موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ مرتضى البروجردي

[٢٣٧٨] مسألة ١٩ : لو صام يوم الشكّ بنيّة أنّه من شعبان ندباً أو قضاءً أو نحوهما ، ثمّ تناول المفطر نسياناً ، وتبين بعده أنّه من رمضان ، أجزأ عنه أيضاً ، ولا يضرّه تناول المفطر نسياناً (١) كما لو لم يتبين ، وكما لو تناول المفطر نسياناً بعد التبيّن.

______________________________________________________

ولكن خصوص الروايات الواردة في الجماع مطلقة لم يُؤخَذ في موضوعها عنوان الصائم ، بل المذكور فيها : إنّ من أتى أهله في شهر رمضان فعليه كذا (١) ، ونحو ذلك ممّا يقرب من هذا التعبير ، فتدلّنا على أنّ الحكم عامّ للصائم ولغيره ، وقد خرج عنها بالدليل القطعي بعض الموارد كالمسافر والمريض والشيخ والشيخة ، وأمّا غير ذلك ممّن كان مأموراً بالصوم فأفسده أمّا العذر أو عصيان فهو مشمول لتلك الإطلاقات ، فيجب عليه الإمساك عن الجماع ، وبعدم القول بالفصل القطعي يثبت في سائر المفطرات أيضاً ، فإن تمّ هذا التقريب أو الإجماع المزبور وكلاهما تامّ وإلّا فلا دليل عليه.

(١) لما سيأتي إن شاء الله تعالى في محلّه من اختصاص المفطر بالتناول العمدي ، وأمّا غيره فرزقٌ رزقه الله ولا يقدح في الصحّة بوجه ، فلا فرق إذن بين التبيّن وبين ما إذا لم يتبيّن رأساً في عدم البطلان على التقديرين ، ضرورة أنّه إذا لم يكن قادحاً في فرض عدم الانكشاف فالانكشاف لا يزيد عليه بشي‌ء.

وأوضح حالاً منهما ما لو تبيّن ثمّ تناول المفطر نسياناً ، إذ بعد التبيّن وتجديد النيّة فهذا الصوم يقع من رمضان ، وصريح النصوص عدم بطلانه بالتناول السهوي ، وهذا كلّه واضح.

__________________

(١) انظر الوسائل ١٠ : ٤٨ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٨ ح ٨.

٨١

[٢٣٧٩] مسألة ٢٠ : لو صام بنيّة شعبان ثمّ أفسد صومه برياءٍ ونحوه لم يجزئه عن رمضان وإن تبيّن له كونه منه قبل الزوال (١).

[٢٣٨٠] مسألة ٢١ : إذا صام يوم الشكّ بنيّة شعبان ، ثمّ نوى الإفطار ، وتبين كونه من رمضان قبل الزوال قبل أن يفطر فنوى ، صحّ صومه (*) (٢).

______________________________________________________

(١) إذ بعد أن بطل الصوم بالرياء المفسد لم يبق حينئذٍ موضوع للعدول وتجديد النيّة ، لاختصاص النصوص بما إذا كان الصوم صحيحاً في نفسه ، فيبدل الصحيح بصحيح آخر ، دون الباطل غير القابل للتبديل ، فإنّ الحرام لا يقع مصداقاً للواجب ، فلا يشمله شي‌ء من نصوص التجديد ، ومعه لا مناص من القضاء.

(٢) فإنّ النيّة الأُولى بعد تعقّبها بنيّة الإفطار بمنزلة العدم ، فهو كمن لم ينو الصوم أصلاً ، وقد تقدّم أنّ من ترك النيّة جهلاً أو نسياناً يجدّدها قبل الزوال (١) ، ولكنّه مبنيٌّ على مسلكه (قدس سره) من إلحاق ذلك بالمريض والمسافر في جواز التجديد المزبور ، وقد بيّنا ضعف المبنى وبطلان القياس ، فلا دليل على التعدّي ، فالحكم بالصحّة مشكل جدّاً ، بل يمسك تأدّباً ، ولا بدّ من القضاء.

وأولى بعدم الصحّة ما لو نوى الإفطار في يومٍ من شهر رمضان عصياناً ثمّ تاب فجدّد النيّة قبل الزوال ، للإخلال بالنيّة عامداً ، الموجب للبطلان كما تقدّم.

وأمّا الفرع الثالث المذكور في المتن وهو : ما لو صام يوم الشكّ بقصد واجبٍ معيّن كنذر ونحوه ، ثمّ نوى الإفطار عصياناً ، ثمّ تاب فجدّد النيّة فقد حكم

__________________

(*) تقدّم الإشكال فيه.

(١) في ص ٤١.

٨٢

.................................................................................................

______________________________________________________

الماتن (قدس سره) بعدم الصحّة فيه أيضاً ، نظراً إلى أنّه قد أبطل صومه بنيّة الإفطار بعد أن كان واجباً معيّناً ، والباطل لا يقوم مقام الصحيح ، فليس له العدول.

وهذا وجيهٌ على مسلكنا من عدم الدليل على تجديد النيّة فيمن لم يكن ناوياً للصوم من الأوّل أو في الأثناء ، لجهلٍ ونحوه.

وأمّا بناءً على مسلكه (قدس سره) من جواز التجديد فالظاهر هو الحكم بالصحّة ، لأنّه بعد تبيّن كون اليوم من رمضان ينكشف أنّه قد أبطل بنيّة الإفطار صوماً لم يكن ثابتاً في حقّه إلّا بحسب الحكم الظاهري المنتهي أمده بانكشاف الخلاف ، وإلّا فهو واقعاً مكلّفٌ بصيام رمضان ، ومثل هذا الإبطال لا يكاد يضرّ بصحّة الصوم بعنوان رمضان ، فإنّ حاله حال غير الناوي من أصله ، الذي يسوغ له التجديد حسب الفرض.

