موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ مرتضى البروجردي

.................................................................................................

______________________________________________________

إنّما المهمّ العلاج بين الطائفتين المتقدّمتين ، فقد يقال بتقديم الطائفة الأُولى التي جعل الاعتبار فيها بالزوال ، نظراً إلى أنّها أصحّ سنداً ، وأنّها مخالفة لمذهب العامّة ، والطائفة الأُخرى موافقة لهم حسبما نقله في الحدائق عن العلّامة في المنتهي من أنّه حكى عن الشافعي وأبي حنيفة ومالك والأوزاعي وأبي ثور وجمع آخرين منهم أنّهم جعلوا الاعتبار في الصيام والإفطار بتبييت النيّة وعدمه (١).

والتحقيق : أنّه لا معارضة بين الطائفتين على نحو تستوجب الرجوع إلى المرجّحات لدى التصدّي للعلاج ، إذ المعارضة إنّما نشأت من إطلاق الطائفتين كما سمعت ، وإلّا فالالتزام بأصل التفصيل المشتمل عليه كلّ منهما في الجملة ممّا لا محذور فيه.

وعليه ، فيرفع اليد عن إطلاق الطائفة الأُولى الناطقة بالإفطار لو سافر قبل الزوال ، وتُحمَل على ما لو كان مبيّتاً للنيّة ، بشهادة صحيح رفاعة الصريح في وجوب الصوم على من سافر قبل الزوال من غير تبييت ، قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يعرض له السفر في شهر رمضان حين يصبح ، «قال : يتمّ صومه (يومه) ذلك» (٢).

فإنّ قوله يعرض ، ظاهر في عروض السفر وحدوث العزم عليه من غير سبق النيّة فتكون هذه الصحيحة كاشفة عن أنّ الطائفة الثانية المتضمّنة للتفصيل بين التبييت وعدمه ناظرة إلى هذا المورد ، أعني : ما قبل الزوال فيكون الحكم بالصيام لو سافر بعد الزوال الذي تضمّنته الطائفة الأُولى سليماً عن المعارض.

ونتيجة ذلك : هو التفصيل بين ما قبل الزوال وما بعده ، وأنّه في الأوّل يحكم

__________________

(١) الحدائق ١٣ : ٤٠٦ ٤٠٧.

(٢) الوسائل ١٠ : ١٨٦ / أبواب من يصح منه الصوم ب ٥ ح ٥.

٤٨١

.................................................................................................

______________________________________________________

بالإفطار بشرط التبييت ، وفي الثاني بالصيام مطلقاً. وهذا هو التفصيل المنسوب إلى الشيخ في المبسوط كما سبق (١) ، وهو الصحيح ، فيكون الإفطار في السفر مشروطاً بقيدين : وقوعه قبل الزوال وتبييت النيّة ليلاً ، فلو سافر بعده أو سافر قبله ولم يبيّت النيّة بقي على صومه ، فتكون هذه الصحيحة وجهُ جمعٍ بين الطائفتين ، فلا تصل النوبة إلى إعمال قواعد الترجيح.

نعم ، يتوقّف ذلك على رواية الصحيحة بلفظ : حين يصبح ، لا : حتّى يصبح ، كما لا يخفى ، ولكن لا ينبغي التأمّل في أنّ الصحيح هو الأوّل كما هو موجود في الوسائل وفي الوافي (٢) ، وطريق الفيض (رحمه الله) إلى التهذيب معتبر وأنّ الثاني غلط وإن كان مذكوراً في نسخة التهذيب المطبوعة حديثاً (٣) وفي بعض الكتب الفقهيّة مثل المعتبر والمنتهى (٤) ، لعدم انسجام العبارة حينئذٍ ، ضرورة أنّ من خرج قبل الفجر حتّى أصبح وهو مسافر فلا خلاف ولا إشكال في وجوب الإفطار عليه ، وعدم جواز الصوم حينئذٍ موردٌ للاتّفاق ، فكيف يحكم (عليه السلام) بأنّه يتمّ صومه؟! فهذه النسخة غير قابلة للتصديق بتاتاً.

وملخّص الكلام : أنّ المعارضة بين الطائفتين معارضة بالإطلاق لا بالتباين ، بمعنى : أنّه لا يمكن العمل بإطلاق كلّ من الطائفتين ، وإلّا فأصل التفرقة في الجملة ممّا لا معارض له ، إذ لا مانع من الالتزام بذاتي التفصيلين ، أعني : التفكيك بين التبييت وعدمه ، وبين ما قبل الزوال وما بعده بنحو الموجبة الجزئية ، وإنّما يمتنع الالتزام بهما على سبيل الإطلاق ، لما بينهما من التضادّ ، فالإشكال من

__________________

(١) في ص ٤٧٦ ٤٧٧.

(٢) الوسائل ١٠ : ١٨٦ ، الوافي ١١ : ٣١٣ / ١٠٩٤١.

(٣) التهذيب ٤ : ٢٢٨ / ٦٦٨.

(٤) المنتهي ٢ : ٥٩٩ ، لاحظ المعتبر ٢ : ٧١٦.

٤٨٢

.................................................................................................

______________________________________________________

ناحية الإطلاق فقط لا أصل الحكم ، فإذا رفعنا اليد عن إطلاق الطائفة الأُولى بالنسبة إلى ما قبل الزوال بمقتضى صحيح رفاعة وقيّدناه بالتبييت كان الإطلاق في الجملة الثانية من هذه الطائفة أعني : بالنسبة إلى ما بعد الزوال باقياً على حاله وسليماً عن المعارض ، إذ لو كان الحكم فيها أيضاً كذلك لم يكن فرق بين ما قبل الزوال وما بعده ، مع أنّ هذه الطائفة صريحة في التفرقة بين الأمرين.

