حياة الإمام الحسين عليه السلام - ج ٢

باقر شريف القرشي

حياة الإمام الحسين عليه السلام - ج ٢

المؤلف:

باقر شريف القرشي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مدرسة العلمية الايرواني
المطبعة: باقري
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٢

مع القاسطين والناكثين

٢١
٢٢

وفزعت القبائل القرشية كأشدّ ما يكون الفزع هولاً مِنْ حكومة الإمام (عليه السّلام) ، وأيقنت أنّ جميع مخططاته السياسية والاقتصادية إنّما هي امتداد ذاتي للاتّجاهات الفكرية والاجتماعية عند الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) الذي أطاح بغلوائهم وكبريائهم ، وحطّم حياتهم الاقتصادية القائمة على الربا والاحتكار والاستغلال. وممّا زاد في فزعهم القرارات الحاسمة التي أعلنها الإمام (عليه السّلام) فور انتخابه للحكم ، والتي كان منها إقصاء ولاة عثمان عن جميع مراكز الدولة ، ومصادرة جميع ما نهبوه مِن الخزينة المركزية ، كما اضطربوا مِنْ إعلان الإمام (عليه السّلام) للمساواة العادلة بين جميع الشعوب الإسلامية ، مساواة في الحقوق والواجبات ، ومساواة في كلّ شيء ، وقد هالهم ذلك فكانوا يرون أنّ لهم التفوّق على بقية الشعوب ، ولهم امتيازات خاصة على بقية الناس.

لقد ورمت آناف القرشيين وسائر القوى المنحرفة عن الحقّ مِنْ حكومة الإمام (عليه السّلام) ، فأجمع رأيهم على إعلان العصيان المسلّح ، وإشعال نار الحرب في البلاد للإطاحة بحكومته التي اتّخذت الحكم وسيلة للإصلاح الاجتماعي وتطوير حياة الإنسان. وأوّل الحروب التي أُثيرت على الإمام (عليه السّلام) هي حرب الجمل ، وأعقبها حرب صفّين ، ثم حرب النهروان ، وقد وضعت تلك الحروب الحواجز والسدود أمام حكمه الهادف إلى رفع مستوى القيم الإنسانية ، والقضاء على جميع ألوان التأخّر في البلاد.

ويقول الرواة : إنّ الرسول (صلّى الله عليه وآله) قد أحاط الإمام (عليه السّلام) علماً بما يُمْنى به في عهد خلافته مِنْ تمرّد بعض الفئات عليه ، وقد عهد إليه بقتالهم ، وقد أسماهم الناكثين والقاسطين والمارقين (١). ولا بدّ لنا أنْ نعرض ـ بإيجاز ـ

__________________

(١) مستدرك الحاكم ٣ / ١٣٩ ، تاريخ بغداد ٨ / ٣٤٠ ، اُسد الغابة ٤ / ٣٣ ، كنز العمال ٦ / ٨٢ ، مجمع الزوائد ٩ / ٢٣٥.

٢٣

لهذه الحروب التي تصوّر لنا الحياة السياسية والفكرية في ذلك العصر الذي أترعت فيه عواطف الكثيرين بحبّ المُلْك والسّلطان ، كما تصوّر لنا الأحقاد التي تكنّها القبائل القرشية على الإمام (عليه السّلام). ومِن المقطوع به أنّ هذه الأحداث قد ساهمت مساهمةً ايجابيةً في خلق كارثة كربلاء ؛ فقد نشرت الأوبئة الاجتماعية ، وخلقت جيلاً انتهازياً لا ينشد إلاّ مطامعه الخاصة. وفيما يلي ذلك :

الناكثون :

وهم الذين نكثوا بيعتهم ، وخاسوا ما عاهدوا عليه الله في التضحية والطاعة للإمام ، فانسابوا في ميادين الباطل وساحات الضلال ، وتمرّسوا في الإثم. وقد أجمع فقهاء المسلمين على تأثيمهم ؛ إذ لمْ يكن لهم أيّ مُبرّر في الخروج على السّلطة الشرعية التي تبنّت المصالح العامّة ، وأخذت على عاتقها أنْ تسير بين المسلمين بالحقّ المحض والعدل الخالص ، وتقضي على جميع أسباب التخلّف في البلاد.

أمّا أعلام الناكثين فهم : طلحة والزبير ، والسيّدة عائشة بنت أبي بكر ، ومروان بن الحكم ، وسائر بني أُميّة ، وغيرهم مِن الذين ضاقوا ذرعاً مِنْ عدل الإمام (عليه السّلام) ومساواته.

