موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ مرتضى البروجردي

وإن لم يكن ذلك ودار الأمر بين إبطال الصوم بالبلع أو الصلاة بالإخراج : فإن لم يصل إلى الحدّ من الحلق كمخرج الخاء وكان ممّا يحرم بلعه في حدّ نفسه كالذباب ونحوه وجب قطع الصلاة بإخراجه ولو في ضيق وقت الصلاة.

______________________________________________________

التحفّظ والإمساك إلى الفراغ من الصلاة فلا إشكال أيضاً ، فيلزمه الحفظ حذراً عن قطع الصلاة.

وأمّا إذا لم يتمكّن من ذلك أيضاً بحيث دار الأمر بين إبطال الصوم بالبلع أو الصلاة بالإخراج ، فللمسألة صور ، إذ الداخل في الحلق قد يكون شيئاً يحرم أكله في نفسه كالذباب لكونه من غير المذكّى كما مرّ وأُخرى ممّا يحلّ أكله مع قطع النظر عن الصوم كبقايا الطعام ، وعلى التقديرين : فإمّا أن يكون قد وصل الحدّ من الحلق كمخرج الخاء بحيث لا يصدق الأكل على ابتلاعه ، وأُخرى لم يصل ، فكان الابتلاع مصداقاً للأكل ، فالصور أربع :

الأُولى : ما إذا حرم أكله في نفسه ولم يصل الحدّ من الحلق :

أمّا إذا كان في سعة الوقت ولو بإدراك ركعة منه فلا ينبغي التأمل في لزوم قطع الصلاة ، إذ لا مزاحمة حينئذٍ بينها وبين الصيام ، ومعلومٌ أنّ دليل حرمة القطع على تقدير تماميّته غير شامل للمقام ، فإنّه الإجماع ، وهو دليل لبّي لا يعمّ موارد الحاجة إلى القطع ، والفرار عن الحرام أعني : إبطال الصيام من أظهر مصاديق الحاجة.

وأمّا في الضيق فتقع المزاحمة بين الصلاة وبين الصيام مقروناً بالاجتناب عن الحرام ، بمعنى : أنّه يدور الأمر بين ترك الصلاة وبين ترك الصيام المنضمّ إلى ارتكاب الحرام أعني : ابتلاع ما هو محرّم في نفسه فالأمر دائر بين ترك واجب وبين ترك واجب مع فعل محرّم ، ولا ينبغي التأمّل في أنّ الثاني أهمّ ،

٢٦١

وإن كان ممّا يحلّ بلعه في ذاته (١) كبقايا الطعام ففي سعة الوقت للصلاة ولو بإدراك ركعة منه يجب القطع والإخراج ، وفي ضيق الوقت يجب البلع وإبطال الصوم تقديماً لجانب الصلاة ، لأهمّيّتها.

وإن وصل إلى الحدّ فمع كونه ممّا يحرم بلعه (٢) وجب إخراجه بقطع الصلاة

______________________________________________________

فإنّ الصلاة وإن كانت في نفسها أهمّ من الصوم بوحدته إلّا أنّه بعد فرض انضمامه إلى فعل المحرّم يكون المجموع أعني : فعل الصوم المنضمّ إلى ترك الابتلاع المحرّم أهمّ من فعل الصلاة وحدها ، إمّا قطعاً ، أو لا أقلّ من احتماله ولا عكس فيتقدّم لا محالة ، فيجب عليه رفع اليد عن الصلاة والمحافظة على الصيام وعلى الاجتناب عن الأكل الحرام ، ثم التصدّي لقضاء الصلاة خارج الوقت.

(١) الثانية : ما إذا حلّ أكله مع عدم الوصول إلى الحلق كبقايا الطعام ، وحيث إنّ الأمر دائر حينئذٍ بين إبطال الصلاة وبين إبطال الصيام فقط ، والمفروض ضيق الوقت حتى عن الركعة وأمّا مع السعة فقد ظهر حكمه ممّا مرّ فلا مناص من اختيار الثاني ، إذ لا ريب أنّ الصلاة أهمّ من الصوم ، كيف؟! وأنّها عمود الدين وأساس الإسلام وبها يمتاز المسلم عن الكافر كما ورد كلّ ذلك في النصّ ، ومع التنزّل فلا أقلّ من كون المقام من موارد الدوران بين التعيين والتخيير ، إذ لا يحتمل تقديم الصوم جزماً ، والمقرّر في محلّه أنّ الدوران المزبور في المسألة الفقهيّة موردٌ للبراءة في غير موارد المزاحمة ، وأمّا فيها كالمقام فالمتعيّن هو تقديم محتمل التعيّن ، وهو الصلاة كما عرفت.

(٢) وممّا ذكرنا يظهر الحال في الصورة الثالثة ، وهي ما إذا حرم أكله في نفسه أي التمكين من وصوله إلى الجوف مع وصوله الحدّ من الحلق ، فإنّ

٢٦٢

وإبطالها على اشكال (*) ، وإن كان مثل بقايا الطعام (١) لم يجب وصحّت صلاته ، وصحّ صومه على التقديرين ، لعدم عدّ إخراج مثله قيئاً في العرف.

[٢٤٦٠] مسألة ٧٧ : قيل : يجوز (**) للصائم أن يدخل إصبعه في حلقه ويخرجه عمداً. وهو مشكل (٢) مع الوصول إلى الحدّ ، فالأحوط الترك.

______________________________________________________

الابتلاع المزبور لا يضرّ بالصوم بعد فرض وصوله للحدّ ، لعدم صدق الأكل ، فتتمحّض المزاحمة بين وجوب الصلاة وبين حرمة أكل ذلك الشي‌ء كالذباب ، بمعنى التمكين من إيصاله الجوف كما عرفت ، ولا شكّ أنّ الأوّل أهمّ فيتقدّم فيبتلعه ويتمّ صلاته.

