موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ مرتضى البروجردي

.................................................................................................

______________________________________________________

في جميع أطراف القمر كطوق محيط به فهو أمارة كونه لليلتين ، فيحكم بأنّ السابقة هي الليلة الأُولى ولو لم ير الهلال فيها (١). ومال إليه الفاضل الخراساني في الذخيرة (٢) ، بل يظهر من الشيخ (قدس سره) في التهذيب القول به (٣) ، لكن في خصوص ما إذا كان في السماء علّة من غيم أو ما يجري مجراه بحيث لا يمكن معها الرؤية مع عدم وضوح دليل على هذا التقييد.

وكيفما كان ، فمستند المسألة ما رواه المشايخ الثلاثة بإسنادهم عن محمّد بن مرازم ، عن أبيه ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) : «قال : إذا تطوّق الهلال فهو لليلتين ، وإذا رأيت ظلّ رأسك فيه فهو لثلاث» (٤) وعن العلّامة في التذكرة على ما حكاه عنه في الجواهر (٥) النقاش في السند ورميه بالضعف.

وهو وجيه في سند الصدوق ، لجهالة طريقه إلى ابن مرازم ، وكأنّه (قدس سره) قصر النظر عليه ولم يفحص عن بقيّة الطرق ، وإلّا فسند الشيخ والكليني كلّ منهما صحيح وخالٍ عن شائبة الإشكال.

فقد رواها الشيخ بإسناده عن سعد الذي هو سعد بن عبد الله على ما صرّح به في التهذيب ، وطريقه إليه صحيح عن يعقوب بن يزيد ، عن محمّد بن مرازم ، عن أبيه وكلّهم ثقات عن أبي عبد الله (عليه السلام).

ورواها الكليني عن أحمد بن إدريس ، الذي هو أبو علي الأشعري شيخه

__________________

(١) الجواهر ١٦ : ٣٧٥.

(٢) انظر ذخيرة المعاد ١ : ٥٣٤.

(٣) التهذيب ٤ : ١٧٨.

(٤) الوسائل ١٠ : ٢٨١ / أبواب أحكام شهر رمضان ب ٩ ح ٢ ، الكافي ٤ : ٧٨ / ١١ ، الفقيه ٢ : ٧٨ / ٣٤٢ ، التهذيب ٤ : ١٧٨ / ٤٩٥ ، الاستبصار ٢ : ٧٥ / ٢٢٩.

(٥) الجواهر ١٦ : ٣٧٥.

١٠١

.................................................................................................

______________________________________________________

ومن الثقات الأجلاء ، عن محمّد بن أحمد وهو محمّد بن أحمد بن يحيى من الثقات أيضاً عن يعقوب بن يزيد ، عن محمّد بن مرازم ، عن أبيه.

فالرواية صحيحة السند قطعاً ولا مجال للنقاش فيها بوجه ، سيّما وأنّ الكليني صرّح في صدر كتابه أنّه لا يذكر فيه إلّا ما هو حجّة بينه وبين ربّه ، وقد سمعت عمل الشيخ بها وإن حملها على صورة خاصّة.

نعم ، لم يعمل بها المشهور ، حيث لم يذكروا التطويق من علامات ثبوت الهلال.

بل جعلها في الحدائق (١) معارضة مع النصوص الدالّة على أنّ من أفطر يوم الشك لا يقضيه إلّا مع قيام البيّنة على الرؤية ، حيث إنّ مقتضى هذه الصحيحة وجوب القضاء مع التطويق وإن لم تثبت الرؤية.

بل قيل بمعارضتها أيضاً مع ما دلّ على أنّ الصوم والإفطار لا يكونان إلّا بالرؤية.

والجميع كما ترى ، فإنّ عدم العمل لا يكون قادحاً بعد أن لم يكن بالغاً حدّ الإعراض لما عرفت من عمل جمع من الأصحاب بها بل وإن بلغ ، بناءً على ما هو الصحيح من عدم سقوط الصحيح بالإعراض عن درجة الاعتبار.

وأمّا توهّم المعارضة بتقريبيها فلا يخلو عن الغرابة ، بداهة أنّ نصوص عدم القضاء كعمومات الرؤية أقصاها أنّها مطلقات غير آبية عن التقييد الذي هو ليس بعزيز في الفقه ، فأيّ مانع من أن تكون الصحيحة مقيّدة لإطلاقهما.

وإن شئت قلت : إنّ ما دلّ على عدم وجوب القضاء ما لم تقم البيّنة لا يثبت عدم القضاء في خصوص التطويق ليكون النصّ الوارد فيه معارضاً له ، وإنّما

__________________

(١) الحدائق ١٣ : ٢٩٠.

١٠٢

.................................................................................................

______________________________________________________

هو حكم مطلق لا ينافي وجوبه إذا ثبت الهلال من طريق آخر غير البيّنة كشياع ونحوه ، فإنّ العبرة في القضاء بثبوت أنّ اليوم الذي أفطر فيه كان من شهر رمضان ، سواء أثبت بالبيّنة كما هو الغالب أم بسبب آخر ، فإذا ثبت بمقتضى الصحيحة أنّ التطويق أيضاً أمارة كالبيّنة فلا جرم يتقيّد بها الإطلاق المزبور.

وبعبارة اخرى : البيّنة طريق إلى الواقع ، والقضاء مترتّب على الإفطار في يوم هو من شهر رمضان بحسب الواقع ، والنصوص المتقدّمة الناطقة بالقضاء لدى قيام البيّنة على الرؤية لا تدلّ على حصر الطريق في البيّنة ، فإذا ثبت من طريق آخر ولو كان ذاك الطريق هو التطويق إذا ساعده الدليل وجب القضاء إذا كان قد أفطر فيه ، والمفروض مساعدته بعد قيام النصّ الصحيح الصريح.