دوافع التمرّد :

والشيء المحقّق أنّه لمْ تكن للناكثين أيّة أهداف اجتماعية ، وإنّما دفعتهم مصالحهم الخاصة لنكث بيعة الإمام (عليه السّلام) ؛ فطلحة والزبير قد خفّا إليه بعد أنْ تقلّد الخلافة يطلبان منحهما ولاية البصرة والكوفة ، فلمّا خبا أملهما

٢٤

أظهرا السخط ، وخفّا إلى مكة لإعلان الثورة عليه وتمزيق شمل المسلمين ، وقد أدلى الزبير بتصريح أعرب فيه عن أهدافه ، فقد أقبل إليه وإلى طلحة رجل فقال لهما : إنّ لكما صحبةً وفضلاً فأخبراني عن مسيركما وقتالكما أشيء أمركما به رسول الله (صلّى الله عليه وآله)؟ وسكت طلحة ، وأمّا الزبير فقال : حدّثنا أنْ ها هنا بيضاء وصفراء ـ يعني دراهم ودنانير ـ فجئنا لنأخذ منها (١). فمِنْ أجل الظفر بالمنافع المادّية أعلن الشيخان تمرّدها على حكومة الإمام (عليه السّلام).

وأمّا السيّدة عائشة فإنّها كانت تروم إرجاع الخلافة إلى أسرتها ، فهي أوّل مَنْ قدح زناد الثورة على عثمان ، وأخذت تُلْهِبُ المشاعر والعواطف ضده ، وكانت تقول : اقتلوا نعثلاً فقد كفر. وقد جهدت على ترشيح طلحة للخلافة ، وكانت تشيد به في كلّ مناسبة ، إلاّ أنّها أخيراً استجابت لعواطفها الخاصة المترعة بالودّ والحنان لابن اُختها عبد الله بن الزبير ، فرشّحته لإمارة الصلاة ، وقدّمته على طلحة. وأمّا بنو أُميّة فقد طلبوا مِن الإمام (عليه السّلام) أنْ يضع عنهم ما أصابوا مِن المال في أيّام عثمان ، فرفض الإمام (عليه السّلام) أنْ يضعَ عنهم ما اختلسوه مِنْ أموال الأُمّة ، فاظهروا له العداء ، وعملوا على إثارة الفتنة والخلاف.

وعلى أيّ حالٍ ، فإنّه لمْ تكن للناكثين نزعة إصلاحية أو دعوة إلى الحقّ ، وإنّما كانت بواعثهم الأنانية والأطماع ، والأحقاد على الإمام (عليه السّلام) الذي هو نفس رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وباب مدينة علمه.

__________________

(١) أنساب الأشراف ١ / ق ١.

٢٥

خديعة معاوية للزبير :

وأيقن معاوية بأهداف الزبير وطلحة ، فقام بدوره في خديعتهما وإغرائهما ؛ ليتخذهما سلّماً يعبر عليهما لتحقيق أهدافه ومآربه ، فقد كتب إلى الزبير رسالة جاء فيها : لعبد الله الزبير أمير المؤمنين مِنْ معاوية بن أبي سفيان سلام عليك. أمّا بعد ، فإنّي قد بايعت لك أهل الشام فأجابوا واستوسقوا كما يستوسق الجلب ، فدونك الكوفة والبصرة لا يسبقك إليها ابن أبي طالب ؛ فإنّه لا شيء بعد هذين المصرين. وقد بايعت لطلحة بن عبيد الله مِنْ بعدك ، فأظهروا الطلب بدم عثمان وادعوا الناس إلى ذلك ، وليكن منكما الجدّ والتشمير ، أظفركما الله وخذل مناوئكم.

ولمّا وصلت هذه الرسالة إلى الزبير لَمْ يملك أهابه مِن الفرح والسرور ، وخفّ إلى طلحة فأخبره بذلك ، فلَمْ يشكّا في صدق نيته وإخلاصه لهما ، وتحفّزا إلى إعلان الثورة على الإمام (عليه السّلام) ، واتّخذا دم عثمان شعاراً لهما (١).

مؤتمر مكة :

وخفّ المتآمرون إلى مكّة فاتخذوها وكراً لدسائسهم التخريبية الهادفة لتقويض حكم الإمام (عليه السّلام) ، وقد وجدوا في هذا البلد الحرام تجاوباً فكرياً مع الكثيرين مِنْ أبناء القبائل القرشية التي كانت تَكُنّ في أعماق نفسها الكراهية والحقد على الإمام (عليه السّلام) ؛ لأنّه قد وَتَرَ الكثيرين منهم في سبيل الإسلام.

وعلى أيّ حالٍ ، فقد تداول زعماء الفتنة الآراء في الشعار الذي يتبنونه ، والبلد التي يغزونها ، وسائر الشؤون الاُخرى التي تضمن لثورتهم النّجاح.

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ١ / ٢٣١.

٢٦

قرارات المؤتمر :

واتّخذ أعضاء المؤتمر بالإجماع القرارات التالية ، وهي :

١ ـ أنْ يكون شعار المعركة دم عثمان والمطالبة بثأره ؛ لأنّه قُتِلَ مظلوماً ، واستباح الثوار دمه بعد توبته بغير حقّ. لقد رفعوا قميص عثمان شعاراً لهم ، فكان شعاراً للتمرّد ، وشعاراً للرأسمالية القرشية التي طغت في البلاد.

