حياة الإمام الحسين عليه السلام - ج ٢

باقر شريف القرشي

حياة الإمام الحسين عليه السلام - ج ٢

المؤلف:

باقر شريف القرشي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مدرسة العلمية الايرواني
المطبعة: باقري
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٢

وعلى أيّ حالٍ ، فقد حطّم الإمام بخروجه لعائلته جميع مخطّطات السياسة الاُمويّة ، ونسف جميع ما أقامه معاوية من معالم الظلم.

فقد قمْنَ عقائل الوحي بدور فعال ببثّ الوعي الاجتماعي ، وتعريف المجتمع بواقع الاُمويِّين ، وتجريدهم من الإطار الديني ، ولولاهنَّ لاندرست معالم ثورة الحُسين وذهبت أدراج الرياح.

إنّ مِنْ ألمع الأسباب في استمرار خلود مأساة الإمام الحُسين (عليه السّلام) ، واستمرار فعالياتها في بثّ الإصلاح الاجتماعي على امتداد التاريخ ، هو حمل ودائع الرسالة وعقائل الوحي مع الإمام ، فقد قمْنَ بدور مشرق ببلورة الرأي العام ، فحملنَ راية الإيمان التي حملها الإمام العظيم ، ونشرنَ مبادئه العليا التي استشهد مِنْ أجلها.

فقد انبرت حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) وشقيقة الحُسين السيّدة زينب بنت أمير المؤمنين (عليه السّلام) إلى ساحات الجهاد ، وهي تدكُّ حصونَ الظالمين وتدمّر جميع ما أحرزوه مِن الانتصارات في قتل أخيها ، وتلحق بهم الهزيمة والعار وتملأ بيوتهم مأساة وحزناً.

لقد أقبلت قائدة المسيرة الحسينيّة عقيلة الوحي زينب (عليها السّلام) إلى ساحة المعركة وهي تشقّ صفوف الجيش ، تفتّش عن جثمان أخيها الإمام العظيم ، فلمّا وقفت عليه شخصت لها أبصار الجيش واستحال إلى سمع ، فماذا تقول أمام هذه الخطوب المذهلة التي تواكبت عليها؟

إنّها وقفت عليه غير مدهوشة ولمْ تذهلها الرزايا التي تميد منها الجبال ، فشخصت ببصرها إلى السّماء وهي تقول بحماسة الإيمان وحرارة العقيدة : اللّهم تقبّل منّا هذا القربان.

وأطلقت بذلك أوّل شرارة للثورة على الحكم الاُموي بعد أخيها ، وودّ الجيش أنْ تسيخ به الأرض ؛ فقد استبان له عِظَمُ ما اقترفه مِن الإثم ، وإنّه قد أباد

٣٠١

عناصر الإسلام ومراكز الوعي والإيمان.

ولمّا اقتربت سبايا أهل البيت (عليهم السّلام) إلى الكوفة خرجت الجماهير الحاشدة لاستقبال السبايا ، فخطبت فيهم عقيلة الوحي خطاباً مثيراً ومذهلاً ، وإذا بالناس حيارى لا يعون ولا يدرون ، قد استحالت بيوتهم إلى مآتم وهم يندبون حظّهم التعيس ويبكون على ما اقترفوه مِن الجرم ، وحينما انتهت إلى دار الإمارة استقبلها الطاغية متشفّياً بأحطّ وأخس ما يكون التشفّي قائلاً : كيف رأيتِ صنع الله بأخيك؟

وانطلقت عقيلة بني هاشم ببسالة وصمود فأجابته بكلمات النصر والظفر قائلةً : ما رأيت إلاّ جميلاً ، هؤلاء قومٌ كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم ، وسيجمع الله بينك وبينهم فتُحاج وتخاصم فانظر لمَنْ الفلج يومئذ ثكلتك أُمّك يابن مرجانة.

وأخزت هذه الكلمات ابن مرجانة فكانت أشقّ عليه مِنْ ضرب السيوف وطعن الرماح. ولمّا انتهت إلى الشام هزّت العرش الاُموي بخطابها المثير الرائع ، وحقّقت بذلك مِن النصر ما لمْ تحقّقه الجيوش.

لقد كان حمل الإمام الحُسين (عليه السّلام) لعائلته قائماً على أساس مِن الوعي العميق الذي أحرز به الفتح والنصر.

وبهذا ينتهي بنا الحديث عن بعض أسباب الثورة الحسينيّة ومخططاتها.

٣٠٢

في مكّة

٣٠٣
٣٠٤

وبعدما أعلن الإمام الحُسين (عليه السّلام) رفضه الكامل لبيعة يزيد اتّجه مع أهل بيته إلى مكّة التي هي حرم الله وحرم رسوله ؛ عائذاً ببيتها الحرام الذي فرض فيه تعالى الأمن والطمأنينة لجميع العباد.