وكذا الحال بعينه بالإضافة إلى عمومات : «صم للرؤية ، وأفطر للرؤية» ، فإنّها مطلقات قابلة للتقييد ولا تكاد تدلّ على الحصر بوجه.

إذن فليست بين الروايات أيّة معارضة بتاتاً ، غايته ارتكاب التقييد في تلك المطلقات ، والالتزام بثبوت القضاء لدى تحقّق التطويق أيضاً كثبوته لدى قيام البيّنة ، عملاً بالصحيحة المتقدّمة.

هذا ، وغير بعيد أن تكون الصحيحة مسوقة للإخبار عن أمر تكويني واقعي لا لبيان تعبّد شرعي ، وهو أنّ التطويق بمقتضى قواعد الفلك لا يكون في الليلة الأُولى أبداً وإنّما هو في الليلة الثانية فحسب ، فيكون الكشف فيه كشفاً قطعيّاً حقيقيّا لا طريقاً مجعولاً شرعيّاً. ولا بدع ، فإنّهم صلوات الله عليهم مرشدوا الخلق في كلّ من أمري التكوين والتشريع.

والشاهد على ذلك قوله (عليه السلام) في ذيلها : «وإذا رأيت ظلّ رأسك فيه

١٠٣

.................................................................................................

______________________________________________________

فهو لثلاث» ، فإنّ من الواضح عدم ابتناء هذه الفقرة على التعبّد وإنّما هي حكاية عن أمر تكويني خارجي ، لعدم حدوث الظلّ قبل الثلاث بالوجدان ، فمن الجائز أن تكون الفقرة السابقة أيضاً كذلك بمقتضى اتّحاد السياق.

ولعلّ هذا هو السرّ في عدم ذكر ذلك في كلمات المشهور ، حيث إنّهم بصدد عدّ الطرق الشرعيّة التعبّديّة لا الأمر التكويني المورث لليقين الوجداني ، ولكنّه بعيد كما لا يخفى.

وكيفما كان ، فسواء أكانت الصحيحة ناظرة إلى بيان حكم شرعي أم أمر تكويني لم يكن بدّ من الأخذ والعمل بها ، ولا يسعنا رفضها وإن لم يعمل بها المشهور بعد استجماعها شرائط الحجّيّة من صحّة السند وصراحة الدلالة ، ولم يثبت الإعراض عنها ، وعلى تقدير ثبوته لا يكون قادحاً على الأقوى كما مرّ.

إذن فالأظهر ثبوت الهلال بالتطويق تبعاً لبعض الأصحاب وإن كان على خلاف المشهور ، والله سبحانه أعلم بحقائق الأُمور.

الأمر الثاني : ذهب الصدوق في الفقيه إلى أنّ شهر رمضان تامٌّ لا ينقص أبداً كما أنّ شهر شعبان ناقصٌ دائماً (١) ، لنصوص دلّت على ذلك صريحاً ، التي منها : ما رواه عن حذيفة بن منصور ، عن معاذ بن كثير ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) «قال : شهر رمضان ثلاثون يوماً لا ينقص والله أبداً» (٢).

وعنه أيضاً قال : قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) : إنّ الناس يقولون : إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) صام تسعة وعشرين أكثر ممّا صام ثلاثين «فقال :

__________________

(١) الفقيه ٢ : ١١١.

(٢) الوسائل ١٠ : ٢٦٩ / أبواب أحكام شهر رمضان ب ٥ ح ٢٧ ، الفقيه ٢ : ١١٠ / ٤٧١.

١٠٤

.................................................................................................

______________________________________________________

كذبوا ، ما صام رسول الله (صلّى الله عليه وآله) منذ بعثه الله تعالى إلى أن قبضه أقلّ من ثلاثين يوماً ، ولا نقص شهر رمضان منذ خلق الله تعالى السماوات والأرض من ثلاثين يوماً وليلة» (١).

وروى الشيخ بإسناده عن يعقوب بن شعيب ، عن أبيه ، قال : قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) : إنّ الناس يقولون : إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) صام تسعة وعشرين يوماً أكثر ممّا صام ثلاثين يوماً «فقال : كذبوا ، ما صام رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إلّا تامّاً ، وذلك قول الله عز وجل (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) (٢) فشهر رمضان ثلاثون يوماً ، وشوّال تسعة وعشرون يوماً ، وذو القعدة ثلاثون يوماً لا ينقص أبداً. لأنّ الله تعالى يقول (وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً) (٣) وذو الحجّة تسعة وعشرون يوماً ، ثمّ الشهور على مثل ذلك شهر تامّ وشهر ناقص ، وشعبان لا يتمّ أبداً» (٤) إلى غير ذلك من الأخبار الواردة بهذا المضمون الناطقة بثبوت شهر رمضان بالعدد وهو عدّه تامّاً أبداً ، وشعبان ناقصاً أبداً.

قال في الفقيه بعد ذكر نبذ من هذه الأخبار ما لفظه : من خالف هذه الأخبار وذهب إلى الأخبار الموافقة للعامّة في ضدّها اتُّقي كما يُتّقى العامّة ولا يكلَّم إلّا بالتقيّة كائناً من كان ، إلّا أن يكون مسترشداً فيرشد ويبيّن له ، فإنّ البدعة إنّما

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ٢٦٨ / أبواب أحكام شهر رمضان ب ٥ ح ٢٤.

(٢) البقرة ٢ : ١٨٥.

(٣) الأعراف ٧ : ١٤٢.

(٤) الوسائل ١٠ : ٢٧١ / أبواب أحكام شهر رمضان ب ٥ ح ٣٢ ، التهذيب ٤ : ١٧١ / ٤٨٣ ، الإستبصار ٢ : ٦٧ / ٢١٦.