(١) وأوضح حالاً الصورة الرابعة أعني : ما إذا حلّ أكله في نفسه وقد وصل الحدّ من الحلق إذ لا مزاحمة ههنا أصلاً ، فإنّه محلّل الأكل ، فلا ضير في ابتلاعه في نفسه والمفروض وصول الحدّ فلا يضرّ بصومه أيضاً ، فلا موجب لتوهّم رفع اليد عن الصلاة أبداً ، فيبتلعه ويتمّها ولا شي‌ء عليه كما هو ظاهر.

(٢) لا يخفى أنّه ليس وجه استشكال الماتن (قدس سره) احتمال صدق القي‌ء على خروج الإصبع من الحلق ، كيف؟! وقد ذكر هو (قدس سره) قبل عدّة مسائل أنّ القي‌ء أمرٌ عرفي لا يكاد يصدق على مثل خروج الدُّرّة أو النواة ونحوهما ، فليس مطلق خروج الشي‌ء من الجوف معدوداً من القي‌ء.

فيظهر من ذلك أنّ استشكاله (قدس سره) في المقام ليس من هذه الجهة ، بل هو من أجل احتماله صدق الأكل ، بناء على ما تقدّم منه (قدس سره) من عدم

__________________

(*) لا إشكال في سعة الوقت ، كما لا إشكال في عدم جواز إبطالها في ضيق الوقت.

(**) وهو الأظهر.

٢٦٣

[٢٤٦١] مسألة ٧٨ : لا بأس بالتجشّؤ القهري وإن وصل معه الطعام إلى فضاء الفم ورجع (١) ، بل لا بأس بتعمّد التجشّؤ ما لم يعلم أنّه يخرج معه شي‌ء من الطعام (*) ، وإن خرج بعد ذلك وجب إلقاؤه ، ولو سبقه الرجوع إلى الحلق لم يبطل صومه وإن كان الأحوط القضاء.

______________________________________________________

الفرق فيه بين المأكول العادي وغير العادي الذي لا يكون متعارفاً فيشمل مثل الإصبع.

وهذا أيضاً كما ترى ، لانصراف مفهوم الأكل عن مثل ذلك أعني : إدخال الإصبع في الجوف وإخراجه قطعاً ، فلو أدخل يده في حلقه لداع كإخراج عظم السمك مثلاً لا يقال عرفاً : إنّه أكل إصبعه بالضرورة ، فأدلّة الأكل أيضاً منصرفة عن ذلك جزماً ، فلا موجب للحكم بالبطلان.

(١) يظهر حال هذه المسألة ممّا مرّ في مطاوي المسائل السابقة ، فلا حاجة إلى الإعادة ، فإنّها تكرار محض.

__________________

(١) تقدّم حكم هذه المسألة [في المسألة ٢٤٥٢ و ٢٤٥٧].

٢٦٤

فصل

في اعتبار العمد والاختيار في الإفطار

المفطرات المذكورة ما عدا البقاء على الجنابة (١) الذي مرّ الكلام فيه تفصيلاً إنّما توجب بطلان الصوم إذا وقعت على وجه العمد والاختيار ،

______________________________________________________

(١) تقدّم حكم البقاء على الجنابة ، وعرفت أنّه قد يوجب البطلان ولو بدون العمد كما في النومة الثانية ، بكل الكفّارة أيضاً على قولٍ كما في النومة الثالثة.

وأمّا غير ذلك من سائر المفطرات فشي‌ءٌ منها لا يوجب البطلان ، إلّا إذا حدث عن القصد والعمد ، فإذا لم يكن قاصداً كما لو دخل شي‌ء في جوفه قهراً عند المضمضة أو غيرها ، أو زلّت قدمه فارتمس في الماء بغير اختياره أو كان قاصداً ولكن لم يكن عامداً كما في الناسي لصومه ، فإنّه متعمّد في ذات الفعل كالأكل مثلاً ولكنّه غير متعمّد في الإفطار لم يبطل صومه.

والظاهر أنّ هذا الحكم من الواضحات المتسالم عليها بين الفقهاء ولم يقع فيه خلاف ، كما صرّح به غير واحد.

ويدلّنا عليه : أمّا بالنسبة إلى غير القاصد أي من صدر عنه الفعل من غير إرادة واختيار قصور المقتضي للبطلان أوّلاً ، فإنّه الذي يحتاج إلى الدليل ، أمّا الصحّة فهي مقتضى القاعدة أخذاً بقوله (عليه السلام) : «لا يضرّ الصائم ما صنع إذا اجتنب» إلخ ، فإنّ المأمور به هو الاجتناب ، ولا شكّ في تحقّقه لدى

٢٦٥

.................................................................................................

______________________________________________________

صدور الفعل بغير اختيار ، لوضوح أنّ معنى الاجتناب أن لا يفعله متعمّداً ويكون بعيداً عنه وعلى جانب منه ، فهو فعل اختياري ، فلو ارتكب الفعل كالأكل عن قصدٍ يصدق أنّه لم يجتنب عنه ، بخلاف ما لو صدر عنه بغير قصد واختيار ، فإنّه يصدق معه الاجتناب بلا ارتياب.

وعلى الجملة : فعدم الدليل على البطلان يكفي في الحكم بالصحّة.

نعم ، في البقاء على الجنابة قام الدليل على البطلان في النومة الثانية ، وأمّا في المقام فلم يدلّ عليه دليل حسبما عرفت. هذا أوّلاً.

وثانياً : على تقدير الحاجة إليه يكفينا ما ورد في الناسي وهي عدّة روايات كما سيجي‌ء دلّت على الصحّة ، معلّلاً في جملة منها بأنّه رزق رزقه الله ، فإذا ثبتت الصحّة في الناسي مع كونه متعمّداً وقاصداً إلى ذات الفعل ففيما لا قصد فيه الصادر بغير إرادة واختيار بطريقٍ أولى ، وتؤيّده الروايات الواردة في خصوص بعض المفطرات ، المصرّحة بتخصيص الحكم بصورة العمد ، مثل ما ورد في الكذب وفي القي‌ء حسبما مرّ في محلّه (١).

