصرم.

وأمّا الثاني أعني : الشك من جهة المانع ـ : فقد يكون من أجل الشك في زمان حدوثه ، وأُخرى في مقدار بقائه وزمان زواله وارتفاعه.

أمّا الأوّل : كما لو علم أنّه رجع عن السفر أو برئ من المرض في اليوم الثالث والعشرين من شهر رمضان مثلاً وشكّ في مبدأ السفر أو المرض وأنّه كان اليوم الثامن عشر ليكون الفائت منه خمسة أيّام أو العشرين ليكون ثلاثة ، فلا ريب في الرجوع حينئذٍ إلى الأصل الموضوعي النافي للقضاء وهو استصحاب عدم السفر ، أو عدم المرض قبل يوم العشرين ، فإنّ موضوع وجوب الصوم في أيّامٍ أُخر هو المريض والمسافر ، فباستصحاب عدمهما ينتفي الحكم.

وبعبارة اخرى : إنّ مقتضى الاستصحاب أنّ الصوم كان واجباً عليه قبل

١٦٨

.................................................................................................

______________________________________________________

يوم العشرين والمفروض علم المكلّف بأنّه قد صام كلّ ما كان واجباً عليه فلا موجب للقضاء ، كما هو الحال لو تعلّق الشكّ بأصل السفر أو المرض لا بكمّيّتهما المنفي بالأصل بالضرورة.

ومع الغضّ عن ذلك فيكفينا الأصل الحكمي وهو أصالة البراءة عن وجوب القضاء بعد الشك في موضوعه وهو الفوت زائداً على المقدار المعلوم ، كما لو شكّ في أصل الفوت وأنّه هل سافر أو هل مرض ليفوت عنه الصوم أو لا ، الذي هو مورد لأصالة البراءة عن وجوب القضاء بلا خلاف فيه ولا إشكال. وهذا واضح.

وأمّا الثاني : أعني الشك من حيث البقاء وزمان الارتفاع ، كما لو علم سافر أو مرض يوم الثامن عشر وشك في أنّه هل حضر أو برئ يوم العشرين ليكون الفائت منه يومين ، أو الحادي والعشرين ليكون ثلاثة ، فلهذا الفرض الذي جعل الماتن الاحتياط فيه بقضاء الأكثر آكد صورتان :

إذ تارةً : يفرض العلم بأنّه قد أفطر في سفره أو مرضه كما أنّه صام في حضره أو صحّته.

وأُخرى : يفرض أنّه قد صام في سفره ومرضه أيضاً وإن لم يكن مشروعاً ، فلا يدري أنّ الصوم الصادر منه باطلاً المحكوم عليه بالقضاء هل كان يومين أو ثلاثة ، فبالنتيجة يشك في صحّة صومه في اليوم الثالث وفساده.

مقتضى إطلاق عبارة المتن جواز الاقتصار على الأقلّ في الصورتين ، فلا يجب عليه قضاء الأكثر في شي‌ء منهما.

وربّما يعلّل بأنّ استصحاب بقاء السفر أو المرض إلى اليوم الأخير المشكوك فيه وإن كان مقتضياً لفوات الصوم فيه الموجب لقضائه ، إلّا أنّ قاعدة الصحّة في الصورة الثانية كقاعدة الحيلولة في الصورة الأُولى الحاكمتين على الاستصحاب

١٦٩

.................................................................................................

______________________________________________________

تقتضيان البناء على وقوع الفريضة في ظرفها صحيحة ، فلا يُعتنى بالشكّ في أصل الصوم ، ولا بالشكّ في صحّته بمقتضى هاتين القاعدتين ، ومعه لا مقتضي لوجوب القضاء.

ويندفع : بما هو المقرّر في محلّه من اختصاص مورد القاعدتين بما إذا كان الأمر محرزاً ، وكان الشكّ في مرحلة الامتثال ، وما يرجع إلى فعل المكلّف من حيث انطباق المأمور به عليه وعدمه ، وأنّه هل امتثل في ظرفه ، أو أنّ امتثاله هل كان صحيحاً مستجمعاً للأجزاء والشرائط أو كان فاسداً.