١٠٥

.................................................................................................

______________________________________________________

تماث وتبطل بترك ذكرها ، ولا قوّة إلّا بالله (١) ، انتهى.

ونُسِبَ هذا القول إلى الشيخ المفيد أيضاً في بعض كتبه كما صرّح بهذه النسبة في الحدائق أيضاً (٢).

غير أنّ له رسالة خاصّة خطّيّة أسماها بالرسالة العدديّة وهي موجودة عندنا أبطل فيها هذا القول وأنكره أشدّ الإنكار (٣) ، كتبها تأييداً لما ذهب إليه شيخه ابن قولويه من أنّ شهر رمضان كسائر الشهور يصيبه ما يصيبها ، ربّما ينقص وربّما لا ينقص ، ولا ندري أنّه (قدس سره) في أيّ كتاب من كتبه ذكر ما نُسب إليه ، ونظنّ والله العالم أنّها نسبة كاذبة ، لإصراره على إبطال القول المذكور في الرسالة المزبورة كما سمعت ، وذكر فيها : أنّ رواة أنّ شهر رمضان كسائر الشهور هم الرؤساء في الحلال والحرام ، ولا يطعن عليهم في شي‌ء ، وهم الذين يؤخذ منهم الحلال والحرام ، ثمّ تعرّض لذكر جملة منهم.

وكيفما كان ، فسواء أصحّت النسبة أم لا فالقول المذكور في غاية الضعف والسقوط ، لعدم استقامة أسناد تلك الروايات.

وقد ذكر في التهذيب أنّ أكثرها تنتهي إلى حذيفة بن منصور عن معاذ ، وكتاب حذيفة معروف مشهور ولم يوجد فيه شي‌ء من هذه الروايات ، ولو كان الحديث صحيحاً عنه لوجد طبعاً في كتابه (٤).

هذا ، ومن الغريب أنّ الصدوق على إصراره في اختيار هذا القول بتلك المثابة التي سمعتها من مقالته ذكر بنفسه في باب أنّ الصوم والإفطار للرؤية : أنّه

__________________

(١) الفقيه ٢ : ١١١.

(٢) الحدائق ١٣ : ٢٧٠.

(٣) الرسالة العددية (مصنفات الشيخ المفيد ٩) : ١٥ ١٧ ، ٤٨.

(٤) التهذيب ٤ : ١٦٩.

١٠٦

.................................................................................................

______________________________________________________

إذا أفطر يوم الشك ثمّ ظهر أنّه من رمضان يقضيه (١) ، فإنّه كيف يجتمع هذا مع البناء على أنّ شهر شعبان ناقص دائماً ورمضان تامّ أبداً؟!

وبالجملة : لا شك أنّ ما دلّ على أنّ شهر رمضان كسائر الشهور يصيبه ما يصيبها نصوصٌ متواترة ولو إجمالاً وجملة منها صحاح ، فكيف يمكن رفع اليد عنها بالنصوص المعارضة لها التي لا تنهض للمقاومة ولا ينبغي الاعتناء بها تجاهها حتّى لو تم أسنادها؟! على أنّها غير قابلة للتصديق في أنفسها ، ضرورة أنّ حركة القمر حركة واحدة ، كما أنّ الشمس ليست لها سرعة وبطء باعتبار الشهور ، فكيف يمكن تخصيص شهر من بينها بالتمام دوماً ، وآخر وهو شعبان بالنقص أبداً؟! نعم ، من الجائز أنّ السنين التي صام فيها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) كان الشهر فيها تامّاً من باب الصدفة والاتّفاق ، وأمّا تماميّة شهر رمضان مدى الأعوام والدهور ومنذ خلق الله السماوات والأرض فشي‌ء مخالف للوجدان والضرورة ، وغير قابل للتصديق بوجه.

ولذلك أصبحت المسألة كالمتسالم عليها بعد الشيخ الطوسي (قدس سره) وأنّه لا عبرة بالعدد بل بالرؤية فقط ، إمّا بنفسه أو بالشياع ونحوه.

أضف إلى ذلك ما في هذه الروايات من التعليلات الواهية البيّن فسادها والمنزّه ساحة الإمام (عليه السلام) المقدّسة عن التفوّه بها ، كالتعليل الوارد في رواية ابن شعيب المتقدّمة لتماميّة شهر ذي القعدة بقوله سبحانه (وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً) إذ ليت شعري أفهل يلزم من تماميّة الشهر الذي كان فيه ميقات موسى (عليه السلام) التماميّة في جميع السنين ومدى الدهور؟! إلى غير

__________________

(١) لاحظ الفقيه ٢ : ٧٦ ٧٨.

١٠٧

.................................................................................................

______________________________________________________

ذلك ممّا تعرّض له في الوافي ، ونقلها بطولها في الحدائق (١).

الأمر الثالث : قد ورد في عدّة من الروايات أنّ من جملة الأمارات عدّ خمسة أيّام من هلال رمضان الماضية ، فاليوم الخامس هو أوّل الآتية ، فإذا كان أوّل رمضان من هذه السنة يوم السبت ففي القادمة يوم الأربعاء.

ولكنّها ضعيفة السند بأجمعها من جهةٍ أو أكثر ، على أنّها مخالفة للوجدان ، بل بعضها غير قابل للتصديق.

فمن جملتها : ما رواه الكليني بإسناده عن محمّد بن عثمان الجدري (عثيم الخدري) ، عن بعض مشايخه ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) «قال : صم في العام المستقبل اليوم الخامس من يوم صمت فيه عام أوّل» (٢).

فإنّ الجدري الذي لم يعلم ضبط الكلمة وحركاتها مجهول ، وكذا عثيم الخدري ، على أنّها مرسلة. ونحوها غيرها.

