حياة الإمام الحسين عليه السلام - ج ٢

باقر شريف القرشي

حياة الإمام الحسين عليه السلام - ج ٢

المؤلف:

باقر شريف القرشي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مدرسة العلمية الايرواني
المطبعة: باقري
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٢

حكومةُ يزيد

٢٤١
٢٤٢

وتسلّم يزيد بعد هلاك أبيه قيادة الدولة الإسلاميّة وهو في غضارة العمر ، لمْ تهذّبه الأيام ولمْ تصقله التجارب ، وإنّما كان ـ فيما أجمع عليه المؤرّخون ـ موفور الرغبة في اللّهو والقنص ، والخمر والنساء وكلاب الصيد ، ومُمْعناً كلّ الإمعان في اقتراف المنكر والفحشاء ، ولم يكن حين هلاك أبيه في دمشق ، وإنّما كان في رحلات الصيد في حوارين الثنية (١) ، فأرسل إليه الضحّاك بن قيس رسالة يعزّيه فيها بوفاة معاوية ويهنئه بالخلافة ، ويطلب منه الإسراع إلى دمشق ليتولّى أزمّة الحكم ، وحينما قرأ الرسالة اتّجه فوراً نحو عاصمته في ركب مِنْ أخواله ، وكان ضخماً كثير الشعر ، وقد شعث في الطريق وليس عليه عمامة ولا متقلّداً بسيف ، فأقبل الناس يسلّمون عليه ويعزّونه ، وقد عابوا عليه ما هو فيه وراحوا يقولون : هذا الأعرابي الذي ولاّه معاوية أمر الناس ، والله سائله عنه (٢).

واتّجه نحو قبر أبيه فجلس عنده وهو باك العين ، وأنشأ يقول :

جاءَ البريدُ بقرطاسٍ يخبُّ بهِ

فأوجسَ القلبُ مِنْ قرطاسهِ فزعا

قلنا لكَ الويلُ ماذا في كتابكُمُ

قالَ الخليفة أمسى مدنفاً وجعا (٣)

ثمّ سار متّجها نحو القبّة الخضراء في موكب رسمي تحفّ به علوج أهل الشام وأخواله وسائر بني أُميّة.

__________________

(١) الفتوح ٤ / ٢٦٥.

(٢) تاريخ الإسلام ـ الذهبي ١ / ٢٦٧.

(٣) تاريخ ابن الأثير ٣ / ٢٦١.

٢٤٣

خطاب العرش :

واتّجه يزيد نحو منصّة الخطابة ليعلن للناس سياسته ومخطّطات حكومته ، فلمّا استوى عليها ارتجّ عليه ولمْ يطق الكلام ، فقام إليه الضحّاك بن قيس فصاح به يزيد ما جاء بك؟ قال له الضحّاك : كلّم الناس وخذ عليهم ، فأمره بالجلوس (١) ، وانبرى خطيباً فقال : الحمد لله الذي ما شاء صنع ومَنْ شاء منع ، ومَنْ شاء خفض ومَنْ شاء رفع ، إنّ أمير المؤمنين ـ يعني معاوية ـ كان حبلاً مِنْ حبال الله مدّه ما شاء أنْ يمدّه ، ثمّ قطعه حين أراد أنْ يقطعه ، وكان دون مَنْ قبله وخيراً ممّا يأتي بعده ، ولا اُزكّيه عند ربّه وقد صار إليه ؛ فإنْ يعفُ عنه فبرحمته ، وإنْ يعاقبه فبذنبه. وقد وُلّيت بعده الأمر ولست اعتذر مِنْ جهل ولا آتي على طلب علم ، وعلى رسلكم : إذا كره الله شيئاً غيّره ، وإذا أحبّ شيئاً يسّره (٢).

ولم يعرض يزيد في هذا الخطاب لسياسة دولته ، ولمْ يدلِِ بأيّ شيء ممّا تحتاج إليه الأُمّة في مجالاتهم الاقتصادية والاجتماعية ، ومن المقطوع به أنّ ذلك ممّا لمْ يفكّر به ، وإنّما عرض لطيشه وجبروته واستهانته بالأُمّة ، فهو لا يعتذر إليها مِنْ أيّ جهل يرتكبه ولا مِنْ سيئة يقترفها ، وإنّما على الأُمّة الإذعان والرضا لظلمه وبطشه.

__________________

(١) تاريخ الخلفاء ، نشر أكاديمية العلوم للاتحاد السوفيتي.

(٢) العقد الفريد ٤ / ١٥٣ ، عيون الأخبار ٢ / ٢٣٩.

