موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ مرتضى البروجردي

.................................................................................................

______________________________________________________

ومنها : صحيحة إسحاق بن عمّار ، قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن هلال رمضان يغمّ علينا في تسع وعشرين من شعبان «فقال : لا تصمه إلّا أن تراه ، فإن شهد أهل بلد آخر أنّهم رأوه فاقضه» (١).

وهي في الدلالة كسابقتها.

وأوضح من الجميع صحيحة أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) : أنّه سُئل عن اليوم الذي يقضى من شهر رمضان «فقال : لا تقضه إلّا أن يثبت شاهدان عدلان من جميع أهل الصلاة متى كان رأس الشهر. وقال : لا تصم ذلك اليوم الذي يقضى إلّا أن يقضي أهل الأمصار ، فإن فعلوا فصمه» (٢).

فإنّ في قوله (عليه السلام) : «جميع أهل الصلاة» دلالة واضحة على عدم اختصاص رأس الشهر القمري ببلد دون بلد ، وإنّما هو حكم وحداني عامّ لجميع المسلمين على اختلاف بلادهم من حيث اختلاف الآفاق واتّحادها ، فمتى قامت البيّنة على الرؤية من أيّ قطر من أقطار هذا المجموع المركّب وهم كافّة أهل الصلاة كفى.

كما أنّ قوله (عليه السلام) في الذيل : «يقضي أهل الأمصار» مؤكّد لهذا المعنى ، وأنّه لا يختلف مصر عن مصر في هذا الحكم ، بل هو عامّ لجميع الأقطار والأمصار ، وشامل لجميع بقاع الأرض بمختلف آفاقها.

إذن فمقتضى هذه الروايات الموافقة للاعتبار عدم كون المدار على اتّحاد الأُفق ، ولا نرى أيّ مقتضٍ لحملها على ذلك ، إذ لم يُذكَر أيّ وجه لهذا التقييد ، عدا قياس أمر الهلال بأوقات الصلوات ، الذي عرفت ضعفه وأنّه مع الفارق الواضح بما لا مزيد عليه.

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ٢٧٨ / أبواب أحكام شهر رمضان ب ٨ ح ٣.

(٢) الوسائل ١٠ : ٢٩٢ / أبواب أحكام شهر رمضان ب ١٢ ح ١.

١٢١

.................................................................................................

______________________________________________________

ويؤكّده ما ورد في دعاء صلاة يوم العيد من قوله (عليه السلام) : «أسألك بحقّ هذا اليوم الذي جعلته للمسلمين عيداً» (١) فإنّه يُعلم منه بوضوح أنّ يوماً واحداً شخصيّاً يشار إليه بكلمة : «هذا» هو عيدٌ لجميع المسلمين المتشتّتين في أرجاء المعمورة على اختلاف آفاقها ، لا لخصوص بلد دون آخر.

وهكذا الآية الشريفة الواردة في ليلة القدر وأنّها خير من ألف شهر وفيها يفرق كلّ أمر حكيم ، فإنّها ظاهرة في أنّها ليلة واحدة معيّنة ذات أحكام خاصّة لكافّة الناس وجميع أهل العالم ، لا أنّ لكلّ صقع وبقعة ليلة خاصّة مغايرة لبقعة أُخرى من بقاع الأرض.

إذن فما ذهب إليه جملة من الأعاظم من عدم الاعتبار بوحدة الأُفق هو الأوفق بالاعتبار والرأي السديد الحقيق بالقبول حسبما عرفت.

تنبيه :

غير خفي أنّ للقمر على ما ذكره القدماء من الهيئويّين حركتين : حركة في كلّ أربع وعشرين ساعة لها مشرق ومغرب ، وحركة أُخرى في تلك الدائرة يدور فيها حول الأرض من المغرب إلى المشرق في كلّ شهر مرّة واحدة ، فيختلف مكانه في كلّ يوم عن مكانه في اليوم الآخر.

ومن ثمّ قد يتّفق مع الشمس طلوعاً وغروباً وقد يختلف ، فمع الاتّفاق المعبَّر عنه بالمحاق وتحت الشعاع وهو طبعاً في آخر الشهر بما أنّ النصف المستنير فيه بكامله نحو الشمرق ومواجه للشمس لم يُرَ منه أيّ جزء بتاتاً.

ثمّ بعدئذٍ يختلف المسير فينحرف الطرف المستنير إلى الشرق ويستبين جزء منه وبه يتكوّن الهلال الجديد كما تقدّم إلّا أنّ هذا الانحراف المستتبع لتلك

__________________

(١) مصباح المتهجد : ٦٥٤.

١٢٢

[٢٥١٦] مسألة ٥ : لا يجوز الاعتماد على البريد البرقي المسمّى بالتلغراف (١) في الإخبار عن الرؤية ، إلّا إذا حصل منه العلم بأن كان البَلَدان متقاربين وتحقّق حكم الحاكم أو شهادة العدلين برؤيته هناك.

______________________________________________________

الاستبانة تدريجي الحصول لا محالة ، فلا يحدث المقدار المعتدّ به القابل للرؤية ابتداءً ، بل شيئاً فشيئاً ، إذ كلّما فرضناه من النور فهو طبعاً قابل للقسمة ، بناءً على ما هو الحقّ من امتناع الجزء الذي لا يتجزأ.

فلنفرض أنّ أوّل جزء منه واحد من مليون جزء من أجزاء النصف المستنير من القمر ، فهذا المقدار من الجزء متوجّه إلى طرف الشرق ، غير أنّه لشدّة صغره غير قابل للرؤية.