وبعبارة واضحة : هنا موضوعان : صوم بعنوان رمضان ، وصوم بعنوان آخر من نذر أو كفّارة ونحوهما. ولكلّ موضوع حكمه ، والمفروض أنّه نوى الصوم بعنوان آخر واجب معيّن وقد أفسده بنيّة الإفطار. بل لنفرض أنّه ارتكب محرّماً أيضاً ، للتجرّي ، فغايته أنّ حاله من لم ينو الصوم من أوّل الفجر ، فإذا انكشف الخلاف وأنّ اليوم من رمضان وأنّه مكلّفٌ به واقعاً وأنّ ما نواه كان محكوماً بحكم ظاهري مغيّا بعدم انكشاف الخلاف وقد انكشف ، فأيّ مانع حينئذٍ من تجديد النيّة والإتيان بعنوان رمضان الذي لم يكن فاقداً إلّا النيّة بعد فرض نهوض الدليل على جواز التجديد في أمثال المقام كما يراه (قدس سره)؟!

ولا يقاس المقام بالرياء المحرّم ، ضرورة أنّ الصوم الريائي بنفسه محرّم ، والمحرّم لا يقوم مقام الواجب. وأمّا في المقام فالحرمة لو كانت فإنّما هي في نيّة الإفطار ، لا في نفس الصوم كما لا يخفى.

٨٣

وأمّا إن نوى الإفطار في يومٍ من شهر رمضان عصياناً ، ثمّ تاب فجدّد النيّة قبل الزوال ، لم ينعقد صومه.

وكذا لو صام يوم الشك بقصد واجبٍ معيّن ، ثمّ نوى الإفطار عصياناً ، ثمّ تاب فجدّد النيّة بعد تبيّن كونه من رمضان قبل الزوال.

[٢٣٨١] مسألة ٢٢ : لو نوى القطع أو القاطع في الصوم الواجب المعيّن بطل صومه (١) ، سواء نواهما من حينه أو فيما يأتي.

______________________________________________________

فما ذكره (قدس سره) يتمّ على مسلكنا من عدم الدليل على تجديد النيّة ، لا على مسلكه (قدس سره) حسبما عرفت.

(١) الفرق بين نيّة القطع والقاطع واضح :

فإنّ الصائم قد ينوي تناول المفطر فيحرّك عضلاته نحو الطعام ليأكله فيقوم ويذهب ليشتري خبزاً مثلاً ويأكله ، فهذا قد نوى القاطع ، سواء تحقّق الأكل خارجاً أم لا.

وأُخرى ينوي القطع ، أي أن لا يكون صائماً باعتبار أنّ الصوم قصدي فيرفع اليد عن قصده وينوي أن لا يمسك عن المفطرات من دون أن يقصد تناول المفطر ، بل نفس عدم نيّة الإمساك.

هذا هو الفرق الموضوعي.

وأمّا بحسب الحكم فقد يفصل بينهما ، فيدّعى أنّ نيّة القطع تضرّ بالصوم ، للإخلال بالنيّة كما عرفت ، بخلاف نيّة القاطع ، فإنّها لا تنافيه ، بل هي تؤكّد الصوم ، حيث يبني على القطع فيما بعد ، فهو بالفعل صائم لا محالة ليتّصف بعدئذٍ بالقطع ، فإن بدا له وجدّد النيّة قبل تناول المفطر فلا مانع من الصحّة.

٨٤

.................................................................................................

______________________________________________________

وببالي أنّ صاحب الجواهر يقوّي هذا التفصيل ، كما أنّه قد يفصل أيضاً بين نيّة الإتيان بالمفطر فعلاً ، وبين الإتيان فيما بعد ، ببطلان الصوم في الأول ، دون الثاني (١).

والظاهر أنّ كلا التفصيلين مبنيّان على شي‌ء واحد ، وهو الخلط بين أمرين ، إذ الكلام يقع تارةً في عنوان الصوم المقابل للإفطار ، وأُخرى في صحّة الصوم وفساده.

أمّا الأوّل : أعني : أصل الصوم الذي هو عبارة عن الإمساك عن نيّة فالذي ينافيه إنّما هو نيّة القطع ، إذ معه لا يكون صائماً بالفعل ، لعدم كونه قاصداً للصوم ، وأمّا لو نوى القاطع فهو ممسك فعلاً ولم يرفع اليد عن صومه بوجه ، فعنوان الصوم باقٍ إلى أن يرتفع بمفطر ، ومن هنا لا يترتّب شي‌ء من الكفّارات على النيّة المحضة ما لم تتعقّب باستعمال المفطر خارجاً ، فإن نوى أن يأكل فلا شي‌ء عليه ما لم يأكل ، لأنّ الكفّارة مترتّبة على عنوان المفطر ، وليست النيّة مفطرة ، وإنّما هي نيّة المفطر لا واقعة.

فبالنسبة إلى عنوان الصوم والإفطار الأمر كما ذكر ، والتفصيل المزبور بهذا المعنى صحيح ، وكذلك التفصيل الثاني كما لا يخفى.