٢٤٤

خطابُهُ في أهل الشام :

وخطب في أهل الشام خطاباً أعلن فيه عن عزمه وتصميمه على الخوض في حرب مدمّرة مع أهل العراق ، وهذا نصه : يا أهل الشام ، فإنّ الخير لمْ يزل فيكم وسيكون بيني وبين أهل العراق حرب شديد ، وقد رأيت في منامي كأنّ نهراً يجري بيني وبينهم دماً عبيطاً ، وجعلت أجهد في منامي أنْ أجوز ذلك النهر فلمْ أقدر على ذلك حتى جاءني عبيد الله بن زياد فجازه بين يدي وأنا أنظر إليه.

وانبرى أهل الشام فأعلنوا تأييدهم ودعمهم الكامل له ، قائلين : يا أمير المؤمنين ، امضِ بنا حيث شئت واقدم بنا على مَنْ أحببت ، فنحن بين يديك وسيوفنا تعرفها أهل العراق في يوم صفين.

فشكرهم يزيد وأثنى على إخلاصهم وولائهم له (١) ، وقد بات من المقطوع به عند أوساط الشام أنّ يزيد سيعلن الحرب على أهل العراق لكراهتهم لبيعته وتجاوبهم مع الإمام الحُسين.

مع المعارضة في يثرب :

ولم يرق ليزيد أنْ يرى جبهة معارضة لا تخضع لسلطانه ولا تدين بالولاء لحكومته ، وقد عزم على التنكيل بها بغير هوادة ، فقد استتبت له الأمور وخضعت له الرقاب وصارت أجهزة الدولة كلّها بيده ، فما الذي يمنعه من إرغام أعدائه ومناوئيه؟

وأهم ما كان يفكّر به من المعارضين الإمام الحُسين (عليه السّلام) ؛ لأنّه يتمتّع

__________________

(١) الفتوح ٥ / ٦.

٢٤٥

بنفوذ واسع النّطاق ومكانة مرموقة بين المسلمين ، فهو حفيد صاحب الرسالة وسيد شباب أهل الجنّة ، أمّا ابن الزّبير فلمْ تكن له تلك الأهميّة البالغة في نفسه.

الأوامرُ المشدّدة إلى الوليد :

وأصدر يزيد أوامره المشدّدة إلى عامله على يثرب الوليد بن عتبة بإرغام المعارضين له على البيعة ، وقد كتب إليه رسالتين :

الأولى : وقد رويت بصورتين وهما :

١ ـ رواها الخوارزمي وهذا نصها : أمّا بعد ، فإنّ معاوية كان عبداً مِنْ عباد الله أكرمه واستخلصه ومكّن له ، ثمّ قبضه إلى روحه وريحانه ورحمته.

عاش بقدر ومات بأجل ، وقد كان عهد إليّ وأوصاني أنّ الله تبارك وتعالى منتقم للمظلوم عثمان بآل أبي سفيان ؛ لأنّهم أنصار الحقّ وطلاّب العدل ، فإذا ورد عليك كتابي هذا فخذ البيعة على أهل المدينة (١).

وقد احتوت هذه الرسالة على ما يلي :

١ ـ نعي معاوية إلى الوليد.

٢ ـ تخوّف يزيد مِن الأُسرة النبوية ؛ لأنّه قد عهد إليه أبوه بالحذر منها ، وهذا يتنافى مع تلك الوصية المزعومة لمعاوية التي جاء فيها اهتمامه بشأن الحُسين (عليه السّلام) ، وإلزام ولده بتكريمه ورعاية مقامه.

٣ ـ الإسراع في أخذ البيعة من أهل المدينة.

٢ ـ رواها البلاذري ، وهذا نصها : أمّا بعد ، فإنّ معاوية بن أبي سفيان كان عبداً من عباد الله أكرمه الله واستخلفه وخوّله

__________________

(١) مقتل الحسين (عليه السّلام) للخوازمي ١ / ١٧٨.

٢٤٦

ومكّن له ، فعاش بقدر ومات بأجل فرحمة الله عليه ، فقد عاش محموداً ومات برّاً تقيّاً ، والسّلام (١).

وأكبر الظنّ أنّ هذه الرواية هي الصحيحة ؛ لأنّها قد اقتصرت على نعي معاوية إلى الوليد من دون أنْ تعرض إلى أخذ البيعة من الحُسين وغيره مِن المعارضين ، أمّا على الرواية الأولى فإنّه يصبح ذكر الرسالة التالية ـ التي بعثها يزيد إلى الوليد لإرغام الحُسين على البيعة ـ لغواً.

