موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ مرتضى البروجردي

ومع النسيان أو الجهل بكونه رمضان أو المعيّن الآخر يجوز متى تذكّر (*) إلى ما قبل الزوال إذا لم يأت بمفطر (١) وأجزأه عن ذلك اليوم ، ولا يجزئه إذا تذكّر بعد الزوال.

______________________________________________________

الروايات ، فالظاهر حينئذٍ هو الحكم بالصحّة ، لوجود الأمر سابقاً ، وقد حصلت النيّة على الفرض ، والفعل مستند إلى الاختيار كما تقدّم ، فلا مانع من الصحّة.

فتحصّل : أنّ النيّة يمكن تقديمها على اللّيل أيضاً ، لكن مع وجود الأمر لا بدونه حسبما عرفت من التفصيل.

(١) قد عرفت أنّ آخر وقت النيّة عند طلوع الفجر ، وأنّه يجوز التقديم في أيّ جزء من أجزاء اللّيل ، بل يجوز التقديم على اللّيل على تفصيل تقدّم (١).

هذا حكم العالم العامد.

وأمّا الناسي أو الغافل أو الجاهل ، فالكلام فيهم يقع تارةً في صوم رمضان ، وأُخرى في الواجب غير المعيّن ، وثالثةً في الواجب المعيّن من غير رمضان كالموسّع إذا تضيّق وقته ونحو ذلك ، ورابعة في الصوم المندوب. فهنا مسائل أربعة :

الأُولى : المشهور والمعروف بل ادُّعي عليه الإجماع في كلام غير واحد من الأصحاب أنّ الجاهل بكون اليوم من شهر رمضان أو الغافل أو الناسي يجدّد النيّة ما بينه وبين الزوال ، فيتّسع وقت النيّة في حقّ هؤلاء إلى ما بعد العلم والالتفات.

وعن ابن أبي عقيل إلحاق الناسي بالعالم (٢).

__________________

(*) فيه إشكال ، والأحوط عدم الكفاية.

(١) في ص ٣٧.

(٢) جواهر الكلام ١٦ : ١٩٧.

٤١

.................................................................................................

______________________________________________________

ويستدل للمشهور بوجوه :

أحدها : ما ورد في المريض والمسافر من أنّه إذا برئ من مرضه أو قدم أهله قبل الزوال ولم يتناول المفطر يجدّد النيّة ويصوم ويحسب له ، مع أنّ المريض والمسافر لم يكونا مكلّفين بالصوم من أوّل الأمر ، وكان يجوز لهما استعمال المفطر ، غير أنّهما من باب الاتّفاق لم يستعملاه ، فكيف بمن هو مكلّف به واقعاً وإن لم يعلم به فعلاً كالجاهل والناسي ، فإنّ الحكم حينئذٍ ثابتٌ بطريقٍ أولى.

هذا ، وللمناقشة فيه مجال واسع ، فإنّ مبدأ الصوم في المريض والمسافر زمان ورود البلد أو برء المريض ، لا طلوع الفجر الذي هو مبدأ الصوم لغيرهما من سائر المكلّفين ، ففي الحقيقة هما مكلّفان بنيّة الإمساك خلال تسع ساعات مثلاً وغيرهما خلال ستّ عشرة ساعة مثلاً أي طول النهار من مبدئه إلى منتهاه ، وقد ثبت بالدليل الخاصّ أنّ هذا بمنزلة الصوم من طلوع الفجر ، فهما ليسا مكلّفَين بالإمساك حتّى واقعاً إلّا من الآن ، وهذا بخلاف الجاهل ونحوه ، فإنّه مأمور بالإمساك من طلوع الفجر وإن لم يعلم به ولم يأت بهذا المأمور به حسب الفرض ، لخلوّ قطعة من الزمان عن النيّة ، استناداً إلى الاستصحاب الذي هو حكم ظاهري. ومعه كيف يجتزئ بهذا الناقص عن المأمور به الواقعي ، فإنّ ما كان واجباً عليه وهو الإمساك من طلوع الفجر عن نيّةٍ لم يأت به ، وما اتي به وهو نيّة الإمساك من الآن لم يكن مأموراً به ، فبأيّ دليل يكون مجزئاً؟! نعم ، هو مأمور بالإمساك لا بالصوم.

وعلى الجملة : دليل الإجزاء خاصّ بمورده ، وهو من لم يكن مأموراً بالإمساك من طلوع الفجر أعني المريض والمسافر فكيف يتعدّى إلى غيره ممّن هو مأمور به من الأول؟! فإنّ ذاك الدليل لا يقتضي مثل هذا التعدّي بوجه.

٤٢

.................................................................................................

______________________________________________________

ثانيها وهو أغرب من سابقه ـ : التمسّك بحديث الرفع (١) ، بدعوى أنّ اعتبار النيّة في هذا المقدار من الزمان أعني : حال الجهل والنسيان مرفوع بالحديث ، والمفروض مراعاتها في الباقي فيحكم بالصحّة.

وفيه : أنّ الرفع بالإضافة إلى ما لا يعلمون رفع ظاهري كما هو محرّر في الأُصول (٢) ، فهو بحسب الواقع مأمورٌ بالصيام وإن جاز له الإفطار في مرحلة الظاهر استناداً إلى الاستصحاب ، أو إلى قوله (عليه السلام) : «صم للرؤية وأفطر للرؤية» (٣) فالحكم الواقعي بالصوم من طلوع الفجر باقٍ على حاله ، وقد تركه حسب الفرض ، ومعه كيف يحكم بالإجزاء لدى انكشاف الخلاف؟! ومعلومٌ أنّ الحكم الظاهري لا يقتضيه.