وعلى الجملة : فبهذه العملية الناتجة من بركة صحيحة رفاعة ترتفع المعارضة من البين ، وكنّا قد عملنا بكلتا الطائفتين ففرّقنا بين ما قبل الزوال وما بعده بالحكم بالصيام في الثاني مطلقاً ، وبالإفطار في الأوّل بشرط التبييت ، كما وفرّقنا أيضاً بين التبييت وعدمه حسبما تضمّنته الطائفة الثانية بالإفطار في الأوّل دون الثاني ، لكن في مورد خاصّ وهو ما قبل الزوال. وهذا نوع جمع بين الأخبار ينحسم به الإشكال.

ولو أغمضنا النظر عن هذه الصحيحة كانت النتيجة أيضاً كذلك ، فإنّ المعارضة بين الطائفتين إنّما هي بالإطلاق لا بالتباين ليرجع إلى المرجّحات حسبما عرفت ، فلا بدّ إمّا من رفع اليد عن إطلاق الطائفة الأُولى الناطقة بالبقاء على الصوم فيما لو سافر بعد الزوال وتقييدها بمقتضى الطائفة الثانية بما إذا لم يبيّت النيّة وأمّا إذا كان ناوياً للسفر من الليل فيفطر حينئذٍ ، أو أن نعكس الأمر فيبقى هذا الإطلاق على حاله وتُقيَّد الطائفة الثانية المفصّلة بين تبييت النيّة وعدمه بما قبل الزوال ، كي تكون النتيجة أنّه إن سافر بعد الزوال يصوم مطلقاً وإن سافر قبله يصوم أيضاً إن لم يبيّت النيّة وإلّا فيفطر ، فأحد هذين الإطلاقين لا مناص من رفع اليد عنه ، وظاهرٌ أنّ المتعيّن هو الثاني ، إذ لا محذور فيه بوجه ، ونتيجته ما عرفت ، بخلاف الأوّل ، إذ نتيجته الالتزام بأنّه إن سافر قبل الزوال أفطر مطلقاً ، وإن سافر بعده أفطر بشرط التبييت وإلّا بقي على صومه ، وهذا ممّا لم

٤٨٣

كما أنّه يصحّ صومه إذا لم يقصّر في صلاته كناوي الإقامة عشرة أيّام أو المتردّد ثلاثين يوماً وكثير السفر والعاصي بسفره وغيرهم ممّن تقدّم تفصيلاً في كتاب الصلاة (١).

______________________________________________________

يقل به أحد أبداً ، ولا وجه له أصلاً كما لا يخفى ، ولا يمكن إلحاق ما قبل الزوال بما بعده في الاشتراط المزبور ، وإلّا بطل الفرق بين ما قبله وما بعده ، مع أنّ تلك الطائفة صريحة في التفرقة.

وبعبارة اخرى : الطائفة الأُولى صريحة في التفرقة بين ما قبل الزوال وما بعده في الجملة ، كما أنّ الثانية صريحة أيضاً في التفرقة بين التبييت وعدمه في الجملة أيضاً ، ولا موجب لرفع اليد عن أصل التفرقة ، لعدم المعارضة من هذه الجهة ، وإنّما المعارضة من ناحية الإطلاق فحسب كما مرّ غير مرّة ، فلا بدّ من رفع اليد عن أحدهما ، والمتعيّن ما عرفت ، لسلامته عن المحذور ، بخلاف العكس ، فإنّه غير قابل للتصديق.

ونتيجة ما ذكرناه : أنّ للإفطار قيدين : كون السفر قبل الزوال ، وكونه مبيّتاً للنيّة من الليل ، فمع فقد أحدهما يبقى على صومه ، ومع ذلك كلّه فالأحوط مع عدم التبييت إتمام الصوم ثمّ القضاء كما نبّهنا عليه في التعليقة.

(١) فإنّ السفر الذي يجب فيه الإفطار هو السفر الذي يجب فيه القصر ، كما أنّ ما لا قصر فيه لا إفطار فيه ، وقد دلّ على هذه الملازمة غير واحد من النصوص ، كصحيحة معاوية بن وهب : «إذا قصّرت أفطرت وإذا أفطرت قصّرت» (١) وغيرها. فهذه قاعدة كلّيّة مطّردة.

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ١٨٤ / أبواب من يصح منه الصوم ب ٤ ح ١.

٤٨٤

السادس : عدم المرض أو الرَّمَد (١) الذي يضرّه الصوم ، لإيجابه شدّته أو طول بُرئه أو شدّة ألمه أو نحو ذلك ، سواء حصل اليقين بذلك أو الظنّ ، بل أو الاحتمال الموجب للخوف ، بل لو خاف الصحيح من حدوث المرض لم يصحّ منه الصوم ،

______________________________________________________

فلو فرضنا انتفاء القصر لجهةٍ من الجهات إمّا لعدم كونه ناوياً للإقامة ، أو لأنّه كثير السفر كالمكاري ، أو أنّ سفره معصية ونحو ذلك ممّا يتم معه المسافر صلاته ، وجب عليه الصوم أيضاً ، وقد ورد التصريح بذلك في عدّة من الأخبار الواردة في نيّة الإقامة وأنّ المسافر لو نوى إقامة عشرة أيّام أتمّ وصام ، وفيما دونه يقصّر ويفطر.

وعلى الجملة : فهذه الملازمة ثابتة من الطرفين إلّا ما خرج بالدليل ، كالسفر بعد الزوال كما تقدّم ، أو بدون تبييت النيّة على كلام ، فإن قام الدليل على التفكيك فهو ، وإلّا فالعمل على الملازمة حسبما عرفت.

(١) بلا خلاف فيه ، بل هو في الجملة من الضروريّات ، وقد نطق به قبل النصوص المستفيضة الكتاب العزيز ، قال تعالى (وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ) (١) بناءً على ما عرفت من ظهور الأمر في الوجوب التعييني ، ولذلك استدلّ في بعض الأخبار على عدم الصحّة من المريض ولزوم القضاء لو صام بالآية المباركة ، كما في حديث الزهري (٢) ، والنصوص مذكورة في الوسائل باب ٢٠ من أبواب من يصحّ منه الصوم.