لقد اتّجه إلى هذا البلد الأمين ؛ ليكون بمأمن مِنْ شرور الاُمويِّين واعتداءاتهم.

ويقول المؤرّخون : إنّه خرج ليلة الأحد لليلتين بقيتا مِنْ رجب سنة (٦٠ هـ) (١) ، وقد خيّم الذعر على المدنيين حينما رؤوا آل النّبي (صلّى الله عليه وآله) ينزحون عنهم إلى غير مآب.

وفصل الركب مِنْ يثرب وهو جادّ في مسيرته ، وكان الإمام (عليه السّلام) يتلو قوله تعالى : «رَبّ نَجّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ». لقد شبّه خروجه بخروج موسى على فرعون زمانه ، وكذلك قد خرج على طاغية زمانه فرعون هذه الأُمّة ؛ ليقيم الحقّ ويبني صروح العدل ، وسلك الطريق العام الذي يسلكه الناس مِنْ دون أنْ يتجنّب عنه.

وأشار عليه بعض أصحابه أنْ يحيد عنه كما فعل ابن الزّبير مخافة أنْ يدركه الطلب مِن السلطة في يثرب ، فأجابه (عليه السّلام) بكلّ بساطة وثقة في النفس قائلاً : «لا والله ، لا فارقت هذا الطريق أبداً أو أنظر إلى أبيات مكّة ، أو يقضي الله في ذلك ما يحب ويرضى».

لقد رضي بكلّ قضاء يبرمه الله ، ولمْ يضعف ولمْ توهن عزيمته الأحداث الهائلة التي لا يطيقها أيّ إنسان ، وكان يتمثّل في أثناء مسيره

__________________

(١) خطط المقريزي ٢ / ٢٨٥ ، المنتظم لابن الجوزي ، الإفادة في تاريخ الأئمة السادة ، وفي الفتوح ٥ / ٣٤ أنّه خرج لثلاث ليال مضين من شعبان.

٣٠٥

بشعر يزيد بن المفرغ :

لا ذُعرتُ السَّوام في فلق الصبحِ

مغيراً ولا دُعيت يزيدا

يوم اُعطي مِن المهانةِ ضيماً

والمنايا ترصدنني أنْ أحيدا (١)

لقد كان على ثقة أنّ المنايا ترصده مادام مصمّماً على عزمه الجبّار في أنْ يعيش عزيزاً لا يُضام ، ولا يُذلّ ولا يخضع لحكم يزيد.

ويقول بعض الرواة : إنّه كان في مسيرته ينشد هذه الأبيات :

إذا المرءُ لمْ يحمِ بنيهِ وعرسَهُ

ونسوتَهُ كان اللئيمَ المسببا

وفي دون ما يبغي يزيد بنا غداً

نخوضُ حياضَ الموتِ شرقاً ومَغرِبا

ونضربُ ضرباً كالحريقِ مقدماً

إذا ما رآه ضيغمٌ راح هاربا

ودلّ هذا الشعر على مدى عزمه على أنْ يخوضَ حياض الموت ؛ سواء أكانت في المشرق أم في المغرب ولا يبايع يزيد بن معاوية.

مع عبد الله بن مطيع :

واستقبله في أثناء الطريق عبد الله بن مطيع العدوي ، فقال له : أين تريد أبا عبد الله؟ جعلني الله فداك.

ـ «أمّا في وقتي هذا اُريد مكّة ، فإذا صرت إليها استخرت الله في أمري بعد ذلك».

ـ خار الله لك يابن بنت رسول الله فيما قد عزمت عليه ، إنّي أشير عليك بمشورة فاقبلها منّي.

ـ «ما هي؟».

__________________

(١) تاريخ الطبري.

٣٠٦

ـ إذا أتيت مكّة فاحذر أنْ يغرّك أهل الكوفة ؛ فيها قُتِلَ أبوك ، وأخوك طعنوه بطعنة كادت أنْ تأتي على نفسه ، فالزم الحرم فإنّك سيد العرب في دهرك ، فو الله لئن هلكت ليهلكن أهل بيتك بهلاكك.

وشكره الإمام وودّعه ودعا له بخير (١) ، وسار موكب الإمام يجدّ السير لا يلوي على شيء حتّى انتهى إلى مكّة ، فلمّا نظر الإمام (عليه السّلام) إلى جبالها تلا قوله تعالى : «وَلَمّا تَوَجّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى‏ رَبّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السّبِيلِ» (٢).