٢ ـ تحميل الإمام علي (عليه السّلام) المسؤولية في إراقة دم عثمان ؛ لأنّه آوى قتلته ولَمْ يقتص منهم.

٣ ـ الزحف إلى البصرة واحتلالها ، واتّخاذها المركز الرئيس للثورة ؛ لأنّ لهم بها حزباً وأنصاراً ، وقد أعرضوا عن الزحف إلى يثرب ؛ لأنّ فيها الخليفة الشرعي ، وهو يتمتع بالقوى العسكرية التي لا قابلية لهم عليها ، كما أعرضوا عن النزوح إلى الشام ؛ لأنّ الاُمويِّين لَمْ يستجيبوا لهم ؛ لأنّها كانت تحت قبضتهم فخافوا عليها من التصدّع والاحتلال.

تجهيز الجيش بالأموال المنهوبة :

وجهّز يعلى بن أُميّة جيش عائشة بالأموال التي نهبها مِنْ بيت المال حينما كان والياً على اليمن أيّام عثمان. ويقول المؤرخون : إنّه أمدّ الجيش بستمئة بعير ، وستمئة ألف درهم (١) ، وأمدّهم عبد الله بن عامر والي عثمان على البصرة بمال كثير (٢) كان قد اختلسه مِنْ بيت المال ، ولَمْ يتحرّج أعضاء القيادة العسكرية العامّة في جيش عائشة مِنْ هذه الأموال المحرّمة.

__________________

(١) و (٢) تاريخ ابن الأثير ٣ / ١٠٦.

٢٧

الخطاب السّياسي لعائشة :

وخطبت عائشة في مكّة خطاباً سياسياً حمّلت فيه المسؤولية في إراقة دم عثمان على الغوغاء ، فهم الذين سفكوا الدم الحرام في الشهر الحرام ، وقد قتلوا عثمان بعد ما أقلع عن ذنوبه ، وأخلص في توبته ، ولا حُجّة لهم فيما اقترفوه مِنْ سفك دمه (١).

وقد كان خطابها فيما يقول المحقّقون حافلاً بالمغالطات السّياسية ؛ فإنّ الغوغاء لَمْ يسفكوا دمه ، وإنّما سفك دمه الذين رفعوا علم الثورة عليه ، وفي طليعتهم كبار الصحابة ، كعمار بن ياسر ، وأبي ذر ، وعبد الله بن مسعود ، وطلحة ، والزبير ، وكانت هي بالذات مِنْ أشدّ الناقمين عليه ؛ فقد اشتدّت في معارضته ، وأفتت في قتله وكفره ، فقالت : اقتلوا نعثلاً فقد كفر. فأيّ علاقة للغوغاء بإراقة دمه؟! وأمّا توبته فإنّ عثمان أعلن غير مرّة عن تراجعه عن أحداثه ، إلاّ أنّ بني أُميّة كانوا يزجّونه في مخططاتهم السّياسية فيعود إلى سياسته الأولى ، ولَمْ يقلع عنها حتّى قُتِلَ.

وعلى أيّ حالٍ ، فقد كان خطابها أوّل بادرةٍ لإعلان العصيان المسلّح على حكومة الإمام (عليه السّلام) ، وكان الأولى بعائشة ـ بحسب مكانتها الاجتماعية ـ أنْ تدعو إلى وحدة الصفِّ وجمع كلّمة المسلمين ، وأنْ تقوم بالدعم الكامل لحكومة الإمام (عليه السّلام) التي تمثّل أهداف النّبي (صلّى الله عليه وآله) ، وما تصبوا إليه الأُمّة مِن العزّة والكرامة.

__________________

(١) نص خطابها في تاريخ الطبري ٣ / ٤٦٨.

٢٨

عائشة مع أُمّ سلمة :

ومِن الغريب حقاً أنْ تخفّ عائشة إلى أُمِّ سلمة تطلب منها القيام بمناجزة الإمام (عليه السّلام) ، مع علمها بما تكنّه مِن الولاء والتقدير له ، الأمر الذي دلّ على عدم خبرتها بالاتجاهات الفكرية لضرّاتها مِنْ أزواج النّبي (صلّى الله عليه وآله) ، ولمّا قابلتها خاطبتها بناعم القول قائلة : يا بنت أبي أُميّة ، أنتِ أوّل مهاجرة مِنْ أزواج رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وأنتِ كبيرة اُمّهات المؤمنين ، وكان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقسّم مِنْ بيتك ، وكان جبرئيل أكثر ما يكون في منزلك.

ورمقتها أُمّ سلمة بطرفها ، وقالت لها بريبة : لأمرٍ ما قلتِ هذه المقالة! فأجابتها عائشة مخادعة : إنّ القوم استتابوا عثمان ، فلمّا تاب قتلوه صائماً في الشهر الحرام. وقد عزمت على الخروج إلى البصرة ، ومعي الزبير وطلحة ، فاخرجي معنا لعلّ الله يصلح هذا الأمر على أيدينا.