هذا ، وربّما يستدلّ لذلك بالنصوص المتضمّنة للقضاء على من أفطر متعمّداً ، فيقال : إنّها تدلّ على اعتبار العمد في القضاء كالكفّارة.

ولكن هذه النصوص بأجمعها تضمّنت التقييد بالعمد في كلام السائل دون الإمام (عليه السلام) ، فلاحظ (٢). ومثله لا دلالة له على المفهوم ليقتضي نفي القضاء عن غير المتعمّد.

نعم ، خصوص رواية المشرقي تضمّنت التقييد بالعمد في كلام الإمام (عليه السلام) ، قال : سألته عن رجل أفطر من شهر رمضان أيّاماً متعمّداً ، ما عليه

__________________

(١) ص ١٣٢ و ٢٤٧ ٢٤٨.

(٢) الوسائل ١٠ : ٤٤ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٨.

٢٦٦

.................................................................................................

______________________________________________________

من الكفّارة؟ فكتب : «من أفطر يوماً من شهر رمضان متعمّداً فعليه عتق رقبة مؤمنة ، ويصوم يوماً بدل يوم» (١).

وقد ذكرنا في محلّه في الأُصول : أنّ الجزاء إذا كان مشتملاً على أمرين كما في المقام ، وهما الكفّارة والقضاء فلا يبعد دعوى انصرافه عرفاً إلى أنّ كل واحد منهما مترتّب على الشرط مستقلا (٢) ، فمفهومه : إنّ من لم يتعمّد فليس عليه كفّارة ولا قضاء ، لا أنّ الجزاء هو المجموع المركّب منهما ليكون مفهومه نفي المجموع لدى نفي العمد غير المنافي لثبوت القضاء حينئذٍ حتّى لا يدلّ على تقييد القضاء بالعمد.

فالإنصاف أنّ الدلالة غير قاصرة ، إلّا أنّ السند لا يخلو من الخدش ، فإنّ المشرقي وهو هشام بن إبراهيم أو هاشم بن إبراهيم على الخلاف في ضبطه العباسي لم يُوثّق ولم يُذكر بمدح ، بل فيه شي‌ء فلا يعتمد عليه ، ولأجله تسقط الرواية عن الاستدلال ، فالعمدة ما ذكرناه من قصور المقتضي والأولويّة المؤيّدة بما عرفت.

وأمّا بالنسبة إلى الناسي عن الصوم غير العامد إلى الإفطار فتدل على عدم البطلان حينئذٍ عدّة من الروايات وفيها الصحاح والموثّقات :

منها : صحيحة الحلبي : عن رجل نسي فأكل وشرب ثمّ ذكر «قال : لا يفطر ، إنّما هو شي‌ء رزقه الله فليتمّ صومه» (٣) رواها المشايخ الثلاثة والسند في جميعها صحيح.

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ٤٩ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٨ ح ١١.

(٢) محاضرات في أُصول الفقه ٥ : ١١٩.

(٣) الوسائل ١٠ : ٥٠ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٩ ح ١ ، الكافي ٤ : ١٠١ / ١ ، الفقيه ٢ : ٧٤ / ٣١٨ ، التهذيب ٤ : ٢٧٧ / ٨٣٨.

٢٦٧

.................................................................................................

______________________________________________________

وموثّقة عمّار : عن الرجل ينسى وهو صائم فجامع أهله «فقال : يغتسل ولا شي‌ء عليه» (١).

وصحيحة زرارة : في المحرم يأتي أهله ناسياً «قال : لا شي‌ء عليه ، إنّما هو بمنزلة من أكل في شهر رمضان وهو ناسٍ» (٢) فإنّ التنزيل يدلّ على مفروغيّة الحكم في المنزل عليه.

وموثّقة سماعة : عن رجل صام في شهر رمضان فأكل وشرب ناسياً «قال : يتمّ صومه وليس عليه قضاؤه» (٣).

وصحيحة محمد بن قيس عن أبي جعفر (عليه السلام) «قال : كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول : من صام فنسي فأكل وشرب فلا يفطر من أجل أنّه نسي ، فإنّما هو رزق رزقه الله تعالى فليتمّ صيامه» (٤) إلى غير ذلك من الروايات.

وهذه الروايات وإن كان موردها الأكل والشرب والجماع ، ولم ترد في غيرها من المفطرات مثل الارتماس ونحوه ، إلّا أنّه لا بدّ من إلحاق الباقي بما ذكر ، لأجل التعليل المذكور فيها ، كما في صحيحتي ابن قيس والحلبي ، فيظهر أنّ هذا حكمٌ لجميع المفطرات ، على أنّ أساس الصوم متقوّم بالاجتناب عن الأكل والشرب والجماع ، وكلّ ذلك مذكور في القرآن ، قال تعالى (كُلُوا وَاشْرَبُوا) إلخ (٥) ، وقال تعالى (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ) إلخ (٦) ، فإذا كان الحكم ثابتاً في الأساس بمقتضى هذه النصوص المشتملة على كل ذلك ففي غيره بطريقٍ أولى ، للقطع

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ٥١ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٩ ح ٢.

(٢) الوسائل ١٠ : ٥١ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٩ ح ٤.

(٣) الوسائل ١٠ : ٥١ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٩ ح ٥.

(٤) الوسائل ١٠ : ٥٢ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٩ ح ٩.

(٥) البقرة ٢ : ١٨٧.

(٦) البقرة ٢ : ١٨٧.