الثانية : رسالة صغيرة وصِفَت كأنّها أُذن فأرة ، وقد رويت بثلاث صور :

١ ـ رواها الطبري والبلاذري ، وهذا نصها : أمّا بعد ، فخذ حُسيناً وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزّبير أخذاً شديداً ليست فيه رخصة حتّى يبايعوا ، والسّلام (٢).

٢ ـ رواها اليعقوبي ، وهذا نصها : إذا أتاك كتابي فاحضر الحُسين بن علي وعبد الله بن الزّبير فخُذهما بالبيعة ، فإن امتنعا فاضرب أعناقهما وابعث إليّ برأسيهما ، وخُذ الناس بالبيعة فمَنْ امتنع فانفذ فيه الحكم ، وفي الحُسين بن علي وعبد الله بن الزّبير ، والسّلام (٣).

وليس في الرواية الثانية ذكرٌ لعبد الله بن عمر ، وأكبر الظن أنّه أُضيف اسمه إلى الحُسين وابن الزّبير لإلحاقه بالجبهة المعارضة وتبريره من التأييد السافر لبيعة يزيد.

٣ ـ رواها الحافظ ابن عساكر ، وهذا نصها : أن ادعُ الناس

__________________

(١) أنساب الأشراف ١ ق ١ / ١٢٤.

(٢) تاريخ الطبري ٦ / ٨٤ ، أنساب الأشراف ١ ق ١ / ١٢٤.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ / ٢١٥.

٢٤٧

فبايعهم وابدأ بوجوه قريش ، وليكن أوّل مَنْ تبدأ به الحُسين بن علي ؛ فإنّ أمير المؤمنين ـ يعني معاوية ـ عهد إليّ في أمره الرفق واستصلاحه (١).

وليس في هذه الرواية ذكر لابن الزّبير وابن عمر ، إذ لمْ تكن لهما أيّة أهميّة في نظر يزيد ، إلاّ إنّا نشك فيما جاء في آخر هذه الرسالة مِنْ أنّ معاوية قد عهد إلى يزيد الرفق بالحُسين واستصلاحه ؛ فإنّ معاوية قد وقف موقفاً [سلبياً] يتّسم بالعداء والكراهية لعموم أهل البيت (عليهم السّلام) ، واتّخذ ضدّهم جميع الإجراءات القاسية كما ألمعنا إلى ذلك في البحوث السابقة ، وأكبر الظنّ أنّ هذه الجملة قد أُضيفت إليها لتبرير معاوية ونفي المسؤولية عنه فيما ارتكبه ولده مِن الجرائم ضدّ العترة الطاهرة.

بقي هنا شيء وهو أنّ هذه الرسالة قد وصفها المؤرّخون كأنّها أُذن فأرة لصغرها ، ولعلّ السبب في إرسالها بهذا الحجم هو أنّ يزيد قد حسِبَ أنّ الوليد سينفّذ ما عهد إليه مِنْ قتل الحُسين وابن الزّبير.

ومِن الطبيعي أنّ لذاك كثيراً مِن المضاعفات السيئة ، ومِنْ أهمها ما يلحقه مِن التذمّر والسّخط الشامل بين المسلمين ، فأراد أنْ يجعل التبعة على الوليد وأنّه لمْ يعهد إليه بقتلهما ، وأنّه لو أمره بذلك لأصدر مرسوماً خاصاً مطوّلاً به.

وحمل الرسالتين زُريق مولاه ، فأخذ يجذ في السير لا يلوي على شيء حتى انتهى إلى يثرب (٢) ، وكان معه عبد الله بن سعد بن أبي سرح متلثّماً لا يبدو منه إلاّ عيناه ، فصادفه عبد الله بن الزّبير فأخذ بيده وجعل

__________________

(١) تاريخ ابن عساكر ١٣ / ٦٨.

(٢) تاريخ الإسلام ـ الذهبي ١ / ٢٦٩ ، تاريخ خليفة بن خيّاط ١ / ٢٢٢ ، وجاء في تاريخ ابن عساكر ١٣ / ٦٨ وكتب يزيد مع عبد الله بن عمر ، وابن إدريس العامري عامر بن لؤي هذه الرسالة.

٢٤٨

يسأله عن معاوية وهو لا يجيبه ، فقال له : أمات معاوية؟ فلمْ يكلّمه بشيء فاعتقد بموت معاوية ، وقفل مسرعاً إلى الحُسين وأخبره الخبر (١) ، فقال له الحُسين : «إنّي أظنّ أنّ معاوية قد مات ، فقد رأيت البارحة في منامي كأن منبر معاوية منكوساً ، ورأيت داره تشتعل ناراً ، فأوّلت ذلك في نفسي بموته» (٢).