وأسدت لها أُمّ سلمة النصيحة ، وذكّرتها بمواقفها مع عثمان ونقمتها عليه ، وحذّرتها مِن الخروج على ابن عمّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قائلةً : يا بنت أبي بكر ، بدم عثمان تطلبين؟! والله ، لقد كنت مِنْ أشدّ الناس عليه ، وما كنت تسميه إلاّ نعثلاً ، فما لك ودم عثمان وعثمان رجل مِنْ بني عبد مناف ، وأنت امرأة مِنْ بني تيم بن مرة؟ ويحك يا عائشة! أعلى علي وابن عمِّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) تخرجين ، وقد بايعه المهاجرون والأنصار؟!

وجعلت أُمّ سلمة تذكّر عائشة فضائل علي ومآثره ، وقرب منزلته من

٢٩

رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وكان عبد الله بن الزبير يسمع حديثها فغاظه ذلك ، وخاف أنْ تصرف عائشة عن عزمها فصاح بها : يا بنت أبي أُميّة ، إنّنا قد عرفنا عداوتكِ لآل الزبير.

فنهرته أُمّ سلمة وصاحت به : والله لتوردنّها ، ثمّ لا تصدنّها أنت ولا أبوك. أتطمع أنْ يرضى المهاجرون والأنصار بأبيك الزبير وصاحبه طلحة ، وعلي بن أبي طالب حيّ وهو وليّ كلّ مؤمن ومؤمنة؟! فقال لها ابن الزبير : ما سمعنا هذا مِنْ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ساعة قط. فقالت أُمّ سلمة : إنْ لمْ تكن أنت سمعته فقد سمعته خالتك عائشة ، وها هي فاسألها قد سمعته (صلّى الله عليه وآله) يقول : «علي خليفتي عليكم في حياتي ومماتي ، مَنْ عصاه فقد عصاني». أتشهدين يا عائشة بهذا أم لا؟ فلم يسع عائشة الإنكار وراحت تقول : اللّهم نعم.

ومضت أُمّ سلمة في نصيحتها لعائشة قائلة : اتّقي الله يا عائشة في نفسك ، واحذري ما حذّرك الله ورسوله ، ولا تكوني صاحبة كلاب الحوأب ، ولا يغرّنكِ الزبير وطلحة ؛ فإنّهما لا يغنيان عنك مِن الله شيئاً (١).

ولمْ تعِ عائشة نصيحة أُمّ سلمة ، واستجابت لعواطفها ، وأصرّت على مناجزة الإمام (عليه السّلام).

__________________

(١) الفتوح ٢ / ٢٨٢ ـ ٢٨٣.

٣٠

وكتبت أُمّ سلمة بجميع الأحداث التي جرت في مكّة إلى الإمام (عليه السّلام) ، وأحاطته علماً بأعضاء الفتنة (١).

الزحف إلى البصرة :

وتحرّكت كتائب عائشة صوب البصرة ، ودقّ طبل الحرب ، ونادى المتمرّدون بالجهاد ، وقد تهافت ذوو الأطماع والحاقدون على الإمام (عليه السّلام) إلى الالتحاق بجيش عائشة ، قد رفعوا أصواتهم بالطلب بدم عثمان الذي سفكه طلحة والزبير وعائشة ، واتّجهت تلك الجيوش لتشقّ كلمة المسلمين ، وتغرق البلاد بالثكل والحزن والحداد.

عسكر :

وسار موكب عائشة في البيداء يجذ السير ، فصادفهم العرني صاحب عسكر فعرض له راكب فقال له :

ـ يا صاحب الجمل أتبيع جملك؟

ـ نعم.

ـ بكم؟

ـ بألف درهم.

ـ ويحك! أمجنون أنت ، جمل يباع بألف درهم؟!

ـ نعم جملي هذا ، فما طلبت عليه أحداً قط إلاّ أدركته ، ولا طلبني وأنا عليه أحد قط إلاّ فتّه.

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٢ / ٧٩.

٣١

ـ لو تعلم لمَنْ نريده لأحسنت بيعتاً.

ـ لمَنْ تريده؟

ـ لأُمّك.

ـ لقد تركت أُمّي في بيتها قاعدة ما تريد براحاً.

ـ إنّما اُريده لأُمّ المؤمنين عائشة.

ـ هو لك خذه بغير ثمّن.

ـ ارجع معنا إلى الرحل فلنعطك ناقة مهرية ، ونزيدك دراهم.

فقفل معهم فأعطوه الناقة وأربعمئة درهم ، أو ستمئة درهم ، وقُدّم العسكر إلى عائشة فاعتلت عليه (١) ، وقد أصبح كعجل بني إسرائيل ؛ فقُطّعت الأيدي ، وأُزهقت الأنفس ، وأُريقت الدماء مِنْ حوله.