٢٦٨

وأمّا مع السهو وعدم القصد فلا توجبه. من غير فرق بين أقسام الصوم (١) من الواجب المعيّن والموسّع والمندوب. ولا فرق في البطلان مع العمد بين الجاهل بقسميه والعالم (٢) ،

______________________________________________________

بعدم الفرق من هذه الجهة.

كان الحكم ثابتاً في الأساس بمقتضى هذه النصوص المشتملة على كل ذلك ففي غيره بطريقٍ أولى ، للقطع بعدم الفرق من هذه الجهة.

(١) فإنّ النصوص المتقدّمة وإن ورد بعضها في خصوص رمضان كصحيحة زرارة المتقدّمة (١) وبعضها في خصوص النافلة كصحيحة أبي بصير : رجل صام يوماً نافلة فأكل وشرب ناسياً «قال : يتمّ يومه ذلك وليس عليه شي‌ء» (٢) ولكن بقيّة الأخبار مطلقة ، فلا موجب لتقييد الحكم ببعض أقسام الصوم.

(٢) ذكر (قدس سره) أنّه لا فرق في البطلان في صورة العمد بين العالم والجاهل ، كما لا فرق في الجاهل بين القاصر والمقصّر ، وإنّما يفترقان في العقاب فقط ، لمكان العذر ، فلو شرب الجاهل الدواء بتخيّل أنّه لا يضرّ أو أكل مقداراً قليلاً من الحبوب بزعم أنّ بلعه غير قادح في الصحّة ، بطل صومه ، سواء كان قاصراً أم مقصّراً.

والظاهر أنّ هذا الحكم متسالم عليه بين معظم الفقهاء ، ولكن نُسِب الخلاف إلى ابن إدريس فخصّ البطلان بالعالم وأمّا الجاهل فلا كفّارة عليه ولا قضاء (٣) ،

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ٥١ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٩ ح ٤.

(٢) الوسائل ١٠ : ٥٢ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٩ ح ١٠.

(٣) مصباح الفقيه ١٤ : ٤٤٦.

٢٦٩

.................................................................................................

______________________________________________________

واختاره صاحب الحدائق مصرّاً عليه (١).

أمّا الكلام في الكفارة فسيجي‌ء قريباً إن شاء الله تعالى.

وأمّا القضاء فلا شكّ أنّه مقتضى الإطلاقات في أدلّة المفطريّة كغير المقام من سائر الأبواب الفقهيّة من العبادات والمعاملات ، فإنّ مقتضى الإطلاق فيها عدم الفرق بين العالم والجاهل ، فيبطل مطلقاً إلّا ما خرج بالدليل ، وإذا بطل وجب قضاؤه بطبيعة الحال ، وكذلك قوله تعالى (كُلُوا وَاشْرَبُوا) خطابٌ عامٌّ لجميع المكلّفين من العالمين والجاهلين.

وبإزاء هذه المطلقات روايتان :

إحداهما : موثّقة زرارة وأبي بصير ، قالا جميعاً : سألنا أبا جعفر (عليه السلام) عن رجل أتى أهله في شهر رمضان وأتى أهله وهو محرم وهو لا يرى إلّا أنّ ذلك حلال له «قال : ليس عليه شي‌ء» (٢).

والأُخرى : صحيحة عبد الصمد الواردة فيمن لبس المخيط حال الإحرام جاهلاً : «أيّ رجل ركب أمراً بجهالة فلا شي‌ء عليه» (٣). فإنّها بعمومها تشمل المقام ، وقد ذكرها الشيخ الأنصاري في الرسائل في أصالة البراءة بلفظه «أيّما رجل» إلخ (٤) ، ولكن المذكور في الوسائل ما عرفت.

وكيفما كان ، فقد استدلّ بهاتين الروايتين على نفي القضاء عن الجاهل بدعوى أنّ النسبة بينهما وبين المطلقات المتقدّمة عمومٌ من وجه ، إذ هما خاصّتان بالجاهل عامّتان من حيث القضاء والكفّارة ، على العكس من المطلقات ، فإنّها خاصّة

__________________

(١) الحدائق ١٣ : ٦١ ٦٢.

(٢) الوسائل ١٠ : ٥٣ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٩ ح ١٢.

(٣) الوسائل ١٢ : ٤٨٩ / أبواب تروك الإحرام ب ٤٥ ح ٣.

(٤) لاحظ الرسائل ١ : ٣٢٧.

٢٧٠

.................................................................................................

______________________________________________________

بالقضاء عامّة من حيث العالم والجاهل ، فيتعارضان في مورد الاجتماع وهو الجاهل من حيث الحكم بالقضاء ، فإنّه غير واجب بمقتضى الروايتين ، وواجب بمقتضى الإطلاقات ، وبعد تساقط الإطلاقين المتعارضين وإن كان بالعموم من وجه على ما بيّناه في بحث التعادل والتراجيح (١) يرجع إلى الأصل ، وهو أصالة البراءة من تقيّد الصوم بذلك ، كما هو الشأن في الدوران بين الأقل والأكثر.

ويندفع أوّلاً : بأنّ الإطلاقات السابقة تتقدّم ، وذلك من أجل أنّ تقييد الحكم بالعلم به وإن كان أمراً ممكناً في نفسه بأن يؤخذ العلم بالحكم في موضوع نفسه ، بل هو واقع كما في باب القصر والتمام والجهر والإخفات ، وما ذكر من استحالته لاستلزام الدور قد أجبنا عنه في محلّه ، فهو في نفسه أمر ممكن ولكن لا شكّ أنّه بعيد عن الأذهان العرفيّة بمثابة ذهب جماعة كثيرون إلى استحالته واحتاجوا إلى التشبّث بتوجيهات عديدة في موارد الوقوع كالمثالين المزبورين ، منها ما ذكره صاحب الكفاية (قدس سره) من الالتزام باختلاف المرتبة في الملاك بحيث لا يمكن استيفاء المرتبة الراقية بعد اشتغال المحلّ بالدانية ولأجله يعاقَب (٢).

وعلى الجملة : تقييد الحكم في هذه المطلقات بالعالمين به ممّا يأباه الفهم العرفي جدّاً ولا يساعد عليه بوجه ، بل هو يرى أنّ الحكم كغيره له نحو ثبوت وتقرّر قد يعلم به الإنسان وأُخرى يجهله إمّا عن قصور أو تقصير ، فلا مناص من التحفّظ على هذه الإطلاقات وتقييد الروايتين بنفي الكفّارة فقط.

وثانياً : لو أغمضنا عن ذلك وفرضنا أنّ التقييد غير بعيد فهاتان الروايتان قاصرتان عن الإطلاق في نفسهما ولا تعمّان القضاء بوجه ، بل تختصّان بنفي

__________________

(١) مصباح الأُصول ٣ : ٤٢٧.

(٢) كفاية الأُصول : ٢٦٦ ٢٦٧.

٢٧١

.................................................................................................

______________________________________________________

الكفّارة فقط.

أمّا صحيحة عبد الصمد فالأمر فيها واضح ، ضرورة أنّ لبس المخيط لا يستوجب بطلان الحجّ ليحتاج إلى القضاء حتّى في صورة العلم والعمد ، بل غايته الإثم والكفّارة ، فهو تكليف محض ، ولا يستتبع الوضع لتدلّ على نفي القضاء مع الجهل.

فإن قلت : التأمل في الصحيحة صدراً وذيلاً يشهد بأنّها ناظرة إلى نفي فساد الحجّ الذي أفتى به العامّة وأنّه ليس عليه الحجّ من قابل ، كما أنّه ليس عليه بدنة ، فهي مسوقة لنفي كلا الحكمين لدى الجهل بمقتضى تفريع قوله : «أي رجل» إلخ ، على الأمرين معاً لا خصوص الثاني.

قلت : الصحيحة وإن كانت مسوقة لنفي ما زعمه المفتون من العامّة من فساد الحجّ ، إلّا أنّه لا يحتمل أن يكون نفي الفساد فيها من آثار الجهل ومتفرّعاً عليه ، لما عرفت من الصحّة وأنّ لبس المخيط عالماً عامداً بلا خلاف فيه ولا إشكال ، وأنّه لا يترتّب عليه إلّا الإثم والكفّارة بالضرورة من غير حاجة ، إلى القضاء قطعاً ، فيعلم من هذه القرينة الواضحة أنّ نظره (عليه السلام) في قوله : «أيّ رجل ركب» إلخ ، إلى نفي الكفارة فقط ، فهذا التفريع مترتّب على خصوص ذلك دون نفي القضاء.

وأمّا الموثّقة وكذا الصحيحة إن لم يتمّ ما قدّمناه فيها فلأجل أنّ المنفي في ظرف الجهل إنّما هو الأثر المترتّب على الفعل وأنّه ليس عليه شي‌ء من ناحية فعله الصادر عن جهل لا ما يترتّب على الترك ، ومن المعلوم أنّ الأثر المترتّب على الفعل أعني : الإفطار إنّما هو الكفّارة فقط فهي المنفي ، وأمّا القضاء فليس هو من آثار الفعل وانّما من آثار ترك الصوم وعدم الإتيان به في ظرفه على وجهه ، فهو أثر للعدم لا للوجود. نعم ، لأجل الملازمة بين الأمرين أعني :

٢٧٢

.................................................................................................

______________________________________________________

الإفطار وترك الصوم الناشئة من كون الصوم والإفطار ضدّين لا ثالث لهما صحّ إسناد أثر أحدهما إلى الآخر مجازاً وبنحوٍ من العناية ، فيقال : إنّ الإفطار موجب للقضاء ، مع أنّ الموجب لازمه وهو ترك الصوم كما عرفت.

وهذا نظير من أحدث في صلاته أو تكلّم متعمّداً ، فإنّه موجب للبطلان ، إلّا أنّ الإعادة أو القضاء ليس من آثار الحدث أو التكلّم ، بل من آثار ترك الصلاة وعدم الإتيان بها على وجهها الذي هو لازم فعل المبطل ، فتسند الإعادة إليه تجوّزاً ومسامحة ، فيقال : من تكلّم في صلاته متعمّداً فعليه الإعادة كما ورد في النصّ ، وهكذا الحال في الصحيحة ، فإنّ مفادها أنّه لا شي‌ء عليه من ناحية ركوبه الأمر بجهالة ، فلا أثر للفعل الذي ارتكبه ، وذلك الأثر هو الكفّارة المترتّبة على الإفطار ، وأمّا القضاء فهو من آثار ترك الصوم فلا تشمله الصحيحة بوجه.

إذن فليس للروايتين إطلاق من الأوّل ، بل هما ينفيان الآثار المترتّبة على الفعل ولا ينظران إلى بقيّة الآثار المترتّبة على ملازم هذا الفعل ، فلا تعارض حتّى تصل النوبة إلى تساقط الإطلاقين والرجوع إلى الأصل العملي.

وتوضيح المقام : أنّا قد ذكرنا في الأُصول عند التكلم حول حديث الرفع (١) : أنّ المرفوع لا بدّ أن يكون أحد أمرين : إمّا الحكم المتعلّق بالشي‌ء ، أو الحكم المترتّب على الشي‌ء ، بحيث يكون هذا الشي‌ء الذي تعلّق به النسيان أو الإكراه أو غيرهما موضوعاً بالإضافة إليه ، فمعنى رفعه في عالم التشريع عدم كونه متعلقاً للحكم الثابت له في حدّ نفسه ، أو عدم كونه موضوعاً للحكم المترتّب عليه في حدّ نفسه ، فبحسب النتيجة يفرض وجوده كالعدم وكأنه لم يكن ، فإذا اضطرّ أو نسي أو أُكره على شرب الخمر مثلاً فمعنى رفعه أنّ هذا الشرب لا يكون متعلّقاً للحرمة الثابتة له في حدّ نفسه ، كما أنّه لا يكون موضوعاً للحكم

__________________

(١) مصباح الأُصول ٢ : ٢٦٦ ٢٦٩.

٢٧٣

.................................................................................................

______________________________________________________

الآخر المترتّب عليه كوجوب الحدّ ، فهو أيضاً مرفوع عنه ، فيكون ذلك تخصيصاً في أدلّة الأحكام الأوّلية ، وموجباً لاختصاصها بغير هذه الموارد المذكورة في الحديث.

وأمّا لو فرضنا أنّ الموضوع للحكم شي‌ءٌ آخر غاية الأمر أنّه ملازم بحسب الوجود مع متعلّق الاضطرار أو الإكراه ونحوهما ، فلا يكاد يرتفع الحكم عن ذلك الموضوع بحديث الرفع.

فلو فرضنا أنّه مضطرّ أو مكرَه على التكلّم في الصلاة ، فغايته أنّ حرمة القطع على تقدير القول بها مرفوعة ، وأمّا وجوب الإعادة أو القضاء المترتّب على عدم الإتيان بالمأمور به الذي هو لازم التكلّم فلا يتكفّل الحديث لرفعه بوجه ، فإنّه حكم مترتّب على موضوع آخر لا ربط له بمتعلّق الإكراه أو الاضطرار وإن كانا متقارنين بحسب الوجود الخارجي ، ضرورة أنّ عدم الإتيان بالصلاة من لوازم التكلّم لا عينه ، فإنّ الإتيان بها والتكلّم ضدّان واحدهما لازم لعدم الآخر ، فلا يكاد يرتفع بالحديث بوجه ، بل مقتضى الإطلاقات عدم الفرق في مبطليّة التكلّم بين الاختيار وغيره ، ولأجل ذلك لم يذهب أحد من الفقهاء فيما نعلم إلى عدم بطلان الصلاة لدى التكلّم عن إكراه أو اضطرار ، بل هو من الكلام العمدي قاطع للصلاة وموجب للإعادة بلا إشكال ، لعدم الإتيان بالمأمور به.

ومقامنا من هذا القبيل ، فإنّ صحيحة عبد الصمد تنفي الآثار المترتّبة على لبس المخيط في صورة الجهل من الإثم والكفّارة ، لا ما يترتّب على شي‌ء آخر ، فلا تدل على نفي الإعادة المترتّبة على عدم الإتيان بالمأمور به.

وكذلك الحال في الموثّقة ، فإنّ مفادها أنّه ليس عليه شي‌ء في فعله ، ومن المعلوم أنّ القضاء ليس من آثار الفعل أعني : ارتكاب المفطر في ظرف الجهل ـ

٢٧٤

ولا بين المكره وغيره (١) فلو اكره على الإفطار فأفطر مباشرةً فراراً عن الضرر المترتّب على تركه بطل صومه على الأقوى. نعم ، لو وجر في حلقه من غير مباشرة منه لم يبطل.

______________________________________________________

بل هو من آثار عدم الإتيان بالمأمور به.

فإذن لا يمكن التمسّك بهاتين الروايتين للقول بأنّ الإتيان جهلاً لا يوجب البطلان ، وإنّما يصحّ الاستدلال بهما لنفي الكفّارة فقط ، كما سيجي‌ء التعرّض لها قريباً إن شاء الله تعالى.

ولأجل ذلك لم يحتمل أحدٌ أنّه إذا تكلم في صلاته جاهلاً بالمبطليّة لم تبطل صلاته ، مع أنّ ذلك هو مقتضى عموم الصحيحة : «أيّ رجل ركب أمراً» إلخ ، فلو تمّ الاستدلال بها في المقام لصحّ في باب الصلاة أيضاً بمناط واحد ، وهو كما ترى لا يتمّ في كلا الموردين ، والسرّ ما عرفت من أنّ الإعادة والقضاء من آثار ترك المأمور به لا من آثار فعل المبطل أو المفطر.

فتحصّل : أنّ الصحيح ما ذكره الماتن من عدم الفرق في البطلان بالإفطار العمدي بين العالم والجاهل ، على أنّ تقييد المفطريّة بالعلم بعيدٌ عن الأذهان العرفيّة في حدّ نفسه كما مرّ.

وقد ظهر ممّا ذكرنا أنّ المفطريّة والمبطليّة ثابتة لنفس هذا الفعل ، فالأكل مثلاً عن جهل هو المبطل حقيقةً ، ولكن القضاء غير مترتّب عليه ، وانّما هو مترتّب على لازمه ، وهو عدم الإتيان بالمأمور به ، والمرفوع في الروايتين إنّما هو الأثر المترتّب على الفعل لا الترك ، والقضاء من آثار الترك لا الفعل كما عرفت بما لا مزيد عليه.

(١) فلو تناول المفطر باختياره ولكن بغير طيب النفس ، بل لإكراه الغير ودفعاً لضرره وتوعيده ، بطل صومه ، لصدوره عن العمد والاختيار ، فتشمله

٢٧٥

.................................................................................................

______________________________________________________

إطلاقات الأدلّة ، فإنّ الاختيار له معنيان : تارةً يُطلَق في مقابل عدم الإرادة ، وأُخرى : في قبال الإكراه ، أي بمعنى الرضا وطيب النفس. وبما أنّ الفعل في المقام صادر عن الإرادة فهو اختياري له بالمعنى الأوّل ، فيكون مصداقاً للعمد المحكوم بالمفطريّة في لسان الأدلّة.