وأقبل زُريق إلى دار الوليد فقال للحاجب : استاذن لي ، فقال : قد دخل ولا سبيل إليه ، فصاح به زُريق : إنّي جئته بأمر ، فدخل الحاجب وأخبره بالأمر فأذن له ، وكان جالساً على سرير فلمّا قرأ كتاب يزيد بوفاة معاوية جزع جزعاً شديداً ، وجعل يقوم على رجليه ويرمي بنفسه على فراشه (٣).

فزع الوليد :

وفزع الوليد ممّا عهد إليه يزيد مِن التنكيل بالمعارضين ؛ فقد كان على يقين من أنّ أخذ البيعة من هؤلاء النفر ليس بالأمر السّهل حتّى يقابلهم بالعنف ، أو يضرب أعناقهم كما أمره يزيد.

إنّ هؤلاء النفر لمْ يستطع معاوية مع ما يتمتّع به مِن القابليات الدبلوماسية أنْ يُخضعهم لبيعة يزيد ، فكيف يصنع الوليد أمراً عجز عنه معاوية؟

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٢ / ١١٥.

(٢) الفتوح ٥ / ١٤.

(٣) تاريخ خليفة بن خيّاط ١ / ٢٢٢.

٢٤٩

استشارته لمروان :

وحار الوليد في أمره فرأى أنّه في حاجة إلى مشورة مروان عميد الأُسرة الاُمويّة فبعث خلفه ، فأقبل مروان وعليه قميص أبيض وملأة مورّدة (١) فنعى إليه معاوية فجزع مروان وعرض عليه ما أمره يزيد مِنْ إرغام المعارضين على البيعة له وإذا أصرّوا على الامتناع فيضرب أعناقهم ، وطلب مِنْ مروان أنْ يمنحه النّصيحة ويخلص له في الرأي.

رأي مروان :

وأشار مروان على الوليد فقال له : ابعث إليهم في هذه الساعة فتدعوهم إلى البيعة والدخول في طاعة يزيد ، فإنْ فعلوا قبلت ذلك منهم وإنْ أبَوا قدّمهم واضرب أعناقهم قبل أنْ يدروا بموت معاوية ؛ فإنّهم إنْ علموا ذلك وثب كلّ رجل منهم فأظهر الخلاف ودعا إلى نفسه ، فعند ذلك أخاف أنْ يأتيك مِنْ قِبَلِهم ما لا قِبَلَ لك به ، إلاّ عبد الله بن عمر فإنّه لا ينازع في هذا الأمر أحداً ... مع إنّي أعلم أنّ الحُسين بن علي لا يجيبك إلى بيعة يزيد ولا يرى له عليه طاعة ، ووالله ، لو كنت في وضعك لمْ اُراجع الحُسين بكلمة واحدة حتى أضرب رقبته كان في ذلك ما كان.

وعظُمَ ذلك على الوليد وهو أحنك بني أُميّة وأملكهم لعقله ورشده ، فقال لمروان : يا ليت الوليد لمْ يولد ولمْ يك شيئاً مذكوراً.

__________________

(١) تاريخ الإسلام ـ الذهبي ١ / ٢٦٩.

٢٥٠

فسخر منه مروان وراح يندّد به قائلاً : لا تجزع ممّا قلت لك! فإنّ آل أبي تراب هم الأعداء مِنْ قديم الدهر ولم يزالوا ، وهم الدين قتلوا الخليفة عثمان بن عفان ثمّ ساروا إلى أمير المؤمنين ـ يعني معاوية ـ فحاربوه.

ونهره الوليد فقال له : ويحك يا مروان عن كلامك هذا! وأحسِن القول في ابن فاطمة ، فإنّه بقيّة النّبوة (١). واتّفق رأيهم على استدعاء القوم وعرض الأمر عليهم ؛ للوقوف على مدى تجاوبهم مع السلطة في هذا الأمر.

أضواءُ على موقف مروان :

لقد حرّض مروان الوليد على التنكيل بالمعارضين ، واستهدف بالذات الإمام الحُسين ، فألحّ بالفتك به إنْ امتنع من البيعة ، وفيما أحسب أنّه إنّما دعاه لذلك ما يلي :

١ ـ أنّ مروان كان يحقد على الوليد ، وكانت بينهما عداوة متأصّلة وهو على يقين أنّ الوليد يحبّ العافية ولا ينفّذ ما عهد إليه في شأن الإمام الحُسين ، فاستغلّ الموقف وراح يشدّد عليه في اتّخاذ الإجراءات الصارمة ضدّ الإمام ؛ ليسبتين لطاغية الشام موقفه فيسلب ثقته عنه ويقصيه عن ولاية يثرب ، وفعلاً قد تحقّق ذلك ، فإنّ يزيد حينما علم بموقف الوليد مع الحُسين (عليه السّلام) غضب عليه وأقصاه عن منصبه.

