موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ مرتضى البروجردي

.................................................................................................

______________________________________________________

(وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ) إلخ (١) ، فيظهر من التأمّل في مجموع هذه الآيات أنّه سبحانه قسّم المكلفين على طوائف ثلاث لكلٍّ حكمٌ يخصّها.

فذكر أوّلاً وجوب الصوم على من شهد الشهر وهو الحاضر في البلد فهو مأمور بالصيام ، ولا شكّ أنّ الأمر ظاهر في الوجوب التعييني.

ثمّ أشار تعالى إلى الطائفة الثانية بقوله (فَمَنْ كانَ) إلخ ، فبيّن سبحانه أنّ المريض والمسافر ، مأمور بالصيام في عدّة أيّامٍ أُخر أي بالقضاء وظاهره ولا سيّما بمقتضى المقابلة تعيّن القضاء ، فلا يشرع منهما الصوم فعلاً.

وأخيراً أشار إلى الطائفة الثالثة بقوله (وَعَلَى الَّذِينَ) إلخ ، وهم الشيخ والشيخة ونحوهما ممّن لا يطيق الصوم إلّا بمشقّة عظيمة وحرج شديد ، وأنّ وظيفتهم شي‌ء آخر لا الصيام ولا القضاء ، بل هي الفدية.

ثمّ أشار بعد ذلك إلى أنّ هذه التكاليف إنّما هي لمصلحة المكلّف نفسه ولا يعود نفعها إليه سبحانه ، فقال (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) (٢) أي تصوموا على النهج الذي شُرِّع في حقّكم من الصيام في الحضر والقضاء في السفر.

فالمتحصّل من الآية المباركة : عدم مشروعيّة الصوم من المسافر كما أنّها لا تشرع من المريض وأنّ المتعيّن في حقّهما القضاء ، فهي وافية بإثبات المطلوب من غير حاجة إلى الروايات كما ذكرناه ، وعلى أنّها كثيرة ومتواترة كما عرفت ، وهي طوائف :

فمنها : ما وردت في مطلق الصوم ، مثل قوله (عليه السلام) : «ليس من البرّ الصيام في السفر» كما في مرسلة الصدوق (٣).

__________________

(١) البقرة ٢ : ١٨٤.

(٢) البقرة ٢ : ١٨٤.

(٣) الوسائل ١٠ : ١٧٧ / أبواب من يصح منه الصوم ب ١ ح ١١ ، الفقيه ٢ : ٩٢ / ٤١١.

٤٦١

سفراً يوجب قصر الصلاة (١) مع العلم بالحكم في الصوم الواجب إلّا في ثلاثة مواضع :

______________________________________________________

ومنها : ما ورد في خصوص شهر رمضان ، مثل قوله (عليه السلام) في رواية يحيى بن أبي سعيد : «الصائم في السفر في شهر رمضان كالمفطر فيه في الحضر» (١).

وبعضها في خصوص القضاء وأنّه ليس للمسافر أن يقضي إلّا أن ينوي عشرة أيّام ، وجملة منها في النذر ، وأُخرى في الكفّارة ، فلا إشكال في المسألة.

ولكن نُسِب إلى المفيد الخلاف تارةً في خصوص صوم الكفّارة ، وأُخرى في مطلق الصوم الواجب ما عدا رمضان ، وأنّه جوز الإتيان به في السفر (٢).

ولم يُعرف له أيّ مستند على تقدير صدق النسبة ، إلّا على وجهٍ بعيدٌ غايته بأن يقال : إنّه (قدس سره) غفل عن الروايات الواردة في المقام ، وقصر نظره الشريف على ملاحظة الآية الكريمة التي موردها شهر رمضان فلا يتعدّى إلى غيره في المنع.

وهو كما ترى مناف لجلالته وعظمته ، فإنّه كيف لم يلتفت إلى هاتيك الأخبار المتكاثرة البالغة حدّ التواتر كما سمعت؟! وبالجملة : فلم يُعرف لما نُسِب إليه وجهٌ صحيح ولا غير صحيح ، ولا يبعد عدم تماميّة النسبة.

(١) فإنّ موضوع الإفطار هو السفر الموجب للتقصير ، للملازمة بين الأمرين ، كما دلّ عليها قوله (عليه السلام) في صحيحة معاوية بن وهب : إذا قصّرت

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ١٧٥ / أبواب من يصح منه الصوم ب ١ ح ٥.

(٢) المقنعة : ٣٥٠.

٤٦٢

أحدها : صوم ثلاثة أيّام بدل هدي التمتّع (١).

الثاني : صوم بدل البَدَنة ممّن أفاض من عرفات قبل الغروب عامداً ، وهو ثمانية عشر يوماً (٢).

______________________________________________________

أفطرت ، وإذا أفطرت قصّرت» (١).

ونحوها موثّقة سماعة : «ليس يفترق التقصير عن الإفطار ، فمن قصّر فليفطر» (٢).

(١) لدى العجز عنه بلا خلاف فيه ولا إشكال على ما نطقت به النصوص وقبلها الكتاب العزيز : قال تعالى (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ) (٣) فيشرع صوم الثلاثة أيّام في سفر الحجّ على تفصيل مذكور في محلّه من حيث الإتيان به قبل العيد أو بعده وغير ذلك ممّا يتعلّق بالمسألة ، وبذلك يخرج عن عموم منع الصوم في السفر ، وقد دلّت على ذلك من الأخبار صحيحة معاوية بن عمّار وموثّقة سماعة وغيرهما ، لاحظ الباب السادس والأربعين من أبواب الذبح من كتاب الوسائل.