نعم ، التحريم مرفوع في ظرف الإكراه بمقتضى حديث الرفع ، وأمّا المفطريّة فلا يمكن رفعها بالحديث ، ضرورة أنّ الأمر بالصوم قد تعلّق بمجموع التروك من أوّل الفجر إلى الغروب ، وليس كل واحد من هذه التروك متعلّقاً لأمر استقلالي ، بل الجميع تابع للأمر النفسي الوجداني المتعلّق بالمركّب ، إن ثبت ثبت الكلّ وإلّا فلا ، فإنّ الأوامر الضمنيّة متلازمة ثبوتاً وسقوطاً بمقتضى فرض الارتباطيّة الملحوظة بينها ، كما في أجزاء الصلاة وغيرها من سائر العبادات.

فإذا تعلّق الإكراه بواحد من تلك الأجزاء فمعنى رفع الأمر به رفع الأمر النفسي المتعلّق بالمجموع المركّب ، لعدم تمكّنه حينئذٍ من امتثال الأمر بالاجتناب عن مجموع هذه الأُمور ، فإذا سقط ذلك الأمر بحديث الرفع فتعلّق الأمر حينئذٍ بغيره ، بحيث يكون الباقي مأموراً به كي تكون النتيجة سقوط المفطريّة عن خصوص هذا الفعل يحتاج إلى الدليل ، ومن المعلوم أنّ الحديث لا يتكفّل بإثباته ، فإنّ شأنه الرفع لا الوضع ، فهو لا يتكفّل لنفي المفطريّة عن الفعل الصادر عن إكراه لينتج كون الباقي مأموراً به ومجزئاً ، كما هو الحال في الصلاة ، فلو اكره على التكلّم فيها فمعناه أنّه في هذا الآن غير مأمور بالإتيان بالمقيّد بعدم التكلّم ، وأمّا الأمر بالباقي فكلّا.

وأمّا القضاء فإن كان من الأحكام المترتّبة على نفس الفعل أعني : ارتكاب المفطر كالكفّارة فلا مانع من نفيه ، لحديث رفع الإكراه ، ولكنّك عرفت أنّه من آثار ترك المأمور به وعدم الإتيان به في ظرفه الملازم لفعل المفطر ، فلا مجال

٢٧٦

[٢٤٦٢] مسألة ١ : إذا أكل ناسياً فظنّ فساد صومه فأفطر عامداً بطل صومه (١)

______________________________________________________

حينئذٍ للتمسّك بالحديث ، لأنّ المكرَه عليه هو الفعل ، وليس القضاء من آثاره ، فإطلاق دليل القضاء على من فات عنه الواجب في وقته هو المحكّم. فالتفرقة بين الكفّارة والقضاء واضحة.

هذا فيما إذا كان ارتكاب المفطر بإرادته واختياره ولكن عن إكراه.

وأمّا إذا لم يكن باختياره كما لو أُوجر في حلقه ، فلا إشكال في عدم البطلان ، لأنّ الواجب إنّما هو الاجتناب كما في الصحيحة : «لا يضرّ الصائم ما صنع إذا اجتنب» إلخ ، الذي هو فعل اختياري ، وهذا حاصل في المقام ، ضرورة أنّ الصادر بغير قصد وإرادة بل كان بإيجار الغير وإدخاله غيرُ منافٍ لصدق الاجتناب كما هو ظاهر جدّاً.

(١) بعد ما ذكر (قدس سره) البطلان مع العمد من غير فرق بين العلم والجهل وعدم البطلان مع النسيان ، تعرّض (قدس سره) لصورة اجتماع النسيان مع الجهل مترتّباً ، كما لو أكل أوّلاً ناسياً ثمّ إنّه لأجل زعمه فساد صومه بذلك أفطر ثانياً عامداً ، فكان إفطاره مستنداً إلى جهله بصحّة صومه وتخيله فساده ، وقد حكم (قدس سره) حينئذٍ ببطلان الصوم لإفطاره العمدي وإن استند إلى الجهل ، لما مرّ من عدم الفرق بعد فرض العمد بين العلم والجهل (١).

وهذا بناءً على ما تقدّم من أنّ الجاهل كالعامد لا إشكال فيه.

وأمّا بناءً على إلحاقه بالساهي ، فهل هذا مثل الجاهل بالحكم ، أو أنّ بين

__________________

(١) راجع ص ٢٦٩.

٢٧٧

.................................................................................................

______________________________________________________

المقام وبين الجاهل بالمفطريّة فرقاً؟

قد يقال بالفرق وأنّ القول بالصحّة في الأول لا يلازم القول بالصحّة هنا ، نظراً إلى أنّ موضوع الموثّقة أو الصحيحة هو الصائم مع الجهل بكون هذا مفطراً ، ومحلّ الكلام بعكس ذلك ، فإنّه يعلم بالمفطريّة ويجهل بصومه ، فالتعدّي إلى المقام بلا موجب. وعليه ، فحتى لو قلنا بعدم البطلان هناك لأجل الموثّقة أو الصحيحة نلتزم بالبطلان هنا ، ولعلّه لأجل ذلك تردّد المحقّق (قدس سره) في المسألة الاولى مع جزمه هنا بالبطلان (١).

ولكن الظاهر عدم الفرق.

أمّا أوّلاً : فلأن دليل الصحّة في تلك المسألة لم يكن منحصراً بالموثّقة ليقال : إنّ الموضوع فيها هو الصائم مع الجهل بالمفطريّة والمقام بعكس ذلك. فمع الغضّ عن هذه تكفينا صحيحة عبد الصمد «أيّ رجل ركب أمراً بجهالة» إلخ (٢) ، فإنّها غير قاصرة الشمول للمقام ، فإنّ من أكل معتقداً فساد صومه يصدق في حقّه أنّه ركب أمراً بجهالة ، فإذا كان قوله (عليه السلام) فيها : «لا شي‌ء عليه» شاملاً للقضاء ولأجله حكم بالصحة في فرض الجهل لم يكن عندئذٍ فرقٌ بين المقامين وشملهما الصحيحة بنطاق واحد كما لا يخفى.