ولكن هذا الوجود الواقعي لا أثر له في تكوّن الهلال وإن علمنا بتحقّقه علماً قطعيّاً حسب قواعد الفلك وضوابط علم النجوم ، إذ العبرة حسب النصوص المتقدّمة بالرؤية وشهادة الشاهدين بها شهادةً حسّيّةً عن باصرة عادية لا عن صناعة علميّة أو كشفه عن علوّه وارتفاعه في الليلة الآتية.

ومنه تعرف أنّه لا عبرة بالرؤية بالعين المسلّحة المستندة إلى المكبّرات المستحدثة والنظّارات القويّة كالتّلسكوب ونحوه. من غير أن يكون قابلاً للرؤية بالعين المجرّدة والنظر العادي.

نعم ، لا بأس بتعيين المحلّ بها ثمّ النظر بالعين المجرّدة ، فإذا كان قابلاً للرؤية ولو بالاستعانة من تلك الآلات في تحقيق المقدّمات كفى وثبت به الهلال كما هو واضح.

(١) يريد (قدس سره) بذلك أنّ البرقيّة وما شاكلها كالتلفون ونحوه لا يعتمد عليها من حيث هي ، نظراً إلى عدم الثقة بالمخبر ، فلم يُعلم أنّه من

١٢٣

[٢٥١٧] مسألة ٦ : في يوم الشك في أنّه من رمضان أو شوّال يجب أن يصوم (١) ، وفي يوم الشك في أنّه من شعبان أو رمضان يجوز الإفطار ، ويجوز أن يصوم لكن لا بقصد أنّه من رمضان كما مرّ سابقاً تفصيل الكلام فيه.

______________________________________________________

الذي يبرق أو يخابر ، ولأجله استدركه بأنّه إذا حصل العلم بأن كان المخبر ثقة والبلد متقارباً بناءً على اعتبار وحدة الأُفق وقد أخبر عن حكم الحاكم بناءً على نفوذه أو عن الرؤية على سبيل التواتر أو الشياع المفيد للعلم ، أو عن شهادة العدلين ، ترتّب عليه الأثر وثبت الهلال ، ضرورة عدم تقوّم الشهادة بكونها لفظيّة وبلا واسطة ، بل تثبت ولو بواسطة البرق أو البريد ونحوهما.

وما ذكره (قدس سره) وجيه ، فإنّه إذا لم يكن المتصدّي للبرقيّة أو التلفون ونحوهما ثقة أو كان ولكنّه كان عدلاً واحداً لا أثر له ، إلّا إذا انضمّ إليه شاهد آخر من البلد ، فإنّ العبرة بقيام البيّنة أو شهادة جمع يحصل العلم من شهادتهم ، ولا خصوصيّة لسبب دون سبب.

(١) الفروع المذكورة في هذه المسألة قد تقدّم الكلام حولها مستقصًى في أوائل كتاب الصوم عند التكلّم في أحكام يوم الشكّ (١) ، وعرفت أنّه في يوم الشك من شوّال لا يجوز الإفطار ، لتعليقه كالصوم على الرؤية ، كما أنّه في يوم الشك من رمضان لا يجب الصيام ، لما ذكر ، وإن جاز بنيّة أُخرى ، كما أنّه في الأوّل يجب الإفطار لو انكشف الخلاف قبل الزوال أو بعده ، لحرمة الصوم في العيدين وفساده ، وفي الثاني يقضي لو أفطر ويمسك بقيّة النهار ، وكذا لو لم يفطر وكان الانكشاف بعد الزوال بل وقبله على الأقوى ، بناءً على ما عرفت

__________________

(١) شرح العروة ٢١ : ٦٥ ٧٣.

١٢٤

ولو تبيّن في الصورة الأُولى كونه من شوّال وجب الإفطار ، سواء كان قبل الزوال أو بعده.

ولو تبيّن في الصورة الثانية كونه من رمضان وجب الإمساك وكان صحيحاً إذا لم يفطر ونوى قبل الزوال (*) ، ويجب قضاؤه إذا كان بعد الزوال.

[٢٥١٨] مسألة ٧ : لو غمّت الشهور ولم يُرَ الهلال في جملة منها أو في تمامها حُسِبَ كلّ شهر ثلاثين (١) ما لم يعلم النقصان عادةً.

______________________________________________________

من عدم الدليل على تجديد النيّة في مثل ذلك.

وهذا كلّه تكرار محض وتفصيله يُطلَب من محلّه ، فلاحظ.

(١) كما عليه المشهور وهو الصحيح ، ويدلّ عليه مضافاً إلى قوله (عليه السلام) : «صم للرؤية وأفطر للرؤية» الدالّ على عدم جواز الصيام والإفطار لدى الشكّ في الهلال بعض النصوص الخاصّة المصرّحة بعدّ الثلاثين مع عدم الرؤية لغيم ونحوه. فلو أطبقت السماء غيماً شهر رجب وشعبان ورمضان عدّ ستّون يوماً من أوّل رجب ويصام في اليوم الواحد والستّين ، ويفطر في اليوم الواحد والتسعين.

هذا فيما إذا لم يعلم بالنقصان عادةً ، وإلّا كما لو أُضيف في المثال شهر جمادى الثانية حيث يعلم حينئذٍ أنّ اليوم العشرين بعد المائة منذ غرّة جمادى الآخرة لم يكن من رمضان قطعاً لامتناع كون أربعة أشهر متواليات تامّات عادةً كنقصها

__________________

(*) مرّ الإشكال فيه.

١٢٥

[٢٥١٩] مسألة ٨ : الأسير والمحبوس إذا لم يتمكّنا من تحصيل العلم بالشهر عَمِلا بالظنّ (١) ،

______________________________________________________

كذلك ، فاللازم حينئذٍ العمل على طبق العلم ، فيفطر في اليوم المذكور في المثال المزبور كما هو ظاهر.