الحوأب :

وسارت قافلة عائشة فاجتازت على مكان يُقال له (الحوأب) ، فتلقّت الركب كلاب الحيّ بهرير وعواء ، فذعرت عائشة ، فالتفتت إلى مُحمّد بن طلحة فقالت له : أي ماء هذا يا مُحمّد؟

ـ ماء الحوأب يا أُمّ المؤمنين.

فهتفت وهي تلهث : ما أراني إلاّ راجعة.

ـ لِمَ يا أُمّ المؤمنين؟!

ـ سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول لنسائه : «كأنّي بإحداكن قد نبحتها

__________________

(١) ابن الأثير ٣ / ١٠٧ ، تاريخ الطبري ٣ / ٤٧٥ ، تذكرة الخواصّ.

٣٢

كلاب الحوأب ، وإيّاكِ أنْ تكوني أنتِ يا حميراء» (١).

ـ تقدّمي رحمك الله ودعِ هذا القول.

فلمْ تبرح مِنْ مكانها ، وطاقت بها الهموم والآلام ، وأيقنت بضلالة قصدها ، وذعرت القيادة العسكرية مِنْ توقّف عائشة التي اتّخذوها قبلة لهم يغرون بها السذّج والبسطاء ، فخفّوا إليها في دهشة قائلين : يا أُمّه! فقطعت عليهم الكلاب وراحت تقول بنبرات ملؤها الأسى والحزن : أنا والله صاحبة كلاب الحوأب ... ردّوني ردّوني.

وأسرع إليها ابن اُختها عبد الله بن الزبير كأنّه ذئب فانهارت أمامه ، واستجابت لعواطفها ، ولولاه لارتدّت على عقبيها إلى مكة ، فجاء لها بشهود اشترى ضمائرهم فشهدوا عندها أنّه ليس بماء الحوأب ، وهي أوّل شهادة زور تُقام في الإسلام (٢). فأقلعت عن فكرتها ، وأخذت تقود الجيوش لحرب وصي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وباب مدينة علمه.

في ربوع البصرة :

ودهمت جيوش عائشة أهل البصرة فملئت قلوبهم ذعراً وفزعاً

__________________

(١) روى ابن عباس عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال يوماً لنسائه وهنّ جميعاً عنده : «أيتكنّ صاحبة الجمل الأدب تنبحها كلاب الحوأب ، يُقتل عن يمينها وشمالها قتلى كثيرة كلّهم في النار ، وتنجو بعدما كادت؟» ، شرح نهج البلاغة ٢ / ٢٩٧ ، ابن كثير ٦ / ٢٩٧ ، ٢١٢ ، الخصائص ـ السيوطي ٢ / ١٣٧ ، الاستيعاب وجاء فيه : وهذا الحديث من أعلام نبوته (صلّى الله عليه وآله).

(٢) مروج الذهب ٢ / ٣٤٧ ، تاريخ اليعقوبي.

٣٣

وخوفاً ؛ فقد أحاطت ببلدهم القوات العسكرية التي تنذر باحتلال بلدهم ، وجعلها منطقة حرب وعصيان على الخليفة الشرعي ، وانبرى حاكم البصرة عثمان بن حنيف وهو مِنْ ذوي الإدارة والحزم والحريجة في الدين ، فبعث أبا الأسود الدؤلي إلى عائشة يسألها عن سبب قدومها إلى مصرهم ، ولمّا مثل عندها قال لها : ما أقدمك يا أُمّ المؤمنين؟

ـ أطلب بدم عثمان.

ـ ليس في البصرة مِنْ قتلة عثمان أحد.

ـ صدقت ، ولكنّهم مع علي بن أبي طالب بالمدينة ، وجئت أستنهض أهل البصرة لقتاله ، أنغضب لكم مِنْ سوط عثمان ، ولا نغضب لعثمان مِنْ سيوفكم؟!

وردّ عليها أبو الأسود قائلاً : ما أنتِ مِن السوط والسيف! إنّما أنتِ حبيسة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، أمرك أنْ تقرّي في بيتك وتتلي كتاب ربّك ، وليس على النساء قتال ، ولا لهنّ الطلب بالدماء ، وأنّ علياً لأولى منكِ وأمسّ رحماً ؛ فإنّهما ابنا عبد مناف!

ولمْ تذعن لقوله ، وراحت مصرّة على رأيها قائلة : لست بمنصرفة حتّى أمضي لما قدمت إليه ، أفتظن أبا الأسود أنّ أحداً يقدم على قتالي؟ وحسبت أنّها تتمتّع بحصانة لعلاقتها الزوجية مِنْ النّبي (صلّى الله عليه وآله) فلا يقدم أحد على قتالها ، ولمْ تعلم أنّها أهدرت هذه الحرمة ، ولمْ ترعَ لها جانباً ، فأجابها أبو الأسود بالواقع قائلاً : أما والله ، لتقاتلنّ قتالاً أهونه الشديد.