__________________

(١) الفتوح ٥ / ١٢ ـ ١٣.

٢٥١

٢ ـ أنّ مروان كان ناقماً على معاوية حينما عهد بالخلافة لولده ولمْ يرشحّه لها ؛ لأنّه شيخ الاُمويِّين وأكبرهم سناً ، فأراد أنْ يورّط يزيد في قتل الإمام ؛ ليكون به زوال ملكه.

٣ ـ كان مروان من الحاقدين على الحُسين ؛ لأنّه سبط رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الذي حصد رؤوس بني أُميّة ونفى أباه الحكم عن يثرب ، وقد لعنه ولعن مَنْ تناسل منه ، وقد بلغ الحقد بمروان للأُسرة النّبوية أنّه منع مِنْ دفن جنازة الحسن (عليه السّلام) مع جدّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

ويقول المؤرّخون : إنّه كان يبغض أبا هريرة ؛ لأنّه يروي ما سمعه مِنْ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في فضل سبطيه وريحانتيه ، وقد دخل على أبي هريرة عائداً له فقال له : يا أبا هريرة ، ما وجدت عليك في شيء منذ اصطحبنا إلاّ في حبّك الحسن والحُسين.

فأجابه أبو هريرة : أشهد لقد خرجنا مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فسمع الحسن والحُسين يبكيان ، فقال : «ما شأن ابني؟» فقالت فاطمة : «العطش» ، يا مروان كيف لا أحبّ هذين وقد رأيت مِنْ رسول الله ما رأيت؟! (١)

لقد دفع مروان الوليد إلى الفتك بالحُسين لعله يستجيب له فيروي بذلك نفسه المترعة بالحقد والكراهية لعترة النّبي (صلّى الله عليه وآله).

٤ ـ كان مروان على يقين أنّه سيلي الخلافة ، فقد أخبره الإمام أمير المؤمنين وصي النّبي (صلّى الله عليه وآله) وباب مدينة علمه حينما تشفّع الحسنان به بعد واقعة الجمل ، فقال : «إنّ له إمرة كلعقة الكلب أنفه» ، وقد اعتقد بذلك مروان ، وقد حرّض الوليد على الفتك بالحُسين ؛ ليكون

__________________

(١) تاريخ ابن عساكر ٤ / ٢٠٨.

٢٥٢

ذلك سبباً لزوال مُلْكِ بني سفيان ورجوع الخلافة إليه.

هذه بعض الأسباب التي حفّزت مروان إلى الإشارة على الوليد بقتل الإمام الحُسين ، وإنّه لمْ يكن بذلك مشفوعاً بالولاء والإخلاص إلى يزيد.

استدعاءُ الحُسين (عليه السّلام) :

وأرسل الوليد في منتصف الليل (١) عبد الله بن عمرو بن عثمان وهو غلام حدث خلف الحُسين وابن الزّبير ، وإنّما بعثه في هذا الوقت لعلّه يحصل على الوفاق من الحُسين ولو سرّاً على البيعة ليزيد ، وهو يعلم أنّه إذا أعطاه ذلك فلن يخيس بعهده ولن يتخلّف عن قوله.

ومضى الفتى يدعو الحُسين وابن الزّبير للحضور عند الوليد فوجدهما في مسجد النّبي (صلّى الله عليه وآله) فدعاهما إلى ذلك فاستجابا له وأمراه بالانصراف ، وذعر ابن الزّبير ، فقال للإمام :

ـ ما تراه بعث إلينا في هذه الساعة التي لم يكن يجلس فيها؟

ـ «أظنّ أنّ طاغيتهم ـ يعني معاوية ـ قد هلك ، فبعث إلينا بالبيعة قبل أنْ يفشو بالناس الخبر».

ـ وأنا ما أظن غيره ، فما تريد أنْ تصنع؟

ـ «أجمع فتياني السّاعة ثم أسير إليه ، وأجلسهم على الباب».

ـ إنّي أخاف عليك إذا دخلت.

ـ «لا آتيه إلاّ وأنا قادر على الامتناع» (٢).

__________________

(١) البداية والنهاية ٨ / ١٦٠.

(٢) تاريخ ابن الأثير ٣ / ٢٦٤.

٢٥٣

وانصرف أبيّ الضيم إلى منزله فاغتسل وصلّى ودعا الله (١) ، وأمر أهل بيته بلبس السّلاح والخروج معه ، فخفّوا محدقين به ، فأمرهم بالجلوس على باب الدار ، وقال لهم : «إنّي داخل فإذا دعوتكم ، أو سمعتم صوتي قد علا فادخلوا عليّ بأجمعكم». ودخل الإمام على الوليد فرأى مروان عنده وكانت بينهما قطيعة ، فأمرهما الإمام بالتقارب والإصلاح وترك الأحقاد ، وكانت سجية الإمام (عليه السّلام) التي طُبِعَ عليها الإصلاح حتّى مع أعدائه وخصومه.