__________________

(١) البقرة ٢ : ١٨٥.

(٢) الوسائل ١٠ : ٢٢٤ / أبواب من يصح منه الصوم ب ٢٢ ح ١.

٤٨٥

.................................................................................................

______________________________________________________

هذا ، ومقتضى إطلاق الأدلّة عموم الحكم لكلّ مريض ، ولكنّه غير مراد جزماً ، بل المراد خصوص المرض الذي يضرّه الصوم ، للانصراف أوّلاً ، ولاستفادته من الروايات الكثيرة ثانياً ، حيث سُئل في جملة منها عن حدّ المرض الذي يجب على صاحبه فيه الإفطار ، فأجاب (عليه السلام) بالسنة مختلفة :

مثل قوله (عليه السلام) : «هو أعلم بنفسه ، إذا قوي فليصم» كما في صحيحة محمّد بن مسلم (١).

وقوله (عليه السلام) : «هو مؤتمن عليه ، مفوّض إليه ، فإن وجد ضعفاً فليفطر ، وإن وجد قوّة فليصمه» كما ورد في موثّقة سماعة (٢).

وقوله (عليه السلام) : «(الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) ، ذاك إليه هو أعلم بنفسه» كما في صحيحة عمر بن أُذينة (٣) ، وغير ذلك.

فيستفاد من مجموعها أنّه ليس كلّ مرض مانعاً ، وإنّما المانع خصوص المرض المضرّ ، ولذا أُحيل إلى المكلّف نفسه الذي هو على نفسه بصيرة.

ثمّ إنّه لا فرق في الضرر بين أقسامه من كونه موجباً لشدّة المرض أو طول البرء أو شدّة الألم ونحو ذلك ، للإطلاق.

إنّما الكلام في طريق إحراز الضرر ، فالأكثر كما حكي عنهم على أنّه الخوف الذي يتحقّق بالاحتمال العقلائي المعتدّ به ، وذكر جماعة اعتبار اليقين أو الظنّ ، بل عن الشهيد التصريح بعدم كفاية الاحتمال (٤) ، والصحيح هو الأوّل ، لأنّه مضافاً إلى أنّ الغالب عدم إمكان الإحراز ، والخوف طريق عقلائي ، كما

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ٢١٩ / أبواب من يصح منه الصوم ب ٢٠ ح ٣.

(٢) الوسائل ١٠ : ٢٢٠ / أبواب من يصح منه الصوم ب ٢٠ ح ٤.

(٣) الوسائل ١٠ : ٢٢٠ / أبواب من يصح منه الصوم ب ٢٠ ح ٥.

(٤) لاحظ الدروس ١ : ٢٧١.

٤٨٦

.................................................................................................

______________________________________________________

في السفر الذي فيه خطر تكفينا صحيحة حريز عن أبي عبد الله (عليه السلام) «قال : الصائم إذا خاف على عينيه من الرمد أفطر» (١).

فإذا ثبت الاكتفاء بالخوف في الرمد وهو في عضو واحد من الجسد ، ففي المرض المستوعب لتمام البدن الذي هو أشدّ وأقوى بطريقٍ أولى كما لا يخفى.

على أنّ التعبير بالخوف واردٌ في موثّقة عمّار أيضاً عن أبي عبد الله (عليه السلام) : في الرجل يصيبه العطاش حتّى يخاف على نفسه «قال : يشرب بقدر ما يمسك رمقه ، ولا يشرب حتّى يروى» (٢).

إذ لا وجه لتخصيص الخوف المذكور فيها بخوف الهلاك ، بل يعمّ ما دونه أيضاً من خوف المرض والإغماء ونحو ذلك كما لا يخفى.

وعلى الجملة : فالمستفاد من الأدلّة أنّ العبرة بمجرّد الخوف ، ولا يلزم الظنّ أو الاطمئنان فضلاً عن العلم ، بل لا يبعد أن يكون هذا طريقاً عقلائيّاً في باب الضرر مطلقاً ، كما يفصح عنه ما ورد في مقامات أُخر غير الصوم ، مثل ما ورد في لزوم طلب الماء وفحصه للمتيمّم على الخلاف في مقدار الفحص في الفلاة من أنّه يكفّ عن الفحص إذا خاف من اللصّ أو السبع ، فيدلّ على سقوطه لدى كونه في معرض الخطر ، وإلّا فلا علم ولا ظنّ بوجود اللصّ أو السبع ، ولذا عبّر بالخوف.

ومثل ما ورد في صحيحتين في باب الغسل من أنّه إذا خاف على نفسه من البرد بتيمّم (٣) ، فيكون هذا الخوف بمجرّده محقّقاً للفقدان المأخوذ في موضوع

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ٢١٨ / أبواب من يصح منه الصوم ب ١٩ ح ١.

(٢) الوسائل ١٠ : ٢١٤ / أبواب من يصح منه الصوم ب ١٦ ح ١.

(٣) الوسائل ٣ : ٣٤٧ ٣٤٨ / أبواب التيمم ب ٥ ح ٧ و ٨.

٤٨٧

.................................................................................................

______________________________________________________

وجوب التيمّم ، ومعلومٌ أنّه ليس بمعنى الخوف من الهلاك فقط ، بل الغالب فيه خوف المرض والضرر ونحو ذلك.

فمن استقصاء هذه الموارد يكاد يطمئنّ الفقيه بأنّ الاعتبار بمجرّد الخوف ، وهو كافٍ في إحراز الضرر المسوّغ للإفطار ، ولا يعتبر الظنّ فضلاً عن العلم.