والحاصل : أنّ عدّ الثلاثين أمارة على دخول الشهر الجديد ، ومعلوم أنّ حجّيّة الأمارة خاصّة بظرف الشك ، فمع العلم بالخلاف لا حجّيّة لها.

(١) على المشهور بل ادّعي عليه الإجماع.

والكلام فعلاً فيما تقتضيه وظيفته الفعليّة من حيث تعيين وقت الصيام ، وأمّا الاجتزاء به لدى انكشاف الخلاف فسيجي‌ء حكمه (١).

وقد عرفت أنّ المشهور هو العمل بالظنّ ، فإنّه وإن لم يكن حجّة في نفسه ، بل قامت الأدلّة الأربعة على عدم حجّيّته ، لكنّه فيما إذا لم يقم دليل على حجّيّته بالخصوص وإلّا فهو المتّبع ، كما في الظنّ بالقبلة والظنّ بعدد الركعات ، ومنه المقام ، لصحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد الله عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال : قلت له : رجل أسرته الروم ولم يصحّ له شهر رمضان ولم يدر أيّ شهر هو «قال : يصوم شهراً يتوخّى (يتوخاه) ويحسب ، فإن كان الشهر الذي صامه قبل شهر رمضان لم يجزه ، وإن كان بعد شهر رمضان أجزأه» (٢) ، ورواها الشيخ الكليني أيضاً بطريق صحيح.

وموردها وإن كان هو الأسير لكن يتعدّى منه إلى المحبوس ، لا لوحدة

__________________

(١) في ص ١٣٤ ١٣٥.

(٢) الوسائل ١٠ : ٢٧٦ / أبواب أحكام شهر رمضان ب ٧ ح ١ ، الكافي ٤ : ١٨٠ / ١.

١٢٦

ومع عدمه تخيّرا في كلّ سنة بين الشهور (*) (١) فيعيّنان شهراً له.

ويجب مراعاة المطابقة بين الشهرين في سنتين بأن يكون بينهما أحد عشر شهراً.

______________________________________________________

المناط كما قيل فإنّه قياس محض ، بل لفهم المثاليّة من ذكر الأسير ، إذ لا يكاد يُتأمّل في أنّ العرف يفهم من مثل هذه العبارة أنّ نظر السائل معطوف إلى ما ذكره بعد ذلك من قوله : ولم يصحّ له شهر رمضان ، فالمقصود بالذات من مثل هذا السؤال التعرّف عن حكم من لم يعرف شهر رمضان ولم يميّزه عمّا عداه ، وإنّما ذكر الأسير تمهيداً ومن باب المثال من غير خصوصيّة فيه ، ولا في خصوصيّة الأسير من كونه من الروم بحيث لو كان من الزنج أو من غيرهم من المشركين لم يعمّه الحكم ، فإنّ هذا غير محتمل جزماً.

إذن فالسؤال عن موضوع كلّي ينطبق على الأسير تارةً كما مثّل به السائل ، وعلى الحبوس اخرى ، وعلى غيرهما ثالثة ، كما لو غرقت السفينة فألقاها الموج في جزيرة لا يسكنها أحد أو لا يسكنها مسلم فلم يتعرّف رمضان فإنّه يشمله الحكم قطعاً مع عدم كونه من الأسير ولا المحبوس ، فلأجل هذه الصحيحة يخرج عن عموم عدم حجّيّة الظنّ حسبما عرفت.

(١) على المشهور (١) ، حيث ذهبوا إلى التخيير في تعيين الشهر لدى فقد الظنّ وتساوي الاحتمالات ، بل نُسب ذلك إلى قطع الأصحاب.

__________________

(*) فيه إشكال بل منع.

(١) ما أثبتناه في هذا التعليق ملفّق ممّا استفدناه من مجلس الدرس ، وما أفاده (دام ظلّه) بعد إعادة النظر عند التقديم للطبع.

١٢٧

ولو بانَ بعد ذلك أنّ ما ظنّه أو اختاره لم يكن رمضان : فإن تبيّن سبقه كفاه ، لأنّه حينئذٍ يكون ما أتى به قضاءً ، وإن تبيّن لحوقه وقد مضى قضاه ، وإن لم يمض أتى به.

ويجوز له في صورة عدم حصول (*) الظنّ أن لا يصوم حتّى يتيقّن أنّه كان سابقاً فيأتي به قضاءً.

______________________________________________________

ويستدلّ له بأنّه يعلم إجمالاً بوجوب صوم شهر من شهور السنة ولا يمكنه الاحتياط للتعذّر أو للتعسّر ، فهو مضطرّ إلى الإفطار في بعض أطراف العلم الإجمالي غير المعيّن. وقد تقرّر في الأُصول أنّ مثل هذا الاضطرار لا يستوجب سقوط التكليف الواقعي المتعلّق بالمعلوم بالإجمال ، لعدم تواردهما على محلّ واحد ، فإنّ متعلّق الاضطرار هو الجامع بين الأطراف بمقتضى تعلّقه بغير المعيّن منها ، ومتعلّق التكليف هو الشخص فلم يتعلّق به الاضطرار ليرفعه ، وفي مثله يتخيّر في اختيار أيّ طرف شاء ، كما لو اضطرّ إلى شرب الواحد غير المعيّن من الإناءين المعلوم نجاسة أحدهما إجمالاً.

ويندفع : بأنّ لازم ذلك هو الاقتصار في الإفطار على ما تندفع به الضرورة ، فإنّها تقدّر بقدرها ، فلو ارتفع الاضطرار بالإفطار في خمسة أشهر أو ستّة مثلاً لزمه الصيام في الباقي ، عملاً بالعلم الإجمالي المنجّز ، فيتنزّل عن الامتثال القطعي والاحتياط التامّ إلى التبعيض فيه والامتثال الاحتمالي على النهج الذي عرفت ، لا الصيام في شهر واحد مخيّراً فيه والإفطار في بقيّة الشهور كما عليه المشهور.