٣٤

ثمّ انعطف أبو الأسود صوب الزبير فذكّره بماضِ ولائه للإمام (عليه السّلام) وقربه منه قائلاً : يا أبا عبد الله ، عهد الناس بك وأنت يوم بويع أبو بكر آخذاً بقائم سيفك تقول : لا أحد أولى بهذا الأمر مِن ابن أبي طالب ، وأين هذا المقام مِنْ ذاك؟! فأجابه الزبير بما لمْ يؤمن به قائلاً : نطلب بدم عثمّان. [فقال له :] أنت وصاحبك ولّيتماه فيما بعد.

ولان الزبير ، واستجاب لنصيحة أبي الأسود ، إلاّ أنّه طلب منه مواجهة طلحة وعرض الأمر عليه ، فأسرع أبو الأسود تجاه طلحة وعرض عليه النصيحة فأبى من الاستجابة ، وأصرّ على الغيّ والعدوان (١) ، ورجع أبو الأسود مِنْ وفادته التي أخفق فيها ، فأحاط ابن حنيف علماً بالأمر ، فجمع أصحابه وخطب فيهم وقال : أيّها الناس ، إنّما بايعتم الله ؛ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا.

والله ، لو علم عليٌّ أحداً أحق بهذا الأمر منه ما قبله ، ولو بايع الناس غيره لبايع وأطاع ، وما به إلى أحد مِنْ صحابة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حاجة ، وما بأحد عنه غنى. ولقد شاركهم في محاسنهم وما شاركوه في محاسنه ، ولقد بايع هذان الرجلان وما يريدان الله ؛ فاستحلا الفطام قبل الرضاع ، والرضاع قبل الولادة ، والولادة قبل الحمل ، وطلبا ثواب الله مِن العباد ، وقد زعما أنّهما بايعا مستكرهين ؛ فإنْ كانا استُكرها قبل بيعتهما ، وكانا رجلين مِنْ عرض قريش ، لهما أنْ يقولا ولا يأمرا ؛ ألا وأنّ الهدى ما كانت عليه

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٢ / ٨١.

٣٥

العامّة ، والعامّة على بيعة علي ، فما ترون أيها الناس؟ فقام إليه الفذ النّبيل حكيم بن جبلة فخاطبه بمنطق الإيمان والحقّ والإصرار على الحرب (١).

وجرت مناظرات بين الفريقين إلاّ أنّها لمْ تنته إلى خير ، وخطب طلحة والزبير وكان خطابهما الطلب بدم عثمان ، فردّ عليهما أهل البصرة ممّن كانت تأتيهم رسل طلحة بالتحريض على قتل عثمان ، وحمّلوه المسؤولية في إراقة دمه.

وخطبت عائشة خطابها الذي كانت تكرره في كلّ وقت ، وهو التحريض على المطالبة بدم عثمان ؛ لأنّه قد خلص مِن ذنوبه وأعلن توبته ، ولكنّها لمْ تنهِ خطابها حتّى ارتفعت الأصوات ؛ فقوم يصدّقونها ، وقوم يكذّبونها ، وتسابّوا فيما بينهم وتضاربوا بالنعال ، واقتتل الفريقان أشدّ القتال وأعنفه ، وأسفرت الحرب عن عقد هدنة بينهما حتّى يقدم الإمام علي (عليه السّلام). وكتبوا بينهم كتاباً وقّعه عثمان بن حنيف وطلحة والزبير ، وقد جاء فيه بإقرار عثمان بن حنيف على الإمرة ، وترك المسلحة وبيت المال له ، وأنْ يباح للزبير وطلحة وعائشة ومَنْ انضمّ إليهم أنْ ينزلوا حيث شاؤوا مِن البصرة.

ومضى ابن حنيف يقيم بالناس الصلاة ، ويقسّم المال بينهم ، ويعمل على نشر الأمن وإعادة الاستقرار في المصر ، إلاّ أنّ القوم قد خاسوا بعهدهم ومواثيقهم ، فأجمعوا على الفتك بابن حنيف.

ويقول المؤرّخون : إنّ حزب عائشة انتهزوا ليلة مظلمة شديدة الريح ، فعدوا على ابن حنيف وهو يصلّي بالناس صلاة العشاء ، فأخذوه ثمّ عدوا إلى بيت المال فقتلوا مِنْ حرسه أربعين رجلاً واستولوا عليه ، وزجّوا بابن حنيف في السجن ، وأسرفوا في تعذيبه بعد أنْ نتفوا لحيته وشاربيه (٢).

__________________

(١) الإمامة والسياسة ١ / ٦٤.

(٢) شرح نهج البلاغة ٢ / ٥٠.