وأمّا ما لا يكون قابلا للتصديق فهو رواية السيّاري ، قال : كتب محمّد بن الفرج إلى العسكري (عليه السلام) يسأله عمّا روي من الحساب في الصوم عن آبائك (عليهم السلام) في عدّ خمسة أيّام بين أوّل السنة الماضية والسنة الثانية الذي يأتي ، فكتب : «صحيح ، ولكن عدّ في كلّ أربع سنين خمساً ، وفي السنة الخامسة ستّاً فيما بين الاولى والحادث وما سوى ذلك فإنّما هو خمسة خمسة» قال السيّاري : وهذا من جهة الكبيسة ، قال : وقد حسبه أصحابنا فوجدوه صحيحاً. قال : وكتب إليه محمّد بن الفرج في سنة ثمان وثلاثين ومائتين : هذا الحساب لا يتهيّأ لكلّ إنسان ... إلخ (٣).

__________________

(١) راجع الحدائق ١٣ : ٢٧٦.

(٢) الوسائل ١٠ : ٢٨٣ / أبواب أحكام شهر رمضان ب ١٠ ح ١ ، الكافي ٤ : ٨١ / ٢.

(٣) الوسائل ١٠ : ٢٨٣ / أبواب أحكام شهر رمضان ب ١٠ ح ٢.

١٠٨

.................................................................................................

______________________________________________________

فإنّ مضمونها مضافاً إلى قصور سندها بالسيّاري الذي هو ضعيف جدّاً غير منضبط في نفسه ولا يمكن تصديقه بعد فرض جهالة المبدأ.

فإنّا لو فرضنا أنّ زيداً بلغ وكان أوّل رمضان ما بعد بلوغه يوم السبت ، فبالنسبة إليه يعدّ إلى أربع سنين خمسة أيّام وبعده يعدّ ستة ، وأمّا بالنسبة إلى شخص آخر بلغ بعد ذلك بسنة ، فالسنة الخامسة للأول رابعة لهذا ، كما أنّها ثالثة لمن بلغ بعده بسنتين وهكذا ، وكذا الحال فيمن بلغ قبل ذلك ، ولازمه اختلاف أوّل الشهر باختلاف الناس وعدم كونه منضبطاً ، وهو كما ترى.

ثمّ إنّ من جملة روايات الباب ما رواه ابن طاوس في الإقبال ، نقلاً من كتاب الحلال والحرام لإسحاق بن إبراهيم الثقفي الثقة ، عن أحمد بن عمران بن أبي ليلى ، عن عاصم بن حميد ، عن جعفر بن محمّد (عليه السلام) «قال : عدّد اليوم الذي تصومون فيه وثلاثة أيّام بعده وصوموا يوم الخامس ، فإنّكم لن تخطئوا» (١).

وهي أيضاً كبقيّة الأخبار ضعيفة السند ، لجهالة طريق ابن طاوس إلى الكتاب المزبور أوّلاً ، وجهالة ابن أبي ليلى ثانياً.

وإنّما تعرّضنا لها لنكتة ، وهي أنّ كتاب الحلال والحرام قد نُسب في نسخة الإقبال التي نقل عنها صاحب الوسائل إلى إسحاق بن إبراهيم الثقفي ، كما هو كذلك في بعض النسخ الموجودة لدينا ، التي منها النسخة الصغيرة المطبوعة بالقطع الوزيري.

ويظهر من صاحب المستدرك أنّ النسخة الموجودة عنده أيضاً كانت كذلك ، حيث تعرّض في رجاله لإسحاق بن إبراهيم الثقفي ووثّقه (٢) ، اعتماداً على توثيق

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ٢٨٥ / أبواب أحكام شهر رمضان ب ١٩ ح ٨ ، الإقبال : ١٥.

(٢) خاتمة مستدرك الوسائل ٧ : ١٤٧ / ١٣٥.

١٠٩

.................................................................................................

______________________________________________________

ابن طاوس الذي قال في حقّه : الثقفي الثقة ، كما سمعت.

ولكن النسخة مغلوطة ، فإنّ الكتاب المزبور إنّما هو لأبي إسحاق إبراهيم بن محمّد الثقفي كما هو موجود في البعض الآخر من نسخ الإقبال ، لا لإسحاق بن إبراهيم الثقفي ، بل لا وجود لهذا أصلاً فيما نعلم. فالمؤلّف كنيته أبو إسحاق ، لا أنّ اسمه إسحاق ، بل اسمه إبراهيم.

وقد أوعز إلى ذلك المحدّث المتتبّع الشيخ آقا بزرگ الطهراني (قدس سره) في كتابه : الذريعة (١).

الأمر الرابع : ربّما يعدّ من العلامات جعل رابع رجب أوّل رمضان ، باعتبار ما ورد في بعض الروايات من أنّه يعدّ من أوّل رجب ستّون يوماً فاليوم الستّون هو أوّل رمضان. فكأنّ شهري رجب وشعبان أحدهما تامّ والآخر ناقص أبداً ، فلا يكونان تامّين حتّى يكون أوّل رمضان اليوم الحادي والستّين ، ولا ناقصين حتّى يكون اليوم التاسع والخمسين.

وهذا أيضاً غير قابل للتصديق ، إذ قد يتّفق أنّ كليهما تام أو ناقص كبقيّة الشهور ، إذ لا خصوصيّة لهما من بينها.

ولا مقتضي للالتزام بذلك عدا ما ورد في رواية واحدة رواها الصدوق في كتاب فضائل شهر رمضان عن أبيه ، عن محمّد بن يحيى ، عن محمّد بن أحمد ، عن إبراهيم بن هاشم ، عن حمزة بن يعلى ، عن محمّد بن الحسين بن أبي خالد ، رفعه إلى أبي عبد الله (عليه السلام) : «قال : إذا صحّ هلال رجب فعدّ تسعة وخمسين يوماً وصوم يوم الستّين» (٢).

