موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ مرتضى البروجردي

.................................................................................................

______________________________________________________

والحاصل : أنّه لا بدّ من تحقّق الإعطاء إمّا للمسكين مباشرةً أو لمن يقوم مقامه وكالةً أو ولايةً ، فلو لم يكن المعطى وكيلاً عن زوجته أو عن أولاده الكبار ولا وليّاً على الصغار فليس الدفع إليه دفعاً لهم ، فالبلوغ وإن لم نعتبره في المقام إلّا أنّه يُعتَبر أن يكون الإعطاء للصغير إعطاءً صحيحاً شرعيّاً بأن يعطى لوليّه مثلاً بما هو ولي كما هو الحال في زكاة الفطرة.

هذا ، وقد ظهر لك ممّا تقدّم أنّ الإطعام قد يتحقّق بإعطاء الطعام وأُخرى ببذله ليؤكل من دون أن يملك ، كما في قوله تعالى (أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ) (١) إذ ليس المراد به إعطاء الطعام تمليكاً ، بل رفع الجوع ببذل الطعام ليؤكل ، فالمكلّف مخيّر بين الإعطاء وبين الإطعام الخارجي ، ويظهر من اللغويّين أيضاً صحّة إطلاقه على كلّ منهما ، فهو اسم للأعمّ من التسبيب إلى الأكل ببذل الطعام فيكون المسبّب الباذل هو المطعِم ومن الإعطاء والتمليك ، والواجب هو الجامع بينهما ، ولذلك أُطلق الإطعام في موثّقة سماعة على إعطائه الطعام لكلّ مسكين مدّ ، فإنّه أيضاً إطعامٌ لا أنّه بذل له ، فالإطعام مفهوم جامع بين التسليم وبين البذل ، ولعلّ هذا المعنى الجامع هو المراد من قوله تعالى (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً) إلخ (٢).

وحينئذٍ فإن كان على سبيل الإعطاء فحدّه مدّ لكلّ مسكين ، من غير فرق بين الصغير والكبير والرجل والمرأة ، لإطلاق الأدلّة حسبما مرّ.

وأمّا إذا كان بنحو البذل فلم يُذكَر له حدّ في هذه الأخبار ، فهو ينصرف بطبيعة الحال إلى الإطعام المتعارف الذي حدّه الإشباع وإن اختلفت الكمّيّة الموصلة إلى هذا الحدّ بحسب اختلاف الناس ، فقد يأكل أحد مدّاً ، وآخر أقلّ ،

__________________

(١) قريش ١٠٦ : ٤.

(٢) الإنسان ٧٦ : ٨.

٤٠١

.................................................................................................

______________________________________________________

وثالث أكثر ، ولأجل كون الحدّ الوسط هو المدّ فقد جُعِل الاعتبار في الإعطاء بذلك ، كما أُشير إليه في صحيحة الحلبي (١) ، وإن كان الغالب في زماننا ولعلّه في السابق أيضاً كذلك أنّ الإنسان العادي لا يأكل المدّ بل ولا نصفه.

وكيفما كان ، فلا إشكال في انصراف الإطعام إلى الإشباع كما في قوله تعالى (أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ) ، وقد تقدّم أنّ «طعم» بفتح العين بمعنى شبع.

وعليه ، فالإشباع معتبر في مفهوم الإطعام لو كان مأخوذاً من هذه المادّة ، وهو المناسب لقوله تعالى (إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) (٢) ، إذ من المعلوم أن إطعام الأهل بالإشباع.

ويدلّ عليه ما في صحيحة أبي بصير الواردة في كفّارة اليمين من التصريح بالإشباع ، قال : سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن أوسط ما تطعمون أهليكم؟ «قال : ما تقوتون به عيالكم من أوسط ذلك» قلت : وما أوسط ذلك؟ «فقال : الخلّ والزيت والتمر والخبز ، يشبعهم به مرّةً واحدة» إلخ (٣).

إذ لا يُحتمل اختصاص ذلك بكفّارة اليمين ، لعدم احتمال الفرق بين إطعام عشرة مساكين وبين إطعام الستّين من هذه الجهة بالضرورة ، فإنّه تفسيرٌ للإطعام الذي لا يفرق فيه بين مقام ومقام كما هو ظاهر.

وأمّا الاكتفاء بالإشباع مرّةً واحدة فهو مضافاً إلى التصريح به في هذه الصحيحة مقتضى الإطلاق في سائر الأدلّة ، لصدق المفهوم وانطباق الواجب الملحوظ على نحو صرف الوجود عليها ، فلو دعا ستّين مسكيناً وأطعمهم مرّةً واحدةً يصحّ أن يقال : إنّه أطعم ستّين مسكيناً ، فما لم يكن دليل على اعتبار

__________________

(١) الوسائل ٢٢ : ٣٨١ / أبواب الكفّارات ب ١٤ ح ٣.

(٢) المائدة ٥ : ٨٩.

(٣) الوسائل ٢٢ : ٣٨١ / أبواب الكفّارات ب ١٤ ح ٥.

٤٠٢

.................................................................................................

______________________________________________________

الزيادة على ذلك فمقتضى الإطلاق الاكتفاء بما تصدق عليه الطبيعة.

نعم ، روى العيّاشي في تفسير الآية المباركة الواردة في كفّارة اليمين يشبعهم يوماً واحداً (١) ، ولكنّه مضافاً إلى الإرسال محمولٌ على الأفضليّة ، لصراحة صحيحة أبي بصير المتقدّمة بكفاية المرّة الواحدة كما عرفت.

وهل يُعتبَر في البذل أن يكون من يبذل له كبيراً أو يجزئ الصغير أيضاً كما كان كذلك في الإعطاء؟

لا شكّ أنّ مقتضى الإطلاق الاكتفاء بكلّ ما صدق عليه إطعام المسكين وإن كان صغيراً ، فإنّه أيضاً مسكينٌ أطعمه ، إلّا أنّه ربّما لا يتحقّق هذا الصدق بالإضافة إلى الصغير الذي لا يأكل إلّا قليلاً جدّاً ، كمن كان عمره ثلاث سنين ونحوه ممّن كان في أوان أكله ، فإنّ صدق إطعام المسكين بالنسبة إليه مشكل جدّاً ، بل ممنوع عرفاً ، فلو دعا عشرة رجال وكان معهم ابن ثلاث سنين أو أربع لا يقال : إنّه أطعم أحد عشر شخصاً كما لا يخفى.

أمّا إذا كان الصبي أكبر من ذلك بحيث يقارب طعامه طعام الكبار صدق على إطعامه أنّه إطعام المسكين ، بل قد يأكل المراهق المقارب للبلوغ أكثر ممّا يأكله ابن أربعين سنة ، فالبلوغ غير معتبر هنا جزماً كما هو معتبر في بعض الموارد مثل الطلاق والبيع والنكاح ونحوها ، لعدم دلالة أيّ دليل عليه ، بل العبرة بصدق إطعام المسكين ، فإن صدق كمن كان عمره أربع عشرة سنة كفى وشملة الإطلاق من غير حاجة إلى قيام دليل عليه بالخصوص ، وإن لم يصدق كالصغير جدّاً لم يكف ، مثل : ما لو جمع ستّين مسكيناً صغيراً تتراوح أعمارهم بين الثلاث والأربع سنين فإنّ النصّ من الكتاب والسنّة منصرف عن مثل ذلك قطعاً ، وكذا الحال فيما لو شكّ في الصدق كما لو كان عمره أكثر من ذلك بقليل ،

__________________

(١) الوسائل ٢٢ : ٣٨٢ / أبواب الكفّارات ب ١٤ ح ٨ ، تفسير العيّاشي ١ : ٣٣٧ / ١٧١.

٤٠٣

.................................................................................................

______________________________________________________

فما نُسِب إلى المفيد من عدم كفاية إطعام الصغير (١) صحيحٌ لو أراد هذا الفرض دون الأوّل.

وعلى الجملة : فالحكم دائر مدار الصدق العرفي ، فكلّ ما صدق عليه جزماً إطعام المسكين كفي ، وما لم يصدق أو شكّ في الصدق لا يُجتزأ به.

هذا هو مقتضى القاعدة ، وأمّا بالنظر إلى النصوص الخاصّة فهناك روايات وردت في كفّارة اليمين ، منها : صحيحة يونس المصرّحة بعدم الفرق بين الكبير والصغير (٢) ، ولكنّها ناظرة إلى صورة الإعطاء وأجنبيّة عن محلّ الكلام.

والعمدة روايتان :

إحداهما : موثّقة غياث بن إبراهيم عن أبي عبد الله (عليه السلام) «قال : لا يجزئ إطعام الصغير في كفّارة اليمين ، ولكن صغيرين بكبير» (٣).

والأُخرى : موثّقة السكوني ، عن جعفر ، عن أبيه (عليه السلام) : «أنّ عليّاً (عليه السلام) قال : من أطعم في كفّارة اليمين صغاراً وكباراً فليزوِّد الصغير بقدر ما أكل الكبير» (٤).

هذا والمحقّق في الشرائع فصّل في الصغير بين المنضمّ إلى الكبير وبين المنفرد عنه ، فالأوّل كما في صغار العائلة يُحسَب مستقلا ، وفي الثاني كلّ صغيرين بكبير (٥).

ولا يُعرَف لما ذكره (قدس سره) وجهٌ أصلاً فإنّ صحيحة يونس (٦) الآمرة

__________________

(١) جواهر الكلام ٣٣ : ٢٦٧.

(٢) الوسائل ٢٢ : ٣٨٧ / أبواب الكفّارات ب ١٧ ح ٣ ، ١.

(٣) الوسائل ٢٢ : ٣٨٧ / أبواب الكفّارات ب ١٧ ح ٣ ، ١.

(٤) الوسائل ٢٢ : ٣٨٧ / أبواب الكفّارات ب ١٧ ح ٢.

(٥) الشرائع ٣ : ٧١.

(٦) الوسائل ٢٢ : ٣٨٨ / أبواب الكفّارات ب ١٨ ح ١.

٤٠٤

.................................................................................................

______________________________________________________

بالتتميم ليست في مقام البيان من هذه الجهة ، بل غاية ما تدلّ عليه كفاية احتساب العائلة بما فيها من الصغار في الجملة ، ولم يُعلَم أنّ مورد السؤال هو الإعطاء أو الإطعام ، ولم يرد أيّ دليل يقتضي التفصيل بين الانضمام والانفراد.

بل أنّ موثّقة السكوني المزبورة الآمرة بالتزويد لعلّ شمولها لصورة الانضمام أولى ، لقوله (عليه السلام) : «صغاراً وكباراً» أي هما معاً ، كما ذكره في الجواهر (١) ، فليس هنا دليل على الاجتزاء بالصغير وحده واحتسابه مستقلا.

وأمّا موثّقة غياث فهي مطلقة من حيث الانضمام وعدمه ، بل أنّ حملها على عدم الانضمام كما عن بعض في غاية البعد ، إذ قلّما يتّفق خارجاً أن يجمع أحدٌ الصغارَ فقط فيطعمهم.

إذن فالروايتان وهما معتبرتان ، لأنّ غياثاً وثّقه النجاشي وإن كان بتريّاً (٢) ، والنوفلي الذي يروي عن السكوني مذكور في أسناد كامل الزيارات مطلقتان من حيث الانضمام وعدمه ، ومقتضى الصناعة حينئذٍ الأخذ بهما والحمل على التخيير جمعاً ، فيتخيّر بين احتساب صغيرين بكبير ، وبين تزويد الصغير بقدر ما أكل الكبير ، فلو أكل ثلث ما أكل الكبير يُعطى له الثلثان الباقيان ، إمّا فعلاً أو في مجلس آخر.

وهذا فيما إذا تعدّينا عن مورد الروايتين ، وهو كفّارة اليمين إلى المقام.

وأمّا إذا لم نتعدّ كما هو الأظهر ، إذ لم نعرف له وجهاً أصلاً بعد أن لم يكن هنا إجماع على عدم الفصل بين الكفّارتين من هذه الجهة ، لعدم كون المسألة منقّحة في كلماتهم كما صرّح به في الجواهر (٣) فيُرجع حينئذٍ إلى ما ذكرناه أوّلاً

__________________

(١) الجواهر ٣٣ : ٢٦٨.

(٢) رجال النجاشي : ٣٠٥ / ٨٣٣.

(٣) الجواهر ٣٣ : ٢٦٩.

٤٠٥

[٢٤٩٤] مسألة ٢٥ : يجوز السفر في شهر رمضان لا لعذر وحاجة ، بل ولو كان للفرار من الصوم ، لكنّه مكروه (١).

______________________________________________________

في بيان مقتضى القاعدة من التفصيل بين صدق إطعام المسكين وعدمه ، فيُجتزأ بصغير واحد مع الصدق ، ولا يُجتزأ بجمع من الصغار فضلاً عن الصغيرين بدونه.

(١) المشهور جواز السفر في شهر رمضان من غير حاجة ، ونُسِب الخلاف إلى الحلبي فمنعه إلّا لضرورة (١) ، فهو عنده محرّم يسوّغه الاضطرار.

والكلام يقع تارةً : فيما يستفاد من الآية المباركة ، وأُخرى : بالنظر إلى الروايات الخاصّة الواردة في المقام.

أمّا الأوّل : فقد قال تبارك وتعالى (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. أَيّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ) إلخ (٢).

والمستفاد منها تقسيم المكلّفين إلى أقسام ثلاثة :

قسم يجب عليه الصيام متعيّناً.

وقسم يتعيّن في حقّه القضاء ، وهو المريض والمسافر.

وقسم لا يجب عليه لا هذا ولا ذاك وانّما تجب عليه الفدية فقط ، وهم الذين يطيقونه ، أي من يكون الصوم حرجاً عليه كما هو معنى الإطاقة ، كالشيخ والشيخة.

وبما أنّ موضوع الحكم الثاني هو المريض والمسافر فبمقتضى المقابلة وأنّ التفصيل قاطع للشركة بكون موضوع الحكم الأوّل هو من لم يكن مريضاً ولا

__________________

(١) مستمسك العروة ٨ : ٣٨٠.

(٢) البقرة ٢ : ١٨٣ ١٨٤.

٤٠٦

.................................................................................................

______________________________________________________

مسافراً ، فيكون المكلّف بالصيام هو الصحيح الحاضر ، فقد أُخذ في موضوع الحكم أن لا يكون المكلّف مسافراً فيكون الوجوب مشروطاً به بطبيعة الحال ، لأنّ الموضوع كما ذكرناه في الواجب المشروط هو ما كان مفروض الوجود عند تعلّق الحكم ، سواء أكان غير اختياري كدلوك الشمس بالإضافة إلى وجوب الصلاة ، أم كان اختياريّاً كالسفر والحضر والاستطاعة ونحوها ، فمعنى قولنا : المستطيع يحجّ : أنّه على تقدير تحقّق الاستطاعة وعند فرض وجودها يجب الحجّ ، فلا يجب التصدّي لتحصيله ، لعدم وجوب تحصيل شرط الوجوب.

وعليه ، فيجوز للحاضر السفر ولا يجب على المسافر الحضر ، لعدم وجوب تحصيل شرط التكليف لا حدوثاً ولا بقاءً ، فلو كنّا نحن والآية المباركة لقلنا بجواز السفر في شهر رمضان ولو لغير حاجة لأنّ الواجب مشروط ولا يجب تحصيل الشرط كما عرفت.

وأمّا بالنظر إلى الروايات الخاصّة الواردة في المقام فقد دلّت روايتان معتبرتان على جواز السفر ولو من غير حاجة على ما هو صريح إحداهما وظاهر الأُخرى.

فالأُولى : صحيحة الحلبي : عن الرجل يدخل شهر رمضان وهو مقيم لا يريد براحاً ، ثمّ يبدو له بعد ما يدخل شهر رمضان أن يسافر ، فسكت ، فسألته غير مرّة «فقال : يقيم أفضل إلّا أن تكون له حاجة لا بدّ له من الخروج فيها أو يتخوّف على ماله» (١).

وهي كما ترى صريحة في جواز السفر من غير حاجة مع أفضليّة الإقامة ، لدرك فضل الصيام في شهر رمضان الذي هو من أهمّ أركان الإسلام ، وقد تضمّن بعض الأدعية المأثورة طلب التوفيق لذلك بدفع الموانع من فرض أو

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ١٨١ / أبواب من يصح منه الصوم ب ٣ ح ١.

٤٠٧

.................................................................................................

______________________________________________________

سفر ، إلّا مع الحاجة فلا أفضليّة حينئذٍ للإقامة.

والثانية : صحيحة محمّد بن مسلم : عن الرجل يعرض له السفر في شهر رمضان وهو مقيم وقد مضى منه أيّام : «فقال : لا بأس بأن يسافر ويفطر ولا يصوم» (١).

وهذه ليست في الدلالة كالسابقة ، فإنّها انّما تدلّ بالإطلاق على جواز السفر ولو من غير حاجة ، فهي قابلة للحمل على فرض الحاجة كما قد لا يأباه التعبير ب : «يعرض» ، فليست صريحة في السفر الاختياري كما في صحيحة الحلبي.

وبإزاء هاتين الصحيحتين عدّة روايات ، منها : رواية أبي بصير ، قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الخروج إذا دخل شهر رمضان «فقال : لا ، إلّا فيما أُخبرك به : خروج إلى مكّة ، أو غزو في سبيل الله ، أو مال تخاف هلاكه ، أو أخ تخاف هلاكه» (٢).

وقد عُبِّر عنها بالصحيحة ولكنّها ضعيفة السند جدّاً ، فإنّ في السند علي بن أبي حمزة البطائني ، وكان واقفياً كذّاباً متّهماً ، بل كان أحد عمد الواقفة وكان يكذب على الإمام في بقاء موسى بن جعفر (عليه السلام) وأنّه لم يمت ، طمعاً فيما بيده من أمواله (عليه السلام) ، وقد ضعّفه الشيخ الطوسي في كتاب الغيبة صريحاً (٣) ، وروى في حقّه روايات ذامّة ، منها : قول الإمام (عليه السلام) له : «انّك لا تفلح».

فالرواية ساقطة عن درجة الاعتبار ، لا تصلح للاستدلال بوجه.

ومنها : ما رواه في الخصال في حديث الأربعمائة قال : «ليس للعبد أن يخرج

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ١٨١ / أبواب من يصح منه الصوم ب ٣ ح ٢.

(٢) الوسائل ١٠ : ١٨١ / أبواب من يصح منه الصوم ب ٣ ح ٣.

(٣) كتاب الغيبة : ٥٥.

٤٠٨

.................................................................................................

______________________________________________________

إلى سفر إذا دخل شهر رمضان ، لقول الله عزّ وجلّ (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) (١).

وهذه الراوية وإن كانت ضعيفة عند القوم إلّا أنّها معتبرة عندنا ، إذ ليس في السند من يُغمَز فيه إلّا الحسن بن راشد جدّ القاسم بن يحيى ، ولكنّه لا بأس به ، فان هذا الاسم مشترك بين أشخاص ثلاثة : أحدهم الطفاوي وهو ضعيف ، والآخر من أصحاب الجواد وهو ثقة ، والثالث هو جدّ القاسم بن يحيى الواقع في هذا السند ، ولم يرد في حقّه توثيقٌ في كتب الرجال ، ولكنّه مذكور في أسناد كامل الزيارات بنفس العنوان المذكور في سند هذه الرواية ، أي القاسم بن يحيى ، عن جدّه الحسن بن راشد.

وعليه ، فالرواية معتبرة على المختار وواضحة الدلالة على المنع ، لكنّها محمولة على الكراهة ، جمعاً بينها وبين صحيحة الحلبي المتقدّمة المصرّحة بالجواز مع أفضليّة البقاء ، بل قد يقال : إنّه لا يكون أفضل فيما إذا كان السفر لزيارة الحسين (عليه السلام) ، كما قد يُستظهَر ذلك من رواية أبي بصير : يدخل عليّ شهر رمضان فأصوم بعضه فتحضرني نيّة زيارة قبر أبي عبد الله (عليه السلام) ، فأزوره وأفطر ذاهباً وجائياً أو أُقيم حتّى أفطر وأزوره بعد ما أفطر بيوم أو يومين؟ فقال له : «أقم حتّى تُفطر» فقلت له : جُعلتُ فداك : فهو أفضل؟ «قال : نعم ، أما تقرأ في كتاب الله (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ)» (٢).

بناءً على أنّ السؤال ناظر إلى أنّه هل يخفّف الزيارة فيقتصر على الأقلّ الممكن بأن يذهب صباحاً ويزور ويرجع مساءً مثلاً أو أنّه يقيم هناك يوماً

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ١٨٢ / أبواب من يصح منه الصوم ب ٣ ح ٤ ، الخصال : ٦١٤. والآية في البقرة ٢ : ١٨٥.

(٢) الوسائل ١٠ : ١٨٣ / أبواب من يصح منه الصوم ب ٣ ح ٧.

٤٠٩

.................................................................................................

______________________________________________________

أو يومين؟ فأجاب (عليه السلام) بأنّ الإقامة أفضل وأنّه لا بأس بفوات الصيام عنه ، لأنّه مكتوب على من شهد الشهر ، أي كان حاضراً في بلده ، وهذا ليس كذلك ، وعليه فيُعدّ هذا من خصائص زيارة الحسين (عليه السلام).

ولكنّ الأمر ليس كذلك ، بل السؤال ناظر إلى أنّه هل يخرج إلى زيارته (عليه السلام) ويفطر في ذهابه وإيابه بطبيعة الحال أو أنّه يقيم في وطنه ولا يخرج حتّى يفطر ، أي يكمل صيامه لشهر رمضان ويفطر بحلول عيد الفطر ، ويؤجّل الزيارة بعد ما أفطر من شوال بيوم أو يومين ، فأجاب (عليه السلام) بأنّه يقيم ، وأنّ هذا أي الإقامة في البلد واختيار الصيام على الخروج للزيارة أفضل لقوله تعالى (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ).

وبالجملة : فالرواية دالّة على خلاف ما ذُكِر ، ومضمونها مطابق لبقيّة الروايات الدالّة على أنّ الأفضل ترك السفر من غير ضرورة ، غير أنّها ضعيفة السند بالحسن بن جميلة أو جبلة ، فإنّه مجهول ، ولو لا ضعفها لكانت مؤكِّدة لتلك النصوص.

ومنها : رواية الحسين بن المختار عن أبي عبد الله (عليه السلام) : «قال : لا تخرج في رمضان إلّا للحجّ أو العمرة ، أو مال تخاف عليه الفوت ، أو لزرع يحين حيث صاده» (١).

وهي ضعيفة السند بعلي ابن السندي ، فإنّه لم يوثّق إلّا من قبل نصر بن صباح ، ولكنّه بنفسه غير موثّق فلا أثر لتوثيقه.

نعم ، قيل : هو علي بن إسماعيل الثقة. وليس كذلك ، لاختلاف الطبقة حسبما فصّلنا القول حوله في المعجم (٢) ، ولم يتعرّض له الشيخ والنجاشي مع كثرة رواياته ،

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ١٨٣ / أبواب من يصح منه الصوم ب ٣ ح ٨.

(٢) معجم رجال الحديث ١٣ : ٥٠ / ٨١٩٥.

٤١٠

[٢٤٩٥] مسألة ٢٦ : المدّ ربع الصاع ، وهو ستمائة مثقال وأربعة عشر مثقالاً وربع مثقال (١) ، وعلى هذا فالمدّ مائة وخمسون مثقالاً وثلاثة مثاقيل

______________________________________________________

ولا يخلو ذلك من الغرابة.

وكيفما كان ، فالصحيح على ما يقتضيه الجمع بين النصوص هو جواز السفر على كراهة ، بل مقتضى الإطلاق ولا سيّما في صحيحة الحلبي هو الجواز وإن كان لغاية الفرار عن الصيام كما ذكره في المتن.

ثمّ أنّ السيّد الماتن (قدس سره) كرّر هذه المسألة في فصل شرائط وجوب الصوم الآتي (١) غير أنّه قيّد الكراهة هناك بما قبل مضيّ ثلاثة وعشرين يوماً من شهر رمضان ، فلا كراهة بعد ذلك ، وكأنّ الأيام الباقية في الأهمّيّة دون الماضية.

ولم يُعرَف له أيّ وجه ما عدا رواية واحدة ضعيفة السند جدّاً ، للإرسال ولسهل بن زياد ، وهي الرواية السادسة من روايات الباب الثالث من أبواب من يصحّ منه الصوم من الوسائل ، فلا موجب لرفع اليد بها عن إطلاقات النصوص المتضمّنة لأفضليّة البقاء أو كراهة الخروج ، ولا سيّما مع التعليل فيها بقوله تعالى (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) إلخ ، المقتضي لعدم الفرق بين ما قبل الثالث والعشرين وما بعده ، فالأظهر ثبوت الكراهة مطلقاً.

(١) بلا خلاف فيه ولا إشكال كما تعرّضنا له في مبحث الكرّ وقلنا : أنّه بحسب الوزن ألف ومائتا رطل عراقي ، وأنّ كل رطل منه مائة وثلاثون درهماً ، وكلّ عشرة دراهم خمسة مثاقيل وربع بالمثقال الصيرفي ، فالرطل ثمانية وستّون مثقالاً وربع المثقال ، فإذا ضُرِب هذا في تسعة لكون الصاع تسعة أرطال

__________________

(١) شرح العروة ٢٢ : ٣١.

٤١١

ونصف مثقال وربع ربع المثقال ، وإذا أعطى ثلاثة أرباع الوقيّة من حُقّة النجف فقد زاد أزيد من واحد وعشرين مثقالاً ، إذ ثلاثة أرباع الوقيّة مائة وخمسة وسبعون مثقالاً.

______________________________________________________

عراقيّة يكون المجموع ستمائة وأربعة عشر مثقالاً وربع المثقال وزن الصاع بالمثقال الصيرفي ، والمدّ ربعه كما صُرّح به في جملة من الأخبار التي منها ما تقدّم في نصوص الكفّارة.

وعليه ، فالواجب ربع هذا المقدار ، وهو مائة وخمسون مثقالاً وثلاثة مثاقيل ونصف مثقال وربع ربع المثقال ، كما أثبته في المتن ، المساوي لثلاثة أرباع الكيلو تقريباً.

٤١٢

فصل

في موارد وجوب القضاء دون الكفّارة

يجب القضاء دون الكفّارة في موارد :

أحدها : ما مرّ من النوم الثاني (*) (١) ، بل الثالث ، وإن كان الأحوط فيهما الكفّارة أيضاً خصوصاً الثالث.

الثاني : إذا أبطل صومه بالإخلال بالنيّة مع عدم الإتيان بشي‌ء من المفطرات (٢) ، أو بالرياء ، أو بنيّة القطع ، أو القاطع كذلك.

______________________________________________________

(١) كما تقدّم الكلام حوله مستقصًى (١).

(٢) فإنّ الصوم والإفطار متقابلان ومن الضدين اللذين لا ثالث لهما كما تقدّم ، لأنّ المكلّف إمّا أن يرتكب شيئاً ممّا اعتُبِر الإمساك عنه ، أو لا ، والأول مفطر والثاني صائم ، وحيث إنّ المفروض عدم الارتكاب فليس بمفطر فلا تجب الكفّارة ، بل هو صائم غاية الأمر أنّ الصوم قد يكون صحيحاً وأُخرى باطلاً لأجل الإخلال بما اعتُبِر فيه من النيّة ، كما لو ينو الصوم أصلاً ، أو نواه ولكن لا لداعٍ قربي بل لغاية اخرى ، إمّا مباح كإصلاح مزاجه ومعالجة نفسه بالإمساك ، أو محرّم كالرياء ، ففي جميع ذلك يفسد الصوم ، إمّا لفقد النيّة ، أو لفقد القربة ،

__________________

(*) وقد تقدّم التفصيل فيه [في المسألة ٢٤٣٩].

(١) في ص ٢٢٦ ٢٣٠.

٤١٣

الثالث : إذا نسي غسل الجنابة ومضى عليه يوم أو أيّام كما مرّ (١).

الرابع : مَن فَعَلَ المفطر قبل مراعاة الفجر ثمّ ظهر سبق طلوعه وأنّه كان في النهار (٢) ،

______________________________________________________

فإنّه عبادة لا بدّ فيها من قصد المأمور به بداعٍ قربي ، ولأجل ذلك يجب عليه القضاء دون الكفّارة ، لفرض عدم استعمال المفطر الذي هو الموضوع لوجوبها.

وممّا ذكرنا يظهر الحال في البقاء ، فلو قصد الصوم متقرّباً وفي الأثناء قصد الإفطار أو ما يتحقّق به الإفطار أي نوع القطع أو القاطع حُكِم ببطلان صومه بقاءً ، فيجب القضاء دون الكفّارة ، وقد مرّ التعرّض لذلك في مبحث النيّة (١).

(١) فيجب القضاء بمقتضى الروايات المتقدّمة ، وكأنّه للعقوبة ، كما في نسيان النجاسة في الصلاة المحكوم معه بوجوب الإعادة دون الكفّارة ، لعدم العمد ، وقد تقدّم الكلام حول ذلك كلّه مستقصًى (٢).

(٢) لا إشكال في جواز فعل المفطر حينئذٍ تكليفاً إذا كان معتقداً عدم دخول الفجر أو شاكّاً وقد اعتمد على الاستصحاب.

إنّما الكلام في الحكم الوضعي وأنّه هل يجب عليه القضاء حينئذٍ أو لا؟

يقع الكلام تارةً : فيما تقتضيه القاعدة ، وأُخرى : بالنظر إلى النصوص الخاصّة الواردة في المقام.

أمّا الأوّل : فقد يقال : إنّ الأصل يقتضي عدم القضاء ، لأنّه ارتكب ما ارتكب على وجهٍ محلّل وبترخيصٍ من الشارع ، وما هذا شأنه لا يستدعي القضاء ما لم

__________________

(١) في ص ٨٤.

(٢) في ص ٢١١.

٤١٤

.................................................................................................

______________________________________________________

يدلّ عليه دليل بالخصوص ، ولا دليل عليه في المقام.

ولكنّ الظاهر أنّ مقتضى الأصل هو القضاء ، لأنّه تابع لفوت الفريضة في وقتها ، وقد فاتت في المقام حسب الفرض ، لأنّ حقيقة الصوم هو الإمساك عن المفطرات في مجموع الوقت ، أي فيما بين الحدّين من المبدإ إلى المنتهي ، ولم يتحقّق هذا في المقام ، إذ لم يجتنب عن بعضها في بعضه فقد فوّت الواجب على نفسه ، غاية الأمر أنّه كان معذوراً في هذا التفويت من جهة استناده فيه إلى حجّة ، ومثله لا يستتبع إلّا رفع الحكم التكليفي دون الوضعي أعني : القضاء لما عرفت من أنّه تابع لعنوان الفوت ، وقد تحقّق بالوجدان من غير فرق بين كونه على وجه محلّل أو محرّم.

وعليه ، ففي كلّ مورد دلّ الدليل على الاجتزاء وعدم الحاجة إلى القضاء فهو وكان على خلاف مقتضى القاعدة فيقتصر على مورده تعبّداً وإلّا كان مقتضى الأصل هو القضاء ، وليكن هذا أي كون مقتضى الأصل هو القضاء على ذِكرٍ منك لتنتفع به في جملة من الفروع الآتية.

هذا ما تقتضيه القاعدة.

وأمّا بالنظر إلى الروايات : فقد روى الحلبي والرواية صحيحة عن أبي عبد الله (عليه السلام) : أنّه سُئل عن رجل تسحّر ثمّ خرج من بيته وقد طلع الفجر وتبيّن «قال : يتمّ صومه ذلك ثمّ ليقضه» (١).

وقد تضمّنت القضاء مطلقاً ، أي من غير فرق بين مراعاة الفجر وعدمها.

ولكن موثّقة سماعة فصّلت بين الأمرين ، قال : سألته عن رجل أكل أو شرب بعد ما طلع الفجر في شهر رمضان «قال : إن كان قام فنظر فلم يرَ الفجر فأكل ثمّ عاد فرأى الفجر فليتمّ صومه ولا إعادة عليه ، وإن كان قام فأكل

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ١١٥ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٤٤ ح ١.

٤١٥

سواء كان قادراً على المراعاة أو عاجزاً عنها لعمى أو حبس أو نحو ذلك (١)

______________________________________________________

وشرب ثمّ نظر إلى الفجر فرأى أنّه قد طلع الفجر فليتمّ صومه ويقضي يوماً آخر ، لأنّه بدأ بالأكل قبل النظر فعليه الإعادة» (١).

فتكون الموثّقة مقيّدة لإطلاق الصحيحة المطابق لمقتضى القاعدة ، فيلتزم باختصاص القضاء بمن لم يراع الفجر ولم يفحص عنه ، أمّا من نظر وفحص ولم يرَ فأكل ثمّ تبيّن الخلاف فلا قضاء عليه ، أخذاً بالموثّقة ، وبذلك يخرج عن إطلاق الصحيحة وعن مقتضى القاعدة.

والظاهر أنّ الحكم في الجملة ممّا تسالم عليه الأصحاب ، وإنّما الإشكال في جهات :

(١) الاولى : هل يختصّ الحكم بالقادر على الفحص ، أو يعمّ العاجز عنه ، فيجب القضاء على تارك النظر وإن كان مستنداً إلى عدم التمكّن منه إمّا لعمى أو حبس أو لوجود مانع من غيم أو جبل أو نحو ذلك؟

قد يقال بالاختصاص فلا يجب القضاء على العاجز ، لانصراف النصّ إلى المتمكن من النظر.

ويندفع : بأنّ القضاء هو المطابق لمقتضى الأصل كما عرفت. وعليه ، فلو سلّمنا الانصراف كما لا يبعد دعواه بالنسبة إلى الموثّقة ، بل أنّ موردها المتمكّن كما لا يخفى فغايته عدم التعرّض لحكم العاجز ، فهي ساكتة عن بيان حكمه ، لا أنّها تدلّ على عدم وجوب القضاء بالنسبة إليه ، فيرجع فيه إلى ما تقتضيه القاعدة.

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ١١٥ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٤٤ ح ٣.

٤١٦

أو كان غير عارف بالفجر. وكذا مع المراعاة وعدم اعتقاد بقاء الليل بأن شكّ في الطلوع أو ظنّ فأكل ثمّ تبيّن سبقه ، بل الأحوط القضاء حتّى مع اعتقاد بقاء اللّيل (١) (١).

______________________________________________________

على أنّ إطلاق صحيحة الحلبي غير قاصر الشمول لذلك ، فإنّها تعمّ القادر والعاجز الناظر وغير الناظر ، خرج عنها بمقتضى الموثّقة القادر الناظر فيبقى غيره مشمولاً للإطلاق ، فمفادها مطابق لمقتضى القاعدة حسبما عرفت. فالصحيح إلحاق العاجز بالقادر.

(١) الجهة الثانية : الناظر إلى الفجر لا يخلو أمره من أحد أقسام : فإمّا أن يتيقّن بالفجر ، أو يعتقد العدم ولو اطمئناناً ، أو يبقى شاكاً كما في الليلة المقمرة أو من جهة وجود الأنوار الكهربائية ونحو ذلك.

أمّا الأوّل : فحكمه ظاهر.

وأمّا الثاني : فهو القدر المتيقّن من مورد موثّقة سماعة الحاكمة بعدم الإعادة ، وقد تسالم عليه الفقهاء كما مرّ ، ولا وجه للمناقشة فيه ، غير أنّ عبارة المتن تفيد الاحتياط بالقضاء حتّى في هذه الصورة ، ولا نعرف له وجهاً صحيحاً بعد التسالم على نفي القضاء وصراحة موثّقة سماعة المتقدّمة في عدم الإعادة ، بل وكذا صحيحة معاوية بن عمّار ، قال : قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) : آمر الجارية تنظر الفجر فتقول : لم يطلع بعد ، فآكل ثمّ أنظر فأجد قد كان طلع حين نظرت «قال : اقضه ، أما أنّك لو كنت أنت الذي نظرت لم يكن عليك شي‌ء» (٢).

اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ مراده (قدس سره) بذلك ما لو اعتقد بقاء الليل من

__________________

(١) هذا إذا لم يراع الفجر ، وإلّا لم يكن عليه قضاء.

(٢) الوسائل ١٠ : ١١٨ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٤٦ ح ١.

٤١٧

.................................................................................................

______________________________________________________

سبب آخر غير النظر إلى الفجر ، كالنظر إلى الساعة ونحو ذلك ، ولا بدّ من حمل كلامه (قدس سره) على ذلك ، لجلالته وعلوّ مقامه.

وحينئذٍ فيحتمل القول بعدم وجوب القضاء ، نظراً إلى أنّ النظر المذكور في الموثّق طريقٌ إلى حصول الاعتقاد ولا موضوعيّة له ، فإذا حصل الاعتقاد من طريق آخر كفى ذلك في عدم الوجوب ، ولكنّه ضعيف ، فإنّ الجمود على إطلاق الصحيح وظاهر الموثّق يقتضي التحفّظ على موضوعيّة النظر.

وبعبارة اخرى : مقتضى القاعدة وإطلاق صحيح الحلبي أنّ كلّ من أكل أو شرب بعد طلوع الفجر يحكم بفساد صومه وعليه الإتمام والقضاء ، خرجنا عن ذلك بمقتضى موثّقة سماعة وصحيحة معاوية في خصوص الناظر إلى الفجر بنفسه ، وأمّا إلحاق غيره به وهو مطلق المعتقد من أيّ سبب كان فيحتاج إلى دليل ، وحيث لا دليل عليه فيبقى تحت الإطلاق.

فما ذكره (قدس سره) من الاحتياط بالقضاء مع اعتقاد بقاء الليل وجيهٌ فيما إذا لم يراع الفجر ، بل هو الأظهر ، وأمّا مع المراعاة فلا قضاء عليه حسبما عرفت.

وأمّا الثالث أعني : صورة الشكّ ـ : فقد حكم في المتن بوجوب القضاء ، وهو الصحيح ، لخروجه عن منصرف الموثّق ، فإنّ الظاهر من قوله (عليه السلام) : «نظر فلم يرَ» والمفروض أنّه لم يكن ثمّة مانع من النظر من غيم ونحوه هو حصول الاطمئنان ببقاء الليل ، لا أنّ حاله بعد النظر كحاله قبله كي يبقى على ما كان عليه من الشكّ ، فإنّ ظاهر التفريع في قوله : «فلم يرَ» أنّ عدم الرؤية مترتّب على النظر ومتفرّع عليه ، فلا يراد به الشكّ الذي كان حاصلاً من ذي قبل ، لعدم ترتّبه عليه.

وعلى الجملة : الظاهر من الموثّق بحسب الفهم العرفي حصول الاعتقاد ولا أقلّ من الاطمئنان بعدم دخول الفجر ، من أجل أنّه لو كان لبان ، وأنّ عدم

٤١٨

ولا فرق في بطلان الصوم بذلك بين صوم رمضان وغيره من الصوم الواجب والمندوب (١) ، بل الأقوى فيها ذلك حتّى مع المراعاة واعتقاد بقاء الليل.

______________________________________________________

الدليل دليل العدم كما هو المتعارف عادةً فيمن فحص ونظر ولم يكن مانع في البين كما هو المفروض في المقام ، إذ مع فرض وجود المانع فما فائدة النظر المعلّق عليه الحكم؟! فهذا النظر مثل التبيّن في قوله تعالى (حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ) إلخ (١) ، أي بمرتبةٍ قابلة للنظر ، فإذا نظر ولم يتبيّن أي لم يرَ لم تكن الغاية حاصلة ، لكشفه عن عدم طلوع الفجر ، فلا أثر للنظر بما هو نظر ، بل الموضوع في سقوط القضاء : النظر الذي يترتّب عليه الاطمئنان بالعدم. إذن فالتعدّي من مورد الاطمئنان إلى مورد الشكّ يحتاج إلى دليل ولا دليل عليه ، ولا أقل من أنّه يشكّ في أنّ مورد الشكّ داخل تحت الموثّق أو لا ، ومعه يبقى مشمولاً لمقتضى القاعدة ولإطلاق صحيح الحلبي ، لعدم نهوض دليل على الخروج ، ونتيجته الحكم بالقضاء كما ذكره في المتن.

(١) الجهة الثالثة : هل يختصّ الحكم بشهر رمضان ، أو يعمّ غيره من أقسام الصيام ، أو يفصل بين الواجب المعيّن وبين غيره من الموسّع والمستحبّ ، فيلحق الأوّل خاصّة بصوم رمضان ، أو يفصّل في الواجب المعيّن بين ما لا قضاء له كصوم الاستئجار ، وبين ماله القضاء؟

وجوهٌ نُسِب إلى بعضهم الإلحاق على الإطلاق ، فيحكم بالصحّة مع المراعاة ، استناداً إلى أصالة عدم البطلان بالإفطار الحاصل حال الجهل.

وقد ظهر ضعفه ممّا مرّ ، لوضوح أنّ الصوم الشرعي عبارة عن الإمساك

__________________

(١) البقرة ٢ : ١٨٧.

٤١٩

.................................................................................................

______________________________________________________

المحدود بما بين الحدّين ولم يتحقّق بالوجدان فلم يحصل المأمور به ، وإجزاء الناقص عن الكامل يحتاج إلى دليل ولا دليل.

نعم ، لا كفّارة عليه ، لأنّها مترتّبة على العمد ، ولا عمد مع الاعتماد في بقاء الليل على الاستصحاب أو إخبار الثقة ونحو ذلك.

وعلى الجملة : مقتضى القاعدة بعد فرض عدم حصول المأمور به هو البطلان ، ولم يدلّ دليل على الاكتفاء بالناقص بدلاً عن الكامل إلّا في شهر رمضان ، ولا دليل على إلحاق غيره به.

نعم ، قد يقال بالإجزاء في خصوص المعيّن ، فإذا راعى الفجر واعتقد بقاء الليل لم يكن عليه قضاء ، ويُستدلّ له بصحيحة معاوية بن عمّار المتقدّمة (١) ، حيث دلّت على أنّ الناظر لو كان هو الصائم صحّ صومه ولا قضاء عليه كما في نسخة الكافي التي هي أضبط من الفقيه المتضمّن لقوله : «لم يكن عليك شي‌ء» وإن لم يكن فرق بينهما بحسب النتيجة ، إلّا أنّه بناءً على نسخة الكافي فالأمر واضح.

وكيفما كان ، فقد دلّت على الصحّة حينئذٍ ، ومقتضى الإطلاق عدم الفرق بين كون الصوم من رمضان أو من غيره المعيّن.

وفيه : أنّه لو سُلِّم دلالة الصحيحة على الإطلاق فهي مختصّة بالصوم الواجب الذي ثبت فيه القضاء دون ما لا قضاء له وإن كان معيّناً ، كما في الصوم الاستئجاري في يوم معيّن.

فهذه الصحيحة لو تمت دلالتها اختصّت بصوم في قضاء من رمضان أو غيره ، وأمّا ما لا قضاء له كالمندوب أو غير المعيّن أو المعيّن الذي لا قضاء له مثل ما

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ١١٨ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٤٦ ح ١ ، الكافي ٤ : ٩٧ / ٣ ، الفقيه ٢ : ٨٣ / ٣٦٨.

٤٢٠