وتفصيل الكلام في المقام : أنّا إذا لم نقل بالحرمة الذاتيّة لصوم يوم العيد

__________________

(*) فيه إشكال ، بل الظاهر عدم الجواز.

١٢٨

.................................................................................................

______________________________________________________

كما هو الصحيح فلا مجال حينئذٍ للقول بالتخيير ، بل لا بدّ للمكلّف من أن يصوم تمام الأيّام التي يعلم بوجود شهر رمضان فيها ، عملاً بالعلم الإجمالي فيما إذا لم يكن في ذلك حرج أو ضرر ، وأمّا مع أحدهما فالحكم يبتني على مسألة الاضطرار إلى بعض أطراف العلم الإجمالي غير المعيّن.

فإن قلنا بعدم التنجيز وأنّ الاضطرار يرفع الحكم الواقعي ، فمقتضى القاعدة حينئذٍ هو سقوط التكليف رأساً وعدم وجوب أيّ شي‌ء عليه ، وهو خلاف ما ذهب إليه المشهور في المقام.

وإن قلنا بالتنجيز وعدم سقوط التكليف الواقعي ، نظراً إلى أنّ الاضطرار إنّما تعلّق بالجامع ، ومتعلّق التكليف وهو صوم شهر رمضان لم يتعلّق الاضطرار بتركه بالخصوص ، فلا موجب لسقوط التكليف على ما أشبعنا الكلام حوله في محلّه بل غاية ما هناك عدم وجوب الاحتياط التامّ لمكان الاضطرار. فيجوز له الإفطار بمقدارٍ تندفع به الضرورة ، بمعنى : أنّه يجب عليه الصيام إلى أن يصل إلى حدّ الحرج أو الضرر فيجوز له الإفطار بعد ذلك ، للقطع بعدم وجوب الصوم عليه حينئذٍ ، إذ لو كان شهر رمضان قبل ذلك فقد أتى به ولو كان بعده لم يجب صومه ، لارتفاعه بسبب الاضطرار.

هذا ، وقد يقال في مفروض الكلام بعدم وجوب الصيام إلى أن يتيقّن بدخول شهر رمضان ، عملاً بالاستصحاب ، وبعد اليقين المزبور يجب الصوم ، أخذاً باستصحاب بقاء الشهر إلى أن يتمّ ، فلأجل هذا الأصل الموضوعي الحاكم يسقط العلم الإجمالي عن التنجيز.

ويردّه : أنّه لا مجال للاستصحاب المزبور أعني : استصحاب بقاء شهر رمضان بعد اليقين بدخوله لاندراج المقام في كبرى تحقّق الحالتين السابقتين المتضادّتين مع الشك في المتقدّم منهما والمتأخّر المحكوم فيها بتعارض الاستصحابين ، فإنّه إذا

١٢٩

.................................................................................................

______________________________________________________

علم بدخول شهر رمضان ولم يعلم أنّه دخل في هذا اليوم مثلاً حتّى يبقى إلى شهر أو أنّه قد دخل قبل ذلك وانصرم فهو طبعاً يعلم بأنّ أحد الشهرين السابقين على زمان اليقين لم يكن من شهر رمضان ، غير أنّه لم يميّز المتقدّم منهما عن المتأخّر ، ولم يدر أنّ ذاك هل هو العدم السابق عليهما أو غيره ، وكما ساغ له استصحاب بقاء رمضان ساغ له استصحاب عدم الخروج من ذاك الزمان ، فيتعارضان بطبيعة الحال.

وإن شئت قلت : العدم الأزلي السابق عليهما قد انتقض بالعلم بدخول رمضان جزماً ، وأمّا العدم المعلوم كونه من أحد الشهرين المتقدّمين المردّد بين أن يكون هو العدم الأزلي الزائل فيما لو كان دخول شهر رمضان بعده أو عدما حادثاً باقياً إلى الآن لو كان دخول الشهر قبله فهو قابل للاستصحاب الذي هو من سنخ استصحاب القسم الرابع من أقسام استصحاب الكلّي ، فنقول مشيراً إلى ذاك الزمان : إنّا كنّا على يقين من عدم رمضان والآن كما كان ، وبعد تعارض الاستصحابين كان المتّبع العلم الإجمالي الذي مقتضاه الاحتياط والعمل على طبقه بقدر الإمكان ، وذلك من أجل أنّ وجود شهر رمضان بعد ذلك مشكوك فيه والمرجع فيه طبعاً هو أصالة البراءة ، لكنّها معارضة باستصحاب عدم دخوله إلى زمان اليقين به فيتساقطان ، ومعه لم يكن بدّ من الاحتياط إلى أن يتيقّن بانقضائه.

توضيح المقام : أنّه متى تردّد شهر رمضان بين شهور فكلّ شهر ما عدا الشهر الأخير يشك فيه في دخول شهر رمضان فيجري فيه استصحاب عدم الدخول ، وأمّا الشهر الأخير فاليوم الأوّل منه يتيقّن بدخول شهر رمضان إمّا فيه أو فيما قبله ، ومع اليقين ينقطع الاستصحاب ، ولكن لا يثبت كون هذا اليوم من شهر رمضان ، بداهة أنّ استصحاب عدم الدخول قبله لا يثبت به لازمه وهو كون هذا اليوم من رمضان ، وبما أنّ هذا اليوم مسبوق بحالتين سابقتين

١٣٠

.................................................................................................