__________________

(١) المنتظم ـ ابن الجوزي ـ الجزء الخامس ، الفتوح ٥ / ٣٤ ، وجاء في تاريخ ابن عساكر ١٣ / ٥٥ أنّ الحُسين مرّ بابن مطيع وهو يحفر بئراً ، فقال له : إلى أين فداك أبي وأمي ، فقال له : «أردت مكّة». وذكر له كتب أهل الكوفة إليه ، فقال ابن مطيع : فداك أبي وأمي! متّعنا بنفسك ولا تسرِ إليهم. فأبى الحُسين. ثمّ قال له ابن مطيع : إنّ بئري هذه قد رسحتها ، وهذا اليوم أوان تمامها قد خرج إلينا في الدلو شيء مِن مائها ، فلو دعوت الله لنا فيها بالبركة ، فقال (عليه السّلام) : «هات مِن مائها». فأتاه منه فشرب منه وتمضمض وردّه في البئر ، فعذب ماؤها. وجاء في وسيلة المال في عدّ مناقب الآل ـ صفي الدين / ١٨٥ : أنّ عبد الله لقى الحُسين (عليه السّلام) فقال له : جعلت فداك أين تريد؟ فقال : «أمّا الآن فمكّة ، وأمّا بعدها فأستخير الله». فقال : خار الله لك وجعلنا فداك! الزم الحرم فإنّك سيد العرب ، لا يعدل بك أهل الحجاز أحداً ، وتتداعى إليك الناس مِنْ كلّ جانب. لا تفارق الحرم فداك عمّي وخالي ، فوالله إنْ هلكت لنسترقنَّ بعدك.

(٢) الفتوح ٥ / ٣٧.

٣٠٧

لقد كانت هجرته إلى مكّة كهجرة موسى إلى مدين ، فكلّ منهما قد فرّ مِنْ فرعون زمانه ، وهاجر لمقاومة الظلم ومناهضة الطغيان.

في مكّة :

وانتهى الإمام إلى مكّة ليلة الجمعة لثلاث ليال مضين مِنْ شعبان (١) ، وقد حطّ رحله في دار العباس بن عبد المطلب (٢) ، وقد استُقبل استقبالاً حافلاً مِن المكيين ، وجعلوا يختلفون إليه بكرةً وعشيةً وهم يسألونه عن أحكام دينهم وأحاديث نبيّهم.

يقول ابن كثير : وعكف الناس بمكة يفدون إليه ويجلسون حواليه ، ويستمعون كلامه وينتفعون بما يسمعون منه ، ويضبطون ما يروون عنه (٣).

لقد كان بجاذبيته الروحية مهوى القلوب وندى الأفئدة ، وقد حامت حوله النفوس تروي غليلها مِنْ نمير علومه التي هي امتداد مِنْ علوم جدّه مفجّر العلم والنور في الأرض.

احتفاء الحِجّاج والمعتمرين به :

وأخذ القادمون إلى بيت الله مِن الحِجّاج والمعتمرين مِنْ سائر الآفاق يختلفون إليه (٤) ، ويهتفون بالدعوة إليه ويطوفون حوله ، هذا يلتمس

__________________

(١) المنتظم لابن الجوزي ، الإفادة في تاريخ الأئمة السادة.

(٢) تاريخ ابن عساكر ١٣ / ٦٨ ، وفي الأخبار الطوال / ٢٠٩ ، أنّه نزل في شعب علي.

(٣) البداية والنهاية.

(٤) الفصول المهمة لابن الصباغ / ١٧٠ ، وسيلة المال في عدّ مناقب الآل / ١٨٥.

٣٠٨

منه العلم والحديث وذاك يقتبس مِنه الحكم النافعة والكلم الجامعة ؛ ليهتدي بأنوارهما في ظلمات الحياة (١) ، ولم يترك الإمام ثانية مِنْ وقته تمرّ دون أنْ يبثّ الوعي الاجتماعي ، ويدعو إلى اليقظة والحذر مِن السياسة الاُمويّة الهادفة إلى استعباد المسلمين وإذلاهم.

فزع ابن الزّبير :

وكان ابن الزّبير لاجئاً إلى مكّة فراراً مِن البيعة ليزيد ، وقد ثقل عليه اختلاف الناس على الإمام الحُسين (عليه السّلام) وإجماعهم على تعظيمه وتبجيله وزهد الناس وانصرافهم عنه ؛ لأنّه لمْ يكن يتمتع بصفة محبوبة ولا بنزعة كريمة.

يقول زيد بن علي الجذعاني : وكانت فيه خلال لا تصلح معها الخلافة ؛ لأنّه كان بخيلاً ضيّق العطن (٢) ، سيّئ الخُلُق ، حسوداً كثير الخلاف. أخرج محمّد بن الحنفيّة ونفى عبد الله بن عباس إلى الطائف (٣).

ومِنْ مظاهر ذاتياته الشحّ والبخل ، وفيه يقول الشاعر :

رأيتُ أبا بكر وربُّك غالبٌ

على أمره يبغي الخلافةَ بالتمرِ (٤)

وقد عانى الشعب في أيّام حكمه القصير الجوع والحرمان ، كما عانت الموالي التي بالغت في نصرته أشدّ ألوان الضيق ، وقد عبّر شاعرهم عن خيبة أملهم في نصرته يقول :

__________________

(١) نهضة الحسين / ٧٣.