هذا في الجهل.

وأمّا بالإضافة إلى النسيان ، فالرفع فيه واقعي على ما ذكرناه في محلّه ، من أنّ نسبة الرفع إلى الفقرات المذكورة في الحديث مختلفة ، فإنّه ظاهري فيما لا يعلمون وواقعي فيما عداه ، فالناسي غير مكلّف بالصوم حال نسيانه حتّى واقعاً.

نعم ، لا إشكال في كونه مكلّفاً بالإمساك من زمان التفاته إلى الغروب ، لإطلاق الروايات ، فإنّ الخارج عنها عناوين خاصّة كالمريض والمسافر ونحوهما ، وليس الناسي منها ، لكن وجوب الإمساك شي‌ء ، ووجوب الصوم المحدود ما بين الطلوع والغروب الذي هو المأمور به أصالةً لولا النسيان شي‌ء آخر ،

__________________

(١) الوسائل ١٥ : ٣٦٩ / أبواب جهاد النفس وما يناسبه ب ٥٦ ح ١.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ١٧١.

(٣) الوسائل ١٠ : ٢٥٥ / أبواب أحكام شهر رمضان ب ٣ ح ١٣.

٤٣

.................................................................................................

______________________________________________________

وحديث رفع النسيان لا يكاد يتكفّل إجزاء الأوّل عن الثاني كما ذكرنا ذلك في أجزاء الصلاة وأنّه لو نسي جزءاً منها ولو استوعب نسيانه الوقت لا دليل على كون الإتيان بالباقي مجزئاً عن الصلاة التامّة.

وبعبارة اخرى : حديث الرفع شأنه رفع التكليف لا وضعه وإثباته بالإضافة إلى الباقي ليدلّ على صحّته والاجتزاء به.

ثالثها : ما روي مرسلاً من أنّ ليلة الشكّ أصبح الناس فجاء أعرابي فشهد برؤية الهلال فأمر صلّى الله عليه وآله منادياً ينادي : من لم يأكل فليصم ، ومن أكل فليمسك (١).

وهذه الرواية غير صحيحة عندنا ، لأنّها مرويّة من طرق العامّة ، فهي مرسلة عامّيّة لا يمكن التعويل عليها بوجه.

ودعوى : انجبارها بعمل المشهور كما عن المحقّق الهمداني (٢) وغيره غير قابلة للتصديق ، إذ لم يُعلَم بل لم يُظَنّ استناد المشهور إليها ، ومن الجائز استنادهم إلى أحد الوجهين المتقدّمين ، أو الوجه الآتي أعني : النصوص الواردة في غير رمضان واستفادة حكمه منها لا إلى مثل هذه الرواية النبويّة الضعيفة المرسلة.

على أنّ الرواية في نفسها غير قابلة للتصديق ، فإنّ الهلال لا يثبت بشاهدٍ واحد ، كما سيجي‌ء إن شاء الله تعالى (٣) فضلاً عن أعرابي مجهول ، فكيف اعتمد النبيّ (صلّى الله عليه وآله) على قوله؟! فمضمونها ممّا يُطمأنّ بكذبه ، مع أنّ

__________________

(١) نصب الراية ٢ : ٤٣٥ ، نحوه.

(٢) مصباح الفقيه ١٤ : ٣١٤.

(٣) العروة الوثقى ٢ : ٤٨.

٤٤

.................................................................................................

______________________________________________________

موردها الجاهل فلما ذا يتعدّى إلى الناسي؟! بل اللازم إلحاقه بالعالم ، كما عن ابن أبي عقيل على ما تقدّم.

وما عن الهمداني (قدس سره) من التعدّي ، استناداً إلى الأولويّة القطعيّة (١).

لا نعرف له وجهاً أصلاً ، فإنّ الأحكام الشرعيّة تعبّدية خاصّة بمواردها.

رابعها : الروايات الآتية الواردة في غير شهر رمضان من القضاء أو النذر أو الصوم المستحبّ ، المتضمّنة لجواز تجديد النيّة قبل الزوال ، فيدّعى استفادة حكم رمضان منها.

وهذا الوجه يتلو الوجوه السابقة في الضعف ، إذ تلك النصوص وردت في موارد خاصّة ، وليست لدينا ولا رواية ضعيفة تتضمّن الإطلاق الشامل لشهر رمضان ، فكيف يتعدّى عن مواردها؟!

إذن فمقتضى القاعدة : أن لا يجتزئ بهذا الصوم وإن وجب الإمساك بقيّة النهار كما عرفت ، فإنّ جواز تجديد النيّة يحتاج إلى الدليل ، ولا دليل. وحينئذٍ فإن تمّ الإجماع التعبّدي الكاشف عن رأي المعصوم (عليه السلام) على التجديد كما ادّعاه غير واحد فهو ، وإلّا كما هو الصحيح ، نظراً إلى احتمال استناد المجمعين إلى بعض الوجوه المتقدّمة ، حيث إنّ تطرّق هذا الاحتمال غير قابل للإنكار وجداناً ، ومعه كيف يمكن تحصيل الإجماع القطعي؟! فالحكم بالإجزاء مشكل جدّاً ، بل الظاهر عدم الإجزاء ، فلا بدّ من القضاء ، إذ قد فات عنه الصوم في هذا اليوم.

__________________

(١) مصباح الفقيه ١٤ : ٣١٥.

٤٥

وأمّا في الواجب غير المعيّن (١) ، فيمتد وقتها اختياراً من أوّل الليل إلى الزوال دون ما بعده على الأصحّ ، ولا فرق في ذلك بين سبق التردّد أو العزم على العدم.