ولكن ليس كلامنا في أصل الصوم ، بل في المعنى الثاني أعني : الصوم الصحيح القربي الذي هو عبارة عن نيّة الإمساك الخاصّ المحدود فيما بين الفجر إلى الغروب ، ولا شكّ أنّ كلا من نيّتَي القطع والقاطع الحالي أو الاستقبالي تنافيه ، ضرورة أنّه كيف يجتمع العزم على الإمساك إلى الغروب مع نيّة القاطع ولو بعد ساعة؟! فنيّة القاطع فضلاً عن القطع ولو فيما بعد لا تكاد تجتمع مع

__________________

(١) جواهر الكلام ١٦ : ٢١٥ ٢١٦.

٨٥

وكذا لو تردّد (١).

نعم ، لو كان تردّده من جهة الشكّ في بطلان صومه وعدمه لعروض عارض ، لم يبطل وإن استمرّ ذلك إلى أن يسأل.

ولا فرق في البطلان بنيّة القطع أو القاطع أو التردّد بين أن يرجع إلى نيّة الصوم قبل الزوال أم لا.

______________________________________________________

القصد إلى الصوم الصحيح ، فهو نظير من شرع في الصلاة بانياً على إبطالها في الركعة الثالثة ، فإنّ مثله غير قاصد لامتثال الأمر الصلاتي المتعلّق بمجموع الأجزاء بالأسر بطبيعة الحال ، وإن لم يكن بالفعل قاطعاً للصلاة.

فما ذكره في المتن من الحكم بالبطلان مطلقاً هو الصحيح ، والتفصيل مبنيٌّ على الخلط بين أصل الصوم وبين الصوم الصحيح المأمور به حسبما عرفت.

(١) قد عرفت أنّ الصوم المأمور به عبارة عن الإمساك الخاصّ المحدود فيما بين الطلوع إلى الغروب ، وبما أنّ الواجب ارتباطي فلا بدّ وأنّ يكون قاصداً للصيام في تمام هذه الأجزاء ، فلو نوى الإفطار في الزمان الحاضر أو فيما بعده إلى الغروب فهو غير ناوٍ للصوم ومعه يبطل ، ولا أثر للرجوع بعد ذلك ، بداهة أنّ مقداراً من الزمان لم يكن مقروناً بالنيّة ، وقد عرفت اعتبارها في تمام الأجزاء والآنات ، بمقتضى افتراض الارتباط بين أجزاء المركّب.

ومنه تعرف أنّه لا فرق في البطلان بين البناء على الإفطار وبين التردّد فيه ، ضرورة أنّ المتردّد أيضاً غير ناوٍ للصوم فعلا فيبطل ، نظراً إلى أنّ المعتبر هو نيّة الصوم ، لا أنّ المبطل هو نيّة الإفطار ، والبطلان في هذه الصورة إنّما هو لأجل فقدان نيّة الصوم ، لا لأجل خصوصيّةٍ لنيّة الإفطار كما هو ظاهر ، فإذا لم

٨٦

وأمّا في غير الواجب المعيّن فيصح لو رجع قبل الزوال (١).

______________________________________________________

يكن ناوياً ولو لأجل التردّد فلا مناص من الحكم بالبطلان.

نعم ، لو لم يكن ترديده لأمرٍ راجع إلى فعله الاختياري ، بل كان مستنداً الشكّ في صحّة الصوم المسبَّب عن الجهل بالحكم الشرعي ، كما لو استيقظ في نهار رمضان محتلماً شاكاً في بطلان الصوم بذلك لجهله بالمسألة ، المستلزم للترديد في النيّة بطبيعة الحال مع العزم على الصوم على تقدير الصحّة واقعاً ، فمثله لا يستوجب البطلان بوجه ، إذ لا ترديد فيما يرجع إلى الاختيار ، وانّما هو في حكم الشارع ، فلا يدري أنّ الشارع يعتبر هذا صوماً أو لا. وعليه فلا مانع من أن يسترسل في النيّة ، ويتمّ صومه رجاءً إلى أن يسأل عن حكم المسألة ، فهو في المقدار الفاصل بين تردّده ومسألته بانٍ على الاجتناب عن المفطرات على تقدير صحّة الصوم.

وهذا النوع من الترديد لا بأس به ، بعد أن لم يكن راجعاً إلى فعله من حيث الاجتناب وعدمه ، بل كان عائداً إلى الحكم الشرعي ، فينوي احتياطاً ثمّ يسأل في النهار إن أمكن وإلا ففي الليل ، ويبني على الصحّة لو تبيّن عدم قدح ما تخيّل أو توهّم كونه مفطراً ، كما لو سافر من دون تبييت نيّة السفر ، ولم يدر أنّه يوجب الإفطار أو لا ، فأمسك رجاءً ثمّ سأل فظهر أنّه لا يوجبه.

والحاصل : أنّ هذا يجري في جميع موارد الشكّ في صحّة الصوم وبطلانه ، ولا يكون مثل هذا الترديد مضرّاً ، لعدم تعلّقه بفعل المكلّف ، بل يتعلّق بفعل الشارع ، ومثله لا بأس به.

(١) كما لو صام عن كفّارة أو نذر غير معيّن ، ثمّ تردّد أو بنى على الإفطار ، ثم رجع وعزم على الصوم ، فإنّه يصحّ صومه ، لأنّ غاية ما يترتّب على نيّة

٨٧

[٢٣٨٢] مسألة ٢٣ : لا يجب معرفة كون الصوم هو ترك المفطرات مع النيّة ، أو كف النفس عنها معها (١).

[٢٣٨٣] مسألة ٢٤ : لا يجوز العدول من صوم إلى صوم ، واجبين كانا أو مستحبّين أو مختلفين (٢).