٣٦

وغضب قوم مِنْ أهل البصرة ، ونقموا على ما اقترفه القوم مِنْ نقض الهدنة والنكاية بحاكمهم واحتلال بيت المال ، فخرجوا يريدون الحرب ، وكانت هذه الفئة مِنْ ربيعة يرأسها البطل العظيم حكيم بن جبلة ، فقد خرج في ثلاثمئة رجل مِنْ بني عبد القيس (١) ، وخرج أصحاب عائشة وحملوها معهم على جمل ، وسُمّي ذلك اليوم الجمل الأصغر (٢) ، والتحم الفريقان في معركة رهيبة ، وقد أبلى ابن جبلة بلاءً حسناً.

ويقول المؤرّخون : إنّ رجلاً مِنْ أصحاب طلحة ضربه ضربة قطعت رجله ، فجثا حكيم وأخذ رجله المقطوعة فضرب بها الذي قطعها فقتله ، ولمْ يزل يقاتل حتّى قُتِلَ (٣).

لقد أضاف القوم إلى نقض بيعتهم للإمام (عليه السّلام) نكثهم للهدنة التي وقّعوا عليها مع ابن حنيف ، وإراقتهم للدماء بغير حقّ ، ونهبهم ما في بيت المال ، وتنكيلهم بابن حنيف.

ويقول المؤرّخون : إنّهم قد همّوا بقتله لولا أنّه هدّدهم بأخيه سهل بن حنيف الذي يحكم المدينة مِنْ قبل علي (عليه السّلام) ، وأنّه سيضع السيف في بني أبيهم إنْ أصابوه بمكروه ، فخافوا مِنْ ذلك وأطلقوا سراحه ، فانطلق حتّى التحق بالإمام (عليه السّلام) في بعض طريقه إلى البصرة ، فلمّا دخل عليه قال للإمام (عليه السّلام) مداعباً : أرسلتني إلى البصرة شيخاً فجئتك أمرداً.

وأوغرت هذه الأحداث الصدور ، وزادت الفرقة بين أهل البصرة ؛ فقد انقسموا على أنفسهم ؛ فطائفة منهم تسللوا حتّى التحقوا بالإمام (عليه السّلام) ، وقوم انضمّوا إلى جيش عائشة ، وطائفة ثالثة اعتزلت الفتنة ولمْ يطب لها الانضمام إلى أحد الفريقين.

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٢ / ٥٠.

(٢) حياة الإمام الحسن (عليه السّلام) ١ / ٤٣٠.

(٣) اُسد الغابة ٢ / ٤٠.

٣٧

النزاعُ على الصلاة :

وليس مِن الغريب في شيء أنْ يتنازع كلّ مِنْ طلحة والزبير على إمامة الصلاة ؛ فإنّهما إنّما نكثا بيعة الإمام (عليه السّلام) طمعاً بالحكم ، وسعياً وراء المصالح المادية.

ويقول المؤرّخون : إنّ كلّ واحد منهما كان يروم التقدّم على صاحبه لإمامة الناس والآخر يمنعه حتّى فات وقت الصلاة ، فخافت عائشة مِنْ تطوّر الأحداث ، فأمرت أنْ يصلّي بالناس يوماً مُحمّد بن طلحة ، ويوماً عبد الله بن زبير (١). فذهب ابن الزبير ليصلّي فجذبه مُحمّد وتقدّم للصلاة فمنعه عبد الله ، ورأى الناس أنّ خير وسيلة لقطع حبل النزاع القرعة ، فاقترعا فخرج مُحمّد بن طلحة فتقدّم وصلّى بالناس ، وقرأ في صلاته : (سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ).

وأثارت هذه الصور الهزيلة السخرية عليهم بين الناس ، واندفعوا إلى نقدهم ، وفي ذلك يقول الشاعر :

تبارى الغلامانِ إذ صلّيا

وشحّ على المُلْك شيخاهما

وما لي وطلحة وابن الزبيرِ

وهذا بذي الجذعِ مولاهما

فأُمّهما اليوم غرَّتهما

ويعلى بنُ مُنبه ولاّهما (٢)

إنّ هذه البادرة تصوّر مدى تهالك القوم على الإمرة والسلطان وهم بعد في بداية الطريق ، فلو كتب لهم النجاح في القضاء على حكم الإمام (عليه السّلام) لفتح بعضهم على بعض باب الحرب للاستيلاء على زمام الحكم.

رُسل الإمام (عليه السّلام) إلى الكوفة :

وأوفد الإمام (عليه السّلام) رسله إلى أهل الكوفة يستنجد بهم ، ويدعوهم إلى

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ / ١٥٧.

(٢) الأغاني ١١ / ١٢٠.

٣٨

نصرته ، والقيام معه لإخماد نار الفتنة التي أشعلها المتمرّدون. وأقبلت الرسل إلى الكوفة فوجدوا عاملها أبا موسى الأشعري يدعو إلى الفتنة ، ويخذّل الناس عن نصرة إمامهم ويدعوهم إلى التمرّد ، ويحبب لهم العافية. ولمْ تكن لأبي موسى حجّة في ذلك ، وإنّما كان يعبّر عن حقده وأضغانه على الإمام (عليه السّلام) ، وكان فيما أجمع عليه المؤرّخون عثمّاني الهوى.