وأمّا إذا كان الأمر مشكوكاً من أصله فكان احتمال الفساد مستنداً إلى احتمال فقدان الأمر ، ففي مثله لا سبيل لإجراء شي‌ء من القاعدتين.

ومن ثمّ لو شكّ بعد الصلاة في دخول الوقت أو بعد الغسل في كونه جنباً لم يمكن تصحيحهما بقاعدة الفراغ بلا إشكال.

والمقام من هذا القبيل ، بداهة أنّ الصوم المأتي به في الصورة الثانية وإن كان مشكوك الصحّة والفساد ، إلّا أنّ منشأ الشكّ احتمال السفر أو المرض الموجبين لانتفاء الأمر ، فلم يكن الأمر محرزاً لكي يتمسّك بما يعبّر عنه بأصالة الصحّة ، أو بقاعدة الفراغ.

وهكذا الحال في الصورة الأُولى ، فإنّ قاعدة الحيلولة وإن بنينا على جريانها في مطلق المؤقّتات وعدم اختصاصها بمورد النصّ وهو الصلاة كما هو غير بعيد إلّا أنّها أيضاً خاصّة بفرض ثبوت الأمر ولم يحرز في المقام أمر بالصوم بعد احتمال كونه مريضاً أو مسافراً في اليوم المشكوك فيه الذي مضى وقته ودخل حائل ، ولم يدر أنّه هل صام فيه أو لا ، ومن البيّن أنّ القاعدة ناظرة إلى امتثال الأمر المتيقّن لا إلى إثبات الأمر في ظرفه.

إذن ففي كلتا الصورتين لا يجري أيّ من القاعدتين ، بل المرجع أصالة

١٧٠

.................................................................................................

______________________________________________________

البراءة عن وجوب القضاء الذي هو بأمر جديد يشكّ في حدوثه زائداً على المقدار المتيقّن.

وبعبارة اخرى : الأمر الثابت في الوقت قد سقط بخروجه يقيناً ، وقد تعلّق أمر جديد بعنوان القضاء ، وحيث إنّ موضوعه الفوت وهو مردّد بين الأقلّ والأكثر ، فلا جرم يقتصر على المقدار المتيقّن ، ويدفع الزائد المشكوك فيه بأصالة البراءة.

وقد يقال : إنّ أصالة البراءة محكومة باستصحاب بقاء السفر أو المرض ، حيث إنّ مقتضى قوله سبحانه (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ) إلخ ، أنّ المريض والمسافر موضوع لوجوب القضاء ، فاستصحاب المرض أو السفر يستوجب ترتيب هذا الأثر ، ومعه لا يبقى مجال لأصالة البراءة.

وربّما يجاب عنه : بأنّ المرض أو السفر بنفسهما لا يقتضيان القضاء جزماً وإن أُخذا موضوعاً له في ظاهر الآية الكريمة ، ومن ثمّ لو صام المسافر جهلاً أو صام المريض باعتقاد عدم الضرر وهو يضرّه واقعاً ضرراً لا يبلغ حدّ الحرمة صحّ صومهما ، فلا يحتمل أن يكونا بمجرّدهما موضوعين لوجوب القضاء على حدّ سائر الأسباب الشرعيّة كالاستطاعة لوجوب الحجّ ليترتّب الأثر على استصحابهما كما يترتّب المسبّب على مجرّد ثبوت السبب بالأصل.

بل المستفاد من مجموع الآيات ولو بضمّ الروايات : أنّ من شهد الشهر وكان صحيحاً حاضراً يجب عليه الصوم ، وغيره وهو المريض أو المسافر غير مأمور به فهو طبعاً لا يصوم ، فإذا لم يصم يجب عليه القضاء ، فهو أي القضاء تدارك لترك الصوم في ظرفه لا أنّه عمل مستقلّ مترتّب على المرض أو السفر ، وإلّا لم يكن قضاء كما لا يخفى ، وقد عُبِّر بلفظ القضاء في جملة من الروايات.

١٧١

.................................................................................................