(٢) حيث إنّ الوقوف بعرفات لمّا كان واجباً إلى الغروب فلو أفاض قبله عامداً كانت عليه كفّارة بدنة ، فإن عجز عنها صام ثمانية عشر يوماً مخيّراً بين الإتيان به في سفر الحجّ أو بعد الرجوع إلى أهله ، على المشهور في ذلك ، كما دلّت عليه صحيحة ضريس الكناني عن أبي جعفر (عليه السلام) ، قال : سألته عن رجل أفاض من عرفات قبل أن تغيب الشمس «قال : عليه بدنة ينحرها

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ١٨٤ / أبواب من يصح منه الصوم ب ٤ ح ١ ، ٢.

(٢) الوسائل ١٠ : ١٨٤ / أبواب من يصح منه الصوم ب ٤ ح ١ ، ٢.

(٣) البقرة ٢ : ١٩٦.

٤٦٣

الثالث : صوم النذر المشترط فيه سفراً خاصّة أو سفراً وحضراً (١)

______________________________________________________

يوم النحر ، فإن لم يقدر صام ثمانية عشر يوماً بمكّة ، أو في الطريق ، أو في أهله» (١).

والراوي هو ضريس بن عبد الملك بن أعين الثقة ، فهي صحيحة السند ، كما أنّها ظاهرة الدلالة ، إذ لا ينبغي الشكّ في ظهورها في جواز الصوم في السفر ولو لأجل أنّ الغالب أنّ الحاجّ لا يقيم بمكّة بعد رجوعه من عرفات عشرة أيّام ، وعلى فرض تحقّقه في جملةٍ من الموارد فلا إشكال أنّ الإقامة في الطريق عشرة أيّام نادرة جدّاً ، فلا يمكن تقييد إطلاق الصحيحة بها ، بل لا بدّ من الأخذ بالإطلاق.

على أنّا لو سلمنا عدم الندرة فلا أقلّ من إطلاق الصحيحة ، وهو كافٍ في المطلوب ، بناءً على ما هو المحرّر في الأُصول من أنّ إطلاق المخصّص مقدّم على عموم العامّ ، ففي المقام بعد أن خُصِّص العامّ المتضمّن لمنع الصيام في السفر بهذه الصحيحة التي موضوعها خاصّ وهو ثمانية عشر يوماً بدلاً عن البدنة فإطلاقها الشامل لصورتي قصد الإقامة وعدمه مقدّم بحسب الفهم العرفي على إطلاق دليل المنع ، فالمناقشة في المسألة والتشكيك في مدلول الصحيحة في غير محلّها.

فالصحيح ما هو المشهور من صحّة الاستثناء المزبور.

(١) بحيث كان السفر ملحوظاً حال النذر إمّا بخصوصه ومتقيّداً به ، أو الأعمّ منه ومن لحضر.

وهذا الاستثناء أيضاً متسالمٌ عليه بين الأصحاب كما صرّح به غير واحد ، ولكن المحقّق في الشرائع قد يظهر منه التردّد حيث توقّف في الحكم (٢) ، وكأنّه

__________________

(١) الوسائل ١٣ : ٥٥٨ / أبواب إحرام الحجّ والوقوف بعرفة ب ٢٣ ح ٣.

(٢) الشرائع ١ : ٢٣٢.

٤٦٤

.................................................................................................

______________________________________________________

لضعف الرواية في نظره التي هي مستند المسألة كما صرّح به في المعتبر (١) ، وهي صحيحة علي بن مهزيار ، قال : كتب بندار مولى إدريس : يا سيدي ، نذرت أن أصوم كلّ يوم سبت ، فإن أنا لم أصمه ما يلزمني من الكفّارة؟ فكتب إليه وقرأته : «لا تتركه إلّا من علّة ، وليس عليك صومه في سفر ولا مرض إلّا أن تكون نويت ذلك ، وإن كنت أفطرت من غير علّة فتصدّق بعدد كلّ يوم على سبعة مساكين ، نسأل الله التوفيق لما يحبّ ويرضى» (٢).

ولا ندري ما هو وجه الضعف الذي يدّعيه المحقّق ، فإنّ ابن مهزيار من الأجلّاء الكبار والطريق إليه صحيح ، والمراد ب : «أحمد بن محمّد» هو أحمد بن محمّد بن عيسى الأشعري ، وعبد الله بن محمّد أخوه ، فلا إشكال في السند بوجه.

ويحتمل قريباً أنّ نظره (قدس سره) في التضعيف إلى بندار مولى إدريس صاحب المكاتبة ، فإنّه مجهول.

ولكنّه واضح الدفع ، ضرورة أنّ الاعتبار بقراءة ابن مهزيار لا بكتابة بندار ، فالكاتب وإن كان مجهولاً ، بل ولو كان أكذب البريّة ، إلّا أن ابن مهزيار الثقة يخبرنا أنّه رأى الكتاب وقرأ جواب الإمام (عليه السلام) ، وهو المعتمد والمستند ، وهذا أوضح من أن يخفى على من هو دون المحقّق فضلاً عنه ، ولكنّه غير معصوم ، فلعلّه غفل عن ذلك ، أو أنّه أسرع في النظر فتخيّل أنّ بندار واقع في السند.

ويحتمل بعيداً أن يكون نظره في التضعيف إلى الإضمار.

وهو أيضاً واضح الدفع ، إذ لو كان المسئول غير الإمام (عليه السلام) كيف يرويه ابن مهزيار وهو من الطبقة العليا من الرواة ويثبته أصحاب المجامع في كتبهم كسائر المضمرات؟!

__________________

(١) المعتبر ٢ : ٦٨٤.

(٢) الوسائل ١٠ : ٣٧٩ / أبواب بقية الصوم الواجب ب ٧ ح ٤.

٤٦٥

.................................................................................................

______________________________________________________

وبالجملة : تعبير الكاتب بقوله : يا سيّدي ، وعناية ابن مهزيار بالكتابة والقراءة والرواية ونقلها في المجامع ربّما يورث الجزم بأنّ المراد هو الإمام (عليه السلام) كما في سائر المضمرات.