(٢) العطن : مبرك الإبل ، ومربض الغنم.

(٣) فوات الوفيات ١ / ٤٤٨.

(٤) المعارف ـ ابن قتيبة / ٧٦.

٣٠٩

إنّ المواليَ أمستْ وهي عاتبةٌ

على الخليفةِ تشكو الجوع والسَّغبا

ماذا علينا وماذا كان يرزؤنا

أيّ الملوكِ على مَنْ حولنا غلبا (١)

وأظهر ابن الزّبير النسك والطاعة والتقشف ؛ تصنّعاً لصيد البسطاء وإغراء السذّج. وقد وصفه الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) بقوله : «ينصب حبالة الدين لاصطفاء الدنيا» (٢).

ومِن المؤكد أنّه لمْ يكن يبغي في خروجه على سلطان بني أُميّة وجه الله ؛ وإنّما كان يبغي المُلْك والسلطان ، وقد أدلى بذلك عبد الله بن عمر حينما ألحّت عليه زوجته في مبايعته ، وذكرت له طاعته وتقواه ، فقال لها : أما رأيت بغلات معاوية التي كان يحجّ عليها الشهباء؟ فإنّ ابن الزّبير ما يريد غيرهن (٣).

وعلى أيّ حالٍ ، فإنّ ابن الزّبير لمْ يكن شيء أثقل عليه مِنْ أمر الحُسين ؛ لعلمه بأنّه لا يبايعه أحد مع وجود الحُسين (عليه السّلام) ؛ لأنّه ابن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، فليس على وجه الأرض أحدٌ يساميه ولا يساويه ، كما يقول ابن كثير (٤).

وأكّد ذلك (أوكلي) قال : إنّ ابن الزّبير كان مقتنعاً تماماً بأنّ كلّ جهوده ستضيع عبثاً طالماً بقي الحُسين على قيد الحياة ، ولكن إذا أصابه مكروه فإنّ طريق الخلافة سيكون ممهّداً له.

__________________

(١) مروج الذهب ٣ / ٢٢.

(٢) شرح نهج البلاغة ٧ / ٢٤.

(٣) المختار / ٩٥.

(٤) البداية والنهاية ٨ / ١٥٠ وجاء في وسيلة المال / ١٨٥ ، وقد ثقلت وطأة الحُسين على ابن الزّبير ؛ لأنّ أهل الحجاز لا يبايعونه ما دام الحُسين بالبلد ، ولا يتهيأ له ما يطلب منهم مع وجود الحُسين.

٣١٠

وكان يشير على الإمام بالخروج إلى العراق للتخلّص منه ، ويقول له : ما يمنعك مِنْ شيعتك وشيعة أبيك؟ فو الله ، لو أنّ لي مثلهم ما توجّهت إلاّ إليهم (١).

ولمْ يمنح ابن الزّبير النصيحة للإمام ولمْ يخلص له في الرأي ؛ وإنّما أراد أنْ يستريح منه.

ولمْ تخفَ على الإمام دوافعه ، فراح يقول لأصحابه : «إنّ هذا ـ وأشار إلى ابن الزّبير ـ ليس شيء مِن الدنيا أحبّ إليه مِنْ أن أخرج مِن الحجاز ، وقد علم أنّ الناس لا يعدلونه بي ؛ فودّ أنّي خرجت حتّى يخلو له» (٢).

ولمْ تحفل السلطة الاُمويّة بابن الزّبير وإنّما وجّهت جميع اهتمامها نحو الإمام الحُسين (عليه السّلام).

رأي الغزالي :

واستبعد الشيخ محمّد الغزالي أنّ ابن الزّبير قد أشار على الحُسين بالخروج إلى العراق ليستريح منه ، قال : فعبد الله بن الزّبير اتقى الله وأعرق في الإسلام مِنْ أنْ يقترف هذه الدنية (٣).

وهذا الرأي بعيد عن الواقع ؛ فإنّ ابن الزّبير لمْ تكن له أيّة حريجة في الدين ، فهو الذي أجّج نار الفتنة في حرب الجمل وزج أباه فيها ، وقد تهالك على السلطان وضحّى بكلّ شيء في سبيله ، وقد كان مِنْ

__________________

(١) تاريخ الإسلام ـ الذهبي ٢ / ٢٦٨.

تاريخ ابن الأثير ٤ / ١٦ ، الطبري ٦ / ٢١٦.

(٣) من معالم الحق / ١٣١.

٣١١

أعدى الناس للعترة الطاهرة ، ومَنْ كان هذا شأنه فهل يكون تقيّاً وعريقاً في الإسلام؟!