______________________________________________________

متضادّتين ، إحداهما : دخول شهر رمضان ، والأُخرى : كون الشهر من غيره ، وبطبيعة الحال يشك في المتقدّم منهما والمتأخّر ، فيتعارض الاستصحابان ويتساقطان ، وحينئذٍ بما أنّ كون هذا اليوم من شهر رمضان مشكوك فيه فوجوب الصوم فيه بخصوصه غير معلوم ومقتضى الأصل البراءة عنه ، ولكن جريان البراءة فيه والاستصحاب فيما قبله مخالف للعلم الإجمالي ، فيتساقطان لا محالة ، ونتيجة ذلك هو الاحتياط كما ذكرناه.

ولمزيد التوضيح نقول : متى تردّد شهر رمضان بين شهور فبطبيعة الحال لا يتيقّن بدخول شهر رمضان إلّا في اليوم الأوّل من الشهر الأخير ، ولكنّه لا يدري أنّ هذا اليوم هل هو اليوم الأوّل ، أو أنّ شهر رمضان قد دخل قبل ذلك ، فهنا استصحابان :

أحدهما : استصحاب عدم دخول الشهر إلى زمان اليقين بدخوله ، وهذا الاستصحاب لا يعارضه إلّا أصالة البراءة بالتقريب الآتي.

ثانيهما : استصحاب بقاء عدم الشهر إلى ذلك اليوم أي يوم اليقين بدخوله فإنّ اليقين بدخوله مع عدم العلم بزمان الدخول يلازم الشكّ في التقدّم والتأخّر بالنسبة إلى زمان الدخول ، بمعنى : أنّه لا يدري أنّ شهر رمضان قد تحقّق وانقضى فعدمه باقٍ إلى هذا اليوم ، أو أنّه كان متأخّراً وذلك العدم قد انقضى فالباقي هو شهر رمضان ، ففي مثل ذلك يتعارض الاستصحابان لا محالة ، فيسقطان وتصل النوبة إلى أصالة البراءة عن وجوب الصوم في هذا اليوم ، فإنّا وإن علمنا إجمالاً بوجوب الصوم في هذا اليوم يقيناً إمّا تعييناً لكونه من رمضان ، أو تخييراً بينه وبين سائر الأيّام لو كان الشهر قد انقضى وبعبارة اخرى : نعلم بوجوبه إمّا أداءً أو قضاءً إلّا أنّ في موارد دوران الأمر بين التعيين والتخيير تجري البراءة عن التعيين.

١٣١

.................................................................................................

______________________________________________________

إذن فوجوب الصوم في خصوص هذا اليوم مشكوك فيه فتجري فيه البراءة عنه ، إلّا أنّها معارضة بالاستصحاب الأوّل ، للعلم الإجمالي بمخالفة أحدهما حسبما عرفت بما لا مزيد عليه.

هذا كلّه على تقدير القول بعدم الحرمة الذاتيّة لصوم يوم العيد.

وأمّا على القول بها فهناك صورتان :

إذ تارةً : يعلم المكلّف بأول كلّ شهر وآخره غير أنّه لا يميّز رمضان عن غيره.

فالحكم في هذه الصورة كما تقدّم من تنجيز العلم الإجمالي المقتضي للاحتياط بقدر الإمكان إلّا في اليوم الأوّل من كلّ شهر وعاشره ، إذ هو كما يعلم إجمالاً بوجوب الصوم في هذين اليومين من كلّ شهر لاحتمال كونهما من رمضان كذلك يعلم إجمالاً بحرمته لاحتمال كونهما من العيدين ، وكما أنّ مقتضى العلم الأوّل وجوب الصوم في جميع الأطراف المحتملة ، كذلك مقتضى العلم الثاني وجوب تركه في جميعها ، وبما أنّ المكلّف لا يتمكّن من الجمع بينهما فلا جرم ينتهي الأمر إلى التخيير بمناط الدوران في هذين اليومين بين المحذورين.

ونتيجة ذلك : وجوب صوم يوم واحد مخيّراً بين هذه الأيّام وترك صوم يوم آخر كذلك ، حذراً عن المخالفة القطعيّة ، ويتخيّر في سائر الأيّام بين الإفطار والصيام.

وتارةً اخرى : لا يعلم بذلك أيضاً ، بمعنى : أنّ كلّ يوم من الأيّام التي تمرّ عليه كما يحتمل أن يكون من شهر رمضان يحتمل أيضاً أن يكون من يوم العيد ، فحينئذٍ بما أنّه لا يتمكّن من الاحتياط فينتهي الأمر أيضاً إلى التخيير كسابقه.

إذن فعليه أن يصوم شهراً واحداً لئلّا تلزم المخالفة القطعيّة ، كما أنّ عليه أن

١٣٢

.................................................................................................

______________________________________________________

يترك الصوم يوماً بعد هذا الشهر ويوماً آخر بعد مضيّ سبعين يوماً منه المحتمل كونهما يومي العيدين ، ويتخيّر في الباقي بين الصيام وتركه.

وعلى الجملة : فمستند المشهور على الظاهر هو ما أشرنا إليه من التنزّل من الامتثال القطعي إلى الظنّي ومنه إلى الاحتمالي ، ومن ثمّ أفتوا بالتخيير ، وإلّا فلا يحتمل أنّهم استندوا إلى مدرك آخر لم يصل إلينا وإنّما مضوا على ما تقتضيه القواعد الأوّلية.

ولكن عرفت أنّ المقام وإن كان مندرجاً في كبرى الاضطرار إلى الاقتحام في بعض أطراف العلم الإجمالي ، إلّا أنّ حكم هذه الكبرى هو الاقتصار على مقدار الضرورة والاحتياط في الباقي ، لا التخيير بين جميع الأطراف ليكون له الخيار في تطبيق شهر رمضان على أيّ شهر شاء.