______________________________________________________

الإفطار أو الترديد أنّه غير صائم ، ولكن المفروض أنّه لم يفطر ، وبما أنّ زمان نيّة الصوم في الواجب غير المعيّن ممتدٌّ إلى الزوال كما سبق في محلّه فله تجديد النيّة ، لأنّ المقام لا يشذّ عمّن لم يكن ناوياً للصوم من الأول ، فكما أنّ غير الصائم يسوغ له التجديد ، فكذا الصائم الذي أبطل صومه بالاختلال بالنيّة من غير تناول المفطر بمناطٍ واحد كما هو ظاهر.

وهذا بخلاف الصوم الواجب المعيّن ، فإنّه لا فرق في بطلانه بنيّة القطع أو القاطع ، أو الترديد بين أن يكون ذلك قبل الزوال أو بعده ، لاعتبار النيّة فيه من طلوع الفجر إلى الغروب ، ولا يجتزئ في مثله بالتجديد قبل الزوال.

(١) لعدم الدليل على اعتبار معرفة مفهوم الصوم وحقيقته التفصيليّة في تحقّق العبادة ، وأنّه أمر وجودي هو الإمساك وكفّ النفس ، ليكون التقابل بينه وبين الإفطار من تقابل التضادّ ، أو أنّه أمر عدمي هو الترك ، ليكون التقابل بينهما من تقابل العدم والملكة. فإنّ الباني على ترك المفطرات كافٌّ نفسه عن المفطرات أيضاً ، فكلا الأمرين موجودان بطبيعة الحال ، ولا دليل على لزوم تحقيق الموضوع ومعرفته بعد الإتيان بما هو المأمور به واقعاً عند المولى باختياره وإرادته بقصد القربة ، فمجرّد قصد عنوان الصوم الذي هو فعل اختياري له كاف ، سواء أكان وجوديّاً أم عدميّاً.

(٢) لعدم الدليل على جواز التبديل في الأثناء ، إلّا في باب الصلاة في موارد

٨٨

وتجديد نيّة رمضان إذا صام يوم الشك بنيّة شعبان ليس من باب العدول (١) ، بل من جهة أنّ وقتها موسّع لغير العالم به إلى الزوال (*).

______________________________________________________

خاصّة ، كالعدول من الحاضرة إلى الفائتة ، أو من اللّاحقة إلى السابقة كالمترتّبتين أو من الفريضة إلى النافلة ، كما في المنفرد الذي أُقيمت عنده الجماعة ونحو ذلك.

وأمّا فيما عدا ذلك فالعدول المستلزم للتبديل المزبور في مقام الامتثال بأن يكون حدوثاً بداعي امتثال أمر ، وبقاءً بداعي امتثال أمر آخر مخالفٌ للقاعدة لا بدّ في مشروعيّته من قيام الدليل عليه ، ضرورة أنّ كلّاً من الأمرين قد تعلّق بالمجموع المركّب من عمل خاصّ ، فكان الإمساك من الفجر إلى الغروب بعنوان النذر مثلاً مأموراً بأمر ، وبعنوان الكفّارة بأمرٍ آخر ، فلكلّ صنف أمرٌ يخصّه ، فالتلفيق بأن يأتي بالنصف من هذا والنصف الآخر من الآخر يحتاج إلى الدليل ، وحيث لا دليل عليه في باب الصوم لم يكن العدول مشروعاً فيه.

(١) هذا تداركٌ منه (قدس سره) لما أفاده من عدم جواز العدول في الصوم بأنّ هذا لا ينافي ما تقدّم من تجديد نيّة رمضان إذا صام يوم الشكّ بنيّة شعبان ، لأنّ ذلك ليس من باب العدول ، بل من باب التوسعة في وقت النيّة إلى الزوال بالنسبة إلى الجاهل.

ولكن الظاهر أنّ هذا سهو من قلمه الشريف ، ووجهه ظاهر ، إذ قد تقدّم منه (قدس سره) قبل مسائل قليلة : أنّ تجديد النيّة فيما إذا انكشف أنّ يوم الشكّ من رمضان لا يكون محدوداً بما قبل الزوال ، بل هو ممتدٌّ إلى الغروب ، بل ما بعد الغروب أيضاً ، وأنّه يومٌ وُفِّق له ويُحسَب من رمضان قهراً ، فليس ذلك من باب تجديد النيّة إلى الزوال والتوسعة في الوقت ، وإلّا فقد استشكلنا فيه

__________________

(*) ليس الأمر كذلك ، وإلّا لم يكن الحكم شاملاً لصورة التبيّن بعد الزوال.

٨٩

.................................................................................................

______________________________________________________

وقلنا : إنّه لا دليل عليه كما سبق ، بل لأجل أنّ الشارع اكتفى بالصوم المأتيّ به بنيّة شعبان ندباً أو نذراً أو غيرهما وجعله بدلاً عن رمضان ، وهذا عدول قهري ، نظير ما ورد في الظهرين من أنّه إذا صلّى العصر قبل الظهر نسياناً ثمّ التفت بعد الصلاة احتُسِب ظهراً ، وأنّه أربع مكان أربع ، فقد جعله الشارع مكانه ، لا أنّ المكلّف يجعله ويعدل إليه.