بقي هنا شي‌ء ، وهو أنّ موضوع الحكم في الكتاب والسنّة هو المريض ، وظاهره بطبيعة الحال هو المريض الفعلي كما في المسافر ، فالمحكوم بالإفطار هو من كان مريضاً أو مسافراً بالفعل ، فإذن ما هو الدليل على جواز الإفطار للصحيح الذي يخاف من حدوث المرض لو صام؟

الدليل عليه أمران :

الأوّل : أنّه يستفاد ذلك من نفس هذه الأخبار ، فإنّ تجويز الإفطار للمريض لا يستند إلى مرضه السابق ، ضرورة عدم تأثيره فيما مضى ، إذ لا علاقة ولا ارتباط للصوم أو الإفطار الفعليّين بالإضافة إلى المرض السابق ، وإنّما هو من أجل سببيّة الصوم وإيجابه للمرض بقاءً بحسب الفهم العرفي ، ولا أثر له في رفع السابق كما هو ظاهر.

وعليه ، فلا فرق بين الوجود الثاني والوجود الأوّل أي الحدوث لوحدة المناط فيهما.

الثاني : أنّه يستفاد ذلك من صحيحة حريز المتقدّمة الواردة في الرمد ، فإنّ قوله (عليه السلام) : «إذا خاف على عينيه من الرمد» إلخ ، ظاهرٌ في الحدوث ، أي يخاف أنّه إذا صام يحدث الرمد ، لا أنّه يخاف من شدّته أو بطء برئه ونحو ذلك كما لا يخفى ، فإذا كان الحكم في الرمد كذلك ففي غيره بطريق أولى.

٤٨٨

وكذا إذا خاف من الضرر في نفسه (١).

______________________________________________________

(١) فإنّ المستفاد من بعض الأخبار أنّ العبرة ليس بالمرض بما هو ، بل بالضرر ، وإنّما ذكر المريض في الآية المباركة لأنّه الفرد الغالب ممّن يضرّه الصوم.

وعليه ، فلو أضرّه الصوم أفطر وإن لم يكن مريضاً ، مثل ما ورد من الإفطار فيمن به رمد في عينه ، أو صداع شديد في رأسه ولو يوماً واحداً ، أو حمّى شديدة ولو يوماً أو يومين ، مع أنّ هؤلاء لا يصدق عليهم المريض عرفاً إذا لم يكن مستمرّاً كما هو المفروض ، وإنّما هو أمر مؤقّت عارض يزول بسرعة.

ومن هنا يتعدّى إلى كلّ من كان الصوم مضرّاً به وإن لم يصدق عليه المريض ، كمن به قرح أو جرح بحيث يوجب الصوم عدم الاندمال أو طول البرء ونحو ذلك من أنحاء الضرر ، ففي جميع ذلك يحكم بالإفطار ، لهذه الأخبار.

وبالجملة : فبين المرض والإفطار عمومٌ من وجه ، فقد يكون مريضاً لا يفطر ، لعدم كون الصوم مضرّاً له ، وقد يفطر ولا يصدق عليه المريض ، كمن به رمد أو صداع أو حمّى حسبما عرفت. فالعبرة بالضرر ، وطريق إحرازه الخوف كما ذكرناه.

وعليه ، فلو صام المريض مع كون الصوم مضرّاً به.

فإن كان الضرر بالغاً حدّ الحرمة الشرعيّة كالإلقاء في الهلكة فلا شكّ في البطلان ، لأنّه مصداقٌ للحرام ، ولا يكون الحرام واجباً ولا المبغوض مقرّباً.

وأمّا لو كان دون ذلك ، كمن يعلم بأنّه لو صام يبتلى بحمّى يوم أو أيّام قلائل وبنينا على عدم حرمة مطلق الإضرار بالنفس ، فلو صام حينئذٍ فالمتسالم عليه بطلان صومه أيضاً ، فحاله حال المسافر في أنّ الخلوّ من المرض ليس

٤٨٩

.................................................................................................

______________________________________________________

شرطاً في الوجوب فقط بل في الصحّة أيضاً ، وتدلّ عليه بعد الآية المباركة بناءً على ما عرفت من ظهور الأمر في قوله تعالى (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ) (١) في الوجوب التعييني جملة من الأخبار ، كموثّقة سماعة : ما حدّ المرض الذي يجب على صاحبه فيه الإفطار ... إلخ (٢) ، حيث عبّر بالوجوب.

وقد ورد في بعض نصوص صلاة المسافر بعد الحكم بأنّ الصوم في السفر معصية : أنّ الله تعالى تصدّق على المسافر والمريض بإلغاء الصوم ، والصدقة لا تردّ (٣).

وقد تقدّم في حديث الزهري (٤) وإن كان ضعيفاً الاستدلال بالآية المباركة على القضاء فيما لو صام المريض ، وغير ذلك من الأخبار الدالّة على عدم صحّة الصوم من المريض والمسافر.

وبإزائها رواية عقبة بن خالد : عن رجل صام شهر رمضان وهو مريض «قال : يتمّ صومه ولا يعيد ، يجزيه» (٥).

وهذه الرواية ضعيفة عند القوم ، لأنّ في سندها محمّد بن عبد الله بن هلال وعقبة بن خالد ، وكلاهما مجهولان ، ولكنّها معتبرة على مسلكنا ، لوجودهما في أسناد كامل الزيارات ، فلا نناقش في السند.

ولا يبعد حملها على من لا يضرّ به الصوم كما صنعه الشيخ (قدس سره) (٦) ،

__________________

(١) البقرة ٢ : ١٨٤ ، ١٨٥.

(٢) الوسائل ١٠ : ٢٢٠ / أبواب من يصح منه الصوم ب ٢٠ ح ٤.

(٣) الوسائل ٨ : ٥١٩ / أبواب صلاة المسافر ب ٢٢ ح ٧ وج ١٠ : ١٧٤ ١٧٥ / أبواب من يصح منه الصوم ب ١ ح ٤ و ٥.

(٤) في ص ٤٨٥.