وممّا ذكرنا يعلم فساد ما اختاره في المتن من جواز أن لا يصوم في صورة عدم حصول الظنّ حتّى يتيقّن أنّه كان سابقاً فيأتي به قضاءً ، فإنّه مبني بحسب الظاهر على عدم تنجيز العلم الإجمالي لدى تعلّق الاضطرار ببعض الأطراف غير المعيّن وأنّه لا فرق بينه وبين تعلّقه بالبعض المعيّن في عدم التنجيز على ما صرّح به صاحب الكفاية (١). إذن لا ملزم له في الإتيان بالصوم فعلاً ، بل يؤخّر حتّى يتيقّن بمضيّ رمضان ثمّ يقضيه.

ولكنّه بمراحل عن الواقع ، بل فاسد جزماً كما بيّناه في الأُصول (٢) ، للفرق الواضح بين التعلّق بالمعيّن وغير المعيّن ، إذ في الأوّل يحتمل الاتّحاد بين متعلّقي الاضطرار والتكليف المعلوم بالإجمال ، المستلزم لسقوطه حينئذٍ ، فلا جزم معه

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٣٦٠.

(٢) مصباح الأُصول ٢ : ٣٦٣ ٣٦٤.

١٣٣

.................................................................................................

______________________________________________________

بالتكليف الفعلي المنجّز على كلّ تقدير الذي هو مناط التنجيز. وهذا بخلاف الثاني ، إذ لا يحتمل فيه الاتّحاد أبداً ، فإنّ مرجع الاضطرار إلى البعض غير المعيّن إلى تعلّقه بالجامع بين الأطراف ، إذ لا خصوصيّة لطرف دون طرف حسب الفرض ، فمتعلّق الاضطرار هو الجامع ، إمّا المعلوم بالإجمال فهو فرد معيّن وطرف خاص لا محالة ، فلا علاقة ولا ارتباط ولا اتّحاد بينهما بوجه كي يستوجب سقوط التكليف ، فلا قصور في تنجيز العلم الإجمالي بوجوب صيام شهر من شهور السنة أبداً ، ومعه كيف يسوغ له التأخير إلى أن يعلم بالمضيّ فيقضي؟! هذا كلّه حكم الوظيفة الفعليّة قبل الانكشاف.

وأمّا لو انكشف الحال : فإن تبيّن مطابقة المأتي به مع رمضان فلا إشكال ، وإن تبيّن تأخّره عنه وأنّ صومه كان واقعاً في شهر ذي القعدة مثلاً أجزأه وحسب له قضاءً ، فإنّه وإن نوى الأداء وهو يغاير القضاء ويباينه في الماهيّة ولا بدّ من تعلّق القصد بكلّ منهما بالخصوص ولا يجزي أحدهما عن الآخر حسبما مرّ في محلّه ، إلّا أنّه يحكم في خصوص المقام بالإجزاء بمقتضى صحيحة عبد الرحمن المتقدّمة المصرّحة بذلك وبها يخرج عن مقتضى القواعد.

فالمقام نظير صوم يوم الشك بعنوان القضاء أو الندب ، وقد تبيّن بعد ذلك أنّه كان أوّل رمضان فإنّه يجزيه عن الأداء ويوم وفّق له وإن كان هو قد نوى القضاء.

وأمّا لو تبيّن تقدّمه عليه وأنّه كان شهر رجب مثلاً فلا يجزي ، إذ لا دليل على إجزاء غير المأمور به عن المأمور به ، بل الدليل قام على العدم ، فإنّ الصحيحة المتقدّمة تضمّنت التصريح بعدم الإجزاء حينئذٍ ، فلاحظ.

١٣٤

والأحوط إجراء أحكام شهر رمضان على ما ظنّه (١) من الكفّارة والمتابعة والفطرة وصلاة العيد وحرمة صومه ما دام الاشتباه باقياً ، وإن بان الخلاف عمل بمقتضاه.

______________________________________________________

(١) لو عيّن شهر رمضان بمقتضى ظنّه فهل يترتّب على مظنون الرمضانيّة جميع آثار رمضان الواقعي من الكفّارة والفطرة وصلاة العيد ونحو ذلك ، أو أنّه يقتصر على الصوم خاصّة؟

لا إشكال في ترتيب آثار الواقع لدى انكشاف الخلاف.

وإنّما الكلام فيما لو استمرّ الجهل ولم ينكشف الحال ، والظاهر أنّه لا ينبغي التأمل في وجوب ترتيب الصوم بماله من الأحكام من الكفّارة ونحوها على مظنون الرمضانيّة ، فلو أفطر فيه متعمّداً لزمته الكفّارة.

وإنّما الكلام في ترتيب ما هو من لوازم الرمضانيّة كوجوب الفطرة بعد مضيّ ثلاثين يوماً ، وكاستحباب صلاة العيد في غده ، وكحرمة صومه لكونه يوم العيد بدعوى قصور النصّ عن التعرّض لمثل هذه اللوازم التي هي خارجة عن الصوم وأحكامه ، ولكن الظاهر هو العموم لجميع تلك الآثار ، وذلك لأنّ المذكور في صحيحة عبد الرحمن : ولم يصحّ له شهر رمضان ... إلخ ، وظاهره تنزيل هذا الشهر منزلة رمضان الواقعي لا تنزيل صومه منزلة صومه.

فإذن يكون الظنّ حجّة في تشخيص رمضان كالبيّنة ونحوها ، لا في مجرّد وجوب الصوم.