وعلى الجملة : فالمكلّف إنّما ينوي صوم رمضان من زمان الانكشاف ، أمّا ما سبق عليه فهو من باب حكم الشارع بالانطباق القهري ، فهو يجعله مصداقاً للصوم الواجب ويجتزئ به ، وليس هذا من باب التوسعة في الوقت ، ولا من جهة العدول ، إذ العدول فعل اختياري للمكلّف ، وهو بهذا المعنى غير متحقّق في المقام ، بل يُحسَب له من صوم رمضان قهراً عليه كما عرفت ، فهذا من باب الاجتزاء والاحتساب من الشارع ، من غير ربط له بمسألة العدول ، ولا التوسعة في الوقت بتاتاً.

نعم ، يتّجه ما ذكره (قدس سره) بالنسبة إلى صوم غير شهر رمضان ، كما لو صام ندباً أو نذراً غير معيّن ، فأراد أن يعدل إلى صوم الكفّارة مثلاً أو بالعكس ، جاز له ذلك فيما قبل الزوال ، فيجري هنا التعليل الذي ذكره (قدس سره) من أنّ ذلك ليس من باب العدول ، وإنّما هو من باب التوسعة في وقت النيّة ، إذ بعد أن رفع اليد عن الصوم الأوّل بطل وكان كمن لم يكن ناوياً للصوم ، والمفروض أنّه لم يفطر بعد ، فيندرج تحت أدلّة جواز التجديد إلى ما قبل الزوال.

نعم ، لا يجوز ذلك في قضاء شهر رمضان ، إذ لا يجوز العدول منه إلى التطوّع جزماً.

والحاصل : أنّه بعد ما تقدّم من أن الواجب غير المعيّن لا يلزم فيه إيقاع النيّة قبل الفجر ، بل يجوز التأخير ولو اختياراً إلى ما قبل الزوال ، فرفع اليد عن

٩٠

.................................................................................................

______________________________________________________

صومٍ آخر ليس من باب العدول والتبديل في مقام الامتثال ليكون نقضاً على ما قدّمناه من عدم جواز العدول في باب الصوم ، بل من باب التوسعة في الوقت ، باعتبار أنّ ما سبق لا يحتاج إلى النيّة ، بل المعتبر طبيعي الإمساك وإن لم يكن ناوياً آن ذاك.

وكان الأولى أن يقول (قدس سره) هكذا : أنّه في شهر رمضان لا يكون التجديد من باب العدول ، بل من باب الانطباق القهري بحكم الشارع واكتفائه بذلك ، لا أنّ المكلّف بنفسه يعدل اختياراً. وأمّا في غير شهر رمضان فلا يجوز العدول بعد الزوال وقبله ، وإن جاز فهو ليس من باب العدول وتبديل الامتثال ، بل من باب التوسعة في وقت النيّة.

ولكنّه (قدس سره) ذكر هذه العلّة لتجديد النيّة في شهر رمضان ، وقد عرفت أنّه سهو من قلمه الشريف جزماً ، لعدم كونه حينئذٍ من باب التوسعة في الوقت بوجه حسبما عرفت بما لا مزيد عليه ، والله سبحانه أعلم.

٩١

فصل

فيما يجب الإمساك عنه في الصوم من المفطرات

وهي أُمور :

الأوّل والثاني : الأكل والشرب (١) ،

______________________________________________________

(١) إجماعاً من جميع المسلمين ، بل وضرورة ، وقد نطق به الكتاب العزيز والسنّة القطعيّة ، بل يظهر من بعض النصوص أنّهما الأساس في الصوم وباقي المفطرات ملحقٌ بهما. وهذا في الجملة ممّا لا إشكال فيه.

إنّما الكلام في جهات :

الاولى : لا ينبغي الإشكال بل لا إشكال في عدم الفرق في مفطريّة الأكل والشرب بين ما كان من الطريق العادي المتعارف ، وما كان من غير الطريق المتعارف ، كما لو شرب الماء من أنفه مثلاً فإنّ العبرة في صدق ذلك بدخول المأكول أو المشروب في الجوف من طريق الحلق ، سواء أكان ذلك بواسطة الفم أم الأنف ، ولا خصوصيّة للأوّل ، ومجرّد كونه متعارفاً لا يقتضي التخصيص بعد إطلاق الدليل وتحقّق الصدق ، والظاهر أنّه لم يستشكل أحد في ذلك.

ولكن ذكر بعض من قارب عصرنا (١) في رسالته العمليّة أنّه لا بأس بغير

__________________

(١) وهو الفاضل الإيرواني (قدس سره).

٩٢

من غير فرق في المأكول والمشروب (١) بين المعتاد كالخبز والماء ونحوهما وغيره ، كالتراب والحصى وعصارة الأشجار ونحوها ،

______________________________________________________

المتعارف ، فلا مانع من الشرب بطريق الأنف.

وهو كما ترى لا يمكن المساعدة عليه بوجه ، ولم يُنسَب الخلاف إلى أحدٍ غيره كما سمعت ، وذلك لإطلاقات الأدلّة.

ودعوى الانصراف إلى ما اعتمد على الفم لا يصغي إليها أبداً ، لعدم دخل الفم في صدق الأكل أو الشرب بعد أن كان الدخول في الجوف من طريق الحلق ، ومن هنا لا يحتمل جواز شرب المحرّمات كالخمر أو المائع المتنجّس من طريق الأنف بدعوى انصراف النهي إلى المتعارف وهو الفم ، بل قد يظهر من بعض روايات الاكتحال عدم الفرق ، لتعليل المنع بمظنّة الدخول في الحلق ، وفي بعضها أنّه لا بأس به ما لم يظهر طعمه في الحلق ، فإذا كان الدخول فيه من طريق العين مانعاً ، فمن طريق الأنف الذي هو أقرب بطريقٍ أولى.