(٥) الوسائل ١٠ : ٢٢٤ / أبواب من يصح منه الصوم ب ٢٢ ح ٢.

(٦) التهذيب ٤ : ٢٥٧.

٤٩٠

أو غيره أو عرضه أو عرض غيره أو في مالٍ يجب حفظه وكان وجوبه أهمّ في نظر الشارع من وجوب الصوم ، وكذا إذا زاحمه واجب آخر أهمّ منه (*) (١).

______________________________________________________

لما عرفت من أنّ النسبة بين الإفطار والمرض عمومٌ من وجه ، فليس الإفطار حكماً لكلّ مريض ، بل لخصوص من يضرّه الصوم ، فيقيَّد إطلاق الرواية بالمريض الذي لا يضرّه الصوم.

فإن أمكن ذلك وإلّا فغايته أنّها رواية شاذةٌ معارضة للروايات المستفيضة الصريحة في عدم الصحّة ، فلا بدّ من طرحها ، ولا سيّما وأنّ هذه مخالفةٌ لظاهر الكتاب وتلك موافقةٌ له ، ولا شكّ أنّ الموافقة للكتاب من المرجّحات لدى المعارضة.

(١) تقدّم الكلام فيما لو كان الصوم مضرّاً بحاله لمرضٍ ونحوه.

وأمّا لو ترتّب عليه محذور آخر ، كما لو توقّف على تركه حفظ عرضه أو عرض غيره أو حفظ مال محترم يجب حفظه كوديعة أو عارية ، أو مال كثير جدّاً بحيث علمنا أنّ الشارع لا يرضى بتلفه ، فإنّ حرمة مال المسلم كحرمة دمه ، فتوقّف حفظه من الغرق أو الحرق مثلاً على الإفطار ، أو توقّف حفظ نفسه أو نفس غيره عليه ، كما لو هدّده جائر بالقتل لو صام ، ونحو ذلك ممّا كان مراعاته أهمّ في نظر الشارع من الصوم. فلا إشكال أنّ ذلك من موارد التزاحم ، وبما أنّ المفروض أهمّيّة الواجب الآخر فيتقدّم لا محالة.

__________________

(*) الظاهر أنّ في كل مورد يكون عدم وجوب الصوم من جهة المزاحمة لواجبٍ آخر أهمّ يكون الصوم صحيحاً إذا صام من باب الترتّب ، ومنه يظهر الحال فيما إذا كان الصوم مستلزماً للضرر بالنسبة إلى غير الصائم أو عرضه أو عرض غيره أو مال يجب حفظه.

٤٩١

.................................................................................................

______________________________________________________

إنّما الكلام في طريق ثبوت المزاحمة وكيفيّة إحرازها ، فهل يكفي فيه مجرّد الاحتمال العقلائي المحقّق للخوف كما في المرض على ما سبق ، أو أنّه لا بدّ من إحراز وجود المزاحم بعلمٍ أو علمي؟

الظاهر هو التفصيل بين ما كان الواجب الآخر ممّا اعتُبر فيه عنوان الحفظ كحفظ النفس أو العرض أو المال ونحو ذلك ، وبين غيره من سائر الواجبات أو المحرّمات كالإنفاق على العائلة.

ففي الأوّل يُكتفى بمجرّد الخوف ، لأنّ نفس هذا العنوان يقتضي المراعاة في موارد الاحتمال ، ضرورة أنّ ارتكاب شي‌ء يحتمل معه التلف ينافي المحافظة ، فلو جُعِلت الوديعة مثلاً في معرض التلف لا يصدق أنّه تحفّظ عليها وإن لم تتلف اتّفاقاً.

ومن هنا ذكرنا في محلّه أنّه لا يجوز كشف العورة في موردٍ يُحتَمل فيه وجود الناظر المحترم ، بل لا بدّ من الاطمئنان بالعدم ، وإلّا لم يكن من الذين هم لفروجهم حافظون ، فتأمّل.

وعلى الجملة : معنى الحفظ الاجتناب عمّا يحتمل معه التلف ، فهو بمفهومه يقتضي الاعتناء بالاحتمال المحقّق للخوف. وعليه ، فيجوز بل يجب الإفطار مع الاحتمال ، لعدم اجتماع الصوم مع الحفظ المأمور به ، الذي هو أهمّ حسب الفرض.

وأمّا في الثاني : فلا مناص من إحراز وجود المزاحم بعلمٍ أو علمي ، إذ الصوم واجب ولا يكاد يرتفع وجوبه إلّا بالتعجيز الحاصل من قبل المولى ، الذي لا يتحقّق إلّا بالتكليف المنجّز دون المحتمل.

وبعبارة اخرى : إنّما يرفع اليد في المتزاحمين عن أحد الواجبين لا لعدم الجعل فيه من الأوّل ، بل لعدم القدرة على الامتثال بعد لزوم تقديم الأهمّ ، حيث إنّ

٤٩٢

.................................................................................................

______________________________________________________

امتثاله معجز عن المهمّ ، فإذا لم يكن الأهمّ واصلاً فماذا يكون عذراً في ترك المهمّ؟! وعليه فلا يسوّغ الإفطار إلّا إذا أحرز الواجب الآخر بحجّة معتبرة.

وكيفما كان ، فلا إشكال في سقوط التكليف بالصوم فيما لو زاحمه واجب آخر أهمّ ، سواء أكان ممّا اعتُبر فيه عنوان الحفظ أم لا ، كما لو وقعت المزاحمة بين الصوم وبين الإنفاق على العائلة ، لأنّ تعلّق التكليف بالصوم وجوباً تعيّنيّاً حسبما تضمّنته الآية المباركة من تقسيم المكلّفين إلى أقسام ثلاثة : من يجب عليه الصوم فقط ، ومن يجب عليه القضاء ، ومن يجب عليه الفداء كما مرّت الإشارة إليه (١) إنّما هو حكم المكلّف ابتداءً ، وإلّا فهذا الوجوب كغيره من سائر التكاليف مشروط بالقدرة ، فإذا كان هناك واجب آخر أهمّ ولم يمكن الجمع فهو طبعاً يتقدّم ، ومعه يسقط هذا الوجوب ، لمكان العجز.