______________________________________________________

(١) المسألة الثانية : في الصوم الواجب غير المعيّن من قضاء أو كفّارة أو نذر ونحوها ، وتدلّ على جواز تجديد النيّة وامتداد وقتها إلى الزوال ولو اختياراً فضلاً عن الغفلة والنسيان طائفة من الأخبار ذكرها صاحب الوسائل في الباب الثاني من أبواب وجوب الصوم ونيّته ، ولعلّ منها يظهر حكم المعيّن كما ستعرف.

فمنها : صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث قال : قلت له : إنّ رجلاً أراد أن يصوم ارتفاع النهار ، أيصوم؟ «قال : نعم» (١).

وهذه الصحيحة لا يبعد ظهورها في النافلة ، لمكان التعبير ب : «أراد» الظاهر في أنّ له أن لا يريد ، والمنصرف في مثله هو التطوّع ، ولو بُني على إطلاقها شملت الواجب غير المعيّن ، حيث إنّه بميله وإرادته يطبّق الواجب على هذا اليوم ويجعله مصداقاً له.

فهذه الصحيحة إمّا خاصّة بالنافلة أو عامّة لها ولغير المعيّن ، لأجل تعليق الحكم على رغبته وإرادته.

ومنها : صحيحة عبد الرّحمن بن الحجّاج عن أبي الحسن (عليه السلام) : في الرجل يبدو له بعد ما يصبح ويرتفع النهار في صوم ذلك اليوم ليقضيه من شهر رمضان ولم يكن نوى ذلك من الليل «قال : نعم ، ليصمه وليعتدّ به إذا لم يكن

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ١٠ / أبواب وجوب الصوم ب ٢ ح ١.

٤٦

.................................................................................................

______________________________________________________

أحدث شيئاً» (١).

فإنّ التعبير بقوله : «يبدو» ظاهرٌ في عدم كون القضاء متعيّناً عليه. فموردها الواجب غير المعيّن.

ولو بنينا على أنّ قضاء رمضان لا يتضيّق أبداً ، بل غايته الفداء كما لا يبعد ، فالأمر أوضح ، إذ عليه لا يتصوّر الوجوب التعييني في القضاء.

ومنها : رواية صالح بن عبد الله عن أبي إبراهيم (عليه السلام) ، قال : قلت له : رجل جعل لله عليه الصيام شهراً ، فيصبح وهو ينوي الصوم ، ثمّ يبدو له فيفطر ، ويصبح وهو لا ينوي الصوم ، فيبدو له فيصوم «فقال : هذا كلّه جائز» (٢).

وموردها أيضاً هو الواجب بنذرٍ غير معيّن بقرينة حكمه (عليه السلام) بجواز الإفطار ، ولكنّها ضعيفة بصالح ، فإنّه لم يوثّق.

ومنها : صحيحة محمّد بن قيس عن أبي جعفر (عليه السلام) «قال : قال علي (عليه السلام) : إذا لم يفرض الرجل على نفسه صياماً ثمّ ذكر الصيام قبل أن يطعم طعاماً أو يشرب شراباً ولم يفطر فهو بالخيار ، إن شاء صام وإن شاء أفطر» (٣).

ولا يبعد ظهورها في الواجب غير المعيّن ، لمكان التعبير بالفرض وبالذكر الكاشف عن أنّ عليه فرضاً ولكنّه لم يفرضه ، أي لم يطبّقه ولم يعيّنه في هذا اليوم ، لعدم قصده الصوم ، ثمّ ذكر الصيام ، فحكم (عليه السلام) بأنّه مخيّر في التطبيق وعدمه ، ومع الغضّ عن ذلك فلا شكّ أنّ إطلاقها يشمل الواجب غير المعيّن كالمندوب.

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ١٠ / أبواب وجوب الصوم ب ٢ ح ٢.

(٢) الوسائل ١٠ : ١١ / أبواب وجوب الصوم ب ٢ ح ٤.

(٣) الوسائل ١٠ : ١١ / أبواب وجوب الصوم ب ٢ ح ٥.

٤٧

.................................................................................................

______________________________________________________

ومنها : صحيحة عبد الرّحمن بن الحجاج ، قال : سألت أبا الحسن موسى (عليه السلام) عن الرجل يصبح ولم يطعم ولا يشرب ولم ينو صوماً وكان عليه يوم من شهر رمضان ، إله أن يصوم ذلك اليوم وقد ذهب عامّة النهار؟ «فقال : نعم ، له أن يصوم ويعتدّ به من شهر رمضان» (١).

وهي ظاهرة الدلالة ، وقد رويت بسندين :

أحدهما : ضعيف ، لاشتماله على علي بن السندي ، فإنّه لم يوثّق. نعم ، ذكر الكشي توثيقاً له عن نصر بن صباح (٢) ، ولكنّ نصراً بنفسه ضعيفٌ فلا أثر لتوثيقه.

والسند الآخر : معتبر ، ولأجله يحكم بصحّة الرواية.

ومنها : صحيحة هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام) «قال : كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يدخل إلى أهله فيقول : عندكم شي‌ء؟ وإلّا صمت ، فإن كان عندهم أتوه به وإلّا صام» (٣).

ولا يخفى أنّ أحمد بن محمّد المذكور في السند يراد به أحمد بن محمّد بن عيسى لا أحمد بن محمّد بن خالد البرقي ، وإلّا لقال : عن أبيه ، لا عن البرقي كما لا يخفى.

وعلى التقديرين فالرواية معتبرة السند.

وأمّا من حيث الدلالة فلا يبعد أنّ موردها الصوم تطوّعاً ، إذ من البعيد جدّاً أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) كان عليه صوم قضاء أو كفّارة ونحوهما ، فسياق العبارة يقتضي إرادة التطوّع ، ويؤكّده أنّ الدخول إلى الأهل يكون بحسب الغالب

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ١١ / أبواب وجوب الصوم ب ٢ ح ٦.