ويمكن أن يكون نظره (قدس سره) في التضعيف إلى متن الرواية ، إمّا من أجل عطف المرض على السفر مع أنّ جواز الصوم حال المرض وعدمه لا يدوران مدار النيّة ، بل يُناطان بالضرر وعدمه ، فإذا كان بمثابةٍ يضرّه الصوم فهو غير مشروع ولا يصحّحه النذر وإن نواه.

ويندفع : بأنّ هذه القرينة الخارجيّة تكشف عن أنّ الإشارة في قوله (عليه السلام) : «إلّا أن تكون نويت ذلك» ترجع إلى خصوص السفر لا مع المرض.

أو من أجل اشتمال ذيلها على أنّ كفّارة حنث النذر التصدّق على سبعة مساكين مع أنّه معلوم البطلان ، فإنّه إمّا كفّارة رمضان أو كفّارة اليمين ، أعني : عشرة مساكين ، على الخلاف المتقدّم في ذلك.

ويندفع : بأنّ غايته سقوط هذه الفقرة من الرواية عن الحجّيّة ، لوجود معارض أقوى ، فيرفع اليد عنها في هذه الجملة بخصوصها ، والتفكيك بين فقرأت الحديث في الحجّيّة غير عزيز كما لا يخفى ، فلا يوجب ذلك طرح الرواية من أصلها.

على أنّ هذه الرواية في نسخة المقنع (١) مشتملة على لفظ : «عشرة» بدل : «سبعة» ، فلعلّ تلك النسخة مغلوطة كما تقدّم في محلّه.

وكيفما كان ، فلا إشكال في الرواية ، ولا نعرف أيّ وجه لتضعيفها لا سنداً ولا متناً ، وقد عمل بها المشهور ، فلا مناص من الأخذ بها هذا.

__________________

(١) المقنع : ٢٠٠.

٤٦٦

.................................................................................................

______________________________________________________

على أنّا أسلفناك فيما مرّ أن هذه الرواية رواها الكليني بسند آخر قد غفل عنه صاحب الوسائل فاقتصر على نقل الرواية بالسند المذكور عن الشيخ ولم يروها بذاك السند عن الكافي ، وإنّما الحقّ ذاك السند برواية أُخرى لا وجود لها مع هذا السند ، وكأنّ عينه قد طفرت من رواية إلى أُخرى حين النقل ، وذاك السند هو : الكليني ، عن أبي علي الأشعري ، عن محمّد بن عبد الجبار ، عن علي ابن مهزيار (١).

وهذا السند كما ترى عالٍ جدّاً نقي عن كلّ شبهة ، فعلى تقدير التشكيك في السند المتقدّم ولا موقع له كما عرفت ، فإنّ أحمد بن محمّد الواقع في السند مردّد بين ابن عيسى وابن خالد ، وكلاهما ثقة وفي طبقة واحدة يروي عنهما الصفّار ويرويان عن ابن مهزيار ، ولكن بقرينة اقترانه بأخيه عبد الله بن محمّد الملقّب ب : «بنان» يستظهر أنّه محمّد بن عيسى فلا مجال للتشكيك في هذا السند بوجه فإنّه صحيح قطعاً ، وقد عرفت أنّ صاحب الوسائل فاته نقلها بهذا السند فلم يذكره لا هنا ولا في كتاب النذر.

هذا ، وقد علّق المجلسي في المرآة عند نقل هذه الرواية بالسند الصحيح ، فنقل عن المدارك استضعاف المحقّق لها ، وبعد أن استغرب ذلك احتمل وجوهاً لتضعيفه (٢) تقدّم ذكرها مع تزييفها : من الإضمار ، وقد عرفت أنّ ابن مهزيار من الطبقة العليا الذين لا يقدح إضمارهم. ومن عطف المرض على السفر ، وقد عرفت أنّ القرينة الخارجيّة وهي الإجماع على عدم صحّة الصوم حال المرض وإن نذر تقتضي رجوع الإشارة إلى الأوّل فحسب.

هذا إن تمّ الإجماع كما لا يبعد فيرفع اليد عن ظاهر الرواية من رجوع

__________________

(١) في ص ٢٩٣.

(٢) مرآة العقول ٢٤ : ٣٤٣ ٣٤٤.

٤٦٧

دون النذر المطلق (١) ،

______________________________________________________

الإشارة إليهما معاً ، وأمّا إن لم يتمّ فلا نضايق من الأخذ بظاهرها من جواز الصوم حال المرض إذا لم يكن شديداً بحيث يصل الخوف معه حدّ الوقوع في الهلكة ، وقد ذكرنا عند التكلم حول حديث لا ضرر : أنّه لم يدلّ دليل على عدم جواز الإضرار بالنفس ما لم يبلغ الحدّ المذكور (١).

وعليه ، فوجوب الصوم مرفوع حال المرض امتناناً ، فأيّ مانع من ثبوته بالنذر ، عملاً بإطلاقاته ، بعد أن كان سائغاً في نفسه حسبما عرفت ، فالعمدة في المنع إنّما هو الإجماع الذي عرفت أنّه لا يبعد تحقّقه ، وإلّا فلا مانع من الالتزام في المرض بما يلتزم به في السفر ، عملاً بظاهر الرواية.

والحاصل : أنّ هذا ليس حكماً بديهيّاً ليُخدَش في الرواية بأنّها مشتملة على ما هو مقطوع البطلان ، فلا يوجب ذلك وهناً فيها بوجه.

ومن ذكر كلمة السبع ، وقد عرفت أنّها مذكورة في نسخة المقنع بلفظ : «عشرة» مع إمكان التفكيك في الحجّيّة كما مرّ.