إنّما الكلام فيما لو عصى فترك الواجب الأهمّ وصام ، فهل يحكم بصحّته ، أو لا؟

ظاهر كلام الماتن حيث ذكر هذا أعني : عدم الابتلاء بالمزاحم الأهمّ في شرائط الصحّة كعدم المرض والسفر هو البطلان ، فهو شرط في الوجوب والصحّة معاً لا في الأوّل فقط.

وهذا منه مبني على عدم جريان الترتّب وإنكاره ، إذ عليه يكفي في البطلان عدم تعلّق الأمر بالصوم ، إذ الأمر بالشي‌ء يقتضي عدم الأمر بضدّه لا محالة ، ولا يتوقّف ذلك على دعوى اقتضائه للنهي عن الضدّ ، ولا على دعوى مقدّميّة ترك أحد الضدّين لوجود الضدّ الآخر ، بل يكفي في المقام مجرّد عدم الأمر كما عرفت المستلزم لعدم إحراز الملاك أيضاً ، إذ لا كاشف عنه من غير ناحية الأمر والمفروض عدمه ، فلا يمكن تصحيح العبادة بوجه.

__________________

(١) في ص ٤٦٠ ٤٦١.

٤٩٣

ولا يكفي الضعف ، وإن كان مفرطاً ما دام يُتحمّل عادةً (١). نعم ، لو كان ممّا لا يُتحمّل عادةً جاز الإفطار.

______________________________________________________

وأمّا بناءً على المختار من صحّة الترتّب وإمكانه بل لزومه ووقوعه وأنّ تصوّره مساوق لتصديقه حسبما فصّلنا القول حوله في الأُصول وشيّدنا أساسه وبنيانه (١) ، فلا مناص من الحكم بالصحّة بمقتضى القاعدة ، إذ المزاحمة في الحقيقة إنّما هي بين الإطلاقين لا بين ذاتي الخطابين ، فلا مانع من تعلّق الأمر بأحدهما مطلقاً ، وبالآخر على تقدير عصيان الأوّل ومترتّباً عليه ، فالساقط إنّما هو إطلاق الأمر بالمهمّ وهو الصوم ، وأمّا أصله فهو باقٍ على حاله ، إذ المعجز ليس نفس الأمر بالأهمّ ، بل امتثاله.

فعلى ما ذكرناه كان الأولى ذكر هذا في شرائط الوجوب لا في شرائط الصحّة ، فإنّ الوجوب مشروط بعدم المزاحمة بالأهمّ ، وإلّا فهذه المزاحمة لا تستوجب فساد الصوم بعد البناء على الترتّب.

(١) قد يفرض : أنّ الضعف جزئي لا يعتنى به ، وحكمه ظاهر ، وأُخرى : يكون أكثر من ذلك ولكن لا يبلغ حدّ الحرج ، لكونه ممّا يُتحمّل عادةً وإن كان مفرطاً ، وهذا أيضاً لا يضرّ بالصوم ، بمقتضى إطلاق الأدلّة من الكتاب والسنّة بعد أن لم يكن المتّصف به مريضاً حسب الفرض ، وإنّما هو صحيحٌ اعتراه الضعف ، ولم يخرج عن عموم الآية إلّا المريض والمسافر.

وعلى الجملة : مجرّد الضعف لا يستوجب السقوط ولا سيّما مع كثرته في الصائمين ، حيث إنّ الغالب منهم يعتريهم مثل هذا الضعف من جوعٍ أو عطش ،

__________________

(١) محاضرات في أُصول الفقه ٣ : ١٠١ ١٠٢.

٤٩٤

.................................................................................................

______________________________________________________

خصوصاً أيّام الصيف البالغة ما يقرب من ستّ عشرة أو سبع عشرة ساعة ، بل سُمِع في بعض البلدان أنّه قد يصل طول النهار إلى إحدى وعشرين ساعة ويكون مجموع الليل ثلاث ساعات.

وكيفما كان ، فمقتضى إطلاق الأدلّة عدم قدح الضعف المزبور كما عرفت.

نعم ، في موثقة سماعة الواردة في حدّ المرض : «فإن وجد ضعفاً فليفطر» (١).

ولكن من الواضح أنّه ليس المراد به مطلق الضعف ، بل بقرينة المقابلة بقوله (عليه السلام) : «وإن وجد قوّة فليصمه» يراد به : الضعف عن الصوم ، الذي هو كناية عن تضرّر المريض المفروض في السؤال ، وأنّه ممّن لا يقوى على الصيام ، فمرجع الموثّقة إلى تفويض أمر المريض إلى نفسه من حيث تشخيص التمكّن من الصيام وعدمه لأنّه مؤتمن عليه ، فإن وجد قوّة صام ، وإن وجد ضعفاً أي لم يَرَ من نفسه قوّة على الصيام فليفطر ، فلا دلالة لها على أنّ كلّ ضعف ولو من غير المريض موجب للإفطار ، بل موضوعه المريض فقط كما هو ظاهر.

هذا كلّه فيما إذا كان الضعف ممّا يُتحمّل عادةً.

وأمّا إذا لم يُتحمّل بأن بلغ حدّ الحرج ، فلا شكّ في جواز الإفطار حينئذٍ ، بمقتضى عموم دليل نفي الحرج ، وهو المراد من قوله تعالى (الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ) (٢) ، فإنّ الإطاقة هو إعمال القدرة في أقصى مرتبتها ، المساوق للحرج الغالب حصوله في الشيخ والشيخة.

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ٢٢٠ / أبواب من يصح منه الصوم ب ٢٠ ح ٤.