__________________

(١) الذريعة ٧ : ٦١ / ٣٢٣.

(٢) الوسائل ١٠ : ٢٨٥ / أبواب أحكام شهر رمضان ب ١٠ ح ٧ ، فضائل الأشهر الثلاثة : ٩٤ / ٧٥.

١١٠

[٢٥١٢] مسألة ١ : لا يثبت بشهادة العدلين إذا لم يشهدا بالرؤية ، بل شهدا شهادة علميّة (١).

______________________________________________________

ولكنّها ضعيفة السند ، لجهالة ابن أبي خالد ، مضافاً إلى الرفع.

فلا يصحّ التعويل على هذه العلامة بحيث لو كان أوّل رجب يوم السبت كان أوّل رمضان يوم الثلاثاء دائماً ، لعدم المقتضي له بعد ضعف المستند ، بل عدم قبوله للتصديق حسبما عرفت.

(١) ذكر الفقهاء في كتاب الشهادة أنّه لا بدّ من أن يستند الشاهدان في شهادتهما إلى الحسّ دون الاجتهاد والحدس وإن كان بنحو العلم والقطع ، فلا تقبل الشهادة على الملكيّة أو الطلاق والزوجيّة ونحوها ما لم تستند إلى الحسّ ، كما لا تقبل الشهادة على الهلال ما لم تستند إلى الرؤية وإن كانت شهادة علميّة.

ويدلّ عليه أوّلاً : أنّ هذا مأخوذ في مفهوم الشهادة ، إذ هي ليست بمعنى مطلق العلم وإن استُعملت بمعناه أحياناً ، بل ما كان عن حضور ، ومنه قوله تعالى (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ) (١) وقوله تعالى (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) (٢) إلخ ، أي حضر كما فسّر بذلك. فلأجل أنّ الشهادة من الشهود بمعنى الحضور ، فلا جرم لا تصدّق على ما لم يستند إلى الحسّ ، إذ غايته أنّه عالم بالموضوع لا أنّه شاهد عليه.

وثانياً : قد دلّت الروايات الخاصّة في المقام على اعتبار استناد الشهادة إلى

__________________

(١) البقرة ٢ : ٢٨٢.

(٢) البقرة ٢ : ١٨٥.

١١١

[٢٥١٣] مسألة ٢ : إذا لم يثبت الهلال وترك الصوم ثمّ شهد عدلان برؤيته يجب قضاء ذلك اليوم (١) ، وكذا إذا قامت البيِّنة على هلال شوّال ليلة التاسع والعشرين من هلال رمضان (٢) أو رآه في تلك الليلة بنفسه.

______________________________________________________

الرؤية ، كصحيحة منصور بن حازم : «صم لرؤية الهلال وأفطر لرؤيته ، فإن شهد عندكم شاهدان مرضيّان بأنّهما رأياه فاقضه» (١).

وصحيحة الحلبي : «قال : قال علي (عليه السلام) : لا تقبل شهادة النساء في رؤية الهلال إلّا شهادة رجلين عدلين» (٢) ونحوهما غيرهما.

وبهما يقيَّد الإطلاق في بقيّة النصوص لو سُلّم أنّها مطلقة.

(١) لتحقّق الفوت بمقتضى الشهادة وإن كان معذوراً في الترك بمقتضى استصحاب عدم دخول رمضان ، فيجب القضاء على حسب القاعدة من غير حاجة إلى ورود النصّ الخاصّ ، مع أنّ صحيحة منصور بن حازم المتقدّمة آنفاً صريحة في ذلك.

(٢) إذ يستكشف بذلك أنّه أفطر في اليوم الأوّل من رمضان وإلّا كان الشهر ثمانية وعشرين يوماً ، وهو مقطوع البطلان ، فلا مناص من وجوب القضاء بعد فرض ثبوت الهلال من شوّال بالبيّنة الشرعيّة أو رؤية الشخص نفسه في تلك الليلة ، غايته أنّه كان معذوراً في الإفطار ، وقد اتّفق نظير ذلك في العصر المتأخّر قبل ما يقرب من عشر سنين.

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ٢٨٧ / أبواب أحكام شهر رمضان ب ١١ ح ٤.

(٢) الوسائل ١٠ : ٢٨٨ / أبواب أحكام شهر رمضان ب ١١ ح ٧.

١١٢

[٢٥١٤] مسألة ٣ : لا يختصّ اعتبار حكم الحاكم (*) بمقلّديه (١) ، بل هو نافذ بالنسبة إلى الحاكم الآخر أيضاً إذا لم يثبت عنده خلافه.

______________________________________________________

وكيفما كان ، فالحكم مطابق للقاعدة من غير حاجة إلى ورود النصّ ، وتؤيّده مرسلة ابن سنان ، قال : صام علي (عليه السلام) بالكوفة ثمانية وعشرين يوماً شهر رمضان ، فرأوا الهلال فأمر منادياً ينادي : اقضوا يوماً ، فإنّ الشهر تسعة وعشرون يوماً» (١).

(١) قد عرفت الإشكال في نفوذ حكم الحاكم في أمر الهلال ، وعلى تقديره فلا يفرق فيه بين مقلّديه ومقلّدي غيره ، بل حتّى المجتهد الآخر وإن كان أعلم والناس كلّهم مقلّدوه ولا مقلّد لهذا المجتهد الحاكم أصلاً ، بمقتضى إطلاق الدليل.