وثانياً : أنّ الموثّقة (٣) بنفسها أيضاً شاملة للمقام ، إذ لم يؤخذ فيها شي‌ء من الأمرين لا عنوان كونه صائماً ولا كونه جاهلاً بالمفطريّة ، بل الموضوع فيها إتيان الأهل في شهر رمضان وهو لا يرى أنّ هذا محرّم عليه ، وهذا كما ترى صادق على الموردين معاً ، فكما أنّ من يعلم صومه ويجهل بالمفطريّة كتخيّل

__________________

(١) المعتبر ٢ : ٦٦٢.

(٢) المتقدمة في ص ٢٧٠.

(٣) أي موثّقة زرارة وأبي بصير المتقدّمة في ص ٢٢٠.

٢٧٨

وكذا لو أكل بتخيّل أنّ صومه مندوب يجوز إبطاله فذكر أنّه واجب (١).

[٢٤٦٣] مسألة ٢ : إذا أفطر تقيّةً من ظالم بطل صومه (٢).

______________________________________________________

أنّ شرب الدواء مثلاً لا بأس به مشمولٌ له ، فكذا عكسه ، إذ يصدق في حقّه أيضاً أنّه جامع أو أكل وهو يرى أن هذا حلال له ولو لأجل اعتقاد عدم كونه صائماً ، فكلا الفرضين مشمول للموثّق بمناط واحد ، وعلى القول بأنّ الجاهل لا قضاء عليه نلتزم به في المقام أيضاً.

(١) أو تخيّل أنّه واجب موسّع ، فإنّه لا ينبغي الشكّ في البطلان ، لإطلاق أدلّة المفطريّة بعد وضوح قصور الموثّق عن الشمول للمقام ، إذ الظاهر من قوله : «وهو لا يرى إلّا أنّ هذا حلال له» الحليّة من كلتا الجهتين ، أي تكليفاً ووضعاً ، كما هو منصرف لفظ الحلّيّة بقول مطلق لا مجرّد التكليف فقط كما في المقام.

وكذا الحال في صحيحة عبد الصمد ، فإنّ الجهالة فيها عامّة للتكليف والوضع ، وفي المقام ارتكب ما يعلم بأنّه مفطر ، غاية الأمر يجهل بموضوع صومه المستلزم للجهل بحرمة الإفطار.

فشي‌ءٌ من الروايتين لا يشمل المقام قطعاً كما هو ظاهر جدّاً.

(٢) إذا اقتضت التقيّة تناول المفطر كالارتماس في الماء ، أو الإفطار لدى سقوط القرص وقبل ذهاب الحمرة ، وغير ذلك مما هو محلّ الخلاف بيننا وبين العامّة ، وقد ارتكب على طبق مذهبهم تقيّة فهل يبطل الصوم بذلك ، كما عرفت الحال في الإكراه على ما سبق ، حيث عرفت أنّه رافع للحرمة التكليفيّة فقط ، وأمّا الصوم فمحكوم بالفساد ، لعدم الدليل على الإجزاء؟

أو أنّ للتقيّة خصوصيّة لأجلها يحكم بصحّة العمل أيضاً وعدم بطلانه؟

٢٧٩

.................................................................................................

______________________________________________________

تقدّم الكلام حول ذلك بالمناسبة في مطاوي بعض الأبحاث السابقة وذكرنا أنّ روايات التقيّة وهي كثيرة جدّاً على قسمين :

أحدهما وهو الأكثر ـ : ما دلّ على وجوب التقيّة تكليفاً ، كقوله (عليه السلام) «من لا تقيّة له لا دين له» (١) وقوله (عليه السلام) : «التقيّة ديني ودين آبائي» (٢) ، إلى غير ذلك من الأخبار الآمرة بالتقيّة بهذا اللسان أو بغيره ، نظير التقيّة من الكفّار في قوله تعالى (إِلّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) (٣) إلخ.

فإنّ هذه الروايات لا تدلّ على صحّة العمل أبداً ، بل غايتها الحكم التكليفي ، وأنّ من الواجبات الإلهية التقيّة وعدم إظهار المخالفة ، فيجوز كلّ ما لم يكن جائزاً في نفسه ، بل قد يجب بالعنوان الثانوي.

ثانيهما : ما دل على صحّة العمل وأنّه يؤجَر عليه ، بل يكون أجرة زائداً على عمله. وهذا كما في باب الصلاة ومقدّماتها من الوضوء وغيره ، فقد ورد في بعض النصوص أنّه لو صلّى معهم تقيّةً يكون ثواب جميع المصلّين له ، وأنّ الرحمة الإلهية تنزل من السماء فإن لم تجد أهلاً رُفِعت وإلّا أصابت أهلها وإن كان شخصاً واحداً ، ولأجله كان ثواب جميع من في المسجد لذلك المتّقي (٤).

وبالجملة : دلّت النصوص الكثيرة على الإجزاء في باب الصلاة ، بل في بعضها التصريح بعدم الحاجة إلى الإعادة متى رجع إلى بيته ، فاستكشفنا من هذه النصوص أنّ الصلاة أو الوضوء تقيّة تقوم مقام العمل الصحيح ، بل تزيد عليه كما عرفت.

وأمّا غير الصلاة ومقدّماتها من الحجّ أو الصوم ونحوهما فلم نجد أيّ دليل

__________________

(١) انظر الوسائل ١٦ : ٢١٠ / أبواب الأمر والنهي ب ٢٤ ح ٢٤.

(٢) انظر الوسائل ١٦ : ٢١٠ / أبواب الأمر والنهي ب ٢٤ ح ٢٤.

(٣) آل عمران ٣ : ٢٨.

(٤) انظر الوسائل ٨ : ٢٩٩ / أبواب صلاة الجماعة ب ٥ ح ٣.

٢٨٠