وأقبلت رسل الإمام (عليه السّلام) على أبي موسى يعنّفونه ويلومونه ، إلاّ أنّه لمْ يعنَ بهم ، فبعثوا إلى الإمام (عليه السّلام) رسالة ذكروا فيها تمرّده وعدم استجابته لنداء الحقّ ، وأرسل إليه الإمام (عليه السّلام) هاشم المرقال ، وهو مِنْ خيرة أصحاب الإمام (عليه السّلام) ، وزوّده برسالة يطلب فيها مجيء أبي موسى إليه ، ولمّا انتهى إليه هاشم وعرض عليه رسالة الإمام (عليه السّلام) لمْ يستجب له وبقي مصمّماً على عناده وعصيانه ، فأرسل هاشم إلى الإمام (عليه السّلام) رسالة يخبره فيها بموقف أبي موسى وتمرّده ، فبعث الإمام (عليه السّلام) ولده الحسن (عليه السّلام) وعمّار بن ياسر ومعهما رسالة بعزله وتعيين قرضة بن كعب الأنصاري في مكانه.

ولمّا وصل الإمام الحسن (عليه السّلام) إلى الكوفة التام الناس حوله زمراً وهم يظهرون له الطاعة والولاء ، وأعلن لهم عزل الوالي المتمرّد وتعيين قرضة في منصبه ، إلاّ أنّ أبا موسى بقي مصمّماً على غيّه ؛ يثبّط عزائم الناس ويدعوهم إلى التخاذل والخروج عن الطاعة ، ولم يستجب للإمام الحسن (عليه السّلام). ورأى الزعيم الكبير مالك الأشتر أنّ الأمر لا يتمّ إلاّ بإخراج أبي موسى مهان الجانب ، فجمع نفراً مِنْ قومه اُولي بأسٍ شديدٍ فأغار بهم على قصر الإمارة ، وأخذ الناس ينهبون أمتعته وأمواله ، فاضطر الجبان إلى الاعتزال عن عمله ، ومكث ليلته في الكوفة ثمّ خرج هارباً حتّى أتى مكة فأقام مع المعتزلين.

ودعا الإمام الحسن (عليه السّلام) الناس إلى الخروج لنصرة أبيه (عليه السّلام) ، وقد نفر معه آلاف كثيرة ؛ فريق منها ركب السفن ، وفريق آخر ركب المطي ، وهم مسرورون كأشدّ ما يكون السرور بنصرتهم للإمام (عليه السّلام).

٣٩

وطوت الجيوش البيداء تحت قيادة الإمام الحسن (عليه السّلام) ، فانتهوا إلى ذي قار حيث كان الإمام (عليه السّلام) مقيماً هناك ، وقد سرّ (عليه السّلام) بنجاح ولده ، وشكر له مساعيه وجهوده. وانضمّت جيوش الكوفة إلى الجيش الذي كان مع الإمام (عليه السّلام) والبالغ عدده أربعة آلاف ، وكان فيهم أربعمئة ممّن شهد بيعة الرضوان مع النّبي (صلّى الله عليه وآله) ، وقد أسند الإمام (عليه السّلام) قيادة ميمنة جيشه إلى الحسن (عليه السّلام) ، وقيادة ميسرته إلى الحُسين (عليه السّلام) (١) ، كما كانت جيوشه مزوّدة بأحسن السلاح ، ويقول المؤرّخون : إنّ الحُسين (عليه السّلام) كان قد ركب فرس جدّه (صلّى الله عليه وآله) المسمّى بالمرتجز (٢).

التقاءُ الجيشين :

وتحرّكت قوات الإمام (عليه السّلام) مِنْ ذي قار وهي على بيّنة مِنْ أمرها ، فلمْ تكن متردّدة ولا شاكّة في أنّها على الهُدى والحقّ ، وقد انتهت إلى مكان يسمّى بالزاوية يقع قريباً مِن البصرة ، فأقام فيه الإمام (عليه السّلام) وقد بادر إلى الصلاة ، وبعدما فرغ منها أخذ يبكي ودموعه تسيل على سحنات وجهه الشريف ، وهو يتضّرع إلى الله في أنْ يحقن دماء المسلمين ويجنّبه ويلات الحرب ، ويجمع كلمة المسلمين على الهُدى والحقّ.

رُسل السّلام :

وأوفد الإمام (عليه السّلام) رسل السّلام للقاء عائشة ، وهم زيد بن صوحان ،

__________________

(١) جواهر المطالب ـ شمس الدين أبي البركات / ٤٣ ، من مصوّرات مكتبة الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام).

(٢) وقعة الجمل ـ مُحمّد بن زكريا بن دينار / ٣٥.

٤٠