______________________________________________________

إذن فالموضوع للقضاء إنّما هو عدم الصوم حال السفر أو المرض لأنفسهما. وعليه ، فلا أثر لاستصحابهما ، إذ لا يترتّب عليه ترك الصوم في ذلك اليوم الذي هو الموضوع للأثر إلّا على القول بالأصل المثبت.

ويندفع : بإمكان إجراء الأصل في ذاك العنوان العدمي أيضاً ، فكما يستصحب السفر يستصحب عدم الصوم في ذلك اليوم للشكّ في أنّه هل كان حاضراً فصام ، أو مسافراً فتركه ، فيستصحب العدم ويترتّب عليه الأثر بطبيعة الحال.

فالصحيح أن يقال : إنّ الموضوع للقضاء ليس هو السفر أو المرض ولا مجرّد الترك ، وإنّما هو عنوان الفوت على حذو باب الصلاة ، ومثله غير قابل للإحراز بالاستصحاب.

وتوضيحه : إنّ المستفاد من قوله سبحانه (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ*) أنّه يصوم بعدد ما لم يصمه من أيّام سفره أو مرضه ، وقد عُبّر في بعض الأخبار عن القضاء بالصوم يوماً بدل يوم ، فيُعلم أنّه عوض عمّا فاته فلم يكن أثراً لمجرّد السفر نفسه ، كيف؟! ولازمه وجوب القضاء على المغمى عليه أو المجنون لو سافرا في شهر رمضان ، فإنّ ما دلّ على نفي القضاء عنهما غايته الدلالة على أنّ الترك المستند إلى الجنون أو الإغماء لا يستوجب القضاء ، فلا مقتضي من هذه الناحية ، وهذا لا ينافي وجود مقتضٍ آخر وهو السفر ، فاللّازم الحكم بالقضاء عليهما مع السفر دون الحضر ، وهو كما ترى.

إذن فلم يكن السفر بمجرّده وكذا المرض موضوعاً للحكم جزماً.

وبما أنّ من المقطوع به أنّ المغمى عليه أو المجنون أو الصبي لا يجب عليهم القضاء وإن سافروا ، والمريض أو المسافر يجب عليه ، فيستكشف من ذلك أنّ مجرّد الترك أيضاً لم يكن موضوعاً.

١٧٢

.................................................................................................

______________________________________________________

وإنّما الموضوع الوحيد هو الترك مع ثبوت المقتضي والمقرون بالملاك الملزم ، وهو المعبَّر عنه بالفوت. ومن ثمّ لا يصدق في حقّ المجنون ونحوه ، لعدم المقتضي ، ويصدق في المريض والمسافر لثبوته ، نظراً إلى تحقّق الملاك الملزم المصحّح لصدق عنوان الفوت وإن لم يكن الخطاب فعليّاً.

إذن فيكون حال الصوم حال الصلاة في أنّ الموضوع للقضاء فيهما إنّما هو عنوان الفوت الذي هو أمر وجودي أو كالوجودي ، لكونه من قبيل الأعدام والملكات.

وعلى أيّ حال ، فلا يمكن إثباته بأصالة العدم أو باستصحاب السفر أو المرض ، إلّا على القول بحجّيّة الأُصول المثبتة.

فإن تمّ ما استظهرناه وإلّا فلا أقلّ من تطرّق احتماله من غير برهان على خلافه ، الموجب لتردّد الموضوع بعد الجزم بعدم كونه هو السفر بنفسه حسبما عرفت بين أن يكون أمراً عدميّاً وهو عدم الإتيان بالواجب في ظرفه ليمكن إحرازه بالاستصحاب أو عنواناً وجوديّاً وهو الفوت كي لا يمكن. ومعه لا سبيل أيضاً لإجراء الاستصحاب كما لا يخفى.