وعلى الجملة : الحاكم مرجع ينفذ حكمه ، إمّا في خصوص مورد التنازع والخصومة أو في مطلق الأُمور العامّة على الكلام المتقدّم ، وعلى التقديرين ينفذ حكمه على الكلّ ، عملاً بإطلاق المستند ، إلّا إذا ثبت خلافه فإنّه لا ينفذ حكمه حينئذٍ ، ضرورة أنّه طريق ظاهري محض كسائر الطرق وإن كان يتقدّم على جميعها ما عدا إقرار المحكوم له ، ولا موضوعيّة له بحيث يغيّر الواقع ويستوجب تبدّلاً فيه وإن نُسب ذلك إلى بعض العامّة ، فلو ادّعت المرأة الزوجيّة وأنكرها الزوج وترافعا عند الحاكم فحكم بالعدم بمقتضى الموازين الشرعيّة الثابتة لديه ، لا يجوز لمن يقطع بالزوجيّة تزويجها ، لما عرفت من أنّه طريقٌ لا يغيّر الواقع عمّا عليه بوجه ، فلا جرم تختصّ طريقيّته لغير العالم بالخلاف.

__________________

(*) مرّ الكلام فيه [في هذا الفصل الأمر السادس].

(١) الوسائل ١٠ : ٢٩٦ / أبواب أحكام شهر رمضان ب ١٤ ح ١.

١١٣

.................................................................................................

______________________________________________________

ويدلّ على ذلك أي على كونه حكماً ظاهرياً قوله (عليه السلام) في صحيحة سعد وهشام بن الحكم على رواية الشيخ وسعد بن أبي خلف عن هشام بن الحكم على رواية الكليني وهي صحيحة على التقديرين ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) «قال : قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والايمان ، وبعضكم ألحن بحجّته من بعض ، فأيّما رجل قطعت له من مال أخيه شيئاً فإنّما قطعت له به قطعة من النار» (١).

وهي صريحة في أنّ حكمه (صلّى الله عليه وآله) المستند إلى الموازين الشرعيّة لا ينفذ في حقّ من يعلم أنّه قطع له من مال أخيه وأنّه حينئذٍ قطعة من النار.

وبالجملة : فإذا ثبت خلاف الحكم كالمثال المتقدّم ، أو ثبت خلاف مستنده ، كما لو تخيّل الحاكم عدالة الشاهد أو تعدّده ونحن نعلم فسقه أو وحدته بحيث لو نبّهنا الحاكم لقبل وتراجع ، لم يكن الحكم نافذاً ، لما مرّ.

نعم ، لو كانت الشبهة حكميّة والمسألة خلافيّة ، كما لو كان الحاكم ممّن يرى قبول شهادة ابن الزنا أو كفاية الشياع الظنّي ، كان حكمه نافذاً حتّى بالنسبة إلى من يخالفه في هذا المبنى ، لأنّ حكمه مطابق للموازين الشرعيّة المقرّرة عنده ، وقد أدّى نظره إلى ذاك المبنى بمقتضى بذل وسعه واجتهاده المستند إلى القواعد الشرعيّة ولم يثبت خلافه لدينا ، لجواز كون الصحيح بحسب الواقع هو ما أدّى إليه نظره ، فلا مقتضي لردّ حكمه بعد إطلاق دليل النفوذ حسبما عرفت.

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ٢٣٢ / أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ٢ ح ١ ، الكافي ٧ : ٤١٤ / ١ ، التهذيب ٦ : ٢٢٩ / ٥٥٢.

١١٤

[٢٥١٥] مسألة ٤ : إذا ثبتت رؤيته في بلد آخر ولم يثبت في بلده : فإن كانا متقاربين كفى (١) ، وإلّا فلا (*) ، إلّا إذا علم توافق افقهما وإن كانا متباعدين.

______________________________________________________

(١) لا إشكال في عدم اعتبار كون الرؤية في نفس البلد ، بل يكتفى برؤية الهلال في خارجه بمقتضى إطلاق الأدلّة ، بل التصريح في بعضها بقبول الشهادة من الشاهدين اللذين يدخلان المصر ويخرجان.

كما لا إشكال في كفاية الرؤية في بلد آخر إذا كان متّحداً في الأُفق مع هذا البلد وإن لم يَرَ الهلال فيه ، للملازمة بينهما كما هو ظاهر ، فلا خصوصيّة لهذا البلد بعد ثبوت الهلال في بلد آخر متّحد معه في الأُفق.

كما لا إشكال أيضاً في كفاية الرؤية في بلد آخر وإن اختلفا في الأُفق فيما إذا كان الثبوت هناك مستلزماً للثبوت هنا بالأولويّة القطعيّة ، كما لو كان ذاك البلد شرقيّاً بالإضافة إلى هذا البلد كبلاد الهند بالإضافة إلى العراق ، إذ لا يمكن رؤية الهلال هناك من دون قبوله للرؤية هنا ، مع أنّه متقدّم وسابق عليها ، والرؤية ثمّة متفرّعة على الرؤية هنا ، فالثبوت هناك مستلزم للثبوت هنا بطريق أولى ، فالبيّنة القائمة على الأوّل تخبر بالالتزام عن الثاني. وهذا كلّه ظاهر.

إنّما الكلام في عكس ذلك ، أعني : ما لو اختلف الأُفق وشوهد الهلال في البلاد الغربيّة ، فهل يكفي ذلك للشرقيّة كبلاد الشام بالإضافة إلى العراق ، أو لا؟

المعروف والمشهور هو الثاني ، حيث ذهبوا إلى القول باعتبار اتّحاد الأُفق. وذهب جمع من المحقّقين إلى الأوّل وأنّ الثبوت في قطر كافٍ لجميع الأقطار ،

__________________

(*) لا تبعد الكفاية في البلدان التي تشترك في الليل ولو في مقدار ، ومنه يظهر الحال في المسألة الآتية.

١١٥

.................................................................................................

______________________________________________________

منهم العلّامة في المنتهي وصاحب الوافي والحدائق والمستند والسيّد الخونساري (١) وغيرهم ، ومال إليه في الجواهر (٢) ، واحتمله الشهيد في الدروس (٣).

وهذا القول هو الصحيح ، إذ لا نرى أيّ وجه لاعتبار الاتّحاد عدا قياس حدوث الهلال وخروج القمر عن تحت الشعاع بأوقات الصلوات أعني : شروق الشمس وغروبها فكما أنّها تختلف باختلاف الآفاق وتفاوت البلدان بل منصوص عليه في بعض الأخبار بقوله (عليه السلام) : «إنّما عليك مشرقك ومغربك» إلخ (٤) فكذا الهلال.

ولكنّه تخيّل فاسد وبمراحل عن الواقع ، بل لعلّ خلافه ممّا لا إشكال فيه بين أهل الخبرة وإن كان هو مستند المشهور في ذهابهم إلى اعتبار الاتّحاد ، فلا علاقة ولا ارتباط بين شروق الشمس وغروبها ، وبين سير القمر بوجه.

وذلك لأنّ الأرض بمقتضى كرؤيّتها يكون النصف منها مواجهاً للشمس دائماً والنصف الآخر غير مواجه كذلك ، ويعبّر عن الأوّل في علم الهيئة بقوس النهار ، وعن الثاني بقوس الليل ، وهذان القوسان في حركةٍ وانتقال دائماً حسب حركة الشمس أو حركة الأرض حول نفسها ، على الخلاف في ذلك ، وإن كان الصحيح بل المقطوع به في هذه الأعصار هو الثاني.

وكيفما كان ، فيتشكّل من هاتيك الحركة حالات متبادلة من شروق وغروب ، ونصف النهار ونصف الليل ، وبين الطلوعين وما بين هذه الأُمور من الأوقات

__________________

(١) المنتهي ٢ : ٥٩٢ ، الوافي ١١ : ١٢٠ ١٢١ ، الحدائق ١٣ : ٢٦٣ ٢٦٤ ، المستند ١٠ : ٤٢٢ ٤٢٣.

(٢) الجواهر ١٦ : ٣٦٠ ٣٦٢.

(٣) الدروس ١ : ٢٨٥.

(٤) الوسائل ٤ : ١٩٨ / أبواب المواقيت ب ٢٠ ح ٢.

١١٦

.................................................................................................

______________________________________________________

المتفاوتة.

وهذه الحالات المختلفة منتشرة في أقطار الأرض ومتشقّة في بقاعها دائماً ، ففي كلّ آن يتحقّق شروق في نقطة من الأرض وغروب في نقطة اخرى مقابلة لها ، وذلك لأجل أنّ هذه الحالات إنّما تنتزع من كيفيّة اتّجاه الكرة الأرضيّة مع الشمس التي عرفت أنّها لا تزال في تبدّل وانتقال ، فهي نسبة قائمة بين الأرض والشمس.

وهذا بخلاف الهلال ، فإنّه إنّما يتولّد ويتكوّن من كيفيّة نسبة القمر إلى الشمس من دون مدخل لوجود الكرة الأرضيّة في ذلك بوجه ، بحيث لو فرضنا خلوّ الفضاء عنها رأساً لكان القمر متشكّلاً بشتّى أشكاله من هلاله إلى بدره وبالعكس كما نشاهدها الآن.

وتوضيحه : أنّ القمر في نفسه جرم مظلم وإنّما يكتسب النور من الشمس نتيجة المواجهة معها ، فالنصف منه مستنير دائماً ، والنصف الآخر مظلم كذلك ، غير أنّ النصف المستنير لا يستبين لدينا على الدوام ، بل يختلف زيادةً ونقصاً حسب اختلاف سير القمر.

فإنّه لدى طلوعه عن الأُفق من نقطة المشرق مقارناً لغروب الشمس بفاصلٍ يسير في الليلة الرابعة عشرة من كلّ شهر بل الخامسة عشرة فيما لو كان الشهر تامّاً يكون تمام النصف منه المتّجه نحو الغرب مستنيراً حينئذٍ ، لمواجهته الكاملة مع النير الأعظم ، كما أنّ النصف الآخر المتّجه نحو الشرق مظلم.

ثمّ إنّ هذا النور يأخذ في قوس النزول في الليالي المقبلة ، وتقلّ سعته شيئاً فشيئاً حسب اختلاف سير القمر إلى أن ينتهي في أواخر الشهر إلى نقطة المغرب بحيث يكون نصفه المنير مواجهاً للشمس ، ويكون المواجه لنا هو تمام

١١٧

.................................................................................................

______________________________________________________

النصف الآخر المظلم ، وهذا هو الذي يعبَّر عنه بتحت الشعاع والمحاق ، فلا يُرى منه أيّ جزء ، لأنّ الطرف المستنير غير مواجه لنا لا كلّاً كما في الليلة الرابعة عشرة ، ولا بعضاً كما في الليالي السابقة عليها أو اللاحقة.

ثمّ بعدئذٍ يخرج شيئاً فشيئاً عن تحت الشعاع ، ويظهر مقدار منه من ناحية الشرق ويُرى بصورة هلال ضعيف ، وهذا هو معنى تكوّن الهلال وتولّده ، فمتى كان جزء منه قابلاً للرؤية ولو بنحو الموجبة الجزئيّة فقد انتهى به الشهر القديم ، وكان مبدءاً لشهر قمري جديد.

إذن فتكوّن الهلال عبارة عن خروجه عن تحت الشعاع بمقدار يكون قابلاً للرؤية ولو في الجملة ، وهذا كما ترى أمر واقعي وحداني لا يختلف فيه بلد عن بلد ، ولا صقع عن صقع ، لأنّه كما عرفت نسبة بين القمر والشمس لا بينه وبين الأرض ، فلا تأثير لاختلاف بقاعها في حدوث هذه الظاهرة الكونيّة في جوّ الفضاء.

وعلى هذا فيكون حدوثها بدايةً لشهر قمري لجميع بقاع الأرض على اختلاف مشارقها ومغاربها وإن لم يُر الهلال في بعض مناطقها لمانع خارجي ، من شعاع الشمس ، أو حيلولة الجبال ، وما أشبه ذلك.

أجل ، إنّ هذا إنّما يتّجه بالإضافة إلى الأقطار المشاركة لمحلّ الرؤية في الليل ولو في جزء يسير منه ، بأن تكون ليلة واحدة ليلة لهما. وإن كانت أوّل ليلة لأحدهما وآخر ليلة للآخر المنطبق طبعاً على النصف من الكرة الأرضيّة دون النصف الآخر الذي تشرق عليه الشمس عند ما تغرب عندنا ، بداهة أنّ الآن نهار عندهم ، فلا معنى للحكم بأنّه أوّل ليلة من الشهر بالنسبة إليهم.

ولعلّة إلى ذلك يشير سبحانه وتعالى في قوله : (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ

١١٨

.................................................................................................

______________________________________________________

الْمَغْرِبَيْنِ) (١) باعتبار انقسام الأرض بلحاظ المواجهة مع الشمس وعدمها إلى نصفين لكل منهما مشرق ومغرب ، فحينما تشرق على أحد النصفين تغرب عن النصف الآخر وبالعكس. فمن ثمّ كان لها مشرقان ومغربان.

والشاهد على ذلك قوله سبحانه (يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ) (٢) الظاهر في أنّ هذا أكثر بعد وأطول مسافة بين نقطتي الأرض ، إحداهما مشرق لهذا النصف ، والأُخرى مشرق النصف الآخر.

وعليه ، فإذا كان الهلال قابلاً للرؤية في أحد النصفين حكم بأنّ هذه الليلة أوّل الشهر بالإضافة إلى سكنة هذا النصف المشتركين في أنّ هذه الليلة ليلة لهم وإن اختلفوا من حيث مبدأ الليلة ومنتهاها حسب اختلاف مناطق هذا النصف قرباً وبعداً ، طولاً وعرضاً ، فلا تفترق بلاد هذا النصف من حيث الاتّفاق في الأُفق والاختلاف في هذا الحكم ، لما عرفت من أنّ الهلال يتولّد أي يخرج القمر من تحت الشعاع مرّة واحدة.

إذن فبالنسبة إلى الحالة الكونيّة وملاحظة واقع الأمر الفرق بين أوقات الصلوات ومسألة الهلال في غاية الوضوح حسبما عرفت.

هذا ما تقتضيه نفس الحالة الكونيّة.

وأمّا بالنظر إلى الروايات فيستفاد منها أيضاً أنّ الأمر كذلك وأنّ الثبوت الشرعي للهلال في قطرٍ كافٍ لجميع الأقطار وإن اختلفت آفاقها.

وتدلّنا عليه أوّلاً : إطلاقات نصوص البيّنة الواردة في رؤية الهلال ليوم الشك في رمضان أو شوّال وأنّه في الأوّل يقضى يوماً لو أفطر ، فإنّ مقتضى

__________________

(١) الرّحمن ٥٥ : ١٧.

(٢) الزخرف ٤٣ : ٣٨.

١١٩

.................................................................................................

______________________________________________________

إطلاقها عدم الفرق بين ما إذا كانت الرؤية في بلد الصائم أو غيره المتّحد معه في الأُفق أو المختلف.

ودعوى الانصراف إلى أهل البلد.

كما ترى ، سيّما مع التصريح في بعضها بأنّ الشاهدين يدخلان المصر ويخرجان كما تقدّم ، فهي طبعاً تشمل الشهادة الحاصلة من غير البلد على إطلاقها.

وثانياً : النصوص الخاصّة :

منها : صحيحة هشام بن الحكم عن أبي عبد الله (عليه السلام) : أنّه قال فيمَن صام تسعة وعشرين «قال : إن كانت له بيّنة عادلة على أهل مصرٍ أنّهم صاموا ثلاثين على رؤيته قضى يوماً» (١).

دلّت بمقتضى إطلاقها بوضوح على أنّ الرؤية في مصرٍ كافية لسائر الأمصار وإن لم يُرَ فيها الهلال من غير غيم أو أيّ مانع آخر ، ولم يقيّد فيها بوحدة الأُفق مع أنّ آفاق البلاد تختلف جدّاً حتّى في الممالك الصغيرة كالعراق ، فإنّ شمالها عن جنوبها كشرقها عن غربها يختلف اختلافاً فاحشاً ، فعدم التقييد والحالة هذه وهو (عليه السلام) في مقام البيان يكشف طبعاً عن الإطلاق.

ومنها : صحيحة عبد الرّحمن بن أبي عبد الله ، قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن هلال شهر رمضان يغمّ علينا في تسع وعشرين من شعبان «قال : لا تصم إلّا أن تراه ، فإن شهد أهل بلد آخر فاقضه» (٢).

دلّت على كفاية الرؤية في بلدٍ آخر ، سواه اتّحد أُفقه مع البلد أم اختلف ، بمقتضى الإطلاق.

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ٢٦٥ / أبواب أحكام شهر رمضان ب ٥ ح ١٣.

(٢) الوسائل ١٠ : ٢٥٤ / أبواب أحكام شهر رمضان ب ٣ ح ٩.

١٢٠