موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ مرتضى البروجردي

وأمّا الجماع فالأحوط بل الأقوى تكريرها بتكرّره (١).

______________________________________________________

أفطر متعمداً فعليه الكفّارة» فالإفطار هو السبب والموجب لتعلّق الكفّارة ، ومن البديهي أنّه لا معنى للإفطار بعد الإفطار ، إذ هو نقض الصوم وعدمه المتحقّق بأول وجود لاستعمال ما يجب الإمساك عنه ، فإنّ الصوم والإفطار متضادّان على ما مرّ مراراً ، وأحدهما مقابل للآخر حتّى في الاستعمال الدارج في ألسنة العوام ، فيقال على فطورك ، أي عند رفع اليد عن الإمساك ، فالصائم هو الممتنع عن تلك الأُمور ، ويقابله المفطر وهو غير الممتنع فإذا نقض صومه فقد أفطر فليس هو بصائم بعد ذلك ، ولو فرض أنّه وجب عليه الإمساك حينئذٍ أيضاً فهو حكم آخر ثبت بدليل آخر ، فعنوان الصوم والإفطار ممّا لا يجتمعان أبداً بحيث يقال له فعلاً أنّه مفطر صائم ، وعليه فقد تحقّق الإفطار بالوجود الأوّل وتعلّقت الكفّارة وانتقض الصوم وانعدم ، ومعه لا يتصوّر إفطار ثانٍ كي يبحث عن تداخله أو عدمه مطلقاً أو مع التفصيل ، فكأنّهم استفادوا أنّ الكفّارة مترتّبة على تناول ذات المفطر من عنوان الأكل والشرب ونحو ذلك ، مع أنّه لم يوجد ما يدلّ عليه حتّى رواية ضعيفة ، بل الموجود ترتّب الكفّارة على عنوان الإفطار الذي له وجود واحد لا يقبل التكرير حسبما عرفت ، من غير فرق في ذلك بين اتّحاد الجنس واختلافه ، أو تخلّل التكفير وعدمه كما هو ظاهر جدّاً.

(١) فإنّ المذكور في بعض النصوص وإن كان هو ترتّب الكفّارة على جماع الصائم المنتفي لدى تحقّق الجماع الثاني ، إلّا أنّ الموضوع للحكم في جملة كثيرة منها هو عنوان الجماع أو الوقاع الشامل بإطلاقه لحالتي التلبّس بالصوم وعدمه ، بحيث يظهر منها أنّ الموضوع للكفّارة هو الجماع في نهار شهر رمضان ممّن هو مكلّف بالصوم ، سواء أكان صائماً بالفعل أم لا ، ولأجله كان تكرّر السبب وتعدّد الموجب متصوّراً في المقام.

٣٤١

.................................................................................................

______________________________________________________

وعليه ، فتبتني المسألة على أنّ مقتضى الأصل لدى اجتماع الأسباب هل هو التداخل أو عدمه؟ وبما أنّ المحقّق في محلّه هو العدم أخذ بإطلاق أدلّة الأسباب الظاهرة في الانحلال ، وأنّ كلّ فرد سبب مستقلّ لترتّب الأثر عليه ، سواء لحقه أو سبقه فرد آخر أم لا فلا مناص من الالتزام بتعدّد الكفّارة في المقام ، عملاً بأصالة عدم التداخل المقتضية لوجوب التكرار.

ودعوى الانصراف في النصوص المذكورة إلى الجماع المفطر ، فغيره وهو الجماع اللّاحق خارج عن منصرف تلك النصوص.

ممّا لم نتحقّقها ولم نعرف لها وجها أبداً ، فإنّها بلا بيّنة ولا شاهد ، فإطلاق الجماع في تلك النصوص السليم عمّا يصلح للتقييد هو المحكّم.

ويلحق بالجماع : الاستمناء ، فإنّ الكفّارة المتعلّقة به مترتّبة أيضاً على عنوان الإمناء ، لأجل العبث بالأهل ونحوه الشامل للصائم بالفعل وعدمه ، الصادق على الوجود الأوّل وما بعده.

فالأظهر تكرّر الكفّارة في الجماع كما نُسِب إلى السيّد المرتضى وقوّاه في المستند (١) ، بل وفي الاستمناء أيضاً حسبما عرفت ، استناداً إلى أصالة عدم التداخل ، فالحكم مطابق لمقتضى القاعدة.

وأمّا النصوص الخاصّة الدالّة على ذلك فكلّها ضعيفة ولا تصلح إلّا للتأييد ، وهي روايات ثلاثة :

إحداها : رواية الجرجاني (٢) ، المشتمل سندها على عدّة من المجاهيل.

__________________

(١) الخلاف ٢ : ١٨٩ ١٩٠ ، المستند ١٠ : ٥٢٨.

(٢) الوسائل ١٠ : ٥٥ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ١١ ح ١.

٣٤٢

[٢٤٧٢] مسألة ٣ : لا فرق في الإفطار بالمحرّم الموجب لكفّارة الجمع بين أن تكون الحرمة أصليّة كالزنا وشرب الخمر ، أو عارضيّة كالوطء حال الحيض أو تناول ما يضرّه (١).

[٢٤٧٣] مسألة ٤ : من الإفطار بالمحرّم : الكذب على الله وعلى رسوله (صلّى الله عليه وآله) ، بل ابتلاع النخامة إذا قلنا بحرمتها من حيث دخولها في الخبائث (*) ، لكنّه مشكل (٢).

______________________________________________________

والأُخرى : مرسلة صاحب كتاب شمس المذهب (١) ، المشتملة على الإرسال من جهات.

والثالثة : مرسلة العلامة عن الرضا (عليه السلام) «إنّ الكفّارة تتكرّر بتكرّر الوطء» (٢) فلاحظها إن شئت.

(١) وذلك لإطلاق الدليل.

هذا ، وقد ذكرنا في محلّه أنّ حرمة الإضرار تختصّ بالضرر المعتدّ به المؤدّي إلى الهلاك أو ما بحكمه لا مطلقاً.

(٢) هذا الإشكال في محلّه ، بل الأظهر هو عدم الحرمة ، لمنع الكبرى أوّلاً ، إذ لا دليل على حرمة أكل الخبائث كلّيةً ، والآية المباركة غير دالّة على ذلك كما مرّ التكلّم حوله قريباً (٣).

__________________

(*) الظاهر بطلان هذا القول.

(١) الوسائل ١٠ : ٥٥ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ١١ ح ٢.

(٢) الوسائل ١٠ : ٥٦ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ١١ ح ٣ ، المختلف ٣ : ٣١٧.

(٣) في ص ٢٥١ ٢٥٥.

٣٤٣

.................................................................................................

______________________________________________________

ومنع الصغرى ثانياً ، فإنّ الخبيث هو ما يتنفّر منه الطبع ، والنخامة ما لم تخرج عن فضاء الفم ممّا يقبله الطبع ولا يتنفّره ، لتعارف ابتلاعه كثيراً من غير أيّ اشمئزاز ، فنخامة كلّ أحد غير خبيثة بالإضافة إليه ما لم تخرج عن فضاء فمه ، ولأجله كان الإفطار به إفطاراً بالحلال لا بالحرام.

نعم ، لا إشكال في الخباثة بالإضافة إلى شخص آخر أو بعد الخروج عن فضاء الفم.

هذا ، وربّما يستدل لجواز الابتلاع برواية الشيخ عن عبد الله بن سنان ، قال : سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول : «من تنخّع في المسجد ثمّ ردّها في جوفه لم يمرّ بداء في جوفه إلّا أبرأته» (١) ، ورواها الصدوق مرسلاً إلّا أنّه قال : «من تنخّم» (٢) ورواها الصدوق أيضاً في ثواب الأعمال مسنداً (٣).

ولكنّها ضعيفة السند بطرقها الثلاثة وإن عُبّر عنها في بعض الكلمات بالصحيحة.

أمّا طريق الشيخ فلأجل اشتماله على أبي إسحاق النهاوندي الذي ضعّفه النجاشي صريحاً (٤).

وأمّا مرسلة الصدوق فظاهرة الضعف.

وأمّا ما رواه في ثواب الأعمال فلأجل اشتمال سنده على محمّد بن حسّان عن أبيه ، وقد قال النجاشي في حقّ محمّد بن حسّان : إنّه يعرف وينكر بين بين ،

__________________

(١) الوسائل ٥ : ٢٢٣ / أبواب أحكام المساجد ب ٢٠ ح ١ ، التهذيب ٣ : ٢٥٦ / ٧١٤.

(٢) الفقيه ١ : ١٥٢ / ٧٠٠.

(٣) ثواب الأعمال : ٣٥ / ٢.

(٤) رجال النجاشي ١٩ / ٢١.

٣٤٤

[٢٤٧٤] مسألة ٥ : إذا تعذّر بعض الخصال في كفّارة الجمع وجب عليه الباقي (١).

______________________________________________________

يروي عن الضعفاء كثيراً (١) ، فيظهر منه نوع خدش فيه كما لا يخفى ، ومع الغضّ عنه فيكفي في الضعف جهالة أبيه حسّان ، فإنّه لم يوثّق ، فلا يُعتَمد على الرواية بوجه.

(١) مثل ما لو تعذّر العتق كما في هذه الأيام ، فإنّه يجب الصيام والإطعام.

وربّما يورد عليه بأنّ التكليف بالجمع مساوق لفرض الارتباطيّة ، ومقتضى القاعدة في مثله سقوطه بالعجز عن المجموع ولو للعجز عن بعض أجزائه ، إذ العجز عن الجزء عجزٌ عن المركّب ، فلا دليل على وجوب الإتيان بالباقي ، إلّا أن تثبت قاعدة الميسور ، ولكنّها أيضاً محلّ إشكال أو منع.

ويندفع أوّلاً : بأنّا لا نحتمل من مذاق الشرع سقوط الكفّارة في المقام ، كيف؟! ولازمه أن يكون الإفطار على الحرام أهون من الإفطار على الحلال ، لثبوت الكفّارة في الثاني وإن حصل العجز عن البعض فيكون هو أسوأ حالاً من الأوّل ، وهذا لعلّه مقطوع العدم كما لا يخفى.

وثانياً : إنّ التعبير بكفّارة الجمع الظاهر في الارتباطيّة لم يرد في شي‌ء من النصوص وإنّما هو مذكور في كلمات الفقهاء تلخيصاً في العبارة ، وأمّا النصّ فالعبارة الواردة فيه كما في رواية الهروي هكذا «فعليه ثلاث كفّارات : عتق رقبة وصيام شهرين متتابعين وإطعام ستّين مسكيناً» (٢) ونحوها رواية العمري (٣) ،

__________________

(١) رجال النجاشي : ٣٣٨ / ٩٠٣.

(٢) الوسائل ١٠ : ٥٣ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٥٣ ح ١.

(٣) الوسائل ١٠ : ٥٥ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ١٠ ح ٣.

٣٤٥

[٢٤٧٥] مسألة ٦ : إذا جامع في يوم واحد مرّات وجب عليه كفّارات بعددها (١) ، وإن كان على الوجه المحرّم تعدّدت كفّارة الجمع بعددها.

[٢٤٧٦] مسألة ٧ : الظاهر أنّ الأكل في مجلس واحد يعدّ إفطاراً واحداً (٢) وإن تعدّدت اللقم ، فلو قلنا بالتكرار مع التكرّر في يوم واحد لا تتكرّر بتعدّدها ، وكذا الشرب إذا كان جرعةً فجرعة.

______________________________________________________

وقريب منهما موثّقة سماعة (١) ، وهذه العبارة كما ترى ظاهرة في الاستقلال وأنّه يجب عليه كفّارات ثلاث وتثبت أحكام ثلاثة : عتق وصيام وإطعام ، من غير ملاحظة الوحدة والارتباطيّة بينها ، فإنّها بلا مقتض ولا موجب. وعليه ، فإذا تعذّر البعض كان الباقي على حالة بمقتضى القاعدة كما هو الشأن في سائر الواجبات الاستقلاليّة.

(١) لما عرفت من تعدّد الكفّارة بتكرّر الجماع ، استناداً إلى أصالة عدم التداخل ، ولأجله تتكرّر كفّارة الخصال في الحلال والجمع في الحرام ، لتكرّر الموجب.

(٢) فإنّ العبرة في وحدة الأكل أو الشرب بالصدق العرفي ، ولا شبهة أن العرف يقضي بالوحدة مع اتّحاد المجلس وإنّ تعدّدت اللقم وتكرّرت الجرع ، فلا يرى ذلك إلّا إفطاراً واحداً ، فلا تتكرّر الكفّارة بتعدّد اللقم أو الجرع وإن قلنا بالتكرار مع التكرّر في يوم واحد.

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ٥٤ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ١٠ ح ٢.

٣٤٦

[٢٤٧٧] مسألة ٨ : في الجماع الواحد إذا أدخل وأخرج مرّات لا تتكرّر الكفّارة (١) وإن كان أحوط.

[٢٤٧٨] مسألة ٩ : إذا أفطر بغير الجماع ثمّ جامع بعد ذلك يكفيه التكفير مرّة (*) (٢) ،

______________________________________________________

(١) فإنّها وإن تكرّرت بتكرّره إلّا أنّ مثل هذا لا يعدّ تكراراً للجماع ، لما عرفت آنفاً من أنّ العبرة في الوحدة والتعدّد بالصدق العرفي وما هو المتعارف خارجاً ، ولا ريب أنّ الفرض يعدّ لدى العرف جماعاً واحداً وإن تضمّن إدخالات وإخراجات عديدة ، فدليل التكرّر بالتكرار منصرف عن هذه الصورة قطعاً ، ولذا حكم بكفّارة واحدة في صحيحة جميل (١) من غير استفصال عن وحدة الإدخال وتعدّده ، وكذا في سائر النصوص.

(٢) هذا لا يستقيم بناءً على ما سبق منه وقوّيناه من تكرّر الكفّارة بتكرّر الجماع واستثنائه عما عداه من سائر المفطرات ، إذ لو كان المستند فيه النصوص الخاصّة الدالّة على تكرّر الكفّارة أمكن دعوى انصرافها إلى صورة تكرّر الجماع فقط ، فلا تعمّ الجماع المسبوق بمفطر آخر الذي هو محلّ الكلام ، ولكنّك عرفت ضعف تلك النصوص بأجمعها ، وأنّ العمدة ما تقتضيه القاعدة من أصالة عدم التداخل بعد أن كانت الكفّارة معلّقة في النصوص على الجماع من حيث هو ، لا بما أنّه مفطر ، فإنّ مقتضى الإطلاق سببيّة كلّ فرد لكفّارة مستقلّة ، سواء أكان مسبوقاً بجماع آخر أم ملحوقاً به أم لم يكن ، ولأجله تتكرّر الكفّارة بتكرّر

__________________

(*) الظاهر أنّه لا يكفي.

(١) الوسائل ١٠ : ٤٥ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٨ ح ٢.

٣٤٧

وكذا إذا أفطر أوّلاً بالحلال ثمّ أفطر بالحرام تكفيه كفّارة الجمع (*) (١).

______________________________________________________

الجماع ، إذ لا تختصّ بالجماع المفطر كي لا ينطبق إلّا على الوجود الأوّل.

وهذا الإطلاق كما يعمّ الجماع المكرّر كذلك يشمل الجماع المسبوق بمفطر آخر بمناط واحد ، لما عرفت من أنّ كلّ فرد سبب مستقلّ ، والمفروض عدم الاختصاص بالجماع المفطر ، فلو أفطر بالأكل مثلاً ثمّ جامع تكرّرت الكفّارة ، إحداهما للإفطار العمدي ، والأُخرى لنفس الجماع.

نعم ، ما ذكره (قدس سره) من كفاية التكفير مرّة يتمّ في صورة العكس ، أعني : ما لو أفطر بالجماع ثمّ تناول غيره من الأكل ونحوه ، لأنّ غير الجماع لا يوجب الكفّارة إلّا من حيث الإفطار ، ولا معنى للإفطار عقيب الإفطار ، فما أفاده (قدس سره) لا يستقيم على إطلاقه.

(١) هذا أيضاً لا يستقيم على إطلاقه لفرض حصول الإفطار بالمحلّل ، فلا يكون تناول المحرّم مفطراً ، إذ لا معنى للإفطار عقيب الإفطار ، فلا تأثير له في الكفّارة بوجه ، فتكفيه إحدى الخصال كفّارةً لما ارتكبه من الحلال.

هذا فيما إذا كان المحرّم غير الجماع ، مثل : تناول الخمر أو المغصوب ونحوهما.

وأمّا إذا كان هو الجماع ، فبما أنّه سبب مستقلّ لكفّارة الجمع على القول به من غير فرق بين كونه مفطراً أم لا ، فاللّازم حينئذٍ هو الجمع بين كفّارة الجمع للجماع المحرّم وبين إحدى الخصال تكفيراً للإفطار بالحلال ، وليس له الاقتصار على الثاني كما لا يخفى.

__________________

(*) في وجوب كفّارة الجمع حينئذٍ إشكال بل منع ، وأمّا إذا كان الإتيان بالحرام جماعاً فعليه كفّارة الجمع على الأحوط زائدة على كفّارة الإفطار أوّلاً.

٣٤٨

[٢٤٧٩] مسألة ١٠ : لو علم أنّه أتى بما يوجب فساد الصوم وتردّد بين ما يوجب القضاء فقط أو يوجب الكفّارة أيضاً (١) لم تجب عليه ، وإذا علم أنّه أفطر أيّاماً ولم يدر عددها (٢) يجوز له الاقتصار على القدر المعلوم.

______________________________________________________

نعم ، يتّجه ذلك في صورة العكس ، أعني : ما لو أفطر أوّلاً بالحرام جماعاً كان أم غيره ، ثمّ بحلال أو حرام غير الجماع ، فإنّه تكفيه حينئذٍ كفّارة الجمع ، لعدم تأثير الثاني ، إذ لا إفطار بعد الإفطار ، وأمّا لو كان الثاني هو الجماع لزم ضمّ كفّارة أُخرى إلى كفّارة الجمع ، إذ هو بنفسه سبب مستقلّ ، والأصل عدم التداخل كما مرّ.

ومنه تعرف أنّه لو أفطر بالجماع الحلال أوّلاً ثمّ بمثله ثانياً لزمه تكرير التكفير بإحدى الخصال ، كما أنّه لو أفطر بالجماع الحرام أوّلاً ثمّ بمثله ثانياً لزمته كفّارة الجمع مكرّراً ، ولو اختلفا فبالاختلاف.

والحاصل : أنّ مقتضى ما عرفت من تكرّر الكفّارة بتكرّر الجماع وعدمه فيما عداه هو التفصيل على النحو الذي سمعت ، فلاحظ وتدبّر.

(١) تعرّض (قدس سره) في هذه المسألة لفروع الشكّ ، فمنها : أنّه لو علم الإتيان بما يفسد الصوم ، وتردّد بين ما يوجب القضاء فقط وما يوجب الكفّارة أيضاً ، حيث إنّ المفطرات مختلفة من هذه الجهة كما مرّت الإشارة إليها سابقاً ويأتي تفصيلها لاحقاً إن شاء الله تعالى ، فلا إشكال حينئذٍ في عدم وجوب الكفّارة ، اقتصاراً على المقدار المتيقّن ودفعاً للزائد المشكوك فيه بالأصل ، كما هو الشأن في الدوران بين الأقل والأكثر الاستقلاليّين ، وهذا ظاهر.

(٢) ومنها : أنّه لو علم بإفطاره أيّاماً ولم يدر عددها ، فتارةً : يكون الشكّ من ناحية الكفّارة ، وأُخرى : من ناحية القضاء ، وعلى التقديرين : يجوز له

٣٤٩

.................................................................................................

______________________________________________________

الاقتصار على المقدار المعلوم كما أفاده في المتن.

أمّا الأوّل : فلأصالة البراءة عن وجوب الكفّارة الذي هو حكم جديد زائداً على المقدار المعلوم ، وهذا من غير فرق بين كون النسيان الفعلي مسبوقاً بالذكر في ظرفه وعدمه ، إذ العبرة في جريان الأصل بظرف الشكّ والحالة الفعليّة ، ولا عبرة بالعلم السابق الزائل ، لدوران التنجيز مدار وجود المنجّز حدوثاً وبقاءً كما هو مقرّر في الأُصول.

وأمّا الثاني : فقد يقال : إنّ التكليف بالصوم قد تنجّز في ظرفه ويُشكّ في الخروج عن عهدته ، للشكّ في حصول الامتثال بعدد الاشتغال ، ومعلوم أنّ قاعدة الحيلولة المقرّرة في الصلاة غير جارية في الصوم ، فلا مناص من الاحتياط في القضاء بالإتيان بالمشكوك فيه قضاءً ، لقاعدة الاشتغال.

ولا يخفى أنّ هذا التقرير وجيه لو قلنا بتبعيّة القضاء للأداء ، بدعوى انحلال الأمر الحادث في الوقت إلى أمرين : أمر بالطبيعي الجامع ، وأمر آخر بإيقاع ذاك الطبيعي في الوقت ، فإذا خرج الوقت وشكّ في الامتثال فالأمر الثاني ساقط جزماً ، وأمّا الأوّل فبما أنّه يُشكّ في سقوطه فلا محيص عن الاحتياط تحصيلاً للقطع بالفراغ.

إلّا أنّ هذا المبنى بمعزل عن التحقيق ، والصواب أنّ القضاء بأمرٍ جديد كما سبق في محلّه (١) وأنّه ليس في الوقت إلّا أمر واحد متعلّق بالطبيعة الخاصّة وهي الإتيان بالعمل في وقته ، وأنّ الانحلال على خلاف ظواهر الأدلّة جدّاً ، إذا لا يستفاد من قوله تعالى (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) (٢) إلى قوله : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ

__________________

(١) شرح العروة (كتاب الصلاة) ٥ : ١١.

(٢) البقرة ٢ : ١٨٣.

٣٥٠

وإذا شكّ في أنّه أفطر بالمحلّل أو المحرّم كفاه إحدى الخصال (١).

وإذا شكّ في أنّ اليوم الذي أفطره كان من شهر رمضان أو كان من قضائه (٢)

______________________________________________________

الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) (١) إلّا وجوب الصوم في هذا الشهر لا وجوب طبيعي الصيام ، ووجوب إيقاع هذا الطبيعي في شهر رمضان فإنّه بعيد عن المتفاهم العرفي غايته ، وهكذا الحال في سائر المؤقتات.

وعليه ، فالأمر الواحد الحادث في الوقت ساقطٌ عند خروجه جزماً ، إمّا بالامتثال ، أو بخروج الوقت المستلزم لزوال الموضوع ويحدث بعدئذٍ أمر جديد متعلّق بالقضاء ، وبما أنّ موضوعه الفوت فثبوته منوط بإحرازه ، ومع الشكّ في كمّية الفائت يُشكّ لا محالة في تعلّق الأمر بالقضاء زائداً على المقدار المعلوم ، ومعه يرجع في نفي المشكوك فيه إلى أصالة البراءة ، ومن المعلوم أنّ أصالة عدم الإتيان بالمأمور به في الوقت لا يثبت عنوان الفوت ، لعدم حجّيّة الأُصول المثبتة. وعليه ، فيقتصر في القضاء على المقدار المعلوم.

(١) ومنها : أنّه لو شكّ في أنّه أفطر بالمحلّل أو بالمحرّم فإنّه تكفيه إحدى الخصال ، للقطع بوجوبها على كل حال ، والشكّ في الزائد عليها ، فيرجع في نفيه إلى أصل البراءة كما هو الحال في كلّ مورد دار الأمر فيه بين التعيين والتخيير في مقام

الجعل الذي مرجعه لدى التحليل إلى الدوران بين الأقلّ والأكثر كما لا يخفى.

(٢) ومنها : أنّه لو شكّ في أنّ اليوم الذي أفطر فيه هل كان من شهر رمضان أو كان من قضائه ، وهذا على نوعين ، إذ قد يفرض حصول الإفطار قبل الزوال ، وأُخرى بعده.

__________________

(١) البقرة ٢ : ١٨٥.

٣٥١

وقد أفطر قبل الزوال لم تجب عليه الكفّارة ، وإن كان قد أفطر بعد الزوال كفاه إطعام ستّين مسكيناً ، بل له الاكتفاء بعشرة مساكين (*).

______________________________________________________

أمّا الأوّل : فمرجعه إلى الشكّ في تعلّق الكفّارة من أصلها ، إذ لا كفّارة في الإفطار قبل الزوال في قضاء رمضان ، فيرجع في نفيها إلى أصالة البراءة ، وهذا ظاهر فليس عليه إلّا القضاء فحسب.

وأمّا الثاني : فثبوت الكفّارة معلوم ، غير أنّها مردّدة بين إحدى الخصال الثلاث لو كان ذلك اليوم من شهر رمضان ، وبين إطعام عشرة مساكين لو كان من قضائه ، وحينئذٍ فلا إشكال في فراغ الذمّة وبراءتها بإطعام ستّين مسكيناً ، لأنّه امّا عِدل للواجب التخييري ، أو مشتمل على الواجب وهو عشرة مساكين وزيادة غير قادحة كما هو واضح جدّاً.

وهل له الاكتفاء بعشرة مساكين؟

احتمله في المتن بدعوى أنّا نعلم بوجوبها إجمالاً إمّا تعييناً ، أو في ضمن ستّين مسكيناً تخييراً بينه وبين العتق والصيام ، فالصدقة على العشرة ممّا يعلم بتعلّق الطلب بها المردّد بين التعيين والتخيير ، ويُشكّ في وجوب الزائد عليها فيرجع في نفيه إلى أصالة البراءة.

ويندفع : بعدم كون المقام من قبيل الدوران بين التعيين والتخيير ليؤخذ بالمتيقّن في مقام الجعل ويُدفع الزائد بالأصل ، وذلك لما ذكرناه في محلّه من الأُصول (١) عند تصوير الواجب التخييري من أنّ متعلّق الوجوب إنّما هو الجامع الانتزاعي المنطبق على كلّ من الطرفين أو الأطراف ، وليس الطرف بنفسه

__________________

(*) لا وجه لذلك أصلاً ، نعم الاكتفاء بإطعام ستّين مسكيناً.

(١) محاضرات في أُصول الفقه ٢ : ٢٠٠ ٢٠٢.

٣٥٢

.................................................................................................

______________________________________________________

متعلقاً للتكليف بوجه ، وإنما هو محقّق للامتثال ومسقِط للأمر المتعلّق بالجامع من أجل انطباقه عليه.

وعليه ، ففي المقام نعلم إجمالاً بتعلّق الطلب ، أمّا بالعنوان الجامع أعني : إحدى الخصال من إطعام الستّين وأخويه أو بإطعام عشرة مساكين ، ومن الضروري أنّ العشرة مباينة مع الجامع المزبور وليس أحدهما متيقّناً بالإضافة إلى الآخر ليؤخذ به ويُدفع الزائد بالأصل.

نعم ، العشرة متيقّنة بالإضافة إلى الستّين ، ولكن الستّين ليس متعلّقاً للتكليف جزماً ، إنّما المتعلّق هو الجامع المنطبق عليه وعلى غيره ، والجامع مباين مع العشرة.

وعليه ، فكما أنّ مقتضى الأصل عدم تعليق التكليف بالجامع كذلك مقتضاه عدم تعلّقه بالعشرة ، فيسقطان بالمعارضة ، فلا بدّ من الاحتياط ، ويتحقّق بأحد أمرين : إمّا بالجمع بين العشرة وبين العتق أو الصيام ، وإمّا باختيار الستّين للقطع بتحقّق الامتثال في ضمنه ، إمّا لكونه عدلاً للواجب التخييري ، أو لأجل اشتماله على العشرة وزيادة ، فالستّون متيقّن في مقام الامتثال لا في مقام تعلق التكليف ، وأمّا العشرة فليست بمتيقّنة حتّى في مقام تعلّق التكليف ، لما عرفت من المباينة بينها وبين الجامع ، ومن هنا لم يجز الاقتصار عليها ودفع الزائد بالأصل ، إذ من الجائز أن يكون الواجب هو الجامع ولا يؤمّن بالنسبة إليه ، لما عرفت من أنّ أصالة عدم وجوبه معارضة بأصالة عدم وجوب العشرة.

ولتوضيح المقام نقول : إنّه في موارد الدوران بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين قد يقال بالانحلال ، نظراً إلى أنّ تعلّق التكليف بالأقل معلومٌ على كلّ تقدير ، وأمّا تعلّقه بالزائد عليه وهو الأكثر فمشكوك يُدفع بأصالة البراءة ، وعلى ضوء ذلك يقال في المقام : بأنّ تعلّق الأمر بالتصدّق على عشرة مساكين معلوم ،

٣٥٣

.................................................................................................

______________________________________________________

وأمّا الزائد عليه وهو الستّون تخييراً بينه وبين العتق والصيام فمشكوكٌ يُرجع في نفيه إلى أصل البراءة.

ولكنّه بمراحل عن الواقع كما فصّلنا البحث حوله في الأُصول (١) ، ضرورة أنّ الأقلّ بوصف كونه أقلّ مشكوكٌ فيه ، إذ هو طرفٌ للعلم فكيف يكون متيقّناً؟! وإنّما المتيقّن هو ذات الأقلّ الجامع بين اللااقتضائيّ بشرط وبين بشرط شي‌ء أي بشرط الانضمام إلى الزائد فإنّ هذا الوجوب المهمل المردّد بين الوصفين المزبورين هو الذي يُتيقّن بوجوده على كلّ تقدير ، ولا ريب في أنّ هذا الوجوب الجامع هو نفس العلم الإجمالي بعينه ، فكيف ينحلّ به العلم الإجمالي؟! وهل هذا إلّا انحلال الشي‌ء بنفسه ، فالانحلال بهذا النحو انحلالاً حقيقيّا أمرٌ غير معقول.

نعم ، التزمنا ثمّة بالانحلال على وجهٍ بحيث يترتّب عليه نتيجة الانحلال الحقيقي وأسميناه بالانحلال الحكمي ، بتقريب أنّ المناط في تنجيز العلم الإجمالي معارضة الأُصول المستوجبة لتطرّق احتمال العقاب من غير مؤمّن ، الواجب دفعه بحكم العقل ، القاضي بلزوم دفع الضرر أي العقاب المحتمل ، فمتى تعارضت الأُصول في الأطراف تنجّز العلم الإجمالي ، بل كان نفس الاحتمال غير المقترن بالمؤمّن منجّزاً حسبما عرفت.

وأمّا إذا اختصّ بعض الأطراف بالأصل دون الآخر بحيث انتفت المعارضة ، لم يكن العلم في مثله منجّزاً ، كما لو علم بفقدان الركن من صاحبة الوقت أو من الفائتة ، فإنّ قاعدة الفراغ الجارية في كلّ منهما تسقط بالمعارضة ، إلّا أنّ الاولى تختصّ بقاعدة الاشتغال ، دون الثانية ، فإنّ المرجع فيها قاعدة الحيلولة ، الراجعة إلى أصالة البراءة عن القضاء ، وبذلك ينحلّ العلم الإجمالي ، وموارد الدوران بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين من هذا القبيل ، فإنّ وجوب الأقل على نحو

__________________

(١) مصباح الأُصول ٢ : ٤٢٦ ٤٣٠.

٣٥٤

[٢٤٨٠] مسألة ١١ : إذا أفطر متعمّداً ثمّ سافر بعد الزوال لم تسقط عنه الكفّارة بلا إشكال (١) ، وكذا إذا سافر قبل الزوال للفرار عنها ، بل وكذا لو بدا له السفر لا بقصد الفرار على الأقوى ، وكذا لو سافر فأفطر قبل الوصول إلى حدّ الترخّص.

______________________________________________________

بشرط شي‌ءٌ فيه كلفة ومشقّة ، فيُدفع بأصالة البراءة ، وأمّا وجوبه بنحو اللااقتضائيّ بشرط وعلى سبيل الإطلاق فهو عين التوسعة ، فلا يمكن دفعه بأصالة البراءة المقرّرة لرفع الضيق ، وإثبات السعة امتناناً على الأُمّة ، وحيث اختصّ أحد الطرفين بالأصل دون الآخر فقد حصلت نتيجة الانحلال وسقط العلم الإجمالي عن التنجيز.

هذا كلّه في موارد الدوران بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين.

وأمّا في محلّ الكلام فلا سبيل لهذا التقريب ، لما عرفت من أنّ إطعام العشرة وإحدى الخصال اللذين هما طرفا العلم الإجمالي متباينان ، والأصل الجاري في كلّ منهما معارَض بمثله ، وإذ كانت الأُصول متعارضة فلا محال يتنجّز العلم الإجمالي ، ومعه لا مناص من الاحتياط على النحو الذي عرفت ، فليس له الاقتصار على إطعام العشرة بوجه ، لعدم حصول البراءة بذلك أبداً.

(١) هل تسقط الكفّارة بعروض ما يبطل معه الصوم من السفر والحيض ونحوهما ، أو لا؟ أو يفرّق في ذلك بين الموانع الاختياريّة والاضطراريّة؟ أو يفرّق في الاختياريّة بين ما كان لأجل الفرار عن الكفّارة وغيره؟

لا إشكال كما لا خلاف في عدم السقوط بالسفر بعد الزوال ، لوجوب إتمام الصوم حينئذٍ وصحّته ، فلا أثر له في رفع الكفّارة جزماً ، وهذا ظاهر.

وأمّا إذا سافر قبل الزوال بحيث كانت وظيفته الإفطار إمّا مطلقاً أو مع

٣٥٥

وأمّا لو أفطر متعمّداً ثمّ عرض له عارض قهري من حيض أو نفاس أو مرض أو جنون أو نحو ذلك من الأعذار ، ففي السقوط وعدمه وجهان ، بل قولان ، أحوطهما الثاني (*) ، وأقواهما الأوّل.

______________________________________________________

تبييت النيّة ، فهل هذا الحكم المتأخّر أعني : البطلان اللّاحق يستوجب سقوط الكفّارة الثابتة على تقدير عدم السفر؟

كأنّ المتسالم عليه عند الأصحاب بل ممّا ادّعي عليه الإجماع هو عدم السقوط ، ولا سيّما إذا سافر اختياراً للفرار عنها ، وهذا هو الصحيح.

والوجه فيه : أنّ المستفاد من قوله تعالى (كُلُوا وَاشْرَبُوا) (١) إلى قوله (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ) إلخ (٢) : أنّ كلّ مكلّف مأمور في شهر رمضان بالإمساك عن الأكل والشرب من بعد طلوع الفجر وقد قيل : إنّ حقيقة الصوم هو الكفّ عن خصوص الطعام والشراب وقد الحق بهما بقيّة المفطرات وبإتمام الصيام إلى الليل ، وقد استثني من ذلك المريض والمسافر. وظاهره من كان كذلك بالفعل ، وأمّا من يكون مسافراً فيما بعد فهو غير داخل في الاستثناء ، بل تشمله الآية المباركة من النهي عن الأكل والشرب بعد طلوع الفجر ، فهو مأمور بالإمساك ما لم يتلبّس بالسفر.

وكذلك الروايات ، حيث تضمّنت المنع عن تناول المفطر قبل أن يخرج المسافر إلى حدّ الترخّص ، فإذا تناوله يصدق أنّه أفطر في شهر رمضان متعمّداً ،

__________________

(*) هذا الاحتياط لا يترك.

(١) البقرة ٢ : ١٨٧.

(٢) البقرة ٢ : ١٨٤.

٣٥٦

.................................................................................................

______________________________________________________

وقد أُخذ الإفطار كذلك موضوعاً لوجوب الكفّارة في غير واحد من النصوص ، فإنّ المأخوذ في لسان بعضها وإن كان هو عنوان الصائم الذي ربّما يتأمّل في صدقه على من سيتلبّس بالسفر ، ولكن المذكور في أكثرها هو عنوان الرجل كما في صحيحة جميل وغيرها ، وكذا في نصوص الجماع المتضمّنة رجل جامع أو أتى أهله في شهر رمضان ونحو ذلك ، فإنّ هذه العناوين صادقة على من تناول المفطر من الأكل أو الشرب أو الجماع ونحو ذلك ، فهو رجل مأمور بالإمساك بمقتضى الآية والروايات ، وقد أفطر متعمّداً في شهر رمضان ، ومعنى أفطر : أنّه نقض هذا العدم وقلبه إلى الوجود ، فإنّ الإفطار مقابل للإمساك الذي هو صوم لغوي ، ولا يتوقّف صدقه على تحقّق الصوم الصحيح الشرعي ، بل كلّ من كان مأموراً بالإمساك سواء أكان ذلك مصداقاً للصوم الشرعي أيضاً ، أم لا فأوّل ما يتناوله ممّا ينتقض به العدم وينثلم به الترك فهو إفطار ، فيصحّ أن يقال : إنّه أفطر ، أي أتى بشي‌ء يضادّ الإمساك وينافيه.

فهذه الإطلاقات وافية لإثبات الكفّارة في المقام ، إذ يثبت بها أنّ الممنوع عن الأكل والشرب إذا أفطر أي رفع اليد عما كان عليه من الامتناع تعلّقت به الكفّارة ، سواء أتى بعدئذٍ بما يكون مبطلاً للصوم في حدّ نفسه كالسفر أم لا.

بل يمكن أن يقال : إنّها تدلّ على المطلوب بأزيد من الدلالة الإطلاقية ، فإنّ السفر لو كان مسقطاً للكفّارة لأُشير إليه في هذه الأخبار الواردة في مقام البيان ، ولا سيّما مثل صحيحة جميل (١) المشتملة على اضطراب السائل بقوله : هلكت وأهلكت ... إلخ ، فإنّه أسهل طريق للتخلّص من الكفّارة التي هي تكليف شاقّ لأغلب الناس ، فنفس الكسوت وعدم التعرّض لهذا المفرّ في شي‌ء من النصوص

__________________

(١) انظر الوسائل ١٠ : ٤٥ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٨ ح ٢.

٣٥٧

.................................................................................................

______________________________________________________

أقوى شاهد على عدم تأثيره في سقوط الكفّارة.

وكيفما كان ، فلا شكّ أنّ مقتضى إطلاق الأدلّة من الكتاب والسنّة وجوب الإمساك من لدن طلوع الفجر لكلّ مكلّف في شهر رمضان ما لم يكن مسافراً آن ذاك. ثمّ إنّ هذا قد يكون مأموراً بالإتمام إلى الليل ، وأُخرى لا ، كما لو عرضه السفر قبل الزوال. وعلى أيّ حال ، فلو أفطر وهو في البلد ففي الوقت الذي أفطر هو مأمور بالصوم ، لا بالصوم المعهود المتعارف حتّى يقال : إنّه ينكشف بالسفر عدمه ، بل بالصوم اللغوي ، أي بالإمساك عن الأكل والشرب ما لم يسافر ، فحينما أفطر كان إفطاره مقروناً بالأمر بالصوم فيشمله جميع ما ورد من أنّ من أفطر في شهر رمضان متعمّداً فعليه الكفّارة. فهذه الإطلاقات كافية لإثبات المطلوب.

مضافاً إلى ورود النصّ الخاصّ بذلك ، وهي صحيحة زرارة ومحمّد بن مسلم ، قالا : قال أبو عبد الله (عليه السلام) : «أيّما رجل كان له مال فحال عليه الحول فإنّه يزكِّيه» قلت له : فإن وهبه قبل حلّه بشهر أو بيوم؟ «قال : ليس عليه شي‌ء أبداً» قال : وقال زرارة عنه أنّه قال : «إنّما هذا بمنزلة رجل أفطر في شهر رمضان يوماً في إقامته ثمّ خرج في آخر النهار في سفر فأراد بسفره ذلك إبطال الكفّارة التي وجبت عليه» وقال : «إنّه حين رأى هلال الثاني عشر وجبت عليه الزكاة ، ولكنّه لو كان وهبها قبل ذلك لجاز ولم يكن عليه شي‌ء بمنزلة من خرج ثمّ أفطر» إلخ (١).

حيث دلّت على أنّ من حال الحول على ماله وجبت عليه الزكاة ولا تسقط بعدئذٍ بالهبة ، فإنّ الهبة اللاحقة لا تؤثّر في سقوط الزكاة السابقة ، فهو نظير ما لو أفطر الإنسان فوجبت عليه الكفّارة في شهر رمضان ثمّ سافر آخر النهار ،

__________________

(١) الوسائل ٩ : ١٦٣ / أبواب زكاة الذهب والفضة ب ١٢ ح ٢.

٣٥٨

.................................................................................................

______________________________________________________

فكما أنّ السفر اللاحق لا يؤثّر في سقوط الكفّارة السابقة فكذا فيما نحن فيه. ومنه تعرف أنّ المشار إليه في قوله : «إنّما هذا» إلخ ، هو الصدر ، أعني : من حال الحول على ماله قبل أن يهب ، الذي هو المقصود بالبيان والمسوق له الكلام ، دون ما بعده الذي فرض فيه الهبة قبل حلول السنة ، الواقع كجملة مستأنفة كما لا يخفى.

وإنّما قيّد (عليه السلام) السفر بآخر النهار لأنّه أوقع في التشبيه بمحلّ الكلام وأتمّ ، إذ المشبّه هو الهبة بعد حلول الحول واستقرار الوجوب وتعيّن الزكاة على نحوٍ لا يمكن التخلّص عنها ، ولأجل ذلك كان الأوقع تشبيهه بمن سافر آخر النهار ، أي بعد الزوال ، بحيث كان الصوم متعيّناً في حقّه ولا يمكن التخلّص عنه بأيّ وجه ، بخلاف ما قبله ، لعدم استقرار الوجوب عليه بعد ، لإمكان التخلّص عنه حينئذٍ بالسفر ، فمن أجل هذه النكتة شبّهه (عليه السلام) بالسفر بعد الزوال ، وإلّا فالذي يظهر من ذيل الرواية أنّ العبرة في الكفّارة بجواز الإفطار وعدمه ، وأنّه لو أفطر في زمانٍ لا يسوغ له الإفطار ثمّ سافر وإن كان قبل الزوال لم تسقط عنه الكفّارة ، حيث قال (عليه السلام) في الذيل «ولكنّه لو كان وهبها قبل ذلك لجاز ولم يكن عليه شي‌ء بمنزلة من خرج ثمّ أفطر» إلخ ، حيث شبّه (عليه السلام) الهبة قبل حلول الحول المانعة عن تعلّق التكليف بالزكاة بالصائم الذي خرج عن بلده ثمّ أفطر ، فقيّد الإفطار بالخروج عن البلد ، ومعلوم أنّ هذا حكم ما قبل الزوال ، وإلّا فبعده لا يجوز الإفطار خرج أم لم يخرج.

وعلى الجملة : قد تضمّن الذيل نفي البأس عن الهبة قبل حلول الحول ، لأنّه وهبه في وقت حلال ، إذ لم يكن التكليف بالزكاة متوجّهاً إليه وقتئذٍ ، فهو بمنزلة الصائم الذي خرج إلى السفر وأفطر بعد خروجه الذي لا يكون إلّا قبل الزوال بطبيعة الحال كما عرفت فإنّ هذا الإفطار لا يوجب الكفّارة ، لوقوعه في وقت حلال ، لعدم كونه مكلّفاً بالصوم عندئذٍ. فيظهر من تقييد الإفطار بالخروج أنّه

٣٥٩

.................................................................................................

______________________________________________________

لو أفطر قبل الخروج لم تسقط عنه الكفّارة وإن خرج وسافر ، لوقوع الإفطار حينئذٍ في وقت غير حلال.

فيظهر من ذيل الصحيحة بوضوح أنّ العبرة في الكفّارة وعدمها بكون الإفطار في وقتٍ سائغ وعدمه ، فإن أفطر في زمانٍ لم يكن الإفطار جائزاً في حقّه كما لو كان قبل خروجه ، أو كان بعد الزوال وإن كان بعد خروجه لم تسقط عنه الكفّارة ، وأمّا إذا أفطر في زمانٍ يجوز له الإفطار كما لو أفطر بعد خروجه قبل الزوال سقطت ، أي لم تتعلق به الكفّارة حينئذٍ ، فالصحيحة واضحة الدلالة على المطلوب ، فلا بأس بالاستدلال بها ، ولا وجه للمناقشة فيها.

وكيفما كان ، فلا ينبغي التأمّل في المسألة ، وأنّ السفر لا يسقِط الكفّارة.

هذا ، والظاهر عدم الفرق في ذلك بين ما إذا كان السفر لأجل الفرار أو لغايةٍ اخرى ، كان اختياريّاً أو اضطراريّاً ، لوحدة الملاك في الجميع ، وهو حصول الإفطار في زمانٍ قد أمر فيه بالإمساك.

وهذا يجري في غير السفر أيضاً من سائر الموانع من الحيض والنفاس والجنون بل الموت ، فلو كان يعلم بموته بعد ساعة إمّا لكونه محكوماً بالأعدام ، أو لذهابه إلى الجهاد وميدان القتال ، لم يجز له الإفطار حينئذٍ بزعم أنّه غير متمكن من إتمام الصوم ، بل هو مأمور بالإمساك ، فلو أفطر تعلّقت به الكفّارة.

وكذا الحال في ذات العادة التي تعلم بتحيّضها بعد ساعة من النهار ، فإنّه لا يجوز لها الإفطار قبل ذلك. ويدلّ على حكم هذه بالخصوص مضافاً إلى ما سمعت من إطلاق الآية المباركة والروايات خصوص الأخبار الواردة في الحيض ، للتصريح في بعضها وهي روايتان ـ : إنّها «تفطر حين تطمث» (١) فيستفاد من

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ٢٢٨ / أبواب من يصح منه الصوم ب ٢٥ ح ٢.

٣٦٠