وعلى الجملة : فالصوم والصلاة أمّا أنّهما من وادٍ واحد في أنّ الموضوع للقضاء في كليهما هو الفوت كما لعلّه الأقرب حسبما استظهرناه ، أو أنّه مجهول في الصوم لعدم ذكره في شي‌ء من الأدلّة ، ومن الجائز أن يكون هو الفوت في جميع موارده من المرض والسفر والحيض والنفاس ونحوها ، وحيث لم يحرز ما هو الموضوع للحكم الشرعي فلا مجال طبعاً للتمسّك بالاستصحاب ، فيكون المرجع عندئذٍ أصالة البراءة حسبما ذكره في المتن.

١٧٣

[٢٥٢٨] مسألة ٧ : لا يجب الفور في القضاء (١) ولا التتابع. نعم ، يستحبّ التتابع فيه (٢) وإن كان أكثر من ستّة ، لا التفريق فيه مطلقاً أو في الزائد على الستّة.

______________________________________________________

(١) لإطلاقات الأدلّة من الكتاب والسنّة الشاملة لصورة المبادرة وعدمها.

مضافاً إلى التصريح في جملة من الروايات بالقضاء في أيّ شهر شاء ، التي منها صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) «قال : إذا كان على الرجل شي‌ء من صوم شهر رمضان فليقضه في أيّ شهر شاء» (١).

وفي صحيحة حفص بن البختري عن أبي عبد الله (عليه السلام) «قال : كنّ نساء النبيّ (صلّى الله عليه وآله) إذا كان عليهنّ صيام أخّرن ذلك إلى شعبان إلى أن قال : فإذا كان شعبان صمن وصام معهن» (٢).

(٢) للتصريح بجواز التفريق وبأفضليّة التتابع في صحيحة عبد الله ابن سنان (٣) ، مضافاً إلى عمومات المسارعة والاستباق إلى الخير. وهذا من غير فرق فيه بين ما إذا كان القضاء أقلّ من ستّة أيّام أو أكثر ، لإطلاق الدليل.

بل أنّ صحيحة الحلبي المتقدّمة تضمّنت الأمر بالتتابع المحمول على الاستحباب ، لما تقدّم ، وجعل الخيار لمن لم يستطع ومورده ما إذا كان الفائت كثيراً ، كما يدلّ عليه قوله (عليه السلام) : «وليحص الأيّام».

فقوله (عليه السلام) : «فإن فرّق فحسن» إلخ ، ناظر إلى أنّه إذا لم يتمكّن من

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ٣٤١ / أبواب أحكام شهر رمضان ب ٢٦ ح ٥.

(٢) الوسائل ١٠ : ٣٤٥ / أبواب أحكام شهر رمضان ب ٢٧ ح ٤.

(٣) الوسائل ١٠ : ٣٤٠ / أبواب أحكام شهر رمضان ب ٢٦ ح ٤.

١٧٤

.................................................................................................

______________________________________________________

التتابع في الجميع فله الخيار في القضاء بأن يصوم يوماً ويفطر يوماً أو يصوم يومين مثلاً ويفطر يوماً ، فهي دلّت على أفضليّة التتابع حتّى في ما زاد الفائت على ستّة أو ثمانية أيّام.

غير أنّ موثّقة عمار تضمّنت الأمر بالتفريق حتّى فيما إذا كان الفائت صوم يومين ، كما أنّها تضمّنت النهي عن المتابعة فيما إذا كان أكثر من ستّة أيّام ، وفي بعض النسخ : «أكثر من ثمانية» (١).

وقد حملها الشيخ على الجواز (٢).

وهو بعيد جدّاً ، لمنافاته مع قوله : «ليس له» ... إلخ ، كما لا يخفى.

ونحوه ما صنعه في الوسائل من الحمل على من تضعف قوّته ، فإنّه بعيد أيضاً.

والصحيح لزوم ردّ علمها إلى أهلها ، لمعارضتها للنصوص الكثيرة المصرّحة بجواز التتابع ، بل أفضليّته التي لا ريب في تقديمها لكونها أشهر وأكثر. ومع الغضّ وتسليم التعارض والتساقط فيكفي في الجواز بل الاستحباب عمومات المسارعة والاستباق إلى الخير كما عرفت.