ومحصّل الكلام : إنّا لا نرى وجهاً صحيحاً لتضعيف الرواية ولا سيّما مع هذا السند العالي المذكور في الكافي ، فلا وجه للمناقشة فيها بوجه ، ولعلّ التضعيف المزبور من غرائب ما صدر عن المحقّق ، وهو أعرف بما قال ، والله سبحانه أعلم بحقيقة الحال.

(١) فلا يجوز الصوم حينئذٍ حال السفر كما هو المشهور ، وقد دلّت عليه عدّة من الروايات ، وجملة منها معتبرة :

منها : صحيحة كرام ، قال : قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) : إنِّي جعلت

__________________

(١) مصباح الأُصول ٢ : ٥٤٥ ٥٤٦.

٤٦٨

بل الأقوى عدم جواز الصوم المندوب في السفر أيضاً (١) ،

______________________________________________________

على نفسي أن أصوم حتّى يقوم القائم «فقال : صم ، ولا تصم في السفر» إلخ (١).

وموثّقة مسعدة بن صدقة : في الرجل يجعل على نفسه أيّاماً معدودة مسمّاة في كلّ شهر ، ثمّ يسافر فتمرّ به الشهور ، أنّه لا يصوم في السفر ولا يقضيها إذا شهد (٢).

وموثّقة عمّار : عن الرجل يقول : لله عليّ أن أصوم شهراً ، أو أكثر من ذلك أو أقل ، فيعرض له أمر لا بدّ له أن يسافر ، أيصوم وهو مسافر؟ «قال : إذا سافر فليفطر» إلخ (٣) ، ونحوها غيرها.

ولكنّها معارَضة بمعتبرة إبراهيم بن عبد الحميد : عن الرجل يجعل لله عليه صوم يوم مسمّى «قال : يصوم أبداً في السفر والحضر» (٤).

وبما أنّ المعارضة بالتباين فتكون صحيحة ابن مهزيار المتقدّمة المفصّلة بين نيّة السفر بخصوصه عند النذر فيجوز ، وبين الإطلاق وعدم النيّة فلا يجوز وجهاً للجمع بين الطائفتين فتُحمَل المعتبرة على الفرض الأوّل ، والروايات الأُول على الثاني ، فتكون النتيجة : أنّ الصوم المنذور غير جائز في السفر ما لم يكن منويّاً.

(١) وإن نُسِب إلى الأكثر جوازه ، بل أخذه صاحب الوسائل في عنوان بابه فقال : باب جواز الصوم المندوب في السفر على كراهة (٥). ومعلوم أنّ مراده بالكراهة أقلّيّة الثواب كما هو الحال في سائر العبادات المكروهة.

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ١٩٩ / أبواب من يصح منه الصوم ب ١٠ ح ٩ ، ١٠ ، ٨.

(٢) الوسائل ١٠ : ١٩٩ / أبواب من يصح منه الصوم ب ١٠ ح ٩ ، ١٠ ، ٨.

(٣) الوسائل ١٠ : ١٩٩ / أبواب من يصح منه الصوم ب ١٠ ح ٩ ، ١٠ ، ٨.

(٤) الوسائل ١٠ : ١٩٨ / أبواب من يصح منه الصوم ب ١٠ ح ٧.

(٥) الوسائل ١٠ : ٢٠٢.

٤٦٩

.................................................................................................

______________________________________________________

وكيفما كان ، فيدلّ على عدم الجواز عدّة أخبار :

منها : صحيح البزنطي ، قال : سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن الصيام بمكّة والمدينة ونحن في سفر «قال : أفريضة؟» فقلت : لا ، ولكنّه تطوّع كما يتطوّع بالصلاة ، قال : «فقال : تقول اليوم وغذاً؟» فقلت : نعم «فقال : لا تصم» (١).

وموثّقة عمّار : عن الرجل يقول : لله عليّ أن أصوم ... إلى أن قال : «لا يحلّ له الصوم في السفر ، فريضة كان أو غيره ، والصوم في السفر معصية» (٢).

وهذه تفترق عن السابقة في عدم إمكان الحمل على الكراهة ، لمكان التعبير بالمعصية ، الظاهر في عدم المشروعيّة ، لا مجرّد النهي القابل للحمل عليها كما في الأُولى.

ونحوهما غيرهما ، لكنّها ضعاف السند ، ويعضدهما عمومات المنع ، مثل قوله (عليه السلام) : «ليس من البرّ الصيام في السفر» (٣) وغير ذلك.

وبإزائها جملة من الأخبار دلّت على الجواز.

منها : مرسلة إسماعيل بن سهل عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال : خرج أبو عبد الله (عليه السلام) من المدينة في أيّام بقين من شهر شعبان : فكان يصوم ، ثمّ دخل عليه شهر رمضان وهو في السفر فأفطر ، فقيل له : تصوم شعبان وتفطر شهر رمضان؟! «فقال : نعم ، شعبان إليّ إن شئت صمت وإن شئت لا ، وشهر رمضان عزم من الله عزّ وجلّ على الإفطار» (٤).

وهي واضحة الدلالة بل صريحة في الجواز في النافلة ، ولكن سندها بلغ من

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ٢٠٢ / أبواب من يصح منه الصوم ب ١٢ ح ٢.

(٢) الوسائل ١٠ : ١٩٩ / أبواب من يصح منه الصوم ب ١٠ ح ٨.

(٣) الوسائل ١٠ : ١٧٧ / أبواب من يصح منه الصوم ب ١ ح ١٠.

(٤) الوسائل ١٠ : ٢٠٣ / أبواب من يصح منه الصوم ب ١٢ ح ٤.

٤٧٠

.................................................................................................