وعليه ، فقد أحرزنا بمقتضى الظنّ أنّ هذا الشهر شهر رمضان ، فإذا ضمّ ذلك إلى ما ثبت من الخارج من أنّ ما بعد الثلاثين من شهر رمضان لدى عدم الرؤية محكومٌ بالعيد وبأحكامه من الفطرة والصلاة والحرمة ، كان لازم

١٣٥

[٢٥٢٠] مسألة ٩ : إذا اشتبه شهر رمضان بين شهرين أو ثلاثة أشهر مثلاً فالأحوط صوم الجميع (١) ، وإن كان لا يبعد إجراء حكم الأسير والمحبوس.

وأمّا إن اشتبه الشهر المنذور صومه بين شهرين أو ثلاثة (٢) فالظاهر وجوب الاحتياط (*) ما لم يستلزم الحرج ، ومعه يعمل بالظنّ ، ومع عدمه يتخيّر.

______________________________________________________

ذلك بعد ضمّ أحد الدليلين إلى الآخر اللذين هما بمثابة الصغرى والكبرى ترتيب سائر الآثار أيضاً حسبما عرفت.

(١) عملاً بالعلم الإجمالي ، ولم يستبعد (قدس سره) إجراء حكم الأسير والمحبوس ، وهذا هو الأظهر ، لأنّا استفدنا حسبما مرّ من صحيحة عبد الرّحمن أنّ ذكر الأسير إنّما هو من باب المثال ، وإلّا فالسؤال عن حكم موضوع كلّي وهو من لم يصحّ له شهر رمضان ، والأسير من أحد مصاديقه من غير خصوصيّة له في الحكم بوجه ، ولذا تعدّينا إلى أسير غير الروم وإلى غير الأسير كالمحبوس ونحوه. ومنه المقام ، فالحكم عامّ للجميع بمناط واحد.

(٢) لهذه المسألة صورتان :

إحداهما : أن يكون الشهر المنذور صومه متعيّناً في نفسه ، كما لو علم أنّه نذر صوم شهر رجب مثلاً ولكنّه اشتبه بين شهرين أو أكثر ، فلم يدر أنّ هذا شهر رجب أو الآتي أو ما بعده ، والظاهر أنّ عبارة المتن ناظرة إلى هذه الصورة.

__________________

(*) بل الظاهر وجوب الاحتياط إلى زمانٍ يكون الصوم فيه حرجيّا ، وحكم الظنّ هنا حكم الشك.

١٣٦

.................................................................................................

______________________________________________________

وحكمها الإلحاق بشهر رمضان المشتبه بين الشهرين أو الشهور ، لوحدة المناط ، ولا ميز بينهما أبداً إلّا من حيث الأخذ بالمظنون ، إذ الظنّ ليس بحجّة ، وإنّما عملنا به في رمضان بمقتضى صحيحة عبد الرحمن ، ولا يمكن التعدّي من موردها إلى المنذور ، فإنّه قياس لا نقول به ، فحكم الظنّ هنا حكم الشكّ ، وقد عرفت أن الحكم فيه وجوب الاحتياط إلى أن يتحقّق الحرج ، وبعده لا يجب ، فإنّ المنذور إن كان قبله فقد صامه ، وإن كان بعده لم يجب ، لأنّه حرجي.

هذا ، وقد يقال بجواز التأخير إلى الشهر الأخير ، عملاً بأصالة عدم دخول ذلك الشهر وهو شهر رجب في المثال إلى أن يتيقّن بدخوله وهو الشهر الأخير ويصوم بعده ، استناداً إلى أصالة عدم الخروج عن ذلك الشهر المقطوع دخوله فيه.

ولكنّه يندفع بمعارضة هذا الأصل بأصالة بقاء عدم ذاك الشهر المتيقّن سابقاً.

بيان ذلك : أنّه إذا دخل الشهر الثالث فكما أنّ لنا يقيناً بدخول شهر رجب ونشكّ في انقضائه كذلك لنا يقين بأنّ اليوم الأوّل من هذا الشهر أو اليوم الذي قبله ليس من شهر رجب ، ولكنّا نشكّ في أنّ هذا العدم هل هو العدم الأزلي الزائل جزماً أو عدم حادث متيقّن البقاء؟ فبما أنّ ذلك العدم لا يقين بارتفاعه فيجري فيه الاستصحاب ويعارض به استصحاب وجوده ، فيتساقطان ، فلا مناص من الاحتياط إلى أن يتحقّق الحرج.

ثانيتهما : أن يكون متعلّق النذر مشكوكاً في حدّ نفسه ، فلا يدري أنّه نذر صوم شهر رجب أو شعبان أو جمادى الآخرة مثلاً من غير ترديد في الموجود الخارجي. وحكمه الاحتياط ، عملاً بالعلم الإجمالي ، بناءً على ما ذكرناه وذكره

١٣٧

.................................................................................................

______________________________________________________

المحقّقون من عدم الفرق في تنجيز العلم الإجمالي بين الدفعي والتدريجي.

هذا فيما إذا لم يستلزم التعذّر أو التعسّر ، وإلّا سقط الاحتياط التامّ واندرج المقام تحت كبرى الاضطرار إلى الاقتحام في بعض أطراف العلم الإجمالي غير المعيّن.

وقد ذكرنا في الأُصول (١) : أنّ في مثله لا يسقط العلم الإجمالي عن التنجيز وإن حكم جمع منهم : صاحب الكفاية (٢) بالسقوط ، بزعم عدم الفرق بينه وبين الاضطرار إلى المعيّن ، كعدم الفرق بين سبق الاضطرار على العلم أو تأخّره عنه.

