موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ مرتضى البروجردي

.................................................................................................

______________________________________________________

يدلّ على الإجزاء ، فإنّ غاية ما يستفاد من الأدلّة في باب الصوم جواز الإفطار معهم للتقيّة ، وأنّ من لا تقيّة له لا دين له. ومن الواضح أنّ هذا بالإضافة إلى الصحّة وحصول الأجزاء أي سقوط الإعادة أو القضاء لازم أعمّ ، ومن الجائز أن يكون ذلك من قبيل الإكراه المسقط للتكليف فقط دون الوضع كما عرفت ، فيكون التحفّظ والاتّقاء واجباً في نفسه من غير استلزام لصحّة العمل بوجه كي يكون محسوباً له ومورداً للامتثال ، إذ لا مانع من أن يكون مأموراً به ومع ذلك لا يكون مجزئاً كما في موارد الإكراه والاضطرار.

وملخّص الكلام : أنّ النصوص الكثيرة قد دلّت على مشروعيّة التقيّة ، بل وجوبها ، بل كونها من أهمّ الواجبات الإلهية ، حتّى سُلِب الدين ممّن لا تقيّة له ، إلّا أنّ هذه الروايات أجنبيّة عن باب الأجزاء بالكلّيّة ، فإنّ الوجوب بعنوان التقيّة لا يستلزم الصحّة ، والتكليف لا يلازم الوضع أبداً ، ومقتضى القاعدة أعني : إطلاق أدلّة الأجزاء والشرائط والموانع هو البطلان وعدم الإجزاء.

نعم ، ثبت الإجزاء في خصوص باب الصلاة ومقدّماتها بأدلّة خاصّة ، غير الأدلّة الأوّلية المتكفّلة لمشروعيّة التقيّة أو وجوبها ، فلو سجد مثلاً على ما لا يصح السجود عليه ، أو أمّن أو تكتّف في صلاته أو غسل رجله ، أو نكس في وضوئه ، كل ذلك يجزئ ولا حاجة إلى الإعادة ، للأدلّة الخاصّة.

فكلّ مورد قام الدليل فيه بالخصوص على الإجزاء فهو المتّبع ، وأمّا غير ذلك ومنه الصيام في المقام فلا يجزئ ، ومقتضى القاعدة حينئذٍ هو البطلان حسبما عرفت.

ولكن قد يقال : إنّه يستفاد الإجزاء بصورة عامّة من بعض نصوص التقيّة ، وعمدتها روايتان.

الاولى : ما دلّ على أنّ التقيّة في كلّ شي‌ء ما عدا ثلاثة التي منها المسح على

٢٨١

.................................................................................................

______________________________________________________

الخفّين ، وهي ما رواه في الكافي بإسناده عن أبي عمر الأعجمي ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، في حديث أنّه قال : «لا دين لمن لا تقيّة له ، والتقيّة في كلّ شي‌ء إلّا في النبيذ والمسح على الخفّين» (١).

وفي صحيح زرارة قال : «قلت له : في مسح الخفّين تقيّة؟ «فقال : ثلاثة لا أتّقي فيهنّ أحداً : شرب المسكر ، ومسح الخفّين ، ومتعة الحجّ» قال زرارة : ولم يقل الواجب عليكم أن لا تتّقوا فيهنّ أحداً (٢).

فإنّه يستفاد من الاستثناء بقرينة أنّ المسح على الخفّين ليس في نفسه من أحد المحرّمات أنّ الحكم عامّ للوضع والتكليف ، وأنّ المسح على الخفّين لا يجزئ ولكن غيره يجزئ ، فهي تدلّ على الإجزاء في سائر موارد التقيّة ، كما تدل على الجواز بمعنى : أنّ المستثنى منه أعمّ من الحكم التكليفي والوضعي باعتبار استثناء المسح.

ويرد عليه أوّلاً : أنّ سند رواية الأعجمي غير خالٍ من الخدش ، فإنّ صاحب الوسائل يرويها عن الكافي وعن المحاسن عن أبي عمر الأعجمي ، وهو مجهول.

نعم ، يرويها معلّق الوسائل في الطبعة الجديدة عن كتاب المحاسن هكذا : عن هشام وعن أبي عمر الأعجمي. وعلى هذا تكون الرواية صحيحة من أجل ضميمة هشام.

ولكن هذه النسخة معارَضة بالنسخة التي كانت عند صاحب الوسائل العارية عن الواو كما عرفت ، فلم يبق وثوقٌ بهذه النسخة.

ولو سلّمنا أنّ جميع نسخ المحاسن كذلك ، إلّا أنّها معارضة برواية الكافي ،

__________________

(١) الوسائل ١٦ : ٢١٥ / أبواب الأمر والنهي ب ٢٥ ح ٣ ، الكافي ٢ : ١٧٢ / ٢ ، المحاسن ١ : ٤٠٤ / ٩١٣.

(٢) الوسائل ١٦ : ٢١٥ / أبواب الأمر والنهي ب ٢٥ ح ٥.

٢٨٢

.................................................................................................

______________________________________________________

حيث إنّها أيضاً خالية من الواو كما سمعت.

إذن فيُشكّ في كيفيّة السند ، ومعه تسقط الرواية عن درجة الاعتبار.

وثانياً : مع الغضّ عن السند فهي معارَضة في موردها بما دلّ على جريان التقيّة في المسح على الخفّين أيضاً كما تقدّم في محلّه.

وثالثاً : أنّ نفي الاتّقاء في ذلك إمّا لعدم الموضوع للتقيّة ، لإمكان المسح على الرجلين ، أو غسل الرجلين ، لعدم كون المسح على الخفّين متعيّناً عندهم وعدم كون الأمر منحصراً فيه ، بل هو لديهم سائغ جائز لا أنّه واجب لازم ، كما أنّ الأمر في شرب النبيذ والمسكر أيضاً كذلك ، فإنّه لا يجب عندهم فله أن يمتنع.

أو أنّ المراد أنّه (عليه السلام) هو بنفسه لا يتّقي ، لعدم الحاجة إليها وعدم الابتلاء ، ولذا أسنده إلى نفسه (عليه السلام) كما أُشير إليه في ذيل صحيح زرارة المتقدّم. وقد مرّ الكلام حول ذلك في محلّه مستقصًى.

ورابعاً : مع الغضّ عن كلّ ذلك ، فهي في نفسها قاصرة الدلالة على الإجزاء والصحّة ، فانّ الاستثناء في قوله (عليه السلام) : «التقيّة في كلّ شي‌ء إلّا» إلخ استثناءٌ عمّا ثبت ، والذي ثبت هو الوجوب ، ويكون حاصل المعنى : أنّ التقيّة التي لها كمال الأهمّيّة بحيث إنّ من لا تقيّة له لا دين له ، وهي ديني ودين آبائي ، وبطبيعة الحال كانت واجبة موردها غير هذه الثلاثة ، فالتقيّة فيها حتّى في المسح على الخفّين غير واجبة ، ولا يكون تركها حراماً.

وأين هذا من الدلالة على الإجزاء؟! فلا تعرّض فيها إلّا لبيان مورد وجوب التقيّة وأنّه غير هذه الثلاثة. ومن الواضح أنّ الوجوب في غير الثلاثة وعدمه فيها لا يستدعي إرادة الأعمّ من الحكم الوضعي ورفع اليد عن الظهور في الاختصاص بالحكم التكليفي كما عرفت.

والحاصل : أنّه ليس في هذه الرواية الناظرة إلى أدلّة التقيّة أيّ دلالة على

٢٨٣

.................................................................................................

______________________________________________________

الإجزاء ، بل غايته أنّ تارك التقيّة فاسقٌ إلّا في هذه الموارد الثلاثة ، فهي أجنبيّة عن الدلالة على الإجزاء والصحّة بالكلّيّة.

الرواية الثانية : ما رواه في الكافي بإسناده عن أبي الصباح : ثمّ قال : «ما صنعتم من شي‌ء أو حلفتم عليه من يمين في تقيّة فأنتم منه في سعة» (١).

وهذه الرواية من حيث السند معتبرة ، فإنّ الظاهر أنّ المراد بأبي الصباح هو إبراهيم بن نعيم المعروف بالكناني ، الذي قال الصادق (عليه السلام) في حقّه : «إنّه ميزان لا عين فيه» (٢) وهو ثقة جدّاً ومن الأجلّاء ، وسيف بن عميرة أيضاً موثّق ، وكذا علي بن الحكم وإن قيل : أنّه مردّد بين أشخاص.

وأمّا من حيث الدلالة فربّما يستظهر من عمومها أنّ كلّ عمل يؤتى به في حال التقيّة فالمكلّف في سعة من ناحيته ولا يلحقه شي‌ء ولا يترتّب عليه أثر ومنه القضاء في المقام. وهذا كما ترى مساوق للصحّة والإجزاء.

ولكن الجواب عن هذا أيضاً قد ظهر مما مرّ ، فإنّ غاية ما تدلّ عليه إنّما هو السعة من ناحية ارتكاب العمل فلا تلحقه تبعة من هذه الجهة ، لا من ناحية ترك الواجب لتدلّ على الإجزاء والاكتفاء بالعمل الناقص عن الكامل.

فلو فرضنا أنّ الفعل المتّقى فيه كان له أثر لولا التقيّة ، كالكفّارة لو كان يميناً ، والبينونة لو كان طلاقاً ، والمؤاخذة لو كان شرباً للخمر أو النبيذ لو جرت التقيّة فيه وكما لو لاقى الماء جسماً أصابه الدم وقد أُزيل عنه العين ولو بالبصاق حيث يرونه طاهراً حينئذٍ فاضطرّ إلى شرب ذلك الماء تقيّة ، ففي جميع هذه الموارد لا يترتّب الأثر المترتّب على الفعل في حدّ نفسه من المؤاخذة وغيرها ، فلا تترتّب الكفّارة ولا المؤاخذة على ارتماس الصائم لو صدر منه تقيّةً.

__________________

(١) الوسائل ٢٣ : ٢٢٤ / كتاب الأيمان ب ١٢ ح ٢ ، الكافي ٧ : ٤٤٢ / ١٥.

(٢) رجال الطوسي : ١٠٢ / ٢.

٢٨٤

.................................................................................................

______________________________________________________

وأمّا القضاء فليس من آثار الفعل لينتفي أيضاً ويكون في سعة من ناحيته ، وإنّما هو من آثار ترك المأمور به ، ولا تعرّض للرواية للتوسعة من هذه الناحية أبداً لتدلّ على الصحّة والإجزاء ، بل يمكن أن يقال : إنّ مفاد هذه الرواية خصوصاً بقرينة ما كان محلّاً للابتلاء سابقاً من الحلف أمام القضاة وحكّام الجور لإنجاء نفس مؤمن أو ماله من ظالم ، كما ربّما يشير إليه ما ورد من قوله (عليه السلام) : «احلف بالله كاذباً وأنج أخاك» (١) ليس إلّا رفع التكليف والتوسعة من ناحية المؤاخذة فقط ، نظير قوله (عليه السلام) : «الناس في سعة ما لا يعلمون» (٢) ولا نظر فيها إلى جهة أُخرى حتّى مثل الكفّارة.

وكيفما كان ، فقد تحصّل : أنّ شيئاً من أدلة التقيّة لا تفي بالإجزاء فيما عدا باب الصلاة ومقدّماتها ، فلا بدّ من الرجوع إلى ما تقتضيه القاعدة ، وقد عرفت أنّ مقتضاها عدم الإجزاء ، عملاً بإطلاق أدلّة الإجزاء والشرائط والموانع.

هذا ، وربّما يقرّب الإجزاء في المقام وغيره بأنّ ما دلّ على مشروعيّة التقيّة بل وجوبها وأنّها من الدين إنّما هو باعتبار انطباقها على نفس العمل المأتي به خارجاً ، الفاقد للجزء أو الشرط أو المشتمل على المانع ، فإذا كان العمل بنفسه مصداقاً للتقيّة وواجباً بل من الدين كما نطقت به النصوص كان لا محالة مأموراً به بالأمر الاضطراري ، ومن المقرّر في محله إجزاؤه عن الأمر الواقعي ، ولا سيّما بالنسبة إلى القضاء ، لعدم فوات شي‌ء منه ، فلا موضوع له.

وبالجملة : الوضوء مع غسل الرجلين مثلاً لو كان مأموراً به بنفسه فهو بأمر اضطراري ، والإجزاء في مثله لا يحتاج إلى دليل خاصّ ، بل هو مقتضى

__________________

(١) الوسائل ٢٣ : ٢٢٥ / كتاب الايمان ب ١٢ ح ٤.

(٢) لاحظ الوسائل ٣ : ٤٩٣ / كتاب الطهارة ب ٥٠ ح ١١ ، وج ٢٤ : ٩٠ / كتاب الصيد والذبائح ب ٣٨ ح ٢ ، وج ٢٥ : ٤٦٨ / كتاب اللقطة ب ٢٣ ح ١.

٢٨٥

.................................................................................................

______________________________________________________

القاعدة في كافة الأوامر الاضطراريّة بالنسبة إلى المأمور به الواقعي.

ولكن هذا التقريب يتوقّف على إحراز أنّ التقية الواجبة تنطبق على ذات العمل ، وهو غير واضح ، ومن المحتمل جدّاً أن يكون الواجب هو الاتّقاء وحفظ النفس ، ويكون العمل مقدّمةً له وما به تتحقّق التقيّة ، فلا دلالة حينئذٍ على الإجزاء ، نظير التكلّم في الصلاة مثلاً تقيّةً من مشرك كي لا يعلم بإسلامه فيقتله ، فإنّه لا يمكن القول بصحّة العمل وكونه مجزئاً وإن ساغ له التكلّم لمكان الاضطرار والتقيّة ، بل إنّ تطرّق هذا الاحتمال بمجرّده كافٍ في سقوط الاستدلال كما لا يخفى.

ثمّ إنّا لو فرضنا تماميّة نصوص التقيّة ولا سيّما الروايتين المتقدّمتين في الدلالة على الإجزاء. فلا يفرق الحال بين ما لا يرونه مفطراً حال الصوم كالارتماس ، وبين ما يرونه مفطراً إلّا أنّهم لا يرون وجوب الصوم وقتئذٍ كالأكل مثلاً في يوم عيدهم ، لشمول الأدلّة لكلا القسمين بمناط واحد ، فإنّ الصوم عبارة عن الإمساك عن مجموع المفطرات في مجموع النهار ، وكما أنّه مضطرّ في القسم الأوّل إلى ارتكاب خصوص الارتماس تقيّةً مع التمكّن عن الاجتناب عن بقيّة المفطرات في سائر الآنات ، فكذا في القسم الثاني فإنّه يضطرّ أيضاً إلى خصوص الأكل مثلاً في هذه الساعة الخاصّة كي لا تتبيّن لهم المخالفة مع القدرة على الاجتناب عن سائر المفطرات في بقيّة النهار ، ولا يكون هذا من باب ترك الواجب رأساً حتّى يقال : إنّ الأدلّة إنّما تدلّ على إجزاء الفعل الناقص عن الكامل لا إجزاء الترك رأساً عن الفعل ، ضرورة أنّ في هذا القسم أيضاً لم يترك المأمور به بالكلّيّة ، وانّما هو من قبيل الفعل الناقص حسبما عرفت.

نعم ، لو اقتضت التقيّة في موردٍ ترك المأمور به رأساً ، كما لو فرضنا أنّ ترك الصلاة من أوّل الفجر إلى طلوع الشمس موردٌ للتقيّة ، لم يكن هذا الترك

٢٨٦

[٢٤٦٤] مسألة ٣ : إذا كانت اللقمة في فمه وأراد بلعها لنسيان الصوم فتذكّر وجب إخراجها ، وإن بلعها مع إمكان إلقائها بطل صومه ، بل تجب الكفّارة أيضاً ، وكذا لو كان مشغولاً بالأكل فتبيّن طلوع الفجر.

[٢٤٦٥] مسألة ٤ : إذا دخل الذباب أو البقّ أو الدخان الغليظ أو الغبار في حلقه من غير اختياره لم يبطل صومه ، وإن أمكن إخراجه وجب ولو وصل إلى مخرج الخاء (١).

[٢٤٦٦] مسألة ٥ : إذا غلب على الصائم العطش بحيث خاف من الهلاك يجوز له أن يشرب الماء مقتصراً على مقدار الضرورة (٢) ،

______________________________________________________

موجباً للإجزاء كما هو واضح ، ولكن الإفطار في يوم العيد ليس من هذا القبيل قطعاً كما عرفت.

فعلى القول بالإجزاء لا يفرق بين القسمين ، إلّا أنّك عرفت عدم تماميّة الأدلّة إلّا في موارد خاصّة.

هذا ملخّص ما أردنا إيراده في مسألة التقيّة في الصوم ، فلاحظ وتدبّر.

(١) ما ذكره (قدس سره) في هذه المسألة وسابقتها واضح لا سترة عليه ، وقد ظهر الحال فيهما من مطاوي ما تقدّم فلا حاجة إلى الإعادة.

(٢) ينبغي التكلّم في جهات :

الاولى : لا إشكال في جواز الشرب حينئذٍ بمقتضى القاعدة حفظاً من التهلكة من غير حاجة إلى نصّ خاصّ ، إذ ما من شي‌ء حرّمه الله إلّا وأحلّه عند الضرورة ، مضافاً إلى حديث رفع الاضطرار ، فجواز الشرب بمقدارٍ تندفع به

٢٨٧

.................................................................................................

______________________________________________________

الضرورة وقايةً للنفس من خوف الهلاك ممّا لا ينبغي التأمل فيه.

مضافاً إلى ورود النصّ الخاصّ بذلك ، وهو موثّقة عمّار : في الرجل يصيبه العطاش حتّى يخاف على نفسه «قال : يشرب بقدر ما يمسك رمقه ، ولا يشرب حتّى يروى» (١).

المؤيّدة برواية مفضّل بن عمر وإن كانت ضعيفة السند قال : قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) : إنّ لنا فتيات وشبّاناً لا يقدرون على الصيام من شدّة ما يصيبهم من العطش «قال : فليشربوا بقدر ما تروى به نفوسهم وما يحذرون» (٢).

وقد يقال : إنّ المذكور في الموثّقة العطاش ، أي من به داء العطش ، فتكون الرواية من أخبار باب ذي العطاش الأجنبي عمّا نحن فيه.

ويندفع : بأنّ الرواية وإن ذكرت في الوسائل وفي المدارك عن الكافي كما ذكر (٣) ، ولكن الظاهر أنّه تصحيف والنسخة الصحيحة : العطش ، بدل : العطاش ، كما في التهذيب والفقيه ، لأجل أنّ ذا العطاش لا يروى مهما شرب ، فما معنى نهيه عن الارتواء كما في الموثّقة؟! على أنّ الصوم ساقط عنه ، لدخوله فيمن يطيقونه ، فهو مأمور بالكفّارة لا بالصوم ، ومورد الموثّق هو الصائم كما لا يخفى ، فالظاهر أنّ العطاش اشتباه إمّا من الكافي أو من قلم النّساخ ، والصحيح ما أثبته الشيخ نقلاً عن الكليني وعن عمّار نفسه بلفظ «العطش» كما عرفت.

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ٢١٤ / أبواب من يصحّ منه الصوم ب ١٦ ح ١ ، الكافي ٤ : ١١٧ / ٦ ، الفقيه ٢ : ٨٤ / ٣٧٦ ، التهذيب ٤ : ٢٤٠ / ٧٠٢ و ٣٢٦ / ١٠١١.

(٢) الوسائل ١٠ : ٢١٤ / أبواب من يصحّ منه الصوم ب ١٦ ح ٢.

(٣) المدارك ٦ : ٢٩٨ وفيه : العطش.

٢٨٨

ولكن يفسد صومه بذلك (١) ، ويجب عليه الإمساك بقيّة النهار (٢) إذا كان في شهر رمضان ، وأمّا في غيره من الواجب الموسّع (٣) والمعيّن فلا يجب الإمساك وإن كان أحوط في الواجب المعيّن.

______________________________________________________

(١) الثانية : هل يفسد الصوم بالشرب المزبور فيجب قضاؤه ، أو لا؟

الظاهر ذلك ، بل لا ينبغي التأمّل فيه ، لعموم أدلّة المفطريّة بعد فرض صدور الإفطار عن العمد والاختيار وإن كان مضطرّاً إليه ، فإنّ دليل الاضطرار إنّما يرفع الحكم التكليفي ، فغايته جواز الشرب الذي كان محرّماً في نفسه ، وأمّا صحّة الصوم ليجتزئ بالإمساك عن الباقي فلا دليل عليها بوجه.

(٢) الثالثة : هل يجب عليه الإمساك بقيّة النهار؟

الظاهر ذلك كما اختاره في المتن وإن لم يعلم ذهاب المشهور إليه ، فإنّ مورد كلامهم في وجوب الإمساك التأدّبي من كان مكلّفاً بالصوم وأفطر عصياناً لا من كان مأموراً بالإفطار من قبل الشارع كما في المقام.

وكيفما كان ، فيدلّنا على الوجوب الموثّقة والرواية المتقدّمتان ، لتحديد الشرب فيهما بقدر ما يمسك والنهي عن الارتواء ، ومن الواضح عدم احتمال الفرق بين الشرب وبين سائر المفطرات ، فيعلم من ذلك وجوب الإمساك بقيّة النهار عن الجميع.

(٣) الرابعة : هل يختصّ الحكم المزبور بشهر رمضان ، أو يلحق به غيره من الصوم الواجب الموسّع والمعيّن؟

أمّا في الموسّع فلا إشكال في عدم الإلحاق ، لجواز الإفطار وعدم وجوب الإمساك من الأوّل ، فيجوز له رفع اليد والتبديل بيوم آخر.

وأمّا المعيّن ، فالظاهر عدم الإلحاق فيه أيضاً ، لأنّ وجوب الإمساك بعد

٢٨٩

[٢٤٦٧] مسألة ٦ : لا يجوز للصائم أن يذهب إلى المكان الذي يعلم اضطراره فيه إلى الإفطار (١) بإكراهٍ أو إيجارٍ في حلقه أو نحو ذلك ، ويبطل صومه لو ذهب وصار مضطرّاً ولو كان بنحو الإيجار ، بل لا يبعد بطلانه بمجرّد القصد إلى ذلك ، فإنّه كالقصد إلى الإفطار.

______________________________________________________

فرض بطلان الصوم حكمٌ على خلاف القاعدة ، ولا بدّ من الاقتصار في مثله على المقدار المتيقّن ، والمتيقّن ممّا دلّت عليه الموثّقة إنّما هو شهر رمضان ، فإنّه المستفاد منها بمقتضى مناسبة الحكم والموضوع ، وإلّا فلم يذكر فيها الصوم رأساً ، فهي إمّا منصرفة إلى شهر رمضان أو مجملة والمتيقّن منها ذلك. وكيفما كان ، فليس لها إطلاق يعوّل عليه في شمول الحكم لغيره أيضاً. وهكذا الحال في رواية المفضّل ، فإنّها منصرفة بمناسبة الحكم والموضوع إلى صوم رمضان ، على أنّها ضعيفة السند لا تصلح للاستدلال حتّى لو كانت مطلقة من هذه الجهة.

(١) أمّا إذا كان الاضطرار بالإكراه على الإفطار فلا إشكال في عدم الجواز وفي البطلان لو اكره عليه ، لصدور الفعل حينئذٍ عن عمد واختيار ، وقد تقدّم عدم الفرق فيه بين المكرَه وغيره (١) ، بل يبطل بمجرّد القصد إلى ذلك ، لأنّه بمثابة القصد إلى الإفطار كما ذكره في المتن الموجب لزوال نيّة الصوم.

نعم ، لا تترتّب الكفّارة على مجرّد زوال النيّة ما لم يقترن باستعمال المفطر خارجاً كما تقدّم (٢).

وأمّا إذا كان بنحو الإيجار فربّما يستشكل فيه ، نظراً إلى أنّه غير مفطر ،

__________________

(١) في ص ٢٧٥.

(٢) في ص ٨٥.

٢٩٠

[٢٤٦٨] مسألة ٧ : إذا نسي فجامع لم يبطل صومه (١) ، وإن تذكّر في الأثناء وجب المبادرة إلى الإخراج ، وإلّا وجب عليه القضاء والكفّارة.

______________________________________________________

فالعمد إلى الذهاب في مورده عمدٌ إلى غير المفطر ، وبذلك يفترق عن الإكراه الذي يصدر في مورده الفعل بإرادة واختيار ، فيكون مفطراً ، والعمد إلى الذهاب حينئذٍ عمدٌ إلى المفطر ، فالمقام نظير من علم أنّه لو نام يحتلم أو أنّه لو أكل شيئاً في الليل يحتلم في النهار ، فكما أنّ النوم أو الأكل جائز وإن ترتّب عليه الاحتلام لعدم كون ذلك عمداً إلى المفطر ، فكذا الذهاب في المقام بنفس المناط.

ولكنّه بمراحل عن الواقع ، لوضوح الفرق بين الموردين :

فإنّ المفطر لو كان هو خروج المني على إطلاقه لكان القياس في محلّه ، ولكن المفطر إنّما هو الجماع أو الاستمناء أو البقاء على الجنابة ، وشي‌ءٌ من ذلك غير صادق على الاحتلام ، فالعمد إليه ليس عمداً إلى المفطر كما ذكر.

وأمّا في المقام فالمفطر هو الشراب والطعام ولا بدّ للصائم من الاجتناب عنهما بمقتضى قوله (عليه السلام) : «لا يضرّ الصائم ما صنع إذا اجتنب» إلخ ، ولا ينبغي التأمل في عدم صدق الاجتناب عن الطعام فيما ، إذا ذهب باختياره إلى مكانٍ يعلم بإيجار الطعام أو الشراب في حلقه ، فإنّ مثل هذا يقال في حقّه : أنّه جائع يريد أن يحتال لرفع جوعه.

وعلى الجملة : يصدق على هذا الشخص العامد في الذهاب أنّه عامد إلى الإفطار ، فلا يكون ناوياً للصوم ، فيبطل لفقد النيّة ، بل تجب الكفّارة أيضاً لو تحقّق خارجاً ، لاستناد الإفطار إليه وانتهائه إلى اختياره.

(١) أمّا عدم البطلان لدى النسيان فظاهرٌ ممّا مرّ.

وأمّا وجوب المبادرة إلى الإخراج مع التذكّر فالظاهر أنّ الأمر كذلك حتّى

٢٩١

.................................................................................................

______________________________________________________

على القول بأنّ دليل المفطريّة ظاهرٌ في الحدوث ولا يعمّ البقاء.

كما لا يبعد دعوى ذلك في مثل الارتماس ، فلو ارتمس ناسياً فتذكّر في الأثناء أمكن القول بعدم وجوب المبادرة ، لجواز أن لا يصدق الارتماس عرفاً على البقاء.

وأمّا في المقام فلا بدّ من المبادرة إلى الإخراج ، لأنّ تركه منافٍ للاجتناب المأمور به في الصحيحة : «لا يضرّ الصائم ما صنع إذا اجتنب» إلخ ، فإنّ الواجب بمقتضى هذه الصحيحة الاجتناب عن النساء ، ومعنى ذلك : يكون على جانبٍ منها وبعيداً عنها ، ومن لم يبادر إلى الإخراج لم يجتنب عن النساء في هذه الحالة بالضرورة فيبطل صومه ، بل تجب عليه الكفّارة أيضاً.

٢٩٢

فصل

فيما يجوز ارتكابه للصّائم

لا بأس للصائم بمصّ الخاتم أو الحصى ولا بمضغ الطعام للصبي ولا بزقّ الطائر ولا بذوق المرق ونحو ذلك ممّا لا يتعدّى إلى الحلق (١). ولا يبطل صومه إذا اتّفق التعدّي إذا كان من غير قصد ولا علم بأنّه يتعدّى قهراً أو نسياناً ، أمّا مع العلم بذلك من الأوّل فيدخل في الإفطار العمدي.

______________________________________________________

(١) ذكر (قدس سره) عدّة أُمور لا بأس بارتكابها للصائم ، كمصّ الخاتم أو الحصى ، أو مضغ الطعام للصبي ، أو زقّ الطائر ، أو ذوق المرق.

وجواز هذه الأُمور مضافاً إلى أنّه يقتضيه عموم حصر المفطر المذكور في صحيحة ابن مسلم التي رواها المشايخ الثلاثة : «لا يضرّ الصائم ما صنع إذا اجتنب» إلخ ، فإنّ مقتضاها جواز ارتكاب كلّ شي‌ء ما عدا الخصال الأربع وما الحق بها بالأدلّة الأُخر ، وليس المذكورات منها قد ورد النصّ الخاصّ على الجواز في كلّ واحد منها بالخصوص كما لا يخفى على من لاحظها.

نعم ، في ذوق المرق تعارضت روايات الجواز التي منها صحيحة الحلبي : سُئِلَ عن المرأة الصائمة تطبخ القدر فتذوق المرق تنظر إليه «فقال : لا بأس به» (١) مع رواية دلّت على المنع ، وهي صحيحة سعيد الأعرج : عن الصائم

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ١٠٥ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٣٧ ح ١.

٢٩٣

وكذا لا بأس بمضغ العلك ولا ببلع ريقه (١) بعده وإن وجد له طعماً فيه ، ما لم يكن ذلك بتفتّت أجزاء منه ، بل كان لأجل المجاورة.

______________________________________________________

أيذوق الشي‌ء ولا يبلعه؟ «قال : لا» (١).

وعن الشيخ حمل الثانية على عدم الحاجة والأولى على صورة الاحتياج إلى الذوق كالطبّاخ ونحوه (٢).

ولكنّه كما ترى جمعٌ تبرّعي لا شاهد عليه بوجه ، ومقتضى الجمع العرفي هو الحمل على الكراهة ، لصراحة الاولى في الجواز فيرفع اليد عن ظهور إحداهما بصراحة الأُخرى.

ثمّ إنّه لو تعدّى ما في فمه إلى الحلق لدى الذوق أو المضغ : فإنّ كان ذلك بحسب الاتّفاق من غير سبق القصد والعلم به فلا إشكال في عدم البطلان ، لخروجه عن العمد الذي هو المناط في الإفطار كما مرّ.

وأمّا لو كان عالماً بأنّه يتعدّى قهراً أو نسياناً ، فلأجل اندراجه حينئذٍ في الإفطار العمدي لمكان الانتهاء إلى الاختيار يبطل صومه ، بل تجب الكفّارة أيضاً.

(١) لما عرفت من عموم حصر المفطر ، مضافاً إلى صحيح ابن مسلم ، قال : «قال أبو جعفر (عليه السلام) : يا محمّد ، إيّاك أن تمضغ علكاً ، فإنِّي مضغت اليوم علكاً وأنا صائم فوجدت في نفسي منه شيئاً» (٣).

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ١٠٦ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٣٧ ح ٢.

(٢) التهذيب ٤ : ٣١٢.

(٣) الوسائل ١٠ : ١٠٤ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٣٦ ح ١.

٢٩٤

.................................................................................................

______________________________________________________

فإنّ تعليله (عليه السلام) التحذير بما وجده في نفسه عند مضغه (عليه السلام) دليلٌ قاطع على الجواز ، وإلّا فلا يحتمل ارتكابه (عليه السلام) للحرام ، غايته أنّه مكروه ولأجله حذّره عنه.

وعليه يُحمَل النهي الوارد في صحيح الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال : قلت : الصائم يمضغ العلك؟ «قال : لا» (١).

وبالجملة : فلا إشكال في جواز المضغ وجواز بلع الريق المجتمع حال المضغ وإن وجد له طعماً ، بمقتضى الإطلاق بل وصريح صحيح ابن مسلم ، ولكن فيما إذا كان ذلك لأجل المجاورة كما هو المتعارف عند مضغه ، دون ما إذا كان بتفتّت أجزائه ، لصدق الأكل المفطر حينئذ.

وقد يقال بعدم البأس في صورة التفتّت فيما إذا كانت الأجزاء المتفتّتة مستهلكة في الريق ، إذ لا موضوع حينئذٍ كي يصدق معه الأكل ، نظير استهلاك التراب اليسير في الدقيق المصنوع منه الخبز ، فإنّه لا مانع من أكله ولا يعدّ ذلك أكلاً للتراب المحرّم ، لانتفاء الموضوع بنظر العرف ، وإنّما يتّجه المنع في المقام في فرض عدم الاستهلاك.

ويندفع : بأنّ الممنوع لو كان هو الأكل لأمكن المصير إلى ما أُفيد ، إلّا أنّ الواجب على الصائم إنّما هو الاجتناب عن الطعام والشراب أي المأكول والمشروب بمقتضى صحيحة ابن مسلم : «لا يضرّ الصائم ما صنع إذا اجتنب» إلخ ، ولا ينبغي الريب في عدم صدق الاجتناب عن المأكول فيما إذا بلع الأجزاء المتفتّتة من العلك وإن كانت مستهلكة في الريق ، فإنّ الاستهلاك المزبور غير مجدٍ في صدق الاجتناب وإن منع عن صدق الأكل ، فلو فرضنا أنّ الصائم أخذ من السكّر مقداراً يسيراً كحبّة مثلاً فمزجه بريقه إلى أن استهلك ، ثمّ أخذ حبّة

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ١٠٥ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٣٦ ح ٢.

٢٩٥

وكذا لا بأس بجلوسه في الماء ما لم يرتمس ، رجلاً كان أو امرأة (١) ، وإن كان يكرَه لها ذلك.

______________________________________________________

اخرى وهكذا إلى أن استكمل مثقالاً من السكّر طول النهار على سبيل التدريج بحيث أمكنه إيصال المثقال في جوفه ولكن على النهج المزبور ، أو عمد إلى مقدار نصف استكان من الماء فأخذ منه قطرة فقطرة ومزجها بريقه فاستهلك وابتلع ، أفهل يمكن أن يقال : إنّ هذا الشخص اجتنب عن الطعام في الأول وعن الشراب في الثاني؟! نعم ، لا يصدق الأكل والشراب إلّا أنّه يصدق عدم الاجتناب عن المأكول والمشروب قطعاً ، فيضرّ بصومه بمقتضى الصحيحة المتقدّمة ويوجب البطلان بل الكفّارة.

فلا فرق إذن بين الاستهلاك وعدمه ، ولا موقع لهذا التفصيل.

(١) أمّا الرجل فلا خلاف فيه ولا إشكال كما نطقت به النصوص المعتبرة ، وأمّا في المرأة فالمعروف والمشهور ذلك ، ولكن نُسِب إلى أبي الصلاح وجوب القضاء (١) ، وعن ابن البرّاج وجوب الكفّارة أيضاً (٢).

والمستند فيه ما رواه الصدوق وغيره بإسناده عن حنّان بن سدير : أنّه سأل أبا عبد الله (عليه السلام) عن الصائم يستنقع في الماء؟ «قال : لا بأس ، ولكن لا ينغمس ، والمرأة لا تستنقع في الماء لأنّها تحمل الماء بقبلها» (٣).

ونوقش في سندها بأن حنّان بن سدير واقفي ، ولأجله تحمل الرواية على الكراهة. ولكن الرجل موثّق والوقف لا يضرّ بالوثاقة ، فلا وجه للطعن في

__________________

(١) الحدائق ٣ : ١٦٢.

(٢) الحدائق ٣ : ١٦٢.

(٣) الوسائل ١٠ : ٣٧ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٣ ح ٦ ، الفقيه ٢ : ٧١ / ٣٠٧.

٢٩٦

ولا ببلّ الثوب ووضعه على الجسد (١).

______________________________________________________

السند ولا للحمل على الكراهة من هذه الجهة. نعم ، لا بدّ من الحمل عليها لوجهين آخرين :

أحدهما : أنّ هذه المسألة كثيرة الدوران ومحلّ الابتلاء غالباً لأكثر النساء ، فلو كان الاستنقاع مفطراً لهنّ لاشتهر وبان وشاع وذاع وكان من الواضحات ، فكيف ذهب المشهور إلى الخلاف؟! بل لم يُنسَب القول بذلك لغير أبي الصلاح وابن البراج كما عرفت.

ثانيهما : إنّ لسان التعليل بنفسه يفيد الكراهة ، إذ ظاهره أنّ الاستنقاع بنفسه لا يقدح ، وإنّما القدح من ناحية حمل الماء بالقبل بحيث لو تمكّنت من شدّ الموضع بما يمنع من دخول الماء فيه لم يكن بأس في استنقاعها ، مع أنّ دخول الماء في القبل ليس من قواطع الصوم في حدّ نفسه حتّى عند أبي الصلاح وابن البرّاج ، كيف؟! والنساء لا يسلمن من ذلك عند الاستنجاء غالباً ، ولم يستشكل أحدٌ في ذلك ولا ينبغي الاستشكال فيه ، فإنّه ليس من الأكل ولا الاحتقان ولا غيرهما من سائر المفطرات ، فنفس هذا التعليل يشعر بابتناء النهي على التنزيه والكراهة كما لا يخفى.

(١) قد دلّت جملة من الروايات على المنع ، منها : ما رواه الشيخ بإسناده عن علي بن الحسن بن فضّال ، عن الحسن بن بقاع ، عن الحسن الصيقل ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال : سألته عن الصائم ، يلبس الثوب المبلول؟ «قال : لا ، ولا يشمّ الرياحين» (١).

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ٣٨ / أبواب ما يمسك منه الصائم ب ٣ ح ١٠ ، التهذيب ٤ : ٢٦٧ / ٨٠٦ ، الإستبصار ٢ : ٩٣ / ٣٠٠.

٢٩٧

.................................................................................................

______________________________________________________

فإنّ طريق الشيخ إلى ابن فضّال الذي هو ضعيف في نفسه يمكن تصحيحة بأنّ شيخه وشيخ النجاشي واحد وطريقه إليه معتبر ، فيكون هذا الطريق أيضاً معتبراً بحسب النتيجة ، إذ لا يحتمل أن يروي للنجاشي غير الذي رواه للشيخ ، وهذا من طرق التصحيح كما مرّ نظيره قريباً ، والحسن بن بقاع والصواب : بقاح ، كما ذكره في الوسائل في باب ٣٢ من أبواب ما يمسك عنه الصائم الحديث ١٣ موثّق ، ولكن الحسن بن زياد الصيقل لم تثبت وثاقته ، فالرواية ضعيفة السند وإن كانت ظاهرة الدلالة على المنع.