وعلى الجملة : لا ينبغي التشكيك في عدم الفرق في صدق الأكل ومفطريّته وكذا الشرب بين ما كان من الطريق المتعارف وغيره ، فلا فرق في ذلك بين الفم والأنف قطعاً.

(١) الجهة الثانية : المعروف والمشهور بل المتسالم عليه ، بل المرتكز في أذهان عامّة المسلمين أنّه لا فرق في المأكول والمشروب بين المعتاد منهما كالخبز والماء وغير المعتاد كالحصى والتراب والطين ومياه الأنوار وعصارة الأشجار ونحو ذلك ممّا لم يكن معداً للأكل الشرب ولم ينسب الخلاف حتّى إلى المخالفين ما عدا اثنين منهم ، وهما الحسن بن صالح وأبو طلحة الأنصاري (١).

__________________

(١) الناصريات : ٢٩٤.

٩٣

.................................................................................................

______________________________________________________

وقد ادّعى السيّد (قدس سره) في محكيّ الناصريات الاتفاق عليه بين المسلمين (١) ، وأنّ الخلاف المزبور مسبوقٌ بالإجماع وملحوق به ، ومع ذلك نُسِب الخلاف إلى السيّد نفسه في بعض كتبه وإلى ابن الجنيد ، وأنّهما خصّا المفطر بالمأكول والمشروب العاديّين (٢).

وسواء صحّت النسبة أم لم تصحّ فهذا التخصيص لا يمكن المساعدة عليه بوجه ، وذلك لإطلاقات الأدلة من الكتاب والسنّة ، فإنّ الوارد فيهما المنع عن الأكل والشرب من غير ذكر للمتعلّق ، ومن المعلوم أنّ حذف المتعلّق يدلّ على العموم.

ودعوى الانصراف إلى العادي منهما عريّة عن كلّ شاهد ، بعد وضوح صدق الأكل والشرب بمفهومهما اللغوي والعرفي على غير العادي كالعادي بمناطٍ واحد ومن غير أية عناية ، فكما يقال : زيد أكل الخبز ، يقال : إنّه أكل الطين أو أكل التراب ، بلا فرق بينهما في صحّة الاستعمال بوجه ، وقد ورد في بعض النصوص النهي عن أكل التراب إلّا التربة الحسينية على مشرّفها آلاف الثناء والتحيّة بمقدار الحمّصة (٣).

وعلى الجملة : فحقيقة الأكل والشرب ليس إلّا إدخال شي‌ء في الجوف من طريق الحلق ، سواء أكان ذلك الشي‌ء من القسم العادي المتعارف المعهود أكله وشربه أم لا ، ولا يختصّ الصدق بالأوّل بالضرورة.

ودعوى الانصراف ساقطة كما عرفت ، ويؤيده ما سيجي‌ء إن شاء الله من

__________________

(١) جواهر الكلام ١٦ : ٢١٨.

(٢) المختلف ٣ : ٢٥٧ ، ٢٥٨.

(٣) الوسائل ١٤ : ٥٢ / أبواب المزار وما يناسبه ب ٧٢.

٩٤

.................................................................................................

______________________________________________________

مفطريّة الغبار الداخل في الحلق (١) ، وأنّه مثل الأكل والشرب كما في النصّ ، ومن المعلوم أنّ الغبار أجزاء دقيقة من التراب أو ما يشبه ذلك ، وعلى أيّ حال فقد أُلحق بالمأكول مع عدم كونه متعارفاً.

ويؤكّده أيضاً ما أشرنا إليه من تعليل المنع في روايات الاكتحال بكونه مظنّة الدخول في الحلق ، إذ من المعلوم أنّ الكحل ليس من سنخ المأكول والمشروب غالباً ، فيعلم من ذلك أنّ الاعتبار في المنع بالدخول في الجوف من طريق الحلق ، سواء أكان الداخل ممّا يؤكل ويشرب أم لا.

نعم ، ربّما يُستدلّ لما نُسِب إلى السيّد من الاختصاص بالمأكول والمشروب العاديين تارةً : بما رواه المشايخ الثلاثة في الصحيح عن محمّد بن مسلم قال : سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول : «لا يضرّ الصائم ما صنع إذا اجتنب ثلاث خصال : الطعام والشراب ، والنساء ، والارتماس» (٢) ، وفي رواية أُخرى «أربع خصال» بدل «ثلاث» ، والمعنى واحد ، وإنّما الفرق من حيث عدّ الطعام والشراب خصلة واحدة أو خصلتين.

وكيفما كان ، فمقتضى الحصر في الثلاث أو الأربع عدم الضير في استعمال ما عدا ذلك ، ومن المعلوم عدم صدق الطعام والشراب على مثل التراب والطين وعصارة الشجر ونحو ذلك ممّا لم يتعارف أكله وشربه ، فلا مانع من تناوله بمقتضى هذه الصحيحة ، وبذلك تقيَّد إطلاقات الأكل والشرب الواردة في الكتاب والسنّة ، وتحمل على ارادة المتعارف من المأكول والمشرب.

ويندفع : بأنّ الظاهر من الصحيحة أنّ الحصر لم يرد بلحاظ ما للطعام

__________________

(١) في ص ١٥٠.

(٢) الوسائل ١٠ : ٣١ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ١ ح ١.

٩٥

.................................................................................................