فقال (عليه السّلام) لهما : «الصلة خير من القطيعة ، والصلح خير مِن الفساد ، وقد آن لكما أنْ تجتمعا ، أصلح الله ذات بينكما» (٢).

ولمْ يجيباه بشيء فقد علاهما صمت رهيب ، والتفت الإمام إلى الوليد فقال له : «هل أتاك مِنْ معاوية خبر ، فإنّه كان عليلاً وقد طالت علّته ، فكيف حاله الآن؟».

فقال الوليد بصوت خافت ، حزين النّبرات : آجرك الله في معاوية ، فقد كان لك عمّ صدوق ، وقد ذاق الموت ، وهذا كناب أمير المؤمنين يزيد.

فاسترجع الحُسين (عليه السّلام) ، وقال له : «لماذا دعوتني؟».

دعوتك للبيعة (٣).

فقال (عليه السّلام) : «إنّ مثلي لا يبايع سرّاً ولا يُجتزئ بها منّي سرّاً ، فإذا خرجت إلى الناس ودعوتهم للبيعة دعوتنا معهم ، وكان الأمر واحداً».

__________________

(١) الدر النظيم / ١٦٢.

(٢) تاريخ ابن الأثير ٣ / ٢٦٤.

(٣) الفتوح ٥ / ١٧.

٢٥٤

لقد طلب الإمام تأجيل الأمر إلى الصباح ؛ حتّى يعقد اجتماعاً جماهيرياً فيدلي برأيه في شجب البيعة ليزيد ، ويستنهض همم المسلمين على الثورة والإطاحة بحكمه ، وكان الوليد ـ فيما يقول المؤرّخون ـ يحبّ العافية ويكره الفتنة ، فشكر الإمام على مقالته وسمح له بالانصراف إلى داره.

وانبرى الوغد الخبيث مروان بن الحكم وهو مغيظ محنق فصاح بالوليد : لئن فارقك السّاعة ولمْ يبايع لا قدرت منه على مثلها أبداً حتّى تكثر القتلى بينكم وبينه ، احبسه فإنْ بايع وإلاّ ضربت عنقه.

ووثب أبيّ الضيم إلى الوزغ بن الوزغ ، فقال له : «يابن الزرقاء ، أأنت تقتلني أمْ هو؟ كذبت والله ولؤمت» (١).

وأقبل على الوليد فأخبره عن عزمه وتصميمه على رفض البيعة ليزيد قائلاً : «أيّها الأمير ، إنّا أهل بيت النّبوة ومعدن الرسالة ، ومختلف الملائكة ومحل الرّحمة ، بنا فتح الله وبنا يختم. ويزيد رجل فاسق ، شارب الخمر ، قاتل النفس المحرّمة ، معلن بالفسق ، ومثلي لا يبايع مثله ، ولكن نصبح وتصبحون ، وننظر وتنظرون أينا أحقّ بالخلافة والبيعة؟» (٢).

وكان هذا أوّل إعلان له على الصعيد الرسمي بعد هلاك معاوية في رفض البيعة ليزيد ، وقد أعلن ذلك في بيت الإمارة ورواق السلطة بدون مبالاة ولا خوف ولا ذعر.

لقد جاء تصريحه بالرفض لبيعة يزيد معبّراً عن تصميمه ، وتوطين نفسه حتّى النّهاية على التضحية عن سموّ مبدئه وشرف عقيدته ، فهو بحكم مواريثه الروحية ، وبحكم بيئته التي كانت ملتقى لجميع الكمالات الإنسانية

__________________

(١) تاريخ ابن الأثير ٣ / ٢٦٤.

(٢) الفتوح ٥ / ١٨.

٢٥٥

كيف يبايع يزيد الذي هو مِنْ عناصر الفسق والفجور؟ ولو أقرّه إماماً على المسلمين لساق الحياة الإسلاميّة إلى الانهيار والدمار ، وعصف بالعقيدة الدينية في متاهات سحيقة مِن مجاهل هذه الحياة.

وكانت كلمة الحقّ الصارخة التي أعلنها أبو الأحرار قد أحدثت استياءً في نفس مروان ، فاندفع يعنّف الوليد ويلومه على إطلاق سراحه قائلاً : عصيتني! لا والله ، لا يمكّنك مثلها من نفسه أبداً.