(٢) رجال الكشي : ٥٩٨ / ١١١٩.

(٣) الوسائل ١٠ : ١٢ / أبواب الصوم ب ٢ ح ٧.

٤٨

.................................................................................................

______________________________________________________

بعد صلاة الظهر لأجل صرف الغذاء كما هو المتعارف ، وإلّا فيبعد الدخول قبل ذلك لصرف الطعام ، ولا سيما مع التعبير بلفظ «كان» الظاهر في الاستمرار وأنّ ذلك كان من عادته (عليه السلام) وديدنه.

وستعرف إن شاء الله تعالى أنّ نيّة الصوم بعد الزوال خاصّ بالمندوب ، وعليه فلا تُعتبَر هذه الرواية مستنداً في المقام وإن كانت صحيحة السند ، ويكفينا غيرها.

ومنها : صحيحة أُخرى لهشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال : قلت له : الرجل يصبح ولا ينوي الصوم ، فإذا تعالى النهار حدث له رأي في الصوم «فقال : إن هو نوى الصوم قبل أن تزول الشمس حُسِب له يومه ، وإن نواه بعد الزوال حُسِب له من الوقت الذي نوى» (١).

فإنّ الذيل المتضمّن للاحتساب من الوقت الذي نوى خاصٌّ بالنافلة بطبيعة الحال ، فتدلّ على مشروعيّة النيّة بعد الزوال وأنّه يثاب عليها ، من غير أن يكون ذلك من الصوم الحقيقي في شي‌ء ، إذ لم يعهد صوم نصف اليوم أو ثلثه مثلاً كما هو ظاهر. وأمّا الصدر المتضمّن لاحتساب اليوم بتمامه فإطلاقه يشمل الواجب غير المعيّن كالنافلة.

ومنها : مرسلة البزنطي (٢) ، غير أنّ ضعفها من جهة الإرسال يمنع عن صلاحيّة الاستدلال.

ومنها : ما رواه الشيخ بإسناده عن عمّار الساباطي عن أبي عبد الله (عليه السلام) : عن الرجل يكون عليه أيّام من شهر رمضان ويريد أن يقضيها ، متى يريد أن ينوي الصيام؟ «قال : هو بالخيار إلى أن تزول الشمس ، فإذا زالت

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ١٢ / أبواب وجوب الصوم ب ٢ ح ٨ ، ٩.

(٢) الوسائل ١٠ : ١٢ / أبواب وجوب الصوم ب ٢ ح ٨ ، ٩.

٤٩

.................................................................................................

______________________________________________________

الشمس فإن كان نوى الصوم فليصم ، وإن كان نوى الإفطار فليفطر» إلخ (١).

وهي واضحة الدلالة في جواز تجديد النيّة في الواجب غير المعيّن ، غير أنّ سندها لا يخلو من الخدش ، وإن عُبِّر عنها بالموثّقة في كلمات غير واحد منهم المحقّق الهمداني (قدس سره) (٢) وغيره اغتراراً بظاهر السند ، غفلةً عن أنّ الشيخ لا يروي عن علي بن الحسن بن فضّال بلا واسطة ، بل له إليه طريق لا محالة ، وحيث إنّ في الطريق علي بن محمّد بن الزبير القرشي ولم يوثّق فالرواية محكومة بالضعف.

والمتلخّص من جميع ما ذكرناه : أنّه لا شكّ في جواز تجديد النيّة في الواجب غير المعيّن بمقتضى هذه النصوص.

وأمّا المسألة الثالثة : أعني : الواجب المعيّن ـ : فلا يظهر حكمه من هذه النصوص ، وإن ادّعى المحقّق الهمداني (قدس سره) أنّ إطلاق بعضها شامل له (٣) ، إذ ليس فيها ما يشمله بوجه ، للتعبير فيها ب : «يريد» أو : «بدا له» ونحو ذلك ممّا هو ظاهر في غير المعيّن ، فالمعيّن وكذا شهر رمضان خارج عن منصرف هذه النصوص قطعاً.

ومع ذلك كلّه فالظاهر إلحاق المعيّن بغير المعيّن في غير صورة العلم والعمد ، أمّا معه فباطلٌ كما تقدّم (٤) ، فلو كان جاهلاً أو ناسياً بأنّ هذا هو اليوم الثالث من الاعتكاف ، أو اليوم الأوّل من الشهر وقد نذر صوم اليوم الأوّل منه ، فلم

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ١٣ / أبواب وجوب الصوم ب ٢ ح ١٠ ، التهذيب ٤ : ٢٨٠ / ٨٤٧ ، الاستبصار ٢ : ١٢١ / ٣٩٤.

(٢) مصباح الفقيه ١٤ : ٣١١.

(٣) مصباح الفقيه ١٤ : ٣١٣.

(٤) لاحظ ص ٤١.

٥٠

.................................................................................................

______________________________________________________

يكن ناوياً للصوم ثمّ التفت أثناء النهار ، جاز بل وجب عليه تجديد النيّة ، ويجتزئ بصومه ، وذلك لاستفادة حكمه من النصوص المتقدّمة بالأولويّة القطعيّة ، إذ لو جاز تجديد النيّة في فرض كون المأمور به هو الطبيعي الجامع وأمكن تطبيقه على هذا الفرد الناقص الفاقد للنيّة في مقدارٍ من اليوم مع إمكان الإتيان به بعدئذٍ في فرد آخر كامل ، فجوازه فيما لو كان مأموراً بهذا الفرد بخصوصه غير القابل للتبديل بفرد آخر بطريق أولى ، إذ لا يحتمل الصحّة والإجزاء في الأوّل وعدمها في الثاني ، بل هذا أولى منه بالصحّة كما لا يخفى.