______________________________________________________

والشراب من الخصوصية ليدل على الاختصاص بالمتعارف ، وإنّما لوحظ بالقياس إلى سائر الأفعال الخارجيّة والأُمور الصادرة من الصائم من النوم والمشي ونحو ذلك ، وأنّ تلك الأفعال لا تضرّه ما دام مجتنباً عن هذه الخصال ، وأمّا أنّ المراد من الطعام والشراب هل هو مطلق المأكول والمشروب أم خصوص المعتاد منهما؟ فليست الصحيحة بصدد البيان من هذه الجهة بوجه كي تدلّ على حصر المفطر في الطعام والشراب العاديّين ، بل إنّما ذُكِرا في قبال سائر الأفعال كما عرفت.

على أنّه لم يظهر من الصحيحة أنّ المراد من الطعام والشراب : الأعيان ، أي الشي‌ء الذي يطعم والشي‌ء الذي يشرب ، إذ من الجائز استعمالهما في المعنى المصدري أي نفس الأكل والشرب لا الذات الخارجيّة أي المطعوم والمشروب لتدلّ على الاختصاص.

وعليه ، فتكون حال هذه الصحيحة حال سائر الأدلة المتضمّنة للمنع عن الأكل والشرب الشامل لمطلق المأكول والمشروب حسبما عرفت ، فاذا كانت الصحيحة محتملة لكلٍّ من المعنيين فتصبح مجملة ، ومثلها لا يصلح لتقييد المطلقات.

ويُستدَلّ له اخرى بما ورد في دخول الذباب في الحلق من نفي البأس معلّلاً بأنّه ليس بطعام (١) ، وكذا ما ورد في بعض روايات الاكتحال من نفي البأس للتعليل المزبور (٢).

فيظهر من هاتين الروايتين أنّ المفطر هو الطعام ، ولأجله لا يضرّ الكحل

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ١٠٩ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٣٩ ح ٢.

(٢) الوسائل ١٠ : ٧٤ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٢٥ ح ١ ، ٦.

٩٦

.................................................................................................

______________________________________________________

والذباب بالصوم لعدم كونهما منه وإن صدق المأكول ، إذ لا اعتبار به ما لم يصدق الطعام.

وفيه ما لا يخفى ، أمّا مسألة الكحل : فالجواب عنها ظاهر ، لأنّ قوله عليه السلام : «إنّه ليس بطعام» يريد به أنّه ليس بأكل فلا يكون الاكتحال مفطراً ، لأنّه ليس مصداقاً للأكل ، لا أنّ الكحل ليس طعام ، ولأجله لا يكون مضرّاً ، وإلا فلو فرضنا أنّ الكحل طعام كما لو اكتحل بطحين الحنطة أو بالعسل الذي هو نافع للعين حسبما جرّبناه أفهل يحتمل أنّه يبطل صومه لأنّه طعام؟ كلا ، فإنّ الطعام يبطل الصوم أكله ، لا كلّ فعل متعلّق به وإن لم يكن أكلاً ، وهذا واضح.

وأمّا مسألة الذباب : فلا يراد أيضاً من قوله (عليه السلام) : «إنّه ليس بطعام» أنّ الذباب ليس بطعام ولذلك لا يضرّ دخوله الحلق ، كيف؟! ولو فرضنا أنّ شخصاً أكل من الذباب كمّيّة وافرة وبمقدار الشبع كنصف كيلو مثلاً أفهل يحتمل أنّ صومه لا يبطل بذلك باعتبار أنّ الذباب لا يكون طعاماً؟! لا يكون ذلك بالضرورة ، فإنّ الذباب كسائر الحشرات لو فرضا أنّ شخصاً تغذّى به بطل بلا إشكال.

بل مراده (عليه السلام) بذلك : أنّ دخول الذباب في الحلق اتّفاقاً وبغير اختبار لا يكون من الأكل في شي‌ء ، ولأجله لا يكون مفطراً ، لا أنّه لو أكل الذباب باختياره لا يبطل صومه لأنّه ليس طعاماً ، أي مأكولاً متعارفاً ، فإنّ هذا لا يفهم من الصحيحة بوجه ، كما هو ظاهر جدّاً.

إذن فاحتمال اختصاص المأكول والمشروب بالمتعارف منهما ساقط أيضاً.

٩٧

ولا بين الكثير والقليل (١) كعُشر حبّة الحنطة أو عُشر قطرة من الماء أو غيرها من المائعات ، حتّى أنّه لو بلّ الخيّاط الخيط بريقه أو غيره ثمّ ردّه إلى الفم وابتلع ما عليه من الرطوبة بطل صومه ، إلّا إذا استهلك ما كان عليه من الرطوبة بريقه على وجهٍ لا تصدق عليه الرطوبة الخارجية ، وكذا لو استاك وأخرج المسواك من فمه وكان عليه رطوبة ثمّ ردّه إلى الفم ، فإنّه لو ابتلع ما عليه بطل صومه ، إلّا مع الاستهلاك على الوجه المذكور ،

______________________________________________________

(١) الجهة الثالثة : لا فرق في مفطريّة المأكول والمشروب بين القليل والكثير بلا خلاف ولا إشكال ، وتدل عليه إطلاقات الأدلة من الكتاب والسنّة ، مضافاً إلى استفادته من الأخبار الخاصّة الواردة في الموارد المتفرّقة ، مثل ما ورد في المضمضة : من أنّ ما دخل منها الجوف ولو اتّفاقاً يفطر فيما عدا الوضوء (١) ، فإنّ من المعلوم أنّ الداخل منها قليل جدّاً.