وتأثّر الوليد مِنْ منطق الإمام وتيقّظ ضميره ، فاندفع يردّ أباطيل مروان قائلاً : ويحك! إنّك أشرت عليّ بذهاب ديني ودنياي. والله ، ما أحبّ أنْ أملك الدنيا بأسرها ، وإنّي قتلت حُسيناً. سُبحان الله! أأقتل حُسيناً إنْ قال لا أُبايع؟! والله ، ما أظنّ أحداً يلقى الله بدم الحُسين إلاّ وهو خفيف الميزان ، لا ينظر الله إليه يوم القيامة ، ولا يزكّيه وله عذاب أليم.

وسخر منه مروان وطفق يقول : إذا كان هذا رأيك فقد أصبت (١).

وعزم الحُسين على مغادرة يثرب والتوجّه إلى مكّة ؛ ليلوذ بالبيت الحرام ويكون بمأمن مِنْ شرور الاُمويِّين واعتدائهم.

الحسينُ (عليه السّلام) مع مروان :

والتقى أبيّ الضيم في أثناء الطريق بمروان بن الحكم في صبيحة تلك الليلة التي أعلن فيها رفضه لبيعة يزيد ، فبادره مروان قائلاً :

__________________

(١) الطبري.

٢٥٦

«إنّي ناصح ، فأطعني ترشد وتسدّد ..».

«وما ذاك يا مروان؟».

«إنّي آمرك ببيعة أمير المؤمنين يزيد ؛ فإنّه خير لك في دينك ودنياك».

والتاع كأشدّ ما تكون اللوعة واسترجع ، وأخذ يردّ على مقالة مروان ببليغ منطقه قائلاً : «على الإسلام السّلام ، إذ قد بُليت الأُمّة براعٍ مثل يزيد. ويحك يا مروان! أتأمرني ببيعة يزيد وهو رجل فاسق؟! لقد قلت شططاً من القول. لا ألومك على قولك ؛ لأنّك اللعين الذي لعنك رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأنت في صلب أبيك الحكم بن أبي العاص».

وأضاف الإمام يقول : «إليك عنّي يا عدو الله! فإنّا أهل بيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) والحقّ فينا ، وبالحقّ تنطق ألسنتنا ، وقد سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول : الخلافة محرّمة على آل أبي سفيان ، وعلى الطلقاء وأبناء الطلقاء. وقال : إذا رأيتم معاوية على منبري فابقروا بطنه. فوالله ، لقد رآه أهل المدينة على منبر جدّي فلم يفعلوا ما أُمروا به».

وتميّز الخبيث الدنس مروان غيظاً وغضباً ، واندفع يصيح : والله ، لا تفارقني أو تبايع ليزيد صاغراً ؛ فإنّكم آل أبي تراب قد أُشربتم بغض آل أبي سفيان ، وحقّ عليكم أن تبغضوهم وحقّ عليهم أن يبغضوكم.

وصاح به الإمام : «إليك عنّي فإنّك رجس ، وأنا مِنْ أهل بيت الطهارة الذين أنزل الله فيهم على نبيه (صلّى الله عليه وآله) : إِنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً».

ولمْ يطق مروان الكلام وقد تحرّق ألماً وحزناً ، فقال له الإمام : «أبشرْ يابن الزرقاء بكلّ ما تكره من الرسول (صلّى الله عليه وآله) يوم تقْدِم

٢٥٧

على ربّك فيسألك جدّي عن حقّي وحقّ يزيد».

وانصرف مروان مسرعاً إلى الوليد فأخبره بمقالة الحُسين له (١).

اتصالُ الوليد بدمشق :

وأحاط الوليدُ يزيدَ علماً بالأوضاع الراهنة في يثرب ، وعرّفه بامتناع الحُسين (عليه السّلام) من البيعة ، وأنّه لا يرى له طاعة عليه ، ولمّا فهم يزيد بذلك تميّز غيظاً وغضباً.

الأوامر المشدّدة مِن دمشق :

وأصدر يزيد أوامره المشدّدة إلى الوليد بأخذ البيعة مِنْ أهل المدينة ثانياً ، وقتل الحُسين (عليه السّلام) وإرسال رأسه إليه.

وهذا نص كتابه : من عبد الله يزيد أمير المؤمنين إلى الوليد بن عتبة ، أمّا بعد ، فإذا ورد عليك كتابنا هذا فخذ البيعة ثانياً على أهل المدينة بتوكيد منك عليهم وذر عبد الله بن الزّبير ؛ فإنّه لن يفوت أبداً مادام حيّاً ، وليكن مع جوابك إليّ برأس الحُسين بن علي ، فإنْ فعلت ذلك فقد جعلت لك أعنّة الخيل ولك عندي الجائزة والحظّ الأوفر والنّعمة ، والسّلام.

