موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ مرتضى البروجردي

الكذب (١) ، مجعولاً له أو جعله غيره وهو أخبر به مسنداً إليه لا على وجه نقل القول (٢) ، وأمّا لو كان على وجه الحكاية ونقل القول فلا يكون مبطلاً.

[٢٤٠٢] مسألة ١٩ : الأقوى إلحاق باقي الأنبياء والأوصياء بنبيّنا (صلّى الله عليه وآله) (*) فيكون الكذب عليهم أيضاً موجباً للبطلان ،

______________________________________________________

(١) للإطلاق أيضاً ، فإنّ المناط في المفطريّة عنوان الكذب على الله أو الرسول أو الأئمّة (عليهم السلام) الصادق على الجميع بنسق واحد ، فلو سُئِلَ عن شي‌ء فأجاب : أنّه حلال أو حرام ، مشيراً برأسه ناسباً إلى الرسول (صلّى الله عليه وآله) ، كان كاذباً ، وكذا لو أجاب بالكتابة أو الكناية ، لعدم الدليل على التقييد بالقول الصريح.

وبعبارة اخرى : المعتبر في الجملة الخبريّة قصد الحكاية مع مُبرِزٍ ما ، فلو قصد الحكاية عن ثبوت شي‌ء لشي‌ء ناسباً ذلك إلى الأئمّة (عليهم السلام) وقد أبرزه في الخارج بكتابة أو كناية أو صراحة أو بإحدى الدلالات الثلاث على نحوٍ يكون الكلام دالّاً عليه فجميعه داخل في الكذب وموجب للإفطار بطبيعة الحال.

(٢) فإنّ الاعتبار بالقول الصادر منه كذباً ، سواء أكان جاعلاً له بنفسه أم جعله غيره ، كما لو قال : قال أمير المؤمنين (عليه السلام) كذا كما ذكره الطبري مثلاً. نعم ، لو نسبه إلى الجاعل فقال : فلان يقول : إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فعل كذا ، فهذا نقلٌ للكذب وليس منه.

__________________

(*) إذا لم يرجع الكذب عليهم (عليهم السلام) إلى الكذب على الله تعالى ففي القوّة إشكال ، نعم الإلحاق أحوط.

١٤١

بل الأحوط إلحاق فاطمة الزهراء (سلام الله عليها) بهم أيضاً (١).

______________________________________________________

(١) إن كان الكذب على الأنبياء (عليهم السلام) بما أنّهم رسل من الله تعالى ليكون معنى قوله : إنّ عيسى (عليه السلام) حرّم كذا : أنّ الله تعالى حرّمه وأنّ هذا الحكم ثابت في الشريعة العيسويّة ، فلا ريب في أنّه موجب للبطلان ، لرجوعه إلى الكذب على الله تعالى ، إذ الإخبار عنهم بهذا الاعتبار إخبارٌ عنه تعالى ، ولو بنحو الدلالة الالتزاميّة ، وقد تقدّم عدم الفرق في صدق الكذب بين أنحاء الدلالات كما لا فرق بين زمنٍ دون زمن ولو كان متعلّقاً بما قبل الخلقة وكان في الحقيقة عائداً إلى الكذب على الله تعالى ، فإنّه أيضاً محرّم ومفطر.

وأمّا إذا كان الكذب راجعاً إلى نفس النبيّ أو الوصي بلا ارتباط له إليه تعالى كما لو أخبر عن عيسى (عليه السلام) أنّه ينام نصف ساعة مثلاً ، أو أنّ موسى (عليه السلام) أكل الشي‌ء الفلاني وما شاكل ذلك فلا دليل على بطلان الصوم به.

والوجه فيه : أنّ كلمة الرسول المذكورة في الأخبار بقرينة الاقتران بالأئمّة (عليهم السلام) يراد منها خصوص نبيّنا محمّد (صلّى الله عليه وآله) لا طبيعيّ الرسول ، فليس فيها إطلاق يشمل كلّ رسول ليكون الكذب عليه مفطّراً.