رأي رخيص :

مِن الآراء الرخيصة ما ذهب إليه أنيس زكريا المعروف بنزعته الاُمويّة ، أنّ مِنْ أهمّ الأسباب التي أدّت إلى قتل الإمام الحُسين (عليه السّلام) تشجيع ابن الزّبير له في الخروج إلى العراق ، فقد كان له أثره المهم في نفسه (١).

وهذا القول مِنْ أهزل الآراء ؛ فإنّ الإمام الحُسين (عليه السّلام) لمْ يتأثر بقول ابن الزّبير ولمْ ينخدع بتشجيعه له ، وإنّما كانت هناك عوامل أُخرى حفّزته إلى الخروج إلى العراق ، وقد ذكرناها بالتفصيل في البحوث السابقة.

فزع السلطة المحلّية :

وذُعرت السلطة المحلّية في مكّة مِنْ قدوم الإمام إليها ، وخافت أنْ يتّخذها مقرّاً سياسياً لدعوته ، ومنطلقاً لإعلان الثورة على حكومة دمشق ، وقد خفت حاكم مكّة عمرو بن سعيد الأشدق وهو مذعور فقابل الإمام ، فقال له : ما أقدمك؟

ـ «عائذاً بالله ، وبهذا البيت» (٢).

__________________

(١) الدولة الاُمويّة في الشام / ٥٤.

(٢) تذكرة الخواصّ / ٢٤٨.

٣١٢

لقد جاء الإمام (عليه السّلام) عائذاً ببيت الله الحرام الذي مَنْ دخله كان آمناً ، وكان محصناً مِنْ كلّ ظلم واعتداء.

ولمْ يحفل الأشدق بكلام الإمام ، وإنّما رفع رسالة إلى يزيد أحاطه بها علماً بمجيء الإمام إلى مكّة ، واختلاف الناس إليه وازدحامهم على مجلسه وإجماعهم على تعظيمه ، وأخبره إنّ ذلك يشكّل خطراً على الدولة الاُمويّة.

قلق يزيد :

واضطرب يزيد كأشدّ ما يكون الاضطراب حينما وافته الأنباء بامتناع الحُسين عن بيعته ، وهجرته إلى مكّة واتّخاذها مركزاً لدعوته ، وإرسال العراق الوفود والرسائل إلى الدعوة لبيعته ، فكتب إلى عبد الله بن عباس رسالة ، وهذا نصها :

أمّا بعد ، فإنّ ابن عمّك حُسيناً ، وعدو الله ابن الزّبير التويا ببيعتي ولحقا بمكة مرصدين للفتنة ، معرّضين أنفسهما للهلكة ؛ فأمّا ابن الزّبير فإنّه صريع الفنا وقتيل السيف غداً ، وأمّا الحُسين فقد أحببت الأعذار إليكم أهل البيت ممّا كان منه ، وقد بلغني أنّ رجالاً مِنْ شعيته مِن أهل العراق يكاتبونه ويكاتبهم ، ويمنّونه الخلافة ويمنّيهم الإمرة ، وقد تعلمون ما بيني وبينكم مِن الوصلة وعظيم الحرمة ونتائج الأرحام ، وقد قطع ذلك الحُسين وبتّه ، وأنت زعيم أهل بيتك وسيد بلادك ، فالقه فاردده عن السعي في الفتنة ، فإنْ قبل منك وأناب فله عندى الأمان والكرامة الواسعة ، وأجري عليه ما كان أبي يجريه على أخيه ، وإنْ طلب الزيادة فاضمن له ما أدّيك ، وأنفّذ ضمانك وأقوم له بذلك

٣١٣

وله عليّ الأيمان المغلظّة ، والمواثيق المؤكدة بما تطمئن به نفسه ويعتمد في كلّ الأمور عليها. عجّل بجواب كتابي وبكلّ حاجة لك قبلي ، والسلام. وختم كتابه بهذه الأبيات :

يا أيّها الراكبُ العادي مطيّتَهُ

على غُذافرةٍ في سيرِها قحمُ

أبلغ قريشاً على نأي المزارِ بها

بيني وبين حُسينِ اللهُ والرَّحِمُ

وموقفٌ بفناء البيتِ أنشدُهُ

عهدَ الإله وما توفي به الذممُ

عنيتمُ قومَكم فخراً بأُمّكمُ

أُمٌّ لَعمري حَصانٌ عفةٌ كرمُ

هي التي لا يداني فضلَها أحدٌ

بنتُ الرسول وخيرُ الناس قد علموا

إنّي لأعلمُ أو ظنّاً كعالمِهِ

والظنُّ يصدقُ أحياناً فينتظمُ

أنْ سوف يتركُكُمْ ما تدّعون بها

قتلى تهاداكُمُ العقبانُ والرّخمُ

يا قومَنا لا تشبّوا الحربَ إذ سكنتْ

وأمسكوا بحبالِ السلمِ واعتصموا

قد جرّب الحربَ مَنْ قد كان قبلَكُمُ

مِن القرونِ وقد بادتْ بها الاُممُ

فأنصفوا قومَكم لا تهلكوا برحاً

فرُبَّ ذي برحٍ زلّت به القدمُ

ودلّت هذه الرسالة على غباوة يزيد ؛ فقد حسب أنّ الإمام يطلب المال والثراء في خروجه عليه ، ولمْ يعلم أنّه إنّما ناهضه لا يبغي بذلك إلاّ الله والتماس الأجر في الدار الآخرة.