ومنها : رواية المثنّى الحناط والحسن الصيقل (١) ، وهي أيضاً ضعيفة بالإرسال وجهالة ابن زياد.

ومنها : رواية عبد الله بن سنان ، قال : سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول : «لا تلزق ثوبك إلى جسدك وهو رطب وأنت صائم حتّى تعصره» (٢).

حيث يظهر منه التفصيل بين المبلول الذي يقبل العصر فلا يلزق وبين ما لا يقبل فلا بأس به ، ولكنّها أيضاً ضعيفة السند بجهالة عبد الله بن الهيثم.

ومنها وهي العمدة ـ : ما رواه الكليني بإسناده عن الحسن بن راشد قال : قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) : الحائض تقضي الصلاة؟ «قال : لا» قلت : تقضي الصوم؟ «قال : نعم» ، قلت : من أين جاء ذا؟ «قال : إن أوّل من قاس إبليس» ، قلت : والصائم يستنقع في الماء؟ «قال : نعم» ، قلت فيبلّ ثوباً على جسده؟ «قال : لا» ، قلت : من أين جاء ذا؟ «قال : من ذلك» إلخ (٣).

وهي بحسب الدلالة واضحة ، ولكن نوقش في سندها بأنّ الحسن بن راشد

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ٣٦ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٣ ح ٤.

(٢) الوسائل ١٠ : ٣٦ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٣ ح ٣.

(٣) الوسائل ١٠ : ٣٧ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٣ ح ٥ ، الكافي ٤ : ١١٣ / ٥.

٢٩٨

.................................................................................................

______________________________________________________

ضعيف ، وليس الأمر كذلك ، فإنّ هذا الاسم مشترك بين ثلاثة :

أحدهم : الحسن بن راشد أبو علي ، وهو من الأجلّاء ومن أصحاب الجواد (عليه السلام).

الثاني : الحسن بن راشد الطفاوي ، الذي هو من أصحاب الرضا (عليه السلام) ، وقد ضعّفه النجاشي صريحاً (١).

الثالث : الحسن بن راشد الذي يروي عن جدّه يحيى كثيراً ، وهو من أصحاب الصادق (عليه السلام) وأدرك الكاظم (عليه السلام) أيضاً ، وهذا لم يُذكَر بمدحٍ ولا قدح في كتب الرجال رأساً.

والذي ذُكِر وذُكِر بالقدح كما عرفت إنّما هو الطفاوي ، الذي هو من أصحاب الرضا (عليه السلام) ولم يدرك الصادق (عليه السلام) ، والراوي لهذه الرواية إنّما هو الأخير الذي يروي عن الصادق (عليه السلام) ، وهو وإن لم يُذكَر في كتب الرجال ولكنّه مذكور في أسانيد كامل الزيارات ، وهذا غير الطفاوي الضعيف جزماً.

وعليه ، فلا بأس بسند الرواية ، لكن لا بدّ من حمل النهي الوارد فيها على الكراهة ، إذ مضافاً إلى أنّ الحرمة لو كانت ثابتة لشاع وذاع وكان من الواضحات ، لكون المسألة كثيرة الدوران ومحلّاً للابتلاء غالباً يدل على الجواز صريحاً أو ظاهراً صحيح محمّد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) : «قال : الصائم يستنقع في الماء ، ويصبّ على رأسه ، ويتبرّد بالثوب ، وينضح بالمروحة ، وينضح البوريا تحته ، ولا يغمس رأسه في الماء» (٢).

__________________

(١) رجال النجاشي : ٣٨ / ٧٦.

(٢) الوسائل ١٠ : ٣٦ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٣ ح ٢.

٢٩٩

ولا بالسواك باليابس بل بالرطب أيضاً (١) ، لكن إذا أخرج المسواك من فمه لا يردّه وعليه رطوبة وإلّا كانت كالرطوبة الخارجيّة لا يجوز بلعها إلّا بعد الاستهلاك في الريق.

وكذا لا بأس بمصّ لسان الصبي أو الزوجة إذا لم يكن عليه رطوبة ، ولا بتقبيلها أو ضمّها أو نحو ذلك.

______________________________________________________

فإنّ التبرّد بالثوب ظاهرٌ بقرينة ما سبقه وما لحقه في أنّ منشأ التبريد بلّ الثوب بالماء لا منعه عن إشراق الشمس على البدن ، ولا برودته بحسب جنسه لكونه من الكتان مثلاً ونحو ذلك ، فإن ذلك كلّه خلاف سياق الرواية جدّاً ، فإنّها ناظرة صدراً وذيلاً إلى استعمال الماء ، فيظهر أنّ منشأ التبريد كون الثوب مبلولاً ، ولأجل ذلك يُحمَل النهي في موثّق ابن راشد على الكراهة.

(١) إذ مضافاً إلى أنّه مقتضى الأصل وعموم حصر المفطر قد دلّت النصوص المعتبرة على الجواز من غير فرق بين اليابس والرطب ، وإن كان الثاني مكروهاً للنهي في بعضها المحمول عليها جميعاً.

نعم ، لو أخرج المسواك من فمه وعليه رطوبة فبما أنّها تعدّ بعدئذٍ رطوبة خارجيّة لو أدخله ثانياً لم يجز ابتلاعها كما تقدّم نظيره في الخيط المبلول بالريق إلّا بعد الاستهلاك في الريق ، على تفصيلٍ يأتي في المسألة الآتية.

وأمّا التقبيل والضمّ فقد دلّت عليه النصوص ، وكذا مصّ لسان الزوجة أو الزوج ، فلاحظ (١).

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ٩٧ ١٠٢ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٣٣ و ٣٤.

٣٠٠