وأمّا ما نُسب إلى المفيد من لزوم التفريق مطلقاً فلا تجوز المتابعة حتّى في الأقلّ من الستّة ، فلو كان عليه يومان فرّق بينهما بيوم لزوماً (٣).

فلم نجد عليه أيّ دليل وإن علّله في محكي المقنع بحصول التفرقة بين الأداء والقضاء (٤) ، فإنّه كما ترى.

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ٣٤١ / أبواب أحكام شهر رمضان ب ٢٦ ح ٦.

(٢) التهذيب ٤ : ٢٧٥ ، الاستبصار ٢ : ١١٨.

(٣) المقنعة : ٣٥٩.

(٤) الحدائق ١٣ : ٣١٧.

١٧٥

[٢٥٢٩] مسألة ٨ : لا يجب تعيين الأيّام (١) ، فلو كان عليه أيّام فصام بعددها كفى وإن لم يعيّن الأوّل والثاني وهكذا. بل لا يجب الترتيب أيضاً ، فلو نوى الوسط أو الأخير تعيّن ويترتّب عليه أثره.

______________________________________________________

(١) لإطلاق الأدلّة من الكتاب والسنّة النافي لاعتبار التعيين كمراعاة الترتيب بعد أن لم يكن الفائت متعيّناً في نفسه ومتميّزاً عن غيره وإن تعدّد سببه.

فإنّ ما اشتغلت به الذمّة قد يكون متّصفاً بخصوصيّة بها يمتاز عن غيره وإن شاركه في الصورة كالظهرين ، والأداء والقضاء ، ونافلة الفجر وفريضته وهكذا ، ففي مثله لم يكن بدّ من تعلّق القصد بإحدى الخصوصيّتين كي تتشخّص وتتميّز عن غيرها في مقام التفريغ ، فلا يكفيه الإتيان بأربع ركعات بلا قصد الخصوصيّة ، بل لو فعل كذلك لم يقع عن أيّ منهما بعد تكافؤ النسبتين وعدم ترجيح في البين ، فلا جرم يقع باطلاً.

وقد لا يكون متّصفاً بأيّة خصوصيّة حتّى في صقع الواقع وفي علم الله سبحانه ، ولا يمتاز عن غيره إلّا في مجرّد الاثنينيّة وكونهما فردين من طبيعة واحدة ، وجب أحدهما بسبب ، والآخر بسبب آخر ، كما لو استدان من زيد درهماً ثمّ استدان منه درهماً آخر ، فإنّ الثابت في الذمّة أوّلاً لا مائز بينه وبين ما ثبت ثانياً ، ضرورة أنّ ما استدانه وإن كان معيّناً إلّا أنّ ما اشتغلت به الذمّة في كلّ مرّة هو كلّي الدرهم المماثل بلا اعتبار خصوصيّة الأوليّة أو الثانويّة ، فلا تلزمه في مقام الوفاء رعاية هذه الخصوصيّة بأن يقصد أداء ما اشتغلت به الذمّة أوّلاً ، بل له تركها كما له قصد عكسها ، لما عرفت من عدم تعلّق التكليف إلّا بالكلّي الطبيعي من غير امتياز في البين ، ولا اختلاف بين الدينين إلّا في ناحية السبب دون المسبّب ، والمقام من هذا القبيل.

١٧٦

[٢٥٣٠] مسألة ٩ : لو كان عليه قضاء من رمضانين فصاعداً يجوز قضاء اللاحق قبل السابق (١) ، بل إذا تضيّق اللاحق بأن صار قريباً من رمضان آخر كان الأحوط (*)

______________________________________________________

نعم ، قد يمتاز أحدهما عن الآخر بأمر خارجي وأثر جعلي ، كما لو جعل لأحد الدينين رهناً أو لأحد القضاءين نذراً ، فنذر من فاته يومان من شهر رمضان أن لا يؤخّر قضاء اليوم الثاني عن شهر شوّال مثلاً ففي مثله لا مناص من تعلّق القصد بما له الأثر في حصول ذلك الأثر وترتّبه خارجاً من فكّ الرهن أو الوفاء بالنذر ، إذ لو أدّى الدين أو قضى الصوم من غير قصد تلك الخصوصيّة فهو طبعاً يقع عمّا هو أخفّ مؤنةً ، وهو الطبيعي المنطبق قهراً على العاري عن تلك الخصوصيّة ، فلا يحصل به الفكّ ولا البرّ بالنذر.