جواب ابن عباس :

وأجابه ابن عباس : أمّا بعد ، فقد ورد كتابك تذكر فيه لحاق الحُسين وابن الزّبير بمكة ؛ فأمّا ابن الزّبير فرجل منقطع عنّا برأيه وهواه ؛ يكاتمنا مع ذلك أضغاناً يسرّها في صدره ، يوري علينا وري الزناد ، لا فكّ الله أسيرها ، فارى في أمره ما أنت راء ؛ وأمّا الحُسين فإنّه لمّا نزل مكة

٣١٤

وترك حرم جدّه ومنازل آبائه سألته عن مقدمه فأخبرني أنّ عمّالك بالمدينة أساؤا إليه ، وعجّلوا عليه بالكلام الفاحش فأقبل إلى حرم الله مستجيراً به ، وسألقاه فيما أشرت إليه ولنْ أدع النصيحة فيما يجمع الله به الكلمة ، ويطفئ بها النائرة ، ويخمد بها الفتنة ، ويحقن بها دماء الأُمّة.

فاتّقِ الله في السرّ والعلانية ، ولا تبيتنَ ليلة وأنت تريد لمسلم غائلة ، ولا ترصده بمظلمة ولا تحقّر له مهراة (١) ، فكم مِنْ حافر لغيره حفراً وقع فيه ، وكم مِنْ مؤمّل أملاً لمْ يؤت أمله ، وخذْ بحظّك مِنْ تلاوة القرآن ونشر السنّة ، وعليك بالصيام والقيام لا تشغلك عنهما ملاهي الدنيا وأباطيلها ؛ فإنّ كلّ ما اشتغلت به عن الله يضرّ ويفنى ، وكلّ ما اشتغلت به مِنْ أسباب الآخرة ينفع ويبقى. والسلام (٢).

وحفلت هذه الرسالة بما يلي :

١ ـ أنّه لا علاقة لبني هاشم بابن الزّبير ولا هم مسؤولون عن تصرفاته ؛ فقد كان عدواً لهم يتربص بهم الدوائر ويبغي لهم الغوائل.

٢ ـ أنّ الإمام الحُسين إنّما نزح مِنْ يثرب إلى مكّة لا لإثارة الفتنة ؛ وإنّما لإساءة عمّال يزيد له ، وقد قدم إلى مكّة ليستجير ببيتها الحرام.

إقصاء حاكم المدينة :

كان الوليد بن عتبة بن أبي سفيان والياً على يثرب بعد عزل مروان عنها ، وكان فيما يقول المؤرّخون فطناً ذكيّاً ، يحب العافية ويكره الفتنة ، ولمّا امتنع الإمام الحُسين (عليه السّلام) مِن البيعة ليزيد لمْ يتّخذ معه

__________________

(١) المهراة : الحفرة.

(٢) تذكرة الخواصّ / ٢٤٨ ـ ٢٥٠ ، تاريخ ابن عساكر ١٣ / ٧٠.

٣١٥

الإجراءات الصارمة ولمْ يكرهه على ما لا يحبّ ، وإنّما فسح له المجال في الرحيل إلى مكّة مِنْ دون أنْ يعوّقه عنها ، في حين قد أصرّ عليه مروان بالتنكيل به فرفض ذلك ، وقد نقل الاُمويّون موقفه المتّسم باللين والتسامح مع الحُسين إلى يزيد فغضب عليه وعزله عن ولايته (١) ، وقد عهد بها إلى جبّار مِنْ جبابرة الاُمويِّين عمرو بن سعيد الأشدق (٢) وقد عُرِفَ بالقسوة والغلظة ، فقدم إلى المدينة في رمضان بعد أنْ تسلّم ولايته عليها فصلّى بالناس صلاة العتمة.

وفي الصباح خرج على الناس وعليه قميص أحمر وعمامة حمراء ، فرماه الناس بأبصارهم منكرين ما هو عليه ، فصعد المنبر فقال : يا أهل المدينة ، ما لكم ترموننا بأبصاركم كأنّكم تقروننا سيوفكم؟ أنسيتم ما فعلتم! أما لو انتقم في الأولى ما عدتم إلى الثانية ، أغرّكم إذ قتلتم عثمان فوجدتموه صابراً حليماً وإماماً ، فذهب غضبه وذهبت ذاته فاغتنموا أنفسكم ، فقد وليكم إمام بالشباب المقتبل البعيد الأمل ، وقد اعتدل جمسه واشتدّ عظمه ، ورمى الدهر ببصره واستقبله بأسره ، فهو إنْ عضّ لهس وإنْ وطيء فرس ، لا يقلقه الحصى ولا تقرع له العصا.