(٢) البقرة ٢ : ١٨٤.

٤٩٥

ولو صام بزعم عدم الضرر فبان الخلاف بعد الفراغ من الصوم ففي الصحّة إشكال (١) ، فلا يُترك الاحتياط بالقضاء.

______________________________________________________

(١) وهو في محلّه ، بل لعلّ الأظهر العدم ، فإنّ الحكم بالصحّة يتوقّف على أحد أمرين : إمّا إثبات الأمر بالصوم ، أو أن يستكشف بدليل قطعي أو ما في حكمه أنّه محبوب وواجد للملاك وإن لم يؤمَر به لمانع ، وشي‌ء منهما لا يمكن إحرازه في المقام.

أمّا الأمر : فواضح ، ضرورة أنّ ظاهر الآية المباركة بقرينة المقابلة بين المريض وغيره اختصاص الأمر بالصوم بالصحيح الحاضر ، فالمريض أو المسافر غير مأمور بذلك جزماً.

وأمّا الملاك : فلا طريق إلى إحرازه لعدم علمنا بالغيب إلّا من ناحية الأمر والمفروض انتفاؤه ، وليس المقام من باب المزاحمة قطعاً ليكون الملاك محرزاً ، كيف؟! وفي ذاك الباب قد تعلّق تكليفان كلّ منهما مطلق ، غايته أنّه لا يمكن الجمع بينهما في مقام الامتثال.

وأمّا في المقام فليس إلّا أمر واحد متعلّق بالمقيّد بغير المريض والمسافر ، ومعه كيف يمكن استكشاف الملاك في فاقد القيد؟! وإذ لم يثبت الأمر ولم يحرز الملاك فلا مناص من الحكم بالبطلان ، لخروج المريض عن حريم موضوع الأمر بالصوم واقعاً ، سواء علم به أم جهل.

نعم ، لو فرضنا أنّ عدم تعلّق الأمر بالمريض لم يكن لأجل تقيّد موضوع الحكم بعدمه ، وإنّما كان ذلك مستنداً إلى قاعدة نفي الضرر ، اتّجه الحكم بالصحّة فيما لو صام باعتقاد عدم الضرر.

ومن هنا التزمنا في محلّه بصحّة الوضوء أو الغسل الضرريّين فيما إذا اعتقد

٤٩٦

.................................................................................................

______________________________________________________

عدم الضرر ، وذلك لأنّ هذه القاعدة إنّما شُرِّعت بلسان الامتنان ، ولا امتنان في الحكم بفساد العمل الصادر باعتقاد عدم الضرر ، بل هو على خلاف الامتنان ، فلا يكون مشمولاً للقاعدة.

وبالجملة : الضرر الواقعي ما لم يصل لا يكون رافعاً للتكليف ، لعدم الامتنان ، فإذا كان التكليف باقياً على حاله وقد أتى به المكلّف على وجهه فلا مناص من الحكم بالصحّة.

وأمّا في المقام فقد عرفت أنّ البطلان لم يكن بدليل نفي الضرر ، وإنّما هو لأجل التخصيص في دائرة الموضوع وتقييده بغير المريض. إذن لا وجه للحكم بصحّة صوم المريض بمجرّد اعتقاد عدم الضرر ، بل لا بدّ إمّا من الحكم بالبطلان جزماً ، أو لا أقلّ من الاحتياط اللزومي كما صنعه في المتن.

وملخّص الكلام : أنّ الصوم باعتقاد عدم الضرر مع انكشاف الخلاف قد يُفرَض في موارد التزاحم ، وأُخرى في مورد الحكومة وثالثة في مورد التخصيص.

لا إشكال في الصحّة في مورد المزاحمة مع الجهل بالأهمّ ، فإنّ المعجز هو التكليف الواصل ولم يصل فيقع المهمّ على ما هو عليه من المحبوبيّة وتعلّق الأمر به ، بل هو كذلك حتّى مع الوصول والتنجّز ، غايته أنّه عصى في ترك الأهمّ فيصحّ المهمّ بناءً على الترتّب.

وأمّا في مورد الحكومة أعني : ارتفاع الأمر بالصوم بلسان نفي الضرر الحاكم على جميع الأدلّة الأوّلية من الواجبات والمحرّمات فحاله مع عدم الوصول كما هو المفروض حال التزاحم ، فإنّ تشريع نفي الضرر إنّما هو لأجل الامتنان ، فكلّ تكليف من قبل المولى ينشأ منه الضرر فهو مرفوع.

وأمّا لو فرضنا جهل المكلّف بكون الحكم ضرريّاً فامتثله ثمّ انكشف الخلاف

٤٩٧

.................................................................................................

______________________________________________________

فهو غير مشمول لدليل نفي الضرر ، إذ لا امتنان في رفعه حينئذٍ ، ضرورة استناداً الوقوع في الضرر الواقعي في مثله إلى جهل المكلّف نفسه لا إلى إلزام الشارع ، فنفي الحكم بعد هذا مخالفٌ للامتنان إذ لازمه البطلان ، ولا امتنان في الحكم بالفساد ، فلا مناص من الالتزام بالصحّة.

وأمّا في مورد التخصيص الراجع إلى تضييق منطقة الحكم من لدن جعله ، وثبوته في بعض الموارد دون بعض كما في المقام ، حيث خصّت الآية المباركة التكليف بالصيام بالأصحّاء دون المرضى ، فلو أخطأ المكلف وتخيّل عدم مرضه أو عدم الإضرار به فصام ثمّ انكشف الخلاف ، فمتقضى القاعدة هو البطلان ، لأنّ هذا مأمور واقعاً بالإفطار والقضاء ، وإجزاء غير المأمور به عن المأمور به يحتاج إلى دليل ، ولا دليل.