نعم ، يختصّ الحكم بالمعيّن من غير رمضان ولا ينسحب إليه ، لاختصاص مورد الأولويّة بالواجب الذي ينقسم إلى قسمين : معيّن وغير معيّن كالنذر والقضاء ونحوهما ، فيقال حينئذٍ : إنّه لو ثبت الحكم في غير المعيّن ففي المعيّن منه بطريق أولى كما عرفت.

وأمّا صوم رمضان فهو معيّن دائماً ولا ينقسم إلى القسمين ، ومثله لا يكون مورداً للأولويّة كما لا يخفى ، فلا دليل على جواز تجديد النيّة فيه ، بل الأظهر لزوم القضاء وإن وجب الإمساك كما تقدّم سابقاً (١).

والمتلخّص من جميع ما ذكرناه : أنّه في الواجب غير المعيّن بل المعيّن من غير رمضان يجوز تجديد النيّة ، ولا فرق في ذلك بين ما إذا لم يكن ناوياً للصوم ، أو كان ناوياً للعدم بأن كان بانياً على الإفطار ثمّ بدا له أن يصوم قبل أن يفطر ، لإطلاق النصوص المتقدّمة ، بل أن منصرف أكثرها هو الثاني ، فإنّ إرادة الغفلة أو النسيان من قوله في كثير منها : أصبح ولم ينو الصوم ، بعيد ، وأبعد منه إرادة التردّد ، بل الظاهر من عدم نيّة الصوم بمقتضى الفهم العرفي هو نيّة الإفطار وعدم الصوم ، ولو لم تكن النصوص ولو بعضها ظاهرة في ذلك فلا أقلّ من

__________________

(١) في ص ٤٥.

٥١

.................................................................................................

______________________________________________________

الإطلاق كما ذكرناه. إذن لا فرق بين القسمين كما ذكره في المتن.

إنّما الكلام في أنّ هذا الحكم أعني : جواز تجديد النيّة هل هو ثابتٌ إلى ما قبل الغروب ، أو أنّه محدود بالزوال؟

المعروف والمشهور بين القدماء والمتأخرين هو الثاني ، فلا يجوز له التجديد لو كان التذكّر أو الالتفات بعد الزوال ، ونُسِب الأوّل إلى ابن الجنيد (١) ، فساوى بين الواجب والمندوب في ذلك كما ستعرف.

استُدلّ على القول المشهور برواية عمّار المتقدّمة (٢) ، المصرّحة بالتحديد إلى الزوال ، ولكنّك عرفت أنّ الرواية ضعيفة السند وإن عُبِّر عنها بالموثقة في كلمات الهمداني وغيره ، غفلةً عن أنّ الشيخ لا يرويها عن ابن فضّال بلا واسطة ، ولا بواسطة مشهورة معروفة ، بل له اليه طريق كغيره من أصحاب المجاميع والكتب ، كما نبّه عليه في آخر كتابي التهذيب والاستبصار (٣) ، حيث ذكر أنّ ما يرويه عنهم فإنّما يرويه عن كتبهم بالطرق التي وصلت إليه من مشايخه ، ثمّ ذكر طرقه لكي تخرج الرواية بذلك عن الإرسال ، وحيث إنّ في طريقه إلى ابن فضّال علي ابن محمد بن الزبير القرشي ولم يوثّق ، فتصبح الرواية ضعيفة فتسقط عن صلاحيّة الاستدلال.

نعم ، يمكن أن يستدلّ له بصحيحة هشام بن سالم المتقدّمة (٤) ، المتضمّنة للتفصيل بين تجديد النيّة قبل الزوال وما بعده ، وأنّه على الأوّل يُحسَب له يومه ، فيكون ذلك بمنزلة النيّة من طلوع الفجر ، وأمّا على الثاني فلا يُحسَب له إلّا من

__________________

(١) الحدائق الناضرة ١٣ : ١٩ ، جواهر الكلام ١٦ : ١٩٨.

(٢) في ص ٤٩.

(٣) التهذيب (شرح المشيخة) ١٠ : ٥٥ / ٢٩ ، الاستبصار (شرح المشيخة) ٤ : ٣١٨ / ٢.

(٤) في ص ٤٩.

٥٢

.................................................................................................

______________________________________________________

الوقت الذي نوى ، الذي هو أقلّ من نصف اليوم بطبيعة الحال ، لدخول ما بين الطلوعين في الصوم.

وحيث إنّ من المعلوم أنّ هذا المقدار لا يجزئ في الصوم الواجب من قضاءٍ أو كفّارة ونحوهما ، فلا جرم يختصّ الذيل بالنافلة ، لعدم تنزيله منزلة صوم اليوم الكامل كما في الصدر ، فيكون مفاده : أنّ هذا العمل أمر مشروع ويثاب عليه وإن لم يكن من الصوم الحقيقي في شي‌ء.

ونتيجة ذلك تحديد الحكم بما قبل الزوال كما عليه المشهور هذا.

وربّما يعارض ذلك بصحيحة عبد الرحمن بن الحجاج المتقدمة (١) ، حيث حكم (عليه السلام) فيها بجواز تجديد النيّة بعد ذهاب عامّة النهار ، الملازم بطبيعة الحال لما بعد الزوال ، وإلّا فعند الزوال لم يذهب إلّا نصف النهار ، لا عامّته أي أكثره.