والحاصل : أنّه لا امتياز في نفس الطبيعة في أمثال المقام ـ ، وإنّما هو لأمر خارجي قد يكون وقد لا يكون ، فلا يلزم قصد الخصوصيّة في سقوط الطبيعة نفسها وإن احتيج لها لتلك الجهة الخارجيّة.

وهذا سارٍ في كلّ طبيعة وجبت على المكلّف لسببين من غير لحاظ قيد في البين من الواجبات التعبّديّة وغيرها ، فإنّه يكفي في الامتثال تعلّق القصد بنفس الطبيعة من غير لزوم رعاية الترتيب ولا قصد ما اشتغلت به الذمّة أوّلاً ، لخروج كلّ ذلك عن حريم المأمور به ، كما ذكرنا ذلك فيمن اتّفق له موجبان أو أكثر لسجدتي السهو وما شاكل ذلك.

(١) لعين المناط المتقدّم في المسألة السابقة ، فلاحظ.

__________________

(*) سيجي‌ء من الماتن (قدس سره) أنّه لا دليل على حرمة التأخير ، وهو الصحيح.

١٧٧

تقديم اللاحق (١) ، ولو أطلق في نيّته انصرف إلى السابق (٢) ، وكذا في الأيّام (٣).

______________________________________________________

(١) رعايةً للقول بالتضييق ووجوب البدار إلى القضاء قبل مجي‌ء الرمضان الثاني.

(٢) هذا صحيح ، لكن لا من جهة الانصراف على حدّ انصراف اللفظ إلى معناه ، ضرورة عدم خصوصيّة لأحد الرمضانين بما هما كذلك كي تنصرف النيّة إليه حسبما تقدّم بل لأجل أنّ الثاني يمتاز بخصوصيّة خارجيّة زائدة على نفس الطبيعة وهي التضييق على القول به أو الكفّارة ، وما لم يقصد يكون الساقط هو الطبيعي الجامع المنطبق طبعاً على الفاقد لتلك الخصوصيّة الذي هو الأخفّ مؤنةً وهو الرمضان الأول ، إذ يصدق حقيقةً عند مجي‌ء الرمضان الآتي أنّه لم يقصد قضاء شهر رمضان من هذه السنة فتثبت عليه الكفّارة.

نظير ما تقدّم من استدانة درهم ثمّ استدانة درهم آخر وله رهن ، حيث عرفت أنّه ما لم يقصد الثاني في مقام الوفاء لا يترتّب عليه فكّ الرهن ، وإنّما تفرغ الذمّة عن طبيعي الدرهم المدين المنطبق طبعاً على العاري عن خصوصيّة الرهن ، إذ الساقط في كلا الموردين إنّما هو الكلّي بما هو كلّي لا بما فيه من الخصوصيّة ، بل هي تبقى على حالها. وهذا هو منشأ الانصراف في أمثال المقام.

(٣) أي فتنصرف النيّة فيها أيضاً إلى السابق ، وهو وجيه لو تضمّن اللّاحق خصوصيّة بها تمتاز عن السابق على حذو ما مرّ وإلّا فلا معنى للانصراف بعد أن لم يكن بينهما تمييز حتّى واقعاً ، وإنّما هما فردان من طبيعة واحدة كما تقدّم.

١٧٨

[٢٥٣١] مسألة ١٠ : لا ترتيب بين صوم القضاء وغيره من أقسام الصوم الواجب كالكفّارة والنذر ونحوهما (١). نعم ، لا يجوز التطوّع بشي‌ء لمن عليه صوم واجب (٢) كما مرّ.