وما ورد من النهي عن مصّ الخاتم (٢) ، والنهي عن مصّ النواة (٣) ، وكذا ذوق الطعام لمعرفة طعمه (٤) ، ونحو ذلك من الموارد الكثيرة من الأسئلة والأجوبة الواردة في النصوص ، التي يظهر منها بوضوح عدم الفرق بين القليل والكثير فيما إذا صدق عليه الأكل ، مضافاً إلى ارتكاز المتشرّعة وكونه من المسلّمات عندهم.

فاتّضح من جميع ما ذكرناه لحدّ الآن : عدم الفرق في الأكل والشرب بين

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ٧١ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٢٣ ح ٤.

(٢) لاحظ الوسائل : ١٠ : ١٠٩ ١١٠ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٤٠ ، ح ١ ، ٢ ، ٣.

(٣) الوسائل ١٠ : ١١٠ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٤٠ ح ٢ ، ٣.

(٤) الوسائل ١٠ : ١٠٦ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٣٧ ح ٢.

٩٨

.................................................................................................

______________________________________________________

كونه من الطريق العادي وغيره ، وعدم الفرق في المأكول والمشروب بين المتعارف وغيره ، وعدم الفرق أيضاً بين القليل الكثير ، كلّ ذلك لإطلاق الأدلّة السليم عمّا يصلح للتقييد حسبما عرفت بما لا مزيد عليه.

ثمّ إنّ الماتن (قدس سره) رتّب على ما ذكره من عدم الفرق بين القليل والكثير : أنّ الخيّاط لو بلّ الخيط بريقه أو غيره ثمّ ردّه إلى الفم فليس له أن يبتلع البلّة الموجودة على الخيط ، إذ بالخروج عن الفم صارت البلّة من الرطوبة الخارجيّة ، فلا يجوز ابتلاعها وإنّ قلّت ، إلّا إذا استهلكت بريقه على وجهٍ لا يصدق عليها الرطوبة الخارجيّة ، على ما سيجي‌ء من عدم البأس بابتلاع الريق والبصاق المتجمّع في الفم (١) ، فبعد فرض الاستهلاك الموجب لانعدام الموضوع لا بأس ببلع الريق ، فإنّه من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع.

وقد يُستشكل في ذلك بمنع تحقّق الاستهلاك بعد فرض الاتّحاد في الجنس ، فإنّه إنّما يُتصوَّر في غير المتجانسين على ما ذكروه في الشركة ، كامتزاج التراب في الماء ، أو وقوع قطرة من البول في كرّ من الماء مثلاً الموجب لزوال الموضوع وانعدامه ، وأمّا المزج الحاصل في المتجانسين كما في المقام فهو موجب لزيادة الكمّية والإضافة على مقدارها ، فكأنّ الريق أو الماء عشرة مثاقيل مثلاً فصار أحد عشر مثقالاً ، وإلّا فالمزيج باقٍ على ما كان لا أنّه زال وانعدم ، فلا يُتصوَّر في مثله الاستهلاك.

ويندفع : بأنّ هذا إنّما يتمّ بالنظر إلى ذات المزيج ، فلا يعقل الاستهلاك بملاحظة نفس الممتزجين المتّحدين في الجنس وذاتهما ، طبيعة واحدة قد زيدت كمّيّتها كما أُفيد.

__________________

(١) في ص ١٠٥.

٩٩

.................................................................................................

______________________________________________________

وأمّا بالنظر إلى الوصف العنواني الذي بملاحظته جُعِل موضوعاً لحكمٍ من الأحكام بأن كان الأثر مترتّباً على صنف خاصّ من الطبيعة فلا مناص من الالتزام بالاستهلاك من هذه الجهة.

فلو فرضنا أنّ ماء البئر لا يجوز التوضؤ به ، فمزجنا مقداراً منه بماء النهر ، فالاستهلاك بالنظر إلى ذات الماء غير متصوَّر ، إذ لا معنى لاستهلاك الماء في الماء كما ذُكِر ، وأمّا بالنظر إلى الخصوصيّة أعني : الإضافة إلى البئر فالاستهلاك ضروري ، بمعنى : أنّ هذه الإضافة غير باقية بعد الامتزاج فيما إذا كان المزيج قليلاً ، ولا موضوع لتلك الحصّة الخاصّة ، فلا يطلق على الممتزج أنّ هذا ماء البئر ، أو أنّ فيه ماء البئر ، فالماء بما هو ماء وإن لم يكن مستهلكاً ولكن بما هو ماء البئر مستهلكٌ بطبيعة الحال.

ومن هذا القبيل : ما لو أخذنا مقداراً من الماء المغصوب وألقيناه في الماء المباح بحيث كان الأوّل يسيراً جدّاً في قبال الثاني ، كما لو ألقينا مقدار كرّ من الماء المغصوب في البحر ، أو مقدار قطرة منه في الكرّ ، أفهل يمكن التفوّه بعدم جواز الاستعمال من البحر أو من الكرّ ، بدعوى حصول الامتزاج وامتناع الاستهلاك في المتجانسين؟

فإنّ هذه الدعوى صحيحة بالنظر إلى ذات الماء ، وأمّا بالنظر إلى صفة الغصبيّة والإضافة إلى ملك الغير فغير قابلة للتصديق ، إذ لا موضوع بعدئذٍ لمال الغير كي يحرم استعماله ، فالاستهلاك بهذا المعنى ضروري التحقّق ، لعدم بقاء القطرة مثلاً على حالها.

وملخّص الكلام : أنّه قد يلاحظ الاستهلاك بالنسبة إلى ذات الشي‌ء ، وأُخرى بالنظر إلى صنف خاصّ وصفة مخصوصة ، والأوّل ليس متصوّراً في المتجانسين ،

١٠٠