______________________________________________________

الضعف غايته ، فإنّ مجموع من في السند ما عدا الكليني وعدّة من أصحابنا بين مجهول أو مضعّف ، إذ حال سهل معلوم ، ومنصور ضعّفه أصحابنا كما في النجاشي (١) ، وابن واسع مجهول ، وإسماعيل إمّا مهمل أو ضعيف ، مضافاً إلى أنّها مرسلة فلا تصلح للاستناد بوجه.

ونحوها مرسلة الحسن بن بسّام الجمّال (٢) ، المشتملة على نظير تلك القصّة ، بل الظاهر أنّها عينها ، ولعلّ الرجل المرسل عنه فيهما واحد ، وكيفما كان ، فهي أيضاً ضعيفة بالإرسال وجهالة الجمّال وضعف سهل.

فهاتان الروايتان غير قابلتين للاعتماد ، ولا يمكن الجمع بينهما لو تمّ سندهما وبين ما تقدّم من الصحيح والموثّق بالحمل على الكراهة المنسوب إلى الأكثر واختاره في الوسائل كما مرّ ، لإباء لفظ المعصية الوارد في الموثّقة عن ذلك جدّاً كما تقدم ، فلا بدّ من تقديمهما على هاتين الروايتين ، لموافقتهما مع عمومات المنع ، إذ أنّ التخصيص يحتاج إلى الدليل ، ولا دليل بعد ابتلاء المخصّص بالمعارض.

والعمدة في المقام صحيحة سليمان الجعفري ، قال : سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول : «كان أبي (عليه السلام) يصوم يوم عرفة في اليوم الحار في الموقف ، ويأمر بظلٍّ ، مرتفع فيُضرب له» (٣).

ولكنّها أيضاً حكاية فعل مجمل العنوان ، إذ لم يذكر وجه صومه (عليه السلام) ، ولعلّه كان فرضاً ولو بالنذر ، فإنّ الصوم يوم عرفة وإن كان مرجوحاً لمن يضعف عن الدعاء فيكون هو أهمّ لدى المزاحمة ، ولكنّه (عليه السلام) لم يضعفه ، فلعلّه كان (عليه السلام) ناذراً ، فليست هي إلّا في مقام أنّه (عليه السلام) كان يصوم

__________________

(١) رجال النجاشي : ٤١٣ / ١١٠٢.

(٢) الوسائل ١٠ : ٢٠٣ / أبواب من يصحّ منه الصوم ب ١٢ ح ٥.

(٣) الوسائل ١٠ : ٢٠٣ / أبواب من يصحّ منه الصوم ب ١٢ ح ٣.

٤٧١

إلّا ثلاثة أيّام للحاجة في المدينة (١) ،

______________________________________________________

هذا اليوم وأنّه مشروع ، وأمّا أنّه كان فريضة بالنذر ونحوه أو نافلة فلا دلالة لها على ذلك بوجه ، فلتحمل على النذر ، جمعاً بينها وبين ما تقدّم من المنع عن الصوم في السفر حتّى النافلة.

ولو سُلّم فغايته أن يكون يوم عرفة مستثنى عن هذا الحكم ، فلا تكون الصحيحة دليلاً على الجواز في كلّ يوم على سبيل الإطلاق كما لا يخفى.

فتحصّل : أنّ الأظهر ما ذكره في المتن من عدم الجواز.

(١) بلا خلاف فيه ، لما رواه الشيخ بسندٍ صحيح عن معاوية بن عمّار عن أبي عبد الله (عليه السلام) «قال : إن كان لك مقام بالمدينة ثلاثة أيّام صمت أوّل الأربعاء ، وتصلّي ليلة الأربعاء عند أسطوانة أبي لبابة. وهي أسطوانة التوبة التي كان ربط نفسه إليها حتّى نزل عذره من السماء ، وتقعد عندها يوم الأربعاء ، ثمّ تأتي ليلة الخميس التي تليها ممّا يلي مقام النبيّ (صلّى الله عليه وآله) ليلتك ويومك ، وتصوم يوم الخميس ، ثمّ تأتي الأسطوانة التي تلي مقام النبيّ (صلّى الله عليه وآله) ومصلّاه ليلة الجمعة فتصلّي عندها ليلتك ويومك ، وتصوم يوم الجمعة» إلخ (١).

وقريب منها ما رواه الكليني بسندٍ صحيح عنه (٢) ، وما رواه أيضاً في الصحيح عن الحلبي (٣) ، المؤيّد بالمرسل المروي عن مزار ابن قولويه (٤).

__________________

(١) الوسائل ١٤ : ٣٥٠ / أبواب المزار ب ١١ ح ١.

(٢) الوسائل ١٤ : ٣٥١ / أبواب المزار ب ١١ ح ٤ ، الكافي ٤ : ٥٥٨ / ٥.

(٣) الوسائل ١٤ : ٣٥١ / أبواب المزار ب ١١ ح ٣.

(٤) الوسائل ١٤ : ٣٥٢ / أبواب المزار ب ١١ ح ٥ ، كامل الزيارات : ٢٥.

٤٧٢

والأفضل إتيانها (*) في الأربعاء والخميس والجمعة (١).

وأمّا المسافر الجاهل بالحكم لو صام فيصحّ صومه ويجزئه (٢)

______________________________________________________

(١) بل هو الأحوط بل الأظهر ، فإنّ النصوص كلّها قد وردت في هذه الأيّام الثلاثة بخصوصها ، فالتعدّي إلى غيرها يحتاج إلى إلغاء خصوصيّة المورد ، ولا دليل عليه.

ودعوى القطع بعدم الفرق لا تخلو من المجازفة ، وليست ثمّة رواية مطلقة كي يقال ببقاء المطلق على إطلاقه في باب المستحبّات وحمل المقيّد على أفضل الأفراد.

وعليه فلا موجب لرفع اليد عن مطلقات المنع بعد اختصاص التقييد بموردٍ خاصّ ، فلا مناص من الالتزام بعدم جواز الصيام فيما عدا تلك الأيّام.

(٢) فيختصّ الحكم بالبطلان بالعالم بالحكم كما تقدّم نظيره في الصلاة ، فكما أنّه لو أتمّ الجاهل بالحكم صحّت صلاته ، فكذا لو صام ، فإنّ الإفطار كالقصر ، والصيام كالتمام.

وقد دلّت عليه عدّة أخبار معتبرة :

منها : صحيحة العيص عن أبي عبد الله (عليه السلام) «قال : من صام في السفر بجهالة لم يقضه» (١).

وصحيحة عبد الرّحمن بن أبي عبد الله عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : سألته عن رجل صام شهر رمضان في السفر «فقال : إن كان لم يبلغه أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) نهى عن ذلك فليس عليه القضاء ، وقد أجزأ عنه

__________________

(*) بل الأحوط الاقتصار على ذلك.

(١) الوسائل ١٠ : ١٨٠ / أبواب من يصح منه الصوم ب ٢ ح ٥.

٤٧٣

حسبما عرفته في جاهل حكم الصلاة (١) ، إذ الإفطار كالقصر والصيام كالتمام في الصلاة.

______________________________________________________

الصوم» (١).

وبهذه الأخبار ترفع اليد عن إطلاق ما دلّ على البطلان ، كصحيحة معاوية ابن عمّار ، قال : سمعته يقول : «إذا صام الرجل رمضان في السفر لم يجزئه وعليه الإعادة» (٢) ، فتُحمَل على العالم.

(١) تقدّم في كتاب الصلاة حكم الجاهل إذا صلّى تماماً وكانت النتيجة : أنّه إن كان جاهلاً بأصل الحكم صحّت صلاته حتّى إذا انكشف الخلاف في الوقت فضلاً عن خارجه ، وهل يستحقّ العقاب على ترك التعلّم؟ فيه كلام مذكور في محلّه ، وأمّا إذا كان عالماً بأصل الحكم جاهلاً بالخصوصيّات : فإن كان الانكشاف في الوقت أعاد ، وإن كان في خارجه لحق بالناسي ، فلا يجب عليه القضاء.

هذا في الصلاة.

وأمّا الصوم : فبما أنّه تكليف وحداني مستوعب للوقت فلا تتصوّر في مثله الإعادة.

وإنّما الكلام هنا في القضاء فقط ، وقد عرفت أنّ النصوص المتقدّمة وجملة منها صحاح دلّت على عدم القضاء على من صام في السفر جهلاً ، ومقتضى إطلاقها عدم الفرق بين الجاهل بأصل الحكم والجاهل بالخصوصيّات ، مثل ما لو تخيّل عدم كفاية المسافة التلفيقيّة في التقصير ، أو عدم لزوم تبييت النيّة ونحو

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ١٧٩ / أبواب من يصح منه الصوم ب ٢ ح ٢.

(٢) الوسائل ١٠ : ١٧٩ / أبواب من يصح منه الصوم ب ٢ ح ١.

٤٧٤

لكن يشترط أن يبقى على جهله إلى آخر النهار. وأمّا لو علم بالحكم في الأثناء فلا يصحّ صومه (١).

______________________________________________________

ذلك ، فيصدق أنّه صام بجهالة حسبما ورد في تلك النصوص ، ولا ينافيه ما ورد في البعض الآخر منها من إناطة عدم القضاء بعدم بلوغه نهي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، لوضوح أنّ المراد بلوغ النهي عن شخص هذا الصوم بماله من الخصوصيّات ، لا عن طبيعي الصوم في السفر الذي مرجعه إلى أنّه إن كان مشرِّعاً في صومه فقد عصى وعليه القضاء ، وإلّا فلا قضاء عليه ، ومن المعلوم عدم انطباق ذلك على المقام.

وكيفما كان ، فلا ينبغي التأمّل في أنّ مقتضى إطلاق النصّ والفتوى عدم الفرق في المقام بين الجهل بأصل الحكم أو بخصوصيّاته ، فالاعتبار بنفس العلم والجهل ، فإن صام عن علم بطل ، وإن كان عن جهل بأن اعتقد الصحّة ولو لأجل الجهل بالخصوصيّة صحّ ، وهل يعاقب على ترك التعلم؟ فيه بحث ، وهو كلام آخر كما مرّ.

(١) كما هو الحال في الصلاة أيضاً ، فكما أنّ صحتها تماماً مشروطة باستمرار الجهل إلى نهاية العمل لأنّها واجب واحد ارتباطي فلو التفت في الأثناء فقد أتمّ بعلمٍ لا بجهالة ومثله غير مشمول للنصوص ، فكذلك في الصوم بمناط واحد ، فلو التفت أثناء النهار قبل الزوال أو بعده فليس له أن يتمّ صومه ، إذ لا دليل على جوازه بعد أن كان مأموراً بالإفطار بمقتضى إطلاقات السفر واختصاص نصوص الصحّة بما إذا تحقّق الصيام بتمامه خارجاً عن جهل.

وبالجملة : فالحكم في كلا المقامين مشروط بعدم انكشاف الحال في أثناء العمل.

٤٧٥

وأمّا الناسي ، فلا يلحق بالجاهل في الصحّة (١).

وكذا يصحّ الصوم من المسافر إذا سافر بعد الزوال (٢) ،

______________________________________________________

(١) لاختصاص نصوص الصحّة بالجاهل ، فإلحاق الناسي والحكم فيه بالإجزاء يحتاج إلى الدليل ، وحيث لا دليل فيبقى تحت إطلاقات المنع كما هو الحال في الصلاة. نعم ، لا حاجة فيها إلى القضاء كما تقدّم في محلّه ، بخلاف المقام.

وكيف كان ، فمقتضى إطلاقات الكتاب والسنّة انّ المسافر غير مأمور بالصيام ، بل هو مأمور بالإفطار والقضاء ، فكلّما دلّ الدليل على الصحّة يقتصر عليه ويلتزم بالتخصيص ، وفيما عداه يرجع إلى الإطلاق ، ولم يرد دليل في الناسي.

(٢) فإنّ مقتضى إطلاق الآية المباركة وكذا نصوص الملازمة بين القصر والإفطار وإن كان هو عدم الفرق بين ما قبل الزوال وما بعده كما هو الحال في المريض بلا كلام ، إلّا أنّه قد وردت عدّة روايات دلّت على أنّ الإفطار حكم السفر قبل الزوال ، وأمّا من يسافر بعده فيبقى على صومه.

والروايات الواردة في المقام على طوائف ، كما أنّ الأقوال في المسألة أيضاً كثيرة ، فقد نُسِب إلى جماعة كثيرين من فقهائنا الأعاظم (قدس سرّهم) ما ذكره في المتن من التفصيل بين ما قبل الزوال وما بعده ، فيصحّ الصوم في الثاني دون الأوّل ، من غير فرق فيهما بين تبييت النيّة وعدمه.

وذهب جمع آخرون إلى أنّ العبرة بتبييت النيّة ليلاً من غير فرق بين ما قبل الزوال وما بعده ، فإن بيّت نيّة السفر أفطر ولو خرج بعد الزوال ، وإلّا صام وإن خرج قبله.

وعن الشيخ في المبسوط : أنّه إن خرج بعد الزوال يتمّ صومه مطلقاً ، وإن

٤٧٦

.................................................................................................

______________________________________________________

خرج قبله يفطر بشرط التبييت ، وإلّا فيصوم (١). فخصّ التفصيل بين التبييت وعدمه بما قبل الزوال.

وعن ابن بابويه والسيّد المرتضى (قدس سرّهما) : أنّ المسافر يفطر مطلقاً قبل الزوال وبعده مع التبييت وعدمه (٢).

وهذا القول ضعيف جدّاً وإن كان يعضده إطلاق الآية المباركة ، لمنافاته مع جميع أخبار الباب ، إذ هي على اختلاف ألسنتها كما ستعرف قد دلّت على أنّه يبقى على صومه في الجملة ، غاية الأمر أنّها اختلفت في الخصوصيّات وأنّ ذلك بعد الزوال أو بدون التبييت ونحو ذلك ، فالإفطار المطلق الذي هو ظاهر الآية منافٍ لهاتيك النصوص بأسرها ، فهو غير مراد جزماً.

نعم ، قد دلّت عليه رواية عبد الأعلى مولى آل سام : في الرجل يريد السفر في شهر رمضان «قال : يفطر وإن خرج قبل أن تغيب الشمس بقليل» (٣).

المؤيّدة بمرسلة المقنع ، قال : وروى إن خرج بعد الزوال فليفطر وليقض ذلك اليوم (٤).

أمّا المرسلة فحالها معلوم ، ولعلّها ناظرة إلى نفس هذه الرواية ، وأمّا الرواية فضعيفة السند من جهة عبد الأعلى ، فإنّه لم يوثّق.

نعم ، له مدح ذكره الكشي (٥) ، ولكنّ الراوي له هو نفسه فلا يعوّل عليه.

__________________

(١) المبسوط ١ : ٢٨٤.

(٢) حكاه عن ابن بابويه في المختلف ٣ : ٣٣٥ ، جمل العلم والعمل (رسائل الشريف المرتضى ٣) : ٥٥ ٥٦.

(٣) الوسائل ١٠ : ١٨٨ / أبواب من يصحّ منه الصوم ب ٥ ح ١٤.

(٤) الوسائل ١٠ : ١٨٩ / أبواب من يصح منه الصوم ب ٥ ح ١٥ ، المقنع : ١٩٨.

(٥) رجال الكشي : ٣١٩ / ٥٧٨.

٤٧٧

.................................................................................................

______________________________________________________

على أنّ الرواية مقطوعة ، إذ لم يُنسَب مضمونها إلى الإمام حتّى بنحو الإضمار ، ولعلّها فتوى عبد الأعلى نفسه ، فهي ساقطة جدّاً ، فكيف يرفع اليد بها عن النصوص المستفيضة كما ستعرف؟! فهذا القول ساقط جزماً ، وهناك أقوال أُخر لا يهمّنا ذكرها ، والعمدة ما عرفت من الأقوال الثلاثة ، والعبرة بما يستفاد من الروايات الواردة في المقام ، وهي كما عرفت على طوائف :

فمنها : ما دلّ على أنّ الاعتبار بالزوال ، فإن خرج قبله يفطر ، وإن خرج بعده بقي على صومه ، ومقتضى إطلاقها عدم الفرق في ذلك بين تبييت النيّة وعدمه.

وهذه روايات كثيرة وأكثرها صحاح ، مثل صحيحة الحلبي : عن الرجل يخرج من بيته وهو يريد السفر وهو صائم قال : «فقال : إن خرج من قبل أن ينتصف النهار فليفطر وليقض ذلك اليوم ، وإن خرج بعد الزوال فليتمّ يومه» (١) ، ونحوها صحيحة محمّد بن مسلم (٢) ، ومصحَّح عبيد بن زرارة (٣) وموثقه (٤).

ومنها : ما دلّ على أنّ الاعتبار بتبييت النيّة ، فإنّ بيّت ليلاً أفطر ، وإلّا صام ، ومقتضى إطلاقها أيضاً عدم الفرق بين ما قبل الزوال وما بعده.

وهذه الروايات كلّها ضعاف ما عدا صحيحة رفاعة الآتية ، وموثّقة علي بن يقطين : في الرجل يسافر في شهر رمضان ، أيفطر في منزله؟ «قال : إذا حدّث نفسه في الليل بالسفر أفطر إذا خرج من منزله ، وإن لم يحدّث نفسه من الليلة ثمّ بدا له السفر من يومه أتمّ صومه» (٥).

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ١٨٥ / أبواب من يصح منه الصوم ب ٥ ح ٢ ، ١.

(٢) الوسائل ١٠ : ١٨٥ / أبواب من يصح منه الصوم ب ٥ ح ٢ ، ١.

(٣) الوسائل ١٠ : ١٨٦ / أبواب من يصح منه الصوم ب ٥ ح ٣ ، ٤.

(٤) الوسائل ١٠ : ١٨٦ / أبواب من يصح منه الصوم ب ٥ ح ٣ ، ٤.

(٥) الوسائل ١٠ : ١٨٧ / أبواب من يصح منه الصوم ب ٥ ح ١٠ ، التهذيب ٤ : ٢٢٨ / ٦٦٩ ، الإستبصار ٢ : ٩٨ / ٣١٩.

٤٧٨

.................................................................................................

______________________________________________________

فإنّها وإن كانت مرويّة بطريق الشيخ إلى علي بن الحسن بن فضّال الذي هو ضعيف ، لاشتماله على علي بن محمد بن الزبير القرشي إلّا أنّنا صحّحنا هذا الطريق أخيراً ، نظراً إلى أنّ الشيخ الطوسي يروي كتاب ابن فضّال عن شيخه عبد الواحد أحمد بن عبدون ، وهذا شيخ له وللنجاشي معاً ، وطريق النجاشي إلى الكتاب الذي هو بواسطة هذا الشيخ نفسه صحيح.

ولا يحتمل أنّ الكتاب الذي أعطاه للنجاشي غير الكتاب الذي أعطاه للطوسي ، فإذا كان الشيخ واحداً والكتاب أيضاً واحداً وكان أحد الطريقين صحيحاً فلا جرم كان الطريق الآخر أيضاً صحيحاً بحسب النتيجة ، غايته أنّ لعبد الواحد طرقاً إلى الكتاب نقل بعضها إلى الشيخ والبعض الآخر إلى النجاشي ، وكان بعضها صحيحاً دون الآخر. وقد صرّح النجاشي أنّه لم يذكر جميع طرقه (١).

وكيفما كان ، فهذه الرواية معتبرة ، وما عداها بين مرسل وضعيف وقد وصف في الحدائق رواية صفوان (٢) بالصحّة ، فقال : وصحيحة صفوان عن الرضا (عليه السلام) (٣). مع أنّها مرسلة.

وقد عرضتها على سيّدنا الأُستاذ (دام ظلّه) فلم يجد لها محملاً عدا السهو والغفلة وإنّما العصمة لأهلها ، إمّا منه أو من النسّاخ.

وكيفما كان ، فهاتان الطائفتان متعارضتان ، حيث جعل الاعتبار في أولاها بالزوال سواء بيّت النيّة أم لا بمقتضى الإطلاق ، وفي ثانيتهما بالتبييت كان قبل الزوال أم بعده على ما يقتضيه الإطلاق أيضاً ، فتتعارضان لا محالة في موردين :

__________________

(١) لاحظ رجال النجاشي : ٢٥٧ / ٦٧٦.

(٢) الوسائل ١٠ : ١٨٧ / أبواب من يصح منه الصوم ب ٥ ح ١١.

(٣) الحدائق ١٣ : ٤٠٥.

٤٧٩

.................................................................................................

______________________________________________________

أحدهما : ما لو سافر قبل الزوال ولم يبيّت النيّة ، فإنّ مقتضى الأُولى : الإفطار ، ومقتضى الثانية : الصيام.

ثانيهما : ما لو سافر بعد الزوال وقد بيّت النيّة ، فإنّ مقتضى الاولى : الصيام ، والثانية : الإفطار ، فلا بدّ من رفع اليد عن إحدى الطائفتين بعد أن لم يمكن الجمع بينهما ، وسنتعرّض لذلك.

هذا ، وهناك روايات اخرى قد تضمّنت طائفة منها : أنّ الاعتبار في الإفطار بتحقّق السفر خارجاً قبل الفجر ، فلو سافر بعده يصوم ، سواء كان قبل الزوال أم بعده ، وسواء بيّت النيّة أم لا ، بمقتضى الإطلاق ، ومنها موثقة سماعة : عن الرجل كيف يصنع إذا أراد السفر؟ «قال : إذا طلع الفجر ولم يشخص فعليه صيام ذلك اليوم ، وإن خرج من أهله قبل طلوع الفجر فليفطر ولا صيام عليه» (١).

وطائفة اخرى وهي رواية واحدة تضمّنت التخيير بين الإفطار والصيام لو سافر بعد الفجر ، وهي صحيحة رفاعة : عن الرجل يريد السفر في رمضان «قال : إذا أصبح في بلده ثمّ خرج فإن شاء صام وإن شاء أفطر» (٢).

ولا يخفى أنّ هذه الروايات المتضمّنة للتفرقة بين ما قبل الفجر وما بعده وأنّه لو سافر بعده يصوم إمّا معيّناً أو مخيّراً بينه وبين الإفطار لم يُنسَب القول بمضمونها إلى أحدٍ منّا ، ولا شكّ أنّها منافية لجميع النصوص المتقدّمة المستفيضة ، فهي معارضة لكلتا الطائفتين ، فلا بدّ أمّا من طرحها أو حملها ولو بعيداً على من لم يبيّت النيّة لو بنينا على أنّ العبرة بتبييتها ، وعلى أيٍّ فالخطب فيها هيّن.

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ١٨٧ / أبواب من يصح منه الصوم ب ٥ ح ٨.

(٢) الوسائل ١٠ : ١٨٧ / أبواب من يصح منه الصوم ب ٥ ح ٧.

٤٨٠