ولكنّه يندفع بما عرفت من دخول ما بين الطلوعين في نهار الصوم وإن لم يكن داخلاً في النهار المحسوب مبدؤه من طلوع الشمس ، وبهذا الاعتبار صحّ التعبير بذهاب عامّة النهار فيما لو جدّد النيّة قبيل الزوال بمقدار نصف ساعة مثلاً إذ يزيد حينئذٍ على ما بعد الزوال بمقدار ساعة تقريباً ، فيكون ما مضى أكثر ممّا بقي.

فغاية ما هناك أن تكون هذه الصحيحة مطلقة بالإضافة إلى ما قبل الزوال وما بعده ، لا أنّها تختصّ بالثاني ، فإذن يقيّد الإطلاق بصحيحة هشام المتقدّمة المصرّحة بالتحديد بالزوال ، فهما من قبيل المطلق والمقيّد القابل للجمع العرفي ، وليسا من قبيل المتعارضين ليتصدّى للعلاج.

__________________

(١) في ص ٤٨.

٥٣

وأمّا في المندوب (١) ، فيمتد إلى أن يبقى من الغروب زمان يمكن تجديدها فيه على الأقوى.

______________________________________________________

وربّما تعارَض أيضاً بمرسلة البزنطي المصرّحة بجواز التجديد عصراً (١) ، وهي وإن كانت واضحة الدلالة ولا يُعبأ بما نقله صاحب الوسائل عن بعضهم من الحمل على من نوى صوماً مطلقاً فصرفه إلى القضاء عند العصر ، لبعده جدّاً كما لا يخفى إلّا أنّ ضعفها من جهة الإرسال يمنع عن صلاحيّة الاستدلال.

وما يقال من عدم الضير فيه بعد أن كان المرسِل هو البزنطي الذي لا يروي ولا يرسل هو وأضرابه إلّا عن الثقة ، كما ذكر الشيخ في العدّة (٢).

مدفوعٌ بما تقدم مراراً من أنّ هذه الدعوى وإن صدرت عن الشيخ إلّا أنّه لا أساس لها من الصحة ، كيف؟! وقد عدل هو (قدس سره) عنها في كتاب التهذيب (٣) ، فكأن ذاك اجتهادٌ منه (قدس سره) في وقته ، فلا يمكن الركون إليه بعد عرائه عن الدليل.

فتحصّل : أنّ ما ذكره المشهور من التفصيل بين الزوال وما بعده هو الصحيح ، استناداً إلى صحيحة هشام السليمة عمّا يصلح للمعارضة حسبما عرفت.

(١) المسألة الرابعة : في صوم التطوّع ، وقد ذكر غير واحد من الفقهاء : أنّ وقت النيّة يمتدّ فيه إلى أن يبقى إلى الغروب زمانٌ يمكن تجديدها فيه.

ولكن نُسِب إلى جماعة بل نُسِب إلى المشهور ـ : أنّ حال المندوب حال

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ١٢ / أبواب وجوب الصوم ب ٢ ح ٩.

(٢) العدّة ١ : ١٥٤.

(٣) لاحظ المختلف ٣ : ٢٣٩.

٥٤

.................................................................................................

______________________________________________________

الفريضة من التحديد إلى الزوال ، غايته أنّه يثاب بمقدار إمساكه.

ويدلّ على القول الأوّل صحيحة هشام بن سالم المتقدّمة (١) الحاكية لفعل أمير المؤمنين (عليه السلام) من أنّه كان يدخل إلى أهله فإن وجد شيئاً وإلّا صام ، حيث عرفت أنّ التعبير ب : «كان» ظاهرٌ في الاستمرار ، ولا شكّ أنّ الإتيان إلى البيت غالباً إنّما هو بعد الزوال لأجل تناول الغذاء ، فتدلّ على جواز تجديد النيّة بعد الزوال.

ويدلّ عليه أيضاً صريحاً موثّقة أبي بصير ، قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الصائم المتطوّع تعرض له الحاجة «قال : هو بالخيار ما بينه وبين العصر ، وإن مكث حتّى العصر ثمّ بدا له أن يصوم وإن لم يكن نوى ذلك فله أن يصوم ذلك اليوم إن شاء» (٢).

فهذه الموثّقة صريحة الدلالة على امتداد الوقت إلى الغروب ، كما كانت الصحيحة المتقدّمة ظاهرة فيها.

إلّا أنّهما معارضتان بروايتين دلّتا على اختصاص الوقت بما قبل الزوال ، ولعلّ المشهور اعتمدوا عليهما.

إحداهما : ما رواه الشيخ بإسناده عن ابن بكير ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال : سُئل عن رجل طلعت عليه الشمس وهو جنب ، ثمّ أراد الصيام بعد ما اغتسل ومضى ما مضى من النهار «قال : يصوم إن شاء ، وهو بالخيار نصف النهار» (٣).

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ١٢ / أبواب وجوب الصوم ب ٢ ح ٧.

(٢) الوسائل ١٠ : ١٤ / أبواب وجوب الصوم ب ٣ ح ١.

(٣) الوسائل ١٠ : ٦٨ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٢٠ ح ٣ ، التهذيب ٤ : ٣٢٢ / ٩٨٩.

٥٥

.................................................................................................

______________________________________________________

دلّت بمفهوم الغاية الذي هو أوضح المفاهيم على ارتفاع الحكم بعد الزوال ، ولكنّها ضعيفة السند بأبي عبد الله الرازي الجاموراني ، الذي ضعّفه ابن الوليد (١) والشيخ الصدوق (٢) وغيرهما ، واستثنوا من روايات يونس ما يرويه عنه ، فهي غير قابلة للاستناد.

ثانيهما : موثّقة ابن بكير : عن الرجل يجنب ثمّ ينام حتّى يصبح ، أيصوم ذلك اليوم تطوّعاً؟ «فقال : أليس هو بالخيار ما بينه وبين نصف النهار؟!» (٣).

وهذه الرواية المعتبرة لم يتعرّض لها الهمداني ولا غيره ، بل اقتصروا على الرواية الأُولى الضعيفة مع أنّها أولى بالتعرّض.

وكيفما كان ، فقد دلّت على المفروغيّة عن التحديد بنصف النهار بحيث كأنّه من المسلّمات ، فتكون معارَضة بالمعتبرتين الدالّتين على امتداد الوقت العصر.

والذي ينبغي أن يقال : إنّ هذه الموثّقة غايتها الظهور في عدم الجواز ، إذ الإمام (عليه السلام) بنفسه لم يذكر أمد الخيار ابتداءً ، بل أوكله إلى ما يعلمه السائل وجعله مفروغاً عنه بقوله (عليه السلام) : «أليس» إلخ ، فهي ظاهرة في تحديد النيّة للصوم بجميع مراتبه بنصف النهار ولا تزيد على الظهور في التحديد المزبور.

ولكن موثقة أبي بصير صريحة في جواز التجديد بعد العصر ، فطبعاً ترفع اليد عن ظهور تلك الرواية ، وتحمل على ارادة تحديد نية الصوم بمرتبته العليا.

ومحصّل المراد : أنّ تجديد النيّة بعد الزوال لا يبلغ في الفضل مرتبته قبل الزوال ، فإنّ الثاني بمنزلة النيّة من الفجر ويُحتسَب له تمام اليوم ، بخلاف الأول ، فإنّه

__________________

(١) لاحظ رجال النجاشي : ٣٤٨ / ٩٣٩ ، الفهرست : ١٤٤ / ٦٢٢.

(٢) لاحظ رجال النجاشي : ٣٤٨ / ٩٣٩ ، الفهرست : ١٤٤ / ٦٢٢.

(٣) الوسائل ١٠ : ٦٨ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٢٠ ح ٢.

٥٦

[٢٣٧٢] مسألة ١٣ : لو نوى الصوم ليلاً ثمّ نوى الإفطار ثمّ بدا له الصوم قبل الزوال فنوى وصام قبل أن يأتي بمفطر ، صح على الأقوى (*) (١) ،

______________________________________________________

يُحسَب له بمقدار ما نوى ، فيكون دونه في الفضيلة لا محالة.

ولو أغمضنا عن ذلك فصحيحة هشام كالصريحة فيما ذكرناه ، وتكون شاهدة للجمع بين الروايتين ، حيث دلّت على أنّه إن نوى الصوم قبل الزوال حُسِب له يومه ، وإن نواه بعده حُسِب له من هذا الوقت ، أي بمقدار نصف يوم أو أقلّ ، فتُحمَل موثّقة أبي بصير على مجرّد المشروعيّة وإن لم يكن صوماً تاماً ، وأنّه يثاب على هذا الصوم الناقص ، كما أنّ موثّقة ابن بكير تحمل على إرادة صوم اليوم الكامل ، فلا تنافي بينهما.

فتحصّل : أنّ ما ذكره جماعة وإن نُسِب إلى المشهور خلافه من جواز تجديد النيّة إلى الغروب ومشروعيّته هو الصحيح ، ولا أقلّ من جوازه رجاءً.

(١) لا يخفى أنّ هنا مسألتين ربّما اختلطت إحداهما بالأُخرى في كلمات بعضهم.

إذ تارةً : يُتكلّم في أنّ النيّة المعتبرة في الصوم هل يلزم فيها الاستمرار بأن يكون الإمساك في كلّ آنٍ مستنداً إلى النيّة ، بحيث لو تخلّف في آنٍ فنوى الإفطار ثم رجع أخلّ بصحّة صومه لفقد النيّة في ذاك الآن ، فحال تلك الآنات حال الأجزاء الصلاتيّة المعتبر فيها صدور كلّ جزء عن النيّة وإلّا بطلت صلاته؟ أو أنّ نيّة الصوم أوّل الأمر بضميمة عدم تناول المفطر خارجاً كافيةٌ في الصحّة ولا يعتبر فيها الاستدامة؟

__________________

(*) يعني بذلك الواجب غير المعيّن.

٥٧

إلّا أن يفسد صومه برياءٍ ونحوه ، فإنّه لا يجزئه لو أراد التجديد قبل الزوال على الأحوط.

______________________________________________________

وهذه المسألة سيتعرّض لها الماتن في مطاوي المسائل الآتية عند البحث عن أنّ نيّة القطع أو القاطع هل يكون مبطلاً أو لا؟ والأقوال المعروفة فيها ثلاثة : البطلان مطلقاً ، وعدمه مطلقاً ، والتفصيل بين نيّة القطع ونيّة القاطع. وسيجي‌ء البحث حول ذلك مستقصًى إن شاء الله تعالى ، وهي أجنبيّة عن محطّ نظره (قدس سره) وما هو محلّ الكلام في المقام.

وأُخرى : يُتكلّم في أنّ التخيير في تجديد النيّة الثابت في الواجب غير المعيّن ولو اختياراً إلى ما قبل الزوال على ما تقدّم (١) هل يختصّ بما إذا لم يكن ناوياً للصيام من أوّل الأمر ، أو يعمّ الناوي أيضاً؟ فمن أصبح بنيّة الصوم ثمّ نوى الإفطار ثمّ بدا له الصوم قبل الزوال هل يصحّ منه مثل هذا التجديد المسبوق بنيّة الصيام أو لا؟

وهذا هو محلّ كلامه (قدس سره) في هذه المسألة ، وهو من فروع المسألة السابقة ومن متمّماتها ، حيث تعرّض هناك أوّلاً لوقت النيّة في الواجب المعيّن مفصِّلاً بين صورتي العلم والجهل وأنّه عند طلوع الفجر في الأوّل وإلى الزوال في الثاني ، ثمّ تعرّض لوقتها في غير المعيّن وأنّه يمتدّ ولو اختياراً إلى الزوال ، ونبّه ثمّة على عدم الفرق في ذلك بين سبق التردّد والعزم على العدم ، فحكم بالمساواة بين من لم يكن ناوياً ومن كان بانياً على العدم ، فتعرّض في هذه المسألة لحكم من كان بانياً على الفعل وعازماً على أن يصوم ، وأنّه لو عدل عن نيّته

__________________

(١) في ص ٤٦.

٥٨

.................................................................................................

______________________________________________________

ونوى الإفطار لفرض كون الواجب موسّعاً ، ثمّ بدا له وجدّد النيّة قبل أن يستعمل المفطر ، فهل يسوغ مثل هذا التجديد أو لا؟

وهذا كما ترى من شؤون المسألة السابقة ومتمّماتها ولا ربط له بمسألة استدامة النيّة واستمرارها المبحوث عنها في المسائل الآتية.

ومعلومٌ أنّ الصحيح حينئذٍ هو ما ذكره (قدس سره) من جواز التجديد ، إذ بعد ما رفع اليد عمّا نواه من الصوم أولاً فمرجعه إلى عدم كونه ناوياً للصوم فعلاً ، إذ قصد العنوان ممّا لا بدّ منه في البقاء على الصوم ، فهو حينما قصد الإفطار خرج عن هذا العنوان وصدق عليه أنّه ليس بصائم ، فيشمله إطلاق النصوص المتقدّمة الدالة على جواز تجديد النيّة لغير ناوي الصوم وأنّه بالخيار إلى ما قبل الزوال ، ومن الواضح أنّ نيّة الصوم السابقة الزائلة لا تزيد على عدمها فلا تقدح في الاندراج تحت إطلاق النصوص ، وأما نيّة الإفطار فلا تضرّ إلّا من حيث فقد نيّة الصوم ، والمفروض أنّ غير الناوي ما لم يستعمل المفطر محكومٌ بجواز التجديد ، فلا مانع من الحكم بصحّة الصوم بمقتضى تلك الأخبار.

نعم ، يشترط في ذلك أن لا يكون قد أفسد صومه برياءٍ ونحوه ، فلا يجزئه لو أراد التجديد قبل الزوال على الأحوط كما ذكره في المتن ، بل الظاهر ذلك ، والوجه فيه : قصور النصوص عن الشمول لذلك ، لأنّ النظر فيها مقصور على تنزيل غير الصائم أي من كان فاقداً للنيّة فقط منزلة الصائم ، وأنّ من لم يكن ناوياً إلى الآن لو جدّد النيّة فهو بمنزلة الناوي من طلوع الفجر فيحتسب منه الباقي ، ويفرض كأنّه نوى من الأول.

وأمّا تنزيل الصائم على الوجه المحرم لرياءٍ ونحوه منزلة الصائم على الوجه المحلّل فهو يحتاج إلى مئونة زائدة ودليل خاصّ ، وهذه النصوص غير وافية بإثبات ذلك بوجه ، ولا تكاد تدلّ على انقلاب ما وقع حراماً لكونه شركاً

٥٩

[٢٣٧٣] مسألة ١٤ : إذا نوى الصوم ليلاً لا يضرّه الإتيان بالمفطر بعده قبل الفجر مع بقاء العزم على الصوم (١).

______________________________________________________

في العبادة إلى الحلال وصيرورته مصداقاً للمأمور به ، بل مقتضى ما ورد في روايات الرياء من قوله تعالى : «أنا خير شريك» إلخ (١) : أنّ هذا العمل غير قابل للانقلاب ، وأنّه لا يقبل الإصلاح بوجه ، وأنّ ما وقع على وجه مبغوض يبقى كذلك ولا ينقلب إلى المحبوب ، فلا يكون مقرّباً أبداً.

(١) المستفاد من الآية المباركة : أنّ الصوم الواجب على جميع المسلمين كما وجب على الأُمم السابقة مبدؤه الإمساك من طلوع الفجر فهو مرخّص في الأكل والشرب ليلاً ، قال تعالى (كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) (٢) كما أنّ الوارد في الأخبار هو المنع عن تناول المفطرات في النهار ، فلا مانع من استعمالها طول الليل ، فالأمر وإن كان فعليّاً في الليل إلّا أنّ متعلّقه صوم الغد والإمساك من طلوع الفجر ، وقد تقدّم سابقاً أنّ النيّة المعتبرة في باب الصوم تغاير النيّة المعتبرة في غيره من سائر العبادات الوجوديّة ، وأنّها عبارة عن العزم والبناء على ترك استعمال المفطرات في ظرفها غير المنافي لكونه نائماً أوّل الفجر بل مجموع النهار. وعليه ، فلا مانع من الأكل والشرب ليلاً مع فرض كونه ناوياً للإمساك.

هذا ما يستفاد من الأدلّة ، ومع ذلك نُسِب إلى الشهيد (قدس سره) المنع عن الإتيان بالمفطر في الليل بعد النيّة ، وأنّه لو أتى به لزمه تجديد النيّة (٣).

__________________

(١) الوسائل ١ : ٦١ / أبواب مقدّمة العبادات ب ٨ ح ٩ وص ٧٢ ب ١٢ ح ٧.

(٢) البقرة ٢ : ١٨٧.

(٣) كفاية الأحكام : ٦١.

٦٠