ولو انعكس الفرض ، فاعتقد أنّ الصوم مضرّ ومع ذلك صام ثمّ انكشف الخلاف ، فهل يحكم بالصحّة أو بالفساد؟

الظاهر هو الحكم بالصحّة ، لعين ما ذُكر ، لأنّه مأمور بالصوم واقعاً وقد أتى به ، فلا قصور لا من ناحية الأمر ولا من ناحية الانطباق على العمل ، غاية الأمر أنّ الإشكال من جهة النيّة وتمشّي قصد القربة مع اعتقاد الضرر الموجب لاعتقاد سقوط الأمر ، فلا بدّ من فرضه على نحو يتمشّى منه ذلك ، كما لو تخيّل أنّ رفع الحكم عن المريض ترخيصي لا إلزامي ، فاعتقد أنّه مخيّر بين الصوم وعدمه لا أنّ تركه عزيمة ، وإلّا فلو لم تصحّح النيّة ولم يقصد القربة بطل العمل لا لخللٍ فيه في نفسه ، بل لأمر خارجي وهو فقدان النيّة كما عرفت. وأمّا مع مراعاتها فلا مناص من الحكم بالصحّة.

٤٩٨

وإذا حكم الطبيب بأنّ الصوم مضرّ وعلم المكلّف من نفسه عدم الضرر يصحّ صومه ، وإذا حكم بعدم ضرره وعلم المكلّف أو ظنّ كونه مضرّاً وجب عليه تركه ولا يصحّ منه (١).

______________________________________________________

(١) قد عرفت أنّ المستفاد من الآية المباركة والروايات أنّ موضوع الإفطار هو المرض ، ولكن لا من حيث هو ، بل بما أنّه مضرّ ، فالعبرة في الحقيقة بالضرر ، ولذا تقدّم أنّ النسبة عموم من وجه ، وقد عرفت أنّ طريق إحرازه الخوف ، ولكنّه غير منحصر فيه ، فلو فرضنا ثبوته بطريقٍ آخر من بيّنة أو نحوها ترتّب الحكم ، لعدم دلالة رواية الأرمد على الحصر.

وعليه ، فلو أخبر الطبيب بالضرر وهو حاذق ثقة وجب اتباعه ، لقيام السيرة العقلائية على الرجوع إلى أهل الخبرة من كلّ فن.

فقول الطبيب حجّة وإن لم يحصل الخوف ، كما أنّه لو حصل الخوف الوجداني من قوله وإن لم يكن حاذقاً ترتّب الإفطار ، فكما أنّ الضرر يثبت بالخوف يثبت بقول الطبيب من أهل الخبرة.

نعم ، إذا اطمأنّ بخطئه فضلاً عن العلم الوجداني بالخطإ الذي فرضه في المتن لم يسمع قوله ، فإنّ قوله بما هو ليس بحجّة وإنّما هو طريق إلى الواقع ، فلو علم بخلافه أو اطمأنّ بخطئه فليس له الإفطار.

ولو انعكس الأمر فأخبر بعدم الضرر ، ولكن قام طريق آخر على الضرر وهو خوف المكلّف نفسه فضلاً عن علمه أو ظنّه ، وجب عليه ترك الصوم حينئذٍ ولم يصحّ منه ، لدلالة النصوص المتقدّمة على أنّه مؤتمن عليه مفوضّ إليه وأنّ الإنسان على نفسه بصيرة ، فمع تشخيصه الضرر لا يُصغى إلى قول الطبيب الذي يُطمأنّ بخطئه ، بل يكفي مجرّد الخوف كما عرفت ، لرجوع الأمر إلى المكلّف نفسه.

٤٩٩

[٢٥٠٢] مسألة ١ : يصحّ الصوم من النائم ولو في تمام النهار إذا سبقت منه النيّة في الليل ، وأمّا إذا لم تسبق منه النيّة : فإن استمرّ نومه إلى الزوال بطل صومه ووجب عليه القضاء إذا كان واجباً ، وإن استيقظ قبله نوى وصحّ (*) ، كما أنّه لو كان مندوباً واستيقظ قبل الغروب يصحّ إذا نوى (١).

______________________________________________________

وعلى الجملة : مقتضى إطلاق الأدلّة أنّ العبرة بالحالة الوجدانيّة ، وبذلك تتقيّد حجّيّة قول الطبيب بما إذا لم تكن على خلاف هذه الحالة ، فإذا حصل الخوف لم يجز الصوم وإن أخبر الطبيب بعدم الضرر ، إلّا إذا علم وجداناً بعدم الضرر بحيث لا يعتريه الخوف حسبما عرفت.

(١) تقدّم في مبحث النيّة : أنّ النيّة المعتبرة في باب التروك تغاير ما هو المعتبر في الأفعال ، فإنّ اللّازم في الثاني صدور كلّ جزء من الفعل عن قصدٍ وإرادة مع نيّة القربة ، وأمّا في الأوّل فليس المطلوب إلّا مجرّد الاجتناب عن الفعل كما صرّح به في صحيحة محمّد بن مسلم : «لا يضرّ الصائم ما صنع إذا اجتنب» إلخ ، ومعنى ذلك : أن يكون بعيداً عنه وعلى جانب وطرف ولا يقرب منه.

وهذا يكفي فيه بناؤه الارتكازي على عدم الارتكاب ولو كان ذلك لأجل عدم الداعي من أصله ، أو عدم القدرة خارجاً ، كالمحبوس الفاقد للمأكول أو المشروب ، فاللازم فيه الاجتناب على نحوٍ لو تمكّن من الفعل لم يفعل مع كونه لله. وهذا هو معنى كونه على جانب منه.

وهذا المعنى كما ترى لا يتنافى مع النوم بوجه حتّى في تمام النهار بشرط سبق النيّة المزبورة من قبل الفجر ، مضافاً إلى بعض النصوص المتضمّنة : أنّ

__________________

(*) تقدّم الإشكال فيه في صيام شهر رمضان.

٥٠٠