ومنه يظهر الحال في الكذب على الصديقة الزهراء سيّدة النساء (سلام الله عليها) ، فإنّه إن رجع إلى الكذب على الله أو الرسول أو الأئمّة (عليهم السلام) كان مفطراً ، وإلّا فلا دليل عليه ، فإطلاق الحكم في كلا الموردين مبني على الاحتياط.

١٤٢

[٢٤٠٣] مسألة ٢٠ : إذا تكلّم بالخبر غير موجّه خطابه إلى أحد أو موجّهاً إلى من لا يفهم معناه فالظاهر عدم البطلان (*) (١) وإن كان الأحوط القضاء.

[٢٤٠٤] مسألة ٢١ : إذا سأله سائل : هل قال النبيّ (صلّى الله عليه وآله) كذا؟ فأشار «نعم» في مقام «لا» أو «لا» في مقام «نعم» بطل صومه (٢).

______________________________________________________

(١) هذا لا يخلو من الإشكال ، فإنّ الجملة الخطابيّة إمّا خبريّة أو إنشائيّة ، والخبريّة إمّا صادقة أو كاذبة وشي‌ء منها لا يتوقّف على وجود من يسمع الكلام ، فلو تكلّم بجملة خبريّة عربيّة والمخاطَب جاهل باللغة لم يكن ذلك مضرّاً بصدق الأخبار أو كذبه ، نعم ، لا يصدق أنّه أخبره بذلك ولكن يصدق أنّه أتى بجملة خبريّة ، فإنّ المدار فيها بقصد الحكاية عن ثبوت شي‌ء لشي‌ء ، وصدقها وكذبها يدور مدار مطابقة المخبَر به مع الواقع وعدمها ، وهذا كما ترى لا يتوقف على وجود سامع ومخاطب.

وبما أنّ الموجود في الأخبار عنوان الكذب لا عنوان الإخبار يصدق ذلك بمجرّد عدم المطابقة وإن لم يكن عنده أحد ، فإن سمعه أحدٌ أيضاً يقال : أخبره ، وإلّا فهو كذب فقط ، ولذا لو كتب أخباراً كاذبة ولم يكن هناك من يقرؤها ، بل ولن يتّفق أن يقرأها أحد ، يصدق أنّه كذب على الله أو رسوله أو الأئمّة (عليهم السلام) ، فيكشف ذلك عن صدق عنوان الكذب ولو لم يكن عنده أحد ، بل تكلّم لنفسه بالأكاذيب.

(٢) لما تقدّم (١) من أنّ المناط في صدق الكذب قصد الحكاية مع عدم المطابقة بأي مبرِز كان ، فيعمّ الإشارة وغيرها.

__________________

(*) فيه إشكال والاحتياط لا يترك.

(١) في ص ١٤١.

١٤٣

[٢٤٠٥] مسألة ٢٢ : إذا أخبر صادقاً عن الله أو عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله) مثلاً ثمّ قال : كذبت ، بطل صومه ، وكذا إذا أخبر بالليل كاذباً ثمّ قال في النهار : ما أخبرت به البارحة صدق (١).

[٢٤٠٦] مسألة ٢٣ : إذا أخبر كاذباً ثمّ رجع عنه بلا فصل لم يرتفع عنه الأثر فيكون صومه باطلاً ، بل وكذا إذا تاب بعد ذلك فإنّه لا تنفعه توبته في رفع البطلان (٢).

______________________________________________________

(١) لكونه من الكذب غير الصريح في كلا الموردين الذي لا فرق بينه وبين الصريح في شمول الإطلاق ، ولا موجب لدعوى الانصراف إلى الثاني كما لا يخفى.

ومن المعلوم أنّ محلّ الكلام ما إذا كان المقصود نفي الواقع المطابق للخبر ، لا نفي الخبر المطابق للواقع ، وإلّا كان من الكