موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ مرتضى البروجردي

ولو عجز أتى بالممكن منهما (١) ، وإن لم يقدر على شي‌ء منهما استغفر الله ولو مرّةً بدلاً عن الكفّارة.

______________________________________________________

بالظهر في دليل وبالجمعة في دليل آخر ، فإنّه حيث يعلم من الخارج أنّه لم تجب في يوم واحد إلّا صلاة واحدة لم يحتمل الجمع بين الأمرين ، فكذلك يجمع بين الدليلين برفع اليد عن ظهور كلّ منهما في الوجوب التعييني بصراحة الآخر في جواز الإتيان بالآخر فيحمل على الوجوب التخييري. وهذا النوع من الجمع ممّا يساعده الفهم العرفي في مثل هذا المورد.

وأمّا فيما لم تحرز وحدة المطلوب واحتملنا تعدّده وجداناً كما في المقام ، حيث إنّ من الجائز أن يكون البدل المجعول في ظرف العجز عن الكفّارة شيئين : الصيام ثمانية عشر يوماً ، والتصدّق بما يطيق ، فمقتضى الجمع العرفي بين الدليلين حينئذٍ هو الالتزام بكلا الأمرين معاً لا أحدهما مخيّراً كما لا يخفى ، ولأجله التزمنا بوجوب ضمّ الاستغفار إلى التصدّق بما يطيق ، لورود الأمر به في صحيحة علي ابن جعفر ، حيث تضمّنت بعد الأمر بالترتيب في كفّارة شهر رمضان المحمول على الاستحباب كما تقدّم سابقاً قوله (عليه السلام) : «فإن لم يجد فليستغفر الله» (١).

فإنّ مقتضى الجمع العرفي بين هذه الصحيحة وبين صحيحتي ابن سنان المتقدّمتين المتضمّنتين للتصدّق بما يطيق هو الجمع بين الأمرين وضمّ أحدهما إلى الآخر ، وهذا هو الأقوى.

(١) في العبارة مسامحة ظاهرة ، إذ لا معنى للإتيان بالممكن من الصدقة لدى العجز عن التصدّق بما يطيق ، ويريد بذلك والله العالم أنّه لدى العجز أتى

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ٤٨ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٨ ح ٩.

٣٨١

.................................................................................................

______________________________________________________

بالممكن منهما ، أي من مجموع الأمرين : من الصوم ثمانية عشر يوماً ، ومن التصدّق بما يطيق ، والممكن من هذا المجموع هو الصوم دون هذا العدد بمقدار ما يتيسّر ولو يوماً واحداً. فقوله (قدس سره) : منهما ، أي من المجموع لا من الجميع وكلّ واحد من الأمرين ليتوجّه الإشكال المزبور.

نعم ، العبارة قاصرة عن إفادة ذلك ، ولأجله قلنا : إنّ فيها مسامحة ظاهرة.

وأمّا توجيهها بأنّ المراد من التصدّق بما يطيق التصدّق على الستّين بأقلّ من المدّ فيكون البدل حال العجز عن ذلك هو الإتيان بما يمكنه من هذا العدد.

فبعيدٌ غايته ، ولا تتحمّله العبارة بوجه ، كما لا يساعده الدليل.

وكيفما كان ، فلم يُعرَف مستند لما ذكره (قدس سره) من الإتيان بالممكن منهما إلّا قاعدة الميسور التي هي غير تامّة في نفسها ، كما تعرّضنا له في محلّه ، فمقتضى القاعدة حينئذٍ بناءً ما اختاره من الوجوب التخييري سقوط التكليف رأساً لمكان العجز.

وأمّا ما ذكره (قدس سره) من الانتقال إلى الاستغفار لدى العجز عن البدل فهو أيضاً لا يمكن المساعدة عليه ، إذ لم يجعل هو بدلاً عن البدل في شي‌ء من النصوص ، وإنّما جعل بدلاً عن نفس الكفّارة في صحيحة ابن جعفر المتقدّمة ، فهو في عرض التصدّق بما يطيق ، وكلاهما بدل عن الكفّارة لدى العجز عنها ، ولذا قلنا بوجوب الجمع بينهما ، لا أنّه في طول التصدّق ليكون بدلاً عنه كما ذكره في المتن.

وكيفما كان ، فلا ينبغي الإشكال في كفاية الاستغفار مرّةً واحدة ، عملاً بإطلاق الصحيحة.

٣٨٢

وإن تمكّن بعد ذلك منها أتى بها (*) (١).

______________________________________________________

(١) لو عجز عن الكفّارة فانتقل إلى البدل وهو الصوم ثمانية عشر يوماً ، أو التصدّق بما يطيق حسبما ذكره ، أو خصوص التصدّق بضميمة الاستغفار كما هو المختار ثمّ تجددت القدرة عليها ، فهل يجتزئ بما أتى به من البدل ، أو تجب الكفّارة حينئذٍ؟

اختار الثاني في المتن ، وهو الصحيح ، فإنّ دليل البدليّة إنّما يقتضي الإجزاء فيما إذا كان المبدل منه من المؤقّتات ، فلو كان له وقت معيّن وكان عاجزاً عن الإتيان به في وقته وقد جعل له بدل فمقتضى دليل البدليّة بحسب الفهم العرفي وفاء البدل بكلّ ما يشتمل عليه البدل منه من الملاك الذي نتيجته الإجزاء ، فلا حاجة إلى التدارك والقضاء لو تجدّدت القدرة بعد خروج الوقت.

ومن المعلوم أنّ المبدل منه في المقام غير مؤقت بزمان خاص ولا فوري ، بل يستمرّ وقته ما دام العمر. وعليه ، فلا ينتقل إلى البدل إلّا لدى العجز المستمرّ ، فلو تجدّدت القدرة كشف ذلك عن عدم تحقّق موضوع البدل ، وعدم تعلّق الأمر به من الأوّل ، وإنّما كان ذلك أمراً خياليّاً أو ظاهريّاً ، استناداً إلى استصحاب بقاء العجز بناءً على جريانه في الأُمور الاستقباليّة كما هو الصحيح وكلّ ذلك يرتفع لدى انكشاف الخلاف ويعلم به أنّ الواجب عليه من الأوّل كان هو الكفّارة نفسها ، غاية الأمر أنّه كان معذوراً في تركها إلى الآن لمكان العجز ، وقد عرفت أنّ العجز غير المستمرّ لا يؤثّر في سقوط الأمر عن الواجب غير المؤقّت ، فيجب الإتيان به حينئذٍ بطبيعة الحال.

__________________

(*) على الأحوط.

٣٨٣

[٢٤٨٩] مسألة ٢٠ : يجوز التبرع بالكفّارة عن الميّت صوماً كانت أم غيره ، وفي جواز التبرّع بها عن الحيّ إشكال (١) ، والأحوط العدم خصوصاً في الصوم.

______________________________________________________

(١) لا إشكال في جواز التبرّع بالكفّارة عن الميّت.

وهل هي تخرج على تقدير عدم التبرع من الأصل أو الثلث؟

فيه كلام ليس هنا محلّ ذكره.

وكيفما كان ، فلا شكّ في جواز التبرّع بها كغيرها من سائر الصدقات ونحوها من وجوه البرّ والخير عنه ، وأنّه يصل ثوابها إليه وينتفع بها ، ويقال له : إن هذا هديّة من أخيك فلان ، للنصوص الكثيرة الدالّة على ذلك التي تقدمت في كتاب الصلاة في مبحث القضاء (١) ، وقد ذكر صاحب الوسائل أكثر هذه النصوص في أبواب المحتضر (٢).

وأمّا التبرّع بها عن الحيّ ففيه كلام ، فجوّزه جماعة ، ومنعه آخرون ، ولعلّه المشهور كما في الجواهر (٣) ، وفصّل بعضهم ومنهم المحقّق في الشرائع (٤) بين الصوم فلا يجوز ، وبين غيره من العتق والإطعام فيجوز ، فالأقوال في المسألة ثلاثة.

ولا بدّ من التكلّم في جهات :

__________________

(١) شرح العروة (كتاب الصلاة الجزء الخامس القسم الأوّل) : ٢٣٨ ٢٣٩.

(٢) الوسائل ٢ : ٤٤٣ / أبواب الاحتضار ب ٢٨.

(٣) الجواهر ١٦ : ٣١٤.

(٤) الشرائع ١ : ٢٢٤.

٣٨٤

.................................................................................................

______________________________________________________

الاولى : هل يعتبر في العتق والإطعام أن يكونا من خالص ماله ، أو يجوز التصدّي لذلك ولو من مال غيره المأذون في التصرّف فيه بحيث يكون هو المعتق والمتصدّق وإن لم يكن المال له ، وإنّما هو مرخّص في التصرّف فيه؟

الظاهر أنّه لا ينبغي الشكّ في الجواز ، لإطلاق الروايات ، فإنّ الواجب عليه هو عتق النسمة وإطعام الستّين بحيث يكون الفعل صادراً عنه ومستنداً إليه ، وأمّا كونهما من ملكه وماله فلم يعتبر ذلك في شي‌ء من النصوص ، فلو أباح له أحد في التصرّف في ماله فأطعم أو أعتق منه كفى في مقام الامتثال بمقتضى الإطلاق.

وأمّا ما ورد من أنّه لا عتق إلّا في ملك (١) ، فإمّا أن يراد به عدم جواز عتق غير المملوك وهو الحرّ أو يراد أنّه لا بدّ وأن يستند إلى المالك ولو بأن يكون بإذنه ، وأمّا لزوم صدور العتق من نفس المالك فلا دلالة له عليه بوجه كما لا يخفى ، ولا شكّ أنّ العتق الصادر ممّن هو مأذون من المالك كما يستند إلى المعتق باعتبار أنّه من قبله يستند إلى المالك أيضاً من جهة صدوره بإذنه ، فيصحّ أن يقال : إنّ العتق وقع في الملك باعتبار صدوره بإذن المالك.

وهذا الكلام جارٍ في غير المقام أيضاً مثل النذر ، فلو نذر أن يعتق أو يطعم جاز له الإخراج من مال غيره المأذون في التصرّف فيه ، إذا لم يتعلّق النذر بخصوصيّة الإخراج من خالص المال.

وعليه ، فلو كان المفطر فقيراً لا مال له وكان والده ثريّاً وهو مرخّص في التصرّف في ماله ، جاز له الصرف منه في الكفّارة ويصحّ معه أن يقال : إنّه أعتق نسمة أو أطعم الستّين وإن لم يكن ذلك من مال نفسه.

ويؤيّده ما ورد في قصّة الأعرابي الذي واقع في نهار رمضان وادّعى العجز

__________________

(١) الوسائل ٣ : ١٥ / كتاب العتق ب ٥.

٣٨٥

.................................................................................................

______________________________________________________

عن الكفّارة من قول النبيّ (صلّى الله عليه وآله) له : «خذ هذا التمر وتصدق به» (١) ، فإنّ هذا وإن أمكن أن يكون من باب التمليك ، إلّا أنّ ذلك غير ظاهر من الرواية ، ولعلّ ظاهرها التصدّق من مال رسول الله (صلّى الله عليه وآله). وعليه ، فهي مؤكّدة للمطلوب.

وكيفما كان ، فالإطلاقات كافية من غير حاجة إلى ورود دليل خاصّ حسبما عرفت.

الثانية : هل يعتبر التصدِّي للعتق أو الإطعام مباشرةً أو يجوز التوكيل فيهما؟

الظاهر أنّه لا ينبغي الإشكال في جواز التوكيل ، فإنّ فعل الوكيل فعل الموكّل نفسه عرفاً وينتسب إليه حقيقةً ومن غير أيّة عناية ، ويكفي في ذلك إطلاق الأدلّة بعد عدم الدليل على اعتبار المباشرة.

وقد ذكرنا في بعض مباحث المكاسب (٢) أنّ الوكالة على طبق القاعدة في موردين ، وفي غيرهما يحتاج إلى قيام دليل بالخصوص :

أحدهما : الأُمور الاعتباريّة بأسرها ، من البيع والهبة والطلاق والنكاح والعتق ونحوها ، فإنّ الأمر الاعتباري وإن توقّف تحقّقه على الاعتبار النفساني مع إبرازه بمبرز ، وبهذا الاعتبار يكون فعلاً ممّن صدر منه مباشرةً ، إلّا أنّه لكونه خفيف المئونة يكفي في انتسابه إليه انتهاؤه إليه إمّا لمباشرته في إيجاده أو لتسبيبه فيه بتفويضه إلى غيره ، فلو وكلّ أحداً في تولّي البيع مثلاً فاعتبره الوكيل وأبرزه خارجاً ، يُنسَب البيع حينئذٍ إلى الموكّل حقيقةً ومن غير أيّة عناية كما ينسب إلى الوكيل ، لأنّ البيع ليس إلّا الاعتبار بضميمة الإبراز ، وقد

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ٤٥ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٨ ح ٢.

(٢) شرح العروة ٣١ : ٤٩٧.

٣٨٦

.................................................................................................

______________________________________________________

تحقّقا معاً بفعل الوكيل مباشرةً والموكّل تسبيباً ، فيصحّ أن يقال حقيقةً : إنّ الموكّل باع أو أعتق أو وهب أو نحو ذلك من سائر العقود والإيقاعات ، وهذا أمر عرفي عقلائي لا حاجة فيه إلى قيام دليل عليه بالخصوص.

ثانيهما : كلّ ما هو من قبيل القبض والإقباض والأخذ والإعطاء فإنّها وإن كانت من الأُمور التكوينيّة ، إلّا أنّها بمنزلة الأُمور الاعتباريّة في أنّ الوكالة تجري فيها بمقتضى السيرة العقلائيّة ، مضافاً إلى استفادة ذلك من بعض الروايات ، فلو وكّل أحداً في تسلّم ما يطلبه من الغريم فأخذه كان قبضه قبضه حقيقةً بالنظر العرفي ، فلو تلف لم يضمنه المديون بل تفرغ ذمّته بمجرّد الدفع إلى الوكيل وإن لم يصل إلى الموكّل.

وكذلك الحال في الإقباض ، فلو وكّل أحداً في أن يعطي زكاته أو ديناً آخر لزيد برئت ذمّته بمجرّد الدفع ، ونحوه ما لو باع في مكان ووكّل أحداً في أن يقبض المبيع في مكان آخر.

وبالجملة : ففي هذه الموارد يُنسَب الفعل إلى الموكّل حقيقةً ، فهو أيضاً قابض من غير أيّة عناية.

وأمّا سائر الأُمور التكوينيّة غير ما ذكر من الأكل والشرب والنوم ونحو ذلك فهي غير قابلة للتوكيل ولا يستند الفعل فيها إلى غير المباشر بوجه من الوجوه ، فلا يصحّ أن يقال : زيد نام ، فيما لو طلب من عمرو أن ينام عنه ، وهكذا الحال في سائر الأفعال.

نعم ، لا بأس بالإسناد المجازي في بعض الموارد ، كما لو أمر بضرب أحد أو قتله ، فإنّه قد يُنسَب الفعل حينئذٍ إلى الآمر بضربٍ من العناية ، وإلّا فالفعل الخارجي غير منتسب إلى الآمر انتساباً حقيقيّا.

وكيفما كان ، فجريان الوكالة في غير ما ذكرناه يحتاج إلى الدليل ، فإن نهض

٣٨٧

.................................................................................................

______________________________________________________

كما في الحج حيث ثبت بالدليل الخاصّ جواز التوكيل فيه وأنّ حج الوكيل حجٌّ للموكّل والمستنيب فهو ، وإلّا كما في غير مورد الحجّ فلا مجال لجريان الوكالة فيه ، فلا يصحّ التوكيل في مثل الصوم والصلاة ونحوهما ممّا هو واجب عبادي أو غير عبادي.

وعليه ، ففي مقامنا هذا أعني : خصال الكفّارة يجري التوكيل في اثنتين منها ، وهما العتق والإطعام ، لأنّ الأوّل أمر اعتباري ، والثاني من قبيل الإقباض والإعطاء. وأمّا الثالث وهو الصوم فغير قابل لذلك ، لعدم الدليل عليه ، ومقتضى إطلاق الدليل صدور الصوم من المفطر مباشرةً لا من شخص آخر ، فلا يجري فيه التوكيل.

هذا تمام الكلام في التوكيل.

الجهة الثالثة : في التبرّع عن الغير ، وقد سبق أنّ الأقوال فيه ثلاثة : الجواز مطلقاً ، والمنع مطلقاً ، والتفصيل بين الصوم وغيره.

أما الجواز مطلقاً : فمبني على أمرين :

أحدهما : دعوى أنّ الكفّارة كغيرها من الواجبات الإلهيّة دينٌ كسائر الديون فيجري عليها حكمه.

ثانيهما : إنّ كل دين يجوز التبرّع فيه من غير إذن ولا توكيل.

وأمّا المنع مطلقاً : فيستدلّ له بأنّ ظاهر الأمر والخطاب المتوجّه إلى شخص بشي‌ء وجوب مباشرته له ، أو ما في حكمها من التوكيل فيما يجري فيه التوكيل ، وأمّا السقوط بفعل المتبرّع فهو خلاف ظاهر الإطلاق فلا يصار إليه من غير دليل ، ولا دليل عليه في المقام.

وأمّا التفصيل : فوجهه أنّ كلّ ما يقبل التوكيل يقبل التبرّع أيضاً ، وبما أنّك عرفت قبول العتق والإطعام للتوكيل دون الصيام فالأمر بالنسبة إلى التبرّع

٣٨٨

.................................................................................................

______________________________________________________

أيضاً كذلك.

والصحيح من هذه الأقوال هو القول الثاني أعني : المنع المطلق الذي عرفت أنّ صاحب الجواهر نسبه إلى المشهور بعد أن قوّاه ، ويظهر وجهه من تزييف القولين الآخرين.

أمّا القول بالجواز مطلقاً بدعوى أنّ حقوق الله دَين وكلّ دَين يجوز فيه التبرّع ، فهو ممنوع صغرىً وكبرى كما تقدم التعرّض له في كتاب الصلاة (١) ، فإنّ لفظ الدَّين وإن أُطلق على بعض الواجبات كالصلاة والحجّ في بعض الروايات التي منها رواية الخثعمية المتضمّنة لقول النبي (صلّى الله عليه وآله) : «دَين الله أحقّ بالقضاء» (٢) فأطلق لفظ الدَّين على الحجّ غير أنّها ضعيفة السند ، لكونها مرويّة من طرق العامّة لا من طرقنا.

نعم ، أُطلق عليه في بعض رواياتنا المعتبرة ، بل عومل معه معاملة الدين وجُعِل بمنزلته ، ولذا يخرج من الأصل كما صرّح به في بعض الأخبار ، إلّا أنّه لا ينبغي الشكّ في أنّ الإطلاق المزبور حتّى لو ثبت في جميع الواجبات الإلهيّة فإنّما هو مبني على ضربٍ من المسامحة والعناية باعتبار كونها ثابتة في الذمّة ، وإلّا فالمنسبق من هذا اللفظ بحسب الظهور العرفي خصوص الدين المالي لا مطلق الواجب الإلهي.

ولو سلّمنا الصغرى فالكبرى ممنوعة ، إذ لم يثبت جواز التبرّع عن الغير في كلّ دين ، وإنّما ثبت ذلك في خصوص الديون الماليّة بمقتضى السيرة العقلائيّة وبعض الروايات الواردة في الموارد المتفرّقة ، مثل ما ورد من أنّ من وظائف الابن أداء دين أبيه ، وأنّ دين المؤمن العاجز عن الوفاء على الإمام يقضيه من

__________________

(١) شرح العروة (كتاب الصلاة الجزء الخامس القسم الأوّل) : ٢٣٧.

(٢) لاحظ صحيح مسلم ٢ : ٨٠٤ / ١٥٤ ، سنن البيهقي ٤ : ٢٥٥.

٣٨٩

.................................................................................................

______________________________________________________

الزكاة من سهم الغارمين ونحو ذلك ، وأمّا أنّ مطلق ما كان واجباً وإن عُبِّر عنه بالدين يصحّ التبرّع به عن الغير فلم يقم عليه أيّ دليل ، بل لعلّه خلاف الإجماع والضرورة في كثير من الموارد من الصلاة والصيام ونحوهما.

نعم ، ثبت ذلك في خصوص الحجّ لدى العجز فهو بمنزلة الدين ، ولذا يخرج من أصل المال كما ذكر ، وأمّا في غيره فلا ، فلم تثبت الكبرى على إطلاقها.

وكيفما كان ، فالقول بالجواز المطلق ضعيف جدّاً.

وأمّا القول بالتفصيل ، فالمنع في الصوم جيّد ، لما عرفت من أنّه عبادة قد خوطب المفطر بأدائها ، فسقوطها بفعل الغير بدلاً عنه يحتاج إلى الدليل ، ولا دليل ، ومقتضى الإطلاق العدم.

وأمّا الجواز في العتق والإطعام فمبنى كلام المحقّق على ما يظهر من كلماتهم أنّ جريان الوكالة والنيابة فيهما كما تقدّم يكشف عن عدم اعتبار المباشرة ، ومقتضى عدم اعتبارها جريان التبرّع أيضاً فيهما ، إذ لا خصوصيّة للاستنابة بعد فرض عدم اعتبار المباشرة.

ولكنّه أيضاً ضعيف ، للفرق الواضح بين التوكيل والتبرّع ، فإنّ فعل الوكيل فعل الموكّل بنفسه ومستند إليه حقيقةً ومن غير أية عناية ، لعدم الفرق في صحّة الإسناد بين المباشرة والتسبيب فيما إذا كان الفعل قابلاً للتوكيل ، كما في الأُمور الاعتباريّة وبعض التكوينيّة حسبما مرّ ، فالبيع أو الهبة أو الطلاق الصادر من الوكيل مستندٌ إلى الموكّل حقيقةً ، فبيعه بيعه ، كما أنّ قبضه قبضه وعطاؤه عطاؤه بالسيرة العقلائية ، ومن ثمّ لو وكّل أحداً في قبض ماله من الدين برئت ذمّة المدين بمجرّد الدفع إلى الوكيل وإن تلف المال ولم يصل إلى الموكّل ، لأنّه بأدائه إلى الوكيل قد أدّاه إلى الموكّل حقيقة. وعليه ، فلو كان المكلّف مأموراً ببيع الدار مثلاً أو بالعتق أو بالإطعام ونحو ذلك ممّا يقبل

٣٩٠

[٢٤٩٠] مسألة ٢١ : من عليه كفّارة إذا لم يؤدها حتّى مضت عليه سنين لم تتكرّر (١).

______________________________________________________

التوكيل ، فلا فرق حينئذٍ بين التصدِّي له بنفسه مباشرةً وبين الاستنابة والتوكيل فيه ، لأنّه هو البائع والمعتِق والمطعِم على التقديرين.

وأمّا لو تبرّع به شخص آخر من غير توكيل وتسبيب ، فما هو الدليل على سقوط الواجب عن المكلّف المتوجّه إليه الخطاب؟ فانّ مقتضى الإطلاق وعدم اشتراط التكليف بعدم الصدور من الغير هو عدم السقوط بفعله ، ومعلومٌ أنّ مجرّد قصد الغير النيابة عن المكلّف والإتيان من قبله لا يصحّح إسناد الفعل إليه ، كما كان كذلك في مورد التوكيل والتسبيب ، فلا يقاس فعل المتبرّع بفعل الوكيل ، فإنّ فعله فعل الموكّل حقيقةً ، وليس كذلك فعل المتبرّع بعد أن لم يكن ببعث المتبرّع عنه.

وعلى الجملة : لا علاقة ولا ارتباط لفعل المتبرّع بالمتبرّع عنه ، ومجرّد قصد النيابة لا يحقّق الإضافة ولا يجعل الفعل فعله ولا يسنده إليه عرفاً بوجه ، فلا مقتضى لكونه مسقطاً للتكليف ، إلّا فيما قام الدليل عليه بالخصوص ، وإلّا فمقتضى الإطلاق عدم السقوط ، وأنّه لا بدّ من صدوره من نفس المأمور أمّا مباشرةً أو تسبيباً ، ولا ينطبق شي‌ء منهما على فعل المتبرّع كما هو ظاهر جدّاً.

فتحصّل : أنّ الأظهر ما عليه المشهور من المنع مطلقاً ، أي من غير فرق بين الصوم وغيره.

(١) فإنّ السبب الواحد له مسبّب واحد ، ولا دليل على أنّ التأخير من موجبات الكفّارة ، فلا مقتضي للتكرّر كما هو أوضح من أن يخفى.

٣٩١

[٢٤٩١] مسألة ٢٢ : الظاهر أنّ وجوب الكفّارة موسّع فلا تجب المبادرة إليها (١). نعم ، لا يجوز التأخير إلى حدّ التهاون.

______________________________________________________

(١) أفاد (قدس سره) أنّ وجوب الكفّارة ليس بفوري ، فيجوز التأخير ما لم يصل إلى حدّ التهاون والإهمال ، كما هو الحال في بقيّة الواجبات غير المؤقّتة.

هذا ، وربّما تحتمل الفوريّة ، نظراً إلى أنّها كفّارة للذنب رافعة له ، فحكمها حكم التوبة التي تجب المبادرة إليها عقلاً ، لمبغوضيّة البقاء على الذنب كحدوثه بمناط واحد ، إذن فيجب التسرّع إلى تفريغ الذمة عن الذنب بفعل الكفّارة كما في التوبة.

أقول : الظاهر عدم تماميّة شي‌ء من الأمرين.

أمّا تحديد التأخير بعدم التهاون : فلعدم الدليل عليه ، بل العبرة في مقدار التأخير أن لا يصل إلى حدّ لا يُطمأنّ معه بأداء الواجب ، نظراً إلى أنّ التكليف بعد أن صار فعليّاً وبلغ حدّ التنجّز وجب الاطمئنان بالخروج عن عهدته قضاءً ، لحكم العقل بأنّ الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينيّة ، فلا بدّ من اليقين أو ما في حكمه من الاطمئنان بحصول الامتثال إمّا فعلاً أو فيما بعد ، وأمّا لو لم يطمئنّ بذلك فأحتمل العجز لو أخّر وجبت المبادرة حينئذٍ ولم يسغ له التأخير ، لما عرفت من حكومة العقل بلزوم إحراز الطاعة للتكليف المنجّز.

وهذا يجري في جميع الواجبات غير الفوريّة وإن كانت مؤقّتة ، فلو احتمل أنّه بعد ساعة من الزوال لا يمكن من الامتثال بحيث زال عنه الاطمئنان ، وجبت المبادرة إلى أداء الفريضة ، ولا يسعه التأخير اعتماداً على امتداد الوقت إلى الغروب الواجب وإن كان هو الكلّي الجامع والطبيعي الواقع بين الحدّين ، لكن لا بدّ بحكم العقل من إحراز الامتثال المفقود مع الاحتمال المزبور ، فالعبرة

٣٩٢

.................................................................................................

______________________________________________________

بالاطمئنان دون التهاون ، وكان عليه (قدس سره) أن يعبّر هكذا : نعم ، لا يجوز التأخير إلّا مع الاطمئنان من الأداء.

وأمّا ما ذُكِر وجهاً للفوريّة من أنّ البقاء على الذنب كحدوثه فهو إنّما يستقيم في مثل التوبة ، فإنّ العزم على المعصية بل التردّد فيها مبغوض ، ولا بدّ للمؤمن من أن يكون بانياً على عدم العصيان ، فلو ارتكب فلا بدّ من التوبة أي الندم على ما فعل والعزم على أن لا يفعل ، وهذا كلّه واجب دائماً ، لكونه من لوازم الإيمان ومن شؤون الإطاعة والعبوديّة ، وإلّا كان متجرّياً ، ولأجله كان وجوب التوبة فوريّاً.

وأمّا الكفّارة فليست هي من التوبة في شي‌ء وإن أُطلق عليها هذا اللفظ في بعض النصوص ، وإنّما هي واجبة استقلالاً شُرِّعت عقوبةً على ما فعل ، ويعبَّر عنها بالغرامة أو الجريمة في اللغة الدارجة وليست رافعة لأثر الذنب بوجه ، كيف؟! ولو فرضنا شخصاً ثريّاً يفطر كلّ يوم متعمّداً ويكفّر عنه مع عزمه على العود في اليوم الآخر أفيحتمل ارتفاع أثر الذنب بالنسبة إليه بمجرّد تكفيره؟

وعلى الجملة : الكفّارة شي‌ء والتوبة شي‌ء آخر ، والرافع لأثر الذنب خصوص الثاني بمقتضى النصوص الكثيرة ، التي منها قوله (عليه السلام) : «التائب من الذنب كَمَن لا ذنبَ له» (١) ، وقد قال تعالى (فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) (٢) وأمّا الأوّل فلم يدلّ أيّ دليل على كونه رافعاً للذنب ، وإنّما هو واجب آخر جُعل تأديباً للمكلف وتشديداً في حقّه كي لا يعود ويرتدع عن الارتكاب ثانياً ، كما في كفّارة الإحرام ، فلا وجه لقياس أحدهما بالآخر.

__________________

(١) الوسائل ١٦ : ٧٤ ، ٧٥ / أبواب جهاد النفس ب ٨٦ ح ٨ ، ١٤.

(٢) الفرقان ٢٥ : ٧٠.

٣٩٣

[٢٤٩٢] مسألة ٢٣ : إذا أفطر الصائم بعد المغرب على حرام من زنا أو شرب الخمر أو نحو ذلك لم يبطل صومه (١) وإن كان في أثناء النهار قاصداً لذلك.

[٢٤٩٣] مسألة ٢٤ : مصرف كفّارة الإطعام الفقراء (٢)

______________________________________________________

وعليه ، فمقتضى إطلاقات الأدلّة العارية عن التقييد بالفوريّة هو التوسعة وعدم التضييق في الكفّارة ، فله التأخير ولكن إلى حدّ يُطمأنّ معه بالامتثال حسبما ذكرناه.

(١) لعدم الموجب للبطلان بعد خروج الفرض عن منصرف النصّ قطعاً ، فإنّ موضوع الحكم بحسب منصرف الدليل هو إفطار الصائم ، وهذا قد خرج عن صومه بانتهاء أمده ، ومنه تعرف عدم القدح ولو كان قاصداً لذلك في أثناء النهار ، لتعلّق القصد حينئذٍ بما هو خارج عن ظرف الصوم كما هو ظاهر.

(٢) استقصاء البحث حول هذه المسألة يستدعي التكلّم في جهات :

الاولى : الظاهر تسالم الفقهاء إلّا من شذّ منهم على جواز دفع الكفّارة إلى الفقير ، فإنّ المذكور في الآية المباركة والنصوص وإن كان هو المسكين الذي قد يُطلق على من هو أشدّ حالاً من الفقير ، إلّا أنّ المراد منه إذا استُعمِل منفرداً هو الفقير كما ادّعاه غير واحد ، ويناسبه المعنى اللغوي ، فإنّ المسكنة في اللغة على معانٍ منها : الفقر والذلّ والضعف ، فيُطلق المسكين على الفقير في مقابل الغني ، وعلى الذليل في مقابل العزيز ، وعلى الضعيف في مقابل القوي.

إذن ، فاعتبار شي‌ء آخر زائداً على الفقر بأن يكون أسوأ حالاً منه لا دليل عليه ، ومقتضى الأصل العدم ، بل قد يدلّ عليه قوله (عليه السلام) في موثّقة

٣٩٤

إمّا بإشباعهم (١) ،

______________________________________________________

إسحاق بن عمّار الواردة في كفّارة الإطعام : ... قلت : فيعطيه الرجل قرابته إن كانوا محتاجين؟ «قال : نعم» إلخ (١) ، حيث يظهر منها أنّ مجرّد الحاجة التي هي مناط الفقر كافٍ في كونه مصرف الكفّارة ، ولا يُعتَبر أزيد من ذلك ، فيكون هذا بمثابة التفسير للفظ المسكين ، وقد عرفت أنّ الحكم كالمتسالم عليه بين الأصحاب وقد ادّعي عليه الإجماع ونفي الخلاف في غير واحد من الكلمات ، فما عن بعضٍ من الاستشكال فيه في غير محلّه.

(١) الثانية : لا إشكال في اعتبار الإشباع في الإطعام ، لأنّه المنصرف إليه اللفظ بحسب المتفاهم العرفي ، فلا يجدي الأقلّ من ذلك وإن صدق عليه اللفظ ، إذ يصحّ أن يقال لمن أعطى لقمة بل أقلّ : أنّه أطعم ، لكنّه خلاف المنصرف عند الإطلاق ، فإنّ المنسبق منه هو الإطعام المتعارف البالغ حدّ الإشباع ، وقد صرّح بذلك في صحيحة أبي بصير الواردة في كفّارة اليمين التي لا يُحتمَل الفرق بينها وبين المقام كما لا يخفى ، حيث قال (عليه السلام) : «يشبعهم به مرّةً واحدة» إلخ (٢) ، على أنّ «طعم» بفتح العين بمعنى شبع ، فلو كان الإطعام مشتقّاً من هذه المادّة لكان الإشباع معتبراً في مفهومه كما هو ظاهر قوله تعالى (أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ) (٣).

وكيفما كان ، فلا إشكال في أنّ الإطعام المجعول عدلاً للخصال يتحقّق بأحد أمرين : إمّا بالتسبيب إلى الأكل ببذل الطعام خارجاً ليأكله ، أو بالتسليم والإعطاء ،

__________________

(١) الوسائل ٢٢ : ٣٨٦ / أبواب الكفّارات ب ١٦ ح ٢.

(٢) الوسائل ٢٢ : ٣٨١ / أبواب الكفّارات ب ١٤ ح ٥.

(٣) قريش ١٠٦ : ٤.

٣٩٥

وإمّا بالتسليم إليهم كلّ واحد مدّاً (١) ،

______________________________________________________

لصدق الإطعام على كلّ منهما ، فالواجب هو الجامع بينهما ، فيتخيّر بين الأمرين :

فإن اختار الأوّل فحدّه الإشباع كما عرفت ، وإن لم يُذكَر له تحديدٌ في نصوص الباب.

(١) وأمّا إذا اختار الثاني فالمصرّح به في غير واحد من النصوص المعتبرة أنّ حدّه مدّ لكلّ مسكين ، وهو المشهور بين جمهور الأصحاب ما عدا الشيخ وبعض ممّن تبعه ، فذكر أنّه مدّان لكلّ مسكين ، بل ادّعى في الخلاف الإجماع عليه (١) ، وهو لا يخلو من غرابة بعد مخالفة أكثر الأصحاب وإطباق نصوص الباب على الاجتزاء بمدّ واحد ، إذ لم يرد المدّان في شي‌ء منها.

نعم ، ورد ذلك في كفّارة الظهار ، وحينئذٍ فإن بنينا على عدم الفصل بينها وبين المقام كما لا يبعد ، بل لعلّه الأظهر ، لعدم احتمال التفكيك بين الموردين من هذه الجهة ولا قائل به أيضاً فاللّازم حمل الأمر بالمدّين على الأفضليّة ، جمعاً بينه وبين نصوص الباب المصرّحة بالاجتزاء بالمدّ كما عرفت ، فيُرفع اليد عن ظهور الأمر في الوجوب بصراحة غيره في جواز المدّ الواحد ، فهو من قبيل الدوران بين الأقل والأكثر ، فيُقتصَر في الوجوب على الأقل الذي هو المتيقّن ، ويُحمَل الزائد على الاستحباب.

وأمّا إذا بنينا على الفصل بين المقامين ، فغايته الاقتصار في المدّين على مورده وهو الظهار ، فلا وجه للتعدّي عنه إلى المقام بعد عدم ورود ذلك في شي‌ء من روايات الباب حسبما عرفت.

__________________

(١) الخلاف ٤ : ٥٦٠ ٥٦١ / ٦٢.

٣٩٦

.................................................................................................

______________________________________________________

وكيفما كان ، فلا اختلاف في نصوص المقام من حيث التحديد بالمدّ كما عرفت.

نعم ، هي مختلفة من حيث التحديد بالصاع ، ففي جملة منها : أنّها عشرون صاعاً ، وفي بعضها : خمسة عشر صاعاً ، وفي بعضها الآخر كصحيحة جميل أنّها عشرون صاعاً يكون عشرة أصوع بصاعنا (١).

هذا ، ولا يبعد أن يكون الصاع مثل الرطل الذي تقدّم في مبحث الكرّ (٢) أنّ له إطلاقات ويختلف باختلاف البلدان ، فالرطل المكّي يعادل رطلين عراقيّين ورطلاً ونصفاً من المدني ، فتسعة أرطال مدنيّة تساوي ستّة أرطال مكّيّة واثنى عشر عراقيّة ، وبهذا يرتفع التنافي المتراءى بين نصوص الكرّ ، فيُحمَل ما دلّ على أنّه ألف ومائتا رطل على العراقي ، وما دلّ على أنّه ستمائة رطل على المكّي ، وما دلّ على أنّه تسعمائة على المدني ، وقد أقمنا شواهد على ذلك حسبما مرّ في محلّه.

وعليه ، فلا يبعد أن يكون الصاع أيضاً كذلك فيختلف باختلاف البلدان ، كما هو الحال في كثير من الأوزان مثل الحقّة والمنّ ، فالمنّ الشاهي ضعف التبريزي ، وحقّة إسلامبول ثلث حقّة النجف تقريباً ، ونحوهما غيرهما.

وفي صحيحة جميل المتقدّمة شهادة على ذلك ، حيث صرّح فيها بأنّ صاعه (عليه السلام) يساوي صاعي النبي (صلّى الله عليه وآله) ، والصاع المعروف هو أربعة أمداد.

وعليه يُحمَل ما دلّ على أنّه خمسة عشر صاعاً الذي يساوي ستّين مدّاً.

وعلى كلّ حال ، فهذا الاختلاف غير قادح بعد التصريح في غير واحد من

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ٤٥ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٨ ح ٢.

(٢) شرح العروة ٢ : ١٥٣.

٣٩٧

والأحوط مدّان من حنطة أو شعير أو أرز أو خبز أو نحو ذلك (١) ،

______________________________________________________

الأخبار بأنّ الاعتبار بستّين مدّاً لكلّ مسكين مدّ ، فالمعبرة بهذا الوزن الواقعي الذي هو مقدار معيّن معلوم ، سواء أكان مساوياً لعشرة أصوع أم لخمسة عشر أم لعشرين ، فإنّ ذلك لا يهمّنا والجهل به لا يضرّنا.

(١) الثالثة : مقتضى الإطلاق في هذه الأخبار أنّه لا فرق في الإطعام وفي إعطاء المدّ بين أنواع الطعام ، فيُجتزأ بكلّ ما صدق عليه أنّه طعام من خبز أو شعير أو أرز ونحو ذلك ، فالعبرة بالإطعام الخارجي بحيث يقال : إنّه أطعم أو أعطى مدّاً من الطعام من أيّ قسم كان ، فمتى صدق الإطعام أو صدق أنّه تصدّق بمدّ من الطعام يُجتزأ به بمقتضى الإطلاق.

نعم ، في روايات كفّارة اليمين اختصّت الحنطة والشعير والخلّ والزيت بالذكر ، فلو فرضنا أنّا التزمنا بالاختصاص هناك فلا وجه للتعدّي عنه إلى المقام بعد أن لم تكن في نصوص الباب دلالة بل ولا اشعار باعتبار طعام خاصّ ، فكلّ ما صدق عليه الطعام ولو كان مثل الماش والعدس ونحو ذلك يُجتزأ به ، عملاً بالإطلاق.

الرابعة : لا يخفى أنّ الظاهر ممّا ورد في غير واحد من الأخبار من أنّه يعطى لكلّ مسكين مدّ : أنّ الإعطاء على وجه التمليك لا مجرّد الإباحة في الأكل ، فإنّ ظاهر الإعطاء له تخصيصه به من جميع الجهات لا من جهة الأكل فقط ، وهذا مساوق للتملّك. ويؤيّده بل يؤكّده إطلاق لفظ الصدقة عليه في بعض الأخبار.

ومعلومٌ أن الفقير مالك للصدقة ، بل أنّ نفس المقابلة بين الإطعام وبين الإعطاء المذكورة في النصوص لعلّها ظاهرة في ذلك ، وأنّه مخيّر بين بذل الطعام وإباحة الأكل وبين إعطاء المدّ وتمليكه له ، فيتصرّف فيه كيفما يشاء من أكله أو

٣٩٨

ولا يكفي في كفّارة واحدة إشباع شخص واحد مرّتين أو أزيد أو إعطاؤه مدّين أو أزيد ، بل لا بدّ من ستّين نفساً (١).

نعم ، إذا كان للفقير عيال متعدّدون ولو كانوا أطفالاً صغاراً (٢) يجوز إعطاؤه بعدد الجميع لكل واحد مدّاً.

______________________________________________________

هبته بيعه وصرف ثمنه في حاجياته حتّى بيعه من المعطي نفسه ، والظاهر تسالم الأصحاب على ذلك من غير خلاف ، فيدفع للفقير بعنوان التمليك لا بعنوان التوكيل ليحتفظ به حتّى يأكله.

(١) الخامسة : لا يخفى أنّ الروايات صريحة في الأمر بإطعام ستّين مسكيناً ، ومن المعلوم أنّ الستّين لا ينطبق على الأقل منه كالخمسين أو الأربعين أو الثلاثين ونحو ذلك ، ومقتضاه لزوم مراعاة هذا العدد وإطعام ستّين شخصاً ، فلا يجدي التكرار بالنسبة إلى شخص واحد بأن يطعم فقيراً ستّين مرة أو فقيرين ثلاثين مرّة أو ثلاثة عشرين مرّة أو نحو ذلك ، بل لا بدّ من المحافظة على عدد الستّين ، عملاً بظاهر النصّ.

ويدلُّ عليه مضافاً إلى ما عرفت من عدم الصدق ـ : موثّقة إسحاق بن عمّار المتقدّمة ، قال : سألت أبا إبراهيم (عليه السلام) عن إطعام عشرة مساكين أو إطعام ستّين مسكيناً ، أيجمع ذلك لإنسان واحد يعطاه؟ «قال : لا ، ولكن يعطى إنساناً إنساناً كما قال الله تعالى» إلخ (١).

(٢) السادسة : لا فرق في المسكين بين الصغير والكبير ولا بين الرجل والمرأة ، فلا يُعتبَر البلوغ ولا الرجوليّة ، لإطلاق الأدلّة ، بل قد يظهر من بعض الروايات

__________________

(١) الوسائل ٢٢ : ٣٨٦ / أبواب الكفّارات ب ١٦ ح ٢.

٣٩٩

.................................................................................................

______________________________________________________

المفروغيّة من ذلك ، ففي صحيح يونس بن عبد الرحمن : «ويتمّم إذا لم يقدر على المسلمين وعيالاتهم تمام العدّة التي تلزمه أهل الضعف ممّن لا ينصب» (١).

فيظهر منها المفروغيّة عن جواز إعطاء العيال بما فيهم من الصغار والنساء.

ونحوها صحيحة الحلبي الواردة في كفّارة اليمين عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عزّ وجلّ (مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) (٢) «قال : هو كما يكون أن يكون في البيت من يأكل المدّ ، ومنهم من يأكل أكثر من المدّ ، ومنهم من يأكل أقلّ من المدّ ، فبين ذلك» إلخ (٣).

وفي صحيحة يونس الأُخرى التصريح بعدم الفرق بين الصغار والكبار والنساء والرجال وأنّهم في ذلك سواء (٤).

وعلى الجملة : فيظهر من هذه الروايات وغيرها المفروغيّة عن أصل الحكم ، وهو الذي يقتضيه أخذ عنوان المسكين موضوعاً للحكم في النصوص من غير تقييده في شي‌ء منها بالبلوغ أو الرجوليّة.

هذا ، ومن المعلوم أنّه لا بدّ وأن يكون الإعطاء للصغار إعطاءً صحيحاً ممضى عند الشارع ليصدّق أنّه أعطى المسكين ، وإلّا فلا أثر له ، فلو أعطى الأمداد لرئيس العائلة وفيهم الكبار والصغار فهو إنّما يحتسب عليهم ويعدّ إعطاءً لهم فيما إذا كان المعطى وكيلاً عن الكبار وليّاً على الصغار ، فيكون الدفع إليه دفعاً إليهم بمقتضى الوكالة والولاية ، وإلّا فلا أثر له ، لعدم تسلّم المسكين حينئذٍ لا بنفسه ولا بوكيله ولا بوليه.

__________________

(١) الوسائل ٢٢ : ٣٨٨ / أبواب الكفّارات ب ١٨ ح ١.

(٢) المائدة ٥ : ٨٩.

(٣) الوسائل ٢٢ : ٣٨١ / أبواب الكفّارات ب ١٤ ح ٣.

(٤) الوسائل ٢٢ : ٣٨٧ / أبواب الكفّارات ب ١٧ ح ٣.

٤٠٠