[٢٥٣٢] مسألة ١١ : إذا اعتقد أنّ عليه قضاءً فنواه ثمّ تبيّن بعد الفراغ فراغ ذمّته (٣) لم يقع لغيره ، وأمّا لو ظهر له في الأثناء : فإن كان بعد الزوال لا يجوز العدول إلى غيره ، وإن كان قبله فالأقوى جواز تجديد النيّة لغيره وإن كان الأحوط عدمه.

______________________________________________________

(١) لعدم الدليل عليه وإن نُسب إلى ابن أبي عقيل المنع من صوم النذر أو الكفّارة لمن عليه قضاء عن شهر رمضان (١) ، فإنّه غير ظاهر الوجه ، والمتّبع إطلاقات الأدلّة المطابقة لأصالة البراءة بعد فقد الدليل على شرطيّة الترتيب حسبما عرفت.

(٢) إمّا مطلقاً أو خصوص قضاء شهر رمضان على الخلاف المتقدّم الذي مرّ البحث حوله في المسألة الثالثة من فصل شرائط صحّة الصوم ، فلاحظ.

(٣) قد يكون التبيّن بعد الفراغ عن الصوم ، وأُخرى أثناء النهار ، وعلى الثاني قد يكون بعد الزوال ، وأُخرى قبله.

أمّا في الأوّل : فلا ريب في عدم وقوعه عن الغير ، لفقد النيّة المعتبرة في الصحّة ، فإنّ أقسام الصوم حقائق متباينة لتباين الآثار واختلاف الأحكام وإن اتّحدت صورةً ، فلا بدّ من تعلّق القصد بكلّ منها بالخصوص ، ولا دليل على

__________________

(١) رسالتان مجموعتان من فتاوى العلمين : (فتاوى ابن أبي عقيل) : ٨٢ ، ونسبه في الحدائق ١٣ : ٣١٨ ٣١٩.

١٧٩

.................................................................................................

______________________________________________________

جواز العدول بعد العمل ، ولا ينقلب الشي‌ء عمّا وقع ، فما وقع عن نيّة لا أمر به واقعاً حسب الفرض ، وما له أمر كصوم الكفّارة مثلاً لم يقصده فلم يقع عن نيّة ، فلا مناص من البطلان ، إذ الاجتزاء بغير المأمور به عن المأمور به يحتاج إلى الدليل ، ولا دليل.

وبهذا البيان يظهر البطلان في الثاني أيضاً ، فلا يمكن العدول بنيّته إلى واجب آخر ، لعدم الدليل عليه بعد أن كان مخالفاً لمقتضى القاعدة.

نعم ، لو أراد الصوم الندبي جاز ، لاستمرار وقت نيّته إلى الغروب ، وليس هذا من العدول في شي‌ء ، بل هو من إيقاع النيّة في ظرفها ، لاستمراره إلى الغروب بعد تحقّق الموضوع ، وهو عدم كونه مفطراً كما هو المفروض.

وأمّا في الثالث : فقد تقدّم البحث عنه مستقصًى في مبحث النيّة (١) ، وأنّه هل يستفاد من الأخبار جواز تجديد النيّة قبل الزوال إذا كان الإخلال عن جهل أو نسيان ، أم لا؟ وقد عرفت ما هو الحقّ ، وقلنا : إنّ الصوم واجب واحد ارتباطي متقوّم بالإمساك من الفجر إلى الغروب عن نيّة ، فمتى أخلّ بالنيّة ولو بجزء من الوقت فقد أخلّ بالواجب ولم يكن مطابقاً للمأمور به ، فيحتاج الإجزاء حينئذٍ إلى الدليل ولا دليل ، إلّا في المسافر الذي يقدم أهله ولم يحدث شيئاً ، فإنّه يعدل بنيّته إليه. وأمّا فيما عدا ذلك فيحتاج القلب وتجديد النيّة إلى دليل ، وحيث لا دليل عليه بوجه فيبقى تحت أصالة عدم الجواز بمقتضى القاعدة حسبما عرفت.

هذا في الواجب المعيّن.

وأمّا الواجب غير المعيّن فلا إشكال في استمرار وقت النيّة فيه إلى الزوال

__________________

(١) شرح العروة ٢١ : ٤١ ٧٥.

١٨٠