وذلك لعدم احتمال كون المعلوم بالإجمال مورداً للاضطرار في المقام كما هو كذلك في المعيّن ، ضرورة أنّ متعلّق الاضطرار إنّما هو الجامع بين الأطراف ، والتكليف الواقعي المعلوم بالإجمال متعلّق بطرف واحد بخصوصه ، وتطبيق المكلّف ذاك الجامع على طرفٍ يحتمل كونه الواقع لا يكشف عن تعلّق الاضطرار بذاك الطرف بخصوصه كما هو ظاهر ، فما هو الواجب واقعاً لم يضطرّ إليه المكلّف ، وما اضطرّ إليه لم يتعلّق به التكليف ، فكيف يسقط عن التنجيز؟! إذن لا مقتضي لرفع الحكم الواقعي ولا سقوط العلم الإجمالي عن التنجيز ، غايته سقوط الاحتياط التامّ من أجل العجز أو العسر والحرج ، فيرفع اليد عنه بمقدار تندفع به الضرورة ، نظراً إلى أنّ الضرورات تقدّر بقدرها ، ويحتاط في بقيّة الأطراف فيتنزّل إلى الاحتياط الناقص.

__________________

(١) مصباح الأُصول ٢ : ٣٨٠ ٣٨١.

(٢) كفاية الأُصول : ٣٦٠.

١٣٨

[٢٥٢١] مسألة ١٠ : إذا فُرض كون المكلّف في المكان الذي نهاره ستّة أشهر وليله ستّة أشهر (١) ، أو نهاره ثلاثة وليله ستّة ، أو نحو ذلك ، فلا يبعد كون المدار في صومه وصلاته على البلدان المتعارفة (*) المتوسّطة مخيّراً بين أفراد المتوسّط.

وأمّا احتمال سقوط تكليفهما عنه فبعيد ، كاحتمال سقوط الصوم وكون الواجب صلاة يوم واحد وليلة واحدة.

ويحتمل كون المدار بلده الذي كان متوطّناً فيه سابقاً إن كان له بلد سابق.

______________________________________________________

(١) تعرّض (قدس سره) لحكم بعض البلدان التي لا يكون فيها يوم وليلة على النحو المتعارف. والظاهر أنّه لا يوجد بلد مسكون تكون السنة فيه كلّها يوماً واحداً وليلة واحدة ، إلّا أنّ المكان موجود كما في قطبي الشمال والجنوب ، فإنّ الشمس على ما ذكره علماء الهيئة تميل من نقطة الشرق إلى الشمال إلى ما يعادل ثلاثة وعشرين درجة خلال ثلاثة أشهر وترجع في ثلاثة أشهر أيضاً ، ويعبّر عن هذه النقطة لدى شروعها في الميل نحو الشمال بالاعتدال الربيعي ، ثمّ تبدأ في الميل إلى الجنوب ثلاثة أشهر رواحاً ، وثلاثة أشهر أُخرى رجوعاً ، ويعبّر عن تلك النقطة حينئذٍ بالاعتدال الخريفي ، فهي في ستّة أشهر تكون في طرف الشمال رواحاً ومجيئاً ، وستّة أشهر في طرف الجنوب كذلك في مدار ثلاثة وعشرين درجة من الجانبين كما عرفت.

والدائرة المفروضة التي تمرّ بهاتين النقطتين الواقعة فيما بين الاعتدالين الربيعي

__________________

(*) ما ذكره مشكل جدّاً ، ولا يبعد وجوب الهجرة إلى بلادٍ يتمكّن فيها من الصلاة والصيام.

١٣٩

.................................................................................................

______________________________________________________

والخريفي تسمّى دائرة المعدل ، فيكون سير الشمس أو بالأحرى سير الأرض ستّة أشهر في النصف الشمالي من هذه الدائرة ، وستّة أشهر في النصف الجنوبي منها ، ويتكوّن من هذا الاختلاف الفصول الأربعة ، كما يتفرّع عليه نقصان الليل والنهار ، ويتساويان في نقطتي الاعتدال الربيعي والخريفي غير المتحقّق في طول السنة إلّا مرّتين أوّل الربيع وأوّل الخريف.

هذا كلّه في البلاد التي تكون مائلة إلى طرفي الشمال أو الجنوب ، أي لا تكون واقعة على القطب.

وأمّا ما كان واقعاً على نفس القطب أو ما يقرب منه فبطبيعة الحال تكون هذه الدائرة أي دائرة المعدل افقاً له ، وتسير الشمس فوق دائر الأُفق ستّة أشهر وتكون حركتها رحويّة ، أي تدور حول الأُفق مثل الرحى ، فيتصاعد عن الأُفق لدى سيرها الدوري ثلاثة أشهر ، وبعد ذلك تأخذ في الهبوط وتقرب من الأُفق خلال ثلاثة أشهر إلى أن تغيب في الأُفق ، فتبقى تحت الأرض ستّة أشهر على النهج الذي عرفت.

ونتيجة ذلك : أنّ من يقف على أحد القطبين أو حواليهما يرى الشمس ستّة أشهر وهو النهار ، ولا يراها ستّة أشهر وهو الليل ، فمجموع السنة تنقسم بالإضافة إليه إلى يوم واحد وليلة واحدة ، وبطبيعة الحال يكون ما بين الطلوعين بالنسبة إليه قريباً من عشرين يوماً من أيّامنا ، لأنّه ثُمن اليوم تقريباً.

والكلام في وظيفة مثل هذا الشخص :

ذكر (قدس سره) في المتن لذلك وجوهاً واحتمالات :

أحدها وهو الذي اختاره (قدس سره) ـ : أن يكون المدار في صومه وصلاته على البلدان المتعارفة المتوسّطة ، مخيّراً بين أفراد المتوسّط ، فيصوم عند طلوع الفجر عندهم ، ويفطر عند غروبهم ، فيصوم بصومهم ويصلّى بصلاتهم.

١٤٠