رفض الوليد :

ورفض الوليد رسميّاً ما عهد إليه يزيد من قتل الحُسين ، وقال : لا والله ، لا يراني الله قاتلَ الحُسين بن علي. لا أقتل ابن بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله)

__________________

(١) الفتوح ٥ / ٢٤.

٢٥٨

ولو أعطاني يزيد الدنيا بحذافيرها (١) ، وقد جاءته هذه الرسالة بعد مغادرة الإمام يثرب إلى مكّة.

وداع الحُسين (عليه السّلام) لقبر جدّه (صلّى الله عليه وآله) :

وخفّ الحُسين (عليه السّلام) في الليلة الثانية إلى قبر جدّه (صلّى الله عليه وآله) وهو حزين كئيب ؛ ليشكو إليه ظلم الظالمين له ، ووقف أمام القبر الشريف بعد أنْ صلّى ركعتين وقد ثارت مشاعره وعواطفه ، فاندفع يشكو إلى الله ما ألمّ به من المحن والخطوب قائلاً : «اللّهم ، إنّ هذا قبرَ نبيّك محمّدٌ وأنا ابن بنت محمّد ، وقد حضرني من الأمر ما قد علمت. اللّهم ، إنّي اُحبّ المعروف واُنكر المُنكر ، وأنا أسألك يا ذا الجلال والإكرام بحقّ هذا القبر ومَنْ فيه إلاّ ما اخترت لي ما هو لك رضى ولرسولك رضى».

رؤيا الحُسين (عليه السّلام) لجدّه (صلّى الله عليه وآله) :

وأخذ الحُسين يطيل النظر إلى قبر جدّه وقد وثقت نفسه أنّه لا يتمتّع برؤيته وانفجر بالبكاء ، وقبل أنْ يندلعَ نور الفجر غلبه النوم فرأى جدّه الرسول (صلّى الله عليه وآله) قد أقبلَ في كتيبة مِن الملائكة ، فضمّ الحُسين إلى صدره وقبّل ما بين عينيه ، وهو يقول له : «يا بُني ، كأنّي عن قريب أراك مقتولاً مذبوحاً بأرض كربٍ وبلاء ، بين عصابة مِنْ أُمّتي ، وأنت مع ذلك عطشان لا تُسقى ، وظمآن

__________________

(١) الفتوح ٥ / ٢٦ ـ ٢٧.

٢٥٩

لا تُروى ، وهم مع ذلك يرجون شفاعتي يوم القيامة! فما لهم عند الله مِنْ خلاق.

حبيبي يا حُسين ، إنّ أباك وأُمّك وأخاك قد قدموا عليّ وهم إليك مشتاقون. إنّ لك في الجنّة درجات لن تنالها إلاّ بالشهادة».

وجعل الحُسين يطيل النظر إلى جدّه (صلّى الله عليه وآله) ويذكر عطفه وحنانه عليه فازداد وجيبه. وتمثّلت أمامه المحن الكبرى التي يعانيها من الحكم الاُموي. فهو إمّا أنْ يُبايع فاجرَ بني أُميّة أو يُقتل ، وأخذ يتوسّل إلى جدّه ويتضرّع إليه قائلاً : «يا جدّاه ، لا حاجة لي في الرجوع إلى الدنيا ، فخذني إليك وأدخلني معك إلى منزلك».

والتاع النّبي (صلّى الله عليه وآله) ، فقال له : «لا بدّ لك مِن الرجوع إلى الدنيا حتّى تُرزق الشهادة ، وما كتب الله لك فيها من الثواب العظيم ؛ فإنّك وأباك وأخاك وعمّك وعمّ أبيك تُحشرون يوم القيامة في زمرة واحدة حتّى تدخلوا الجنّة» (١).

واستيقظ الحُسين فزعاً مرعوباً ، قد ألمّت به تياراتٌ من الأسى والأحزان ، وصار على يقين لا يخامره أدنى شك أنّه لا بد أنْ يُرزق الشهادة ، وجمع أهل بيته فقصّ عليهم رؤياه الحزينة ، فطافت بهم الآلام وأيقنوا بنزول الرزء القاصم.

ووصف المؤرّخون شدّة حزنهم بأنّه لمْ يكن في ذلك اليوم لا في شرق الأرض ولا في غربها أشدّ غمّاً مِنْ أهل بيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ولا أكثر باكية وباك منهم (٢).

__________________

(١) الفتوح ٥ / ٢٨ ـ ٢٩.

(٢) مقتل العوالم / ٥٤.

٢٦٠