وعرض في خطابه لابن الزّبير فقال : فو الله لنغزونّه ، ثمّ لئن دخل الكعبة لنحرقنّها عليه على رغم

__________________

(١) البداية والنهاية ٨ / ١٤٨.

(٢) الأشدق : لقّب بذلك لتشادقه الكلام. وقيل : إنّما لقّب بذلك لأنّه كان أفقم مائل الذقن ، جاء ذلك في البيان والتبيين ١ / ٣١٥ ، وقيل : إنّما لقّب بذلك لأنّه أصابه اعوجاج في حلقه لإغراقه في شتم علي ، جاء ذلك في معجم الشعراء / ٢٣١.

٣١٦

أنف مَنْ رغم (١).

ورعف الطاغية على المنبر فألقى إليه رجل عمامة فمسح بها دمه ، فقال رجل مِنْ خثعم : دمٌ على المنبر في عمامة فتنة عمّت وعلا ذكرها وربّ الكعبة (٢). وقد اُثر عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال : «ليرعفنَّ على منبري جبّار مِن جبابرة بني اُميّة فيسيل رعافه» (٣).

وعزم الأشدق على مقابلة الجبهة المعارضة بالقوة والبطش ، وقد حفّزه إلى ذلك ما حلّ بسلفه الوليد مِن الإقصاء وسلب الثقة عنه ؛ نتيجة تساهله مع الحُسين (عليه السّلام).

ولعلّ مِنْ أوثق الأسباب التي دعت الإمام الحُسين (عليه السّلام) إلى مغادرة الحجاز هو الحذر مِنْ بطش هذا الطاغية به ، والخوف مِنْ اغتياله وهو في الحرم.

الحُسين مع ابن عمر وابن عباس :

وكان عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر مقيمين في مكّة حينما أقبل الإمام الحُسين إليها ، وقد خفّا لاستقباله والتشرّف بخدمته وكانا قد عزما على مغادرة مكّة.

فقال له ابن عمر : أبا عبد الله ، رحمك الله ، اتّقِ الله الذي إليه معادك ، فقد عرفت مِنْ عداوة أهل هذا البيت ـ يعني بني اُميّة ـ لكمْ ، وقد ولي الناس هذا الرجل يزيد بن معاوية ولستُ آمن أنْ يميلَ الناس إليه ؛ لمكان هذه الصفراء

__________________

(١) تاريخ الإسلام ـ الذهبي ٢ / ٢٦٨.

(٢) سمط النجوم العوالي ٣ / ٥٧.

(٣) مجمع الزوائد ٥ / ٢٤٠.

٣١٧

والبيضاء فيقتلونك ويهلك فيك بشر كثير ، فإنّي قد سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول : «حُسين مقتول ، ولئن قتلوه وخذلوه ولن ينصروه ليخذلهم الله إلى يوم القيامة». وأنا أشير عليك أن تدخل في صلح ما دخل فيه الناس ، واصبر كما صبرتَ لمعاوية مِنْ قبل ، فلعلّ الله أنْ يحكم بينك وبين القوم الظالمين.

فقال له أبيّ الضيم : «أنا اُبايع يزيد وأدخل في صلحه وقد قال النّبي (صلّى الله عليه وآله) فيه وفي أبيه ما قال؟!». وانبرى ابن عباس فقال له : صدقت أبا عبد الله ؛ قال النّبي (صلّى الله عليه وآله) في حياته : «ما لي وليزيد! لا بارك الله في يزيد ، وإنّه يقتل ولدي وولد ابنتي الحسين. والذي نفسي بيده ، لا يُقتل ولدي بين ظهراني قوم فلا يمنعونه إلاّ خالف الله بين قلوبهم وألسنتهم». وبكى ابن عباس والحُسين ، والتفت إليه قائلاً : «يابن عباس ، أتعلم أنّي ابن بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله)؟».

ـ اللّهم نعم ، نعلم ما في الدنيا أحد هو ابن بنت رسول الله غيرك ، وإنّ نصرك لفرض على هذه الاُمّة كفريضة الصلاة والزكاة التي لا يقبل أحدهما دون الاُخرى.

فقال له الحُسين (عليه السّلام) : «يابن عباس ، ما تقول في قوم أخرجوا ابن بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) مِنْ داره وقراره ، ومولده وحرم رسوله ، ومجاورة قبره ومسجده وموضع مهاجره ، فتركوه خائفاً مرعوباً لا يستقر في قرار ، ولا يأوي في

٣١٨

موطن ، يريدون في ذلك قتله وسفك دمه ، وهو لمْ يشرك بالله ولا اتّخذ من دونه وليّاً ، ولمْ يتغيّر عمّا كان عليه رسول الله (صلّى الله عليه وآله)؟».

وانبرى ابن عباس يؤيد كلامه ويدعم قوله قائلاً : ما أقول فيهم إلاّ أنّهم كفروا بالله ورسوله ، (وَلاَ يَأْتُونَ الصّلاَةَ إِلا وَهُمْ كُسَالَى ، يُرَاءُونَ النّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلا قَلِيلاً ، مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لاَ إِلَى‏ هؤُلاَءِ وَلاَ إِلَى‏ هؤُلاَءِ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً) ، وعلى مثل هؤلاء تنزل البطشة الكبرى ، وأمّا أنت يا بن رسول الله ، فإنّك رأس الفخار برسول الله ، فلا تظنَّ يابن بنت رسول الله أنّ الله غافلٌ عمّا يفعل الظالمون ، وأنا أشهد أنّ مَنْ رغِبَ عن مجاورتك وطمعَ في محاربتك ومحاربة نبيّك محمّد فما له مِنْ خلاق.

وانبرى الإمام الحُسين فصدّق قوله قائلاً : «اللّهم نعم».

وانطلق ابن عباس يظهر له الاستعداد للقيام بنصرته قائلاً : جعلت فداك يابن بنت رسول الله ، كأنّك تريدني إلى نفسك وتريد منّي أنْ أنصرك ، والله الذي لا إله إلاّ هو أنْ لو ضربتُ بين يديك بسيفي هذا بيدي حتّى انخلعا جميعاً من كفّي لما كنت ممّن وفّى مِنْ حقك عشر العشر ، وها أنا بين يديك مرني بأمرك.

وقطع ابن عمر كلامه ، وأقبل على الحُسين ، فقال له : مهلاً عما قد عزمت عليه ، وارجع مِنْ هنا إلى المدينة وادخل في صلح القوم ، ولا تغب عن وطنك وحرم جدك رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، ولا تجعل لهؤلاء الذين لا خلاق لهم على نفسك حجّة وسبيلاً ، وإنْ أحببت أنْ لا تبايع فأنت متروك حتّى ترى رأيك ، فإنّ يزيد بن معاوية عسى أنْ لا يعيش إلاّ قليلاً فيكفيك الله أمره.

وزجره الإمام (عليه السّلام) ، وردّ عليه قوله قائلاً :

٣١٩

«اُفٍ لهذا الكلام أبداً ما دامت السماوات والأرض! أسألك يا عبد الله ، أنا عندك على خطأ مِنْ أمري؟ فإنْ كنت على خطأ ردّني فأنا أخضع وأسمع وأطيع».

فقال ابن عمر : اللّهم لا ، ولمْ يكن الله تعالى يجعل ابن بنت رسول الله على خطأ ، وليس مثلك مِنْ طهارته وصفوته مِنْ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) على مثل يزيد بن معاوية ، ولكنْ أخشى أنْ يُضربَ وجهُك هذا الحسن الجميل بالسيوف وترى مِنْ هذه الاُمّة ما لا تحبّ ، فارجع معنا إلى المدينة ، وإنْ لمْ تحبّ أنْ تبايع فلا تبايع أبداً واقعد في منزلك.

والتفت إليه الإمام فأخبره عن خبث الاُمويِّين وسوء نواياهم نحوه قائلاً : «هيهات يابن عمر! إنّ القوم لا يتركوني وإنْ أصابوني ، وإنْ لمْ يصيبوني فلا يزالون حتّى اُبايع وأنا كاره أو يقتلوني. أما تعلم يا عبد الله ، إنّ مِنْ هوان الدنيا على الله تعالى أنّه اُتي برأس يحيى بن زكريا إلى بغي مِنْ بغايا بني إسرائيل والرأس ينطق بالحجّة عليهم؟! أما تعلم يا أبا عبد الرحمن ، إنّ بني إسرائيل كانوا يقتلون ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس سبعين نبياً ثمّ يجلسون في أسواقهم يبيعون ويشترون كلّهم كأنّهم لمْ يصنعوا شيئاً ، فلمْ يعجّل الله عليهم ، ثمّ أخذهم بعد ذلك أخذ عزيز مقتدر؟!» (١)

وكشفت هذه المحاورة عن تصميمه على الثورة وعزمه على مناجزة يزيد ؛ لأنّه لا يتركه وشأنه ؛ فإمّا أنْ يبايعَ وبذلك يذلّ هو ويذلّ الإسلام

__________________

(١) الفتوح ٥ / ٣٨ ـ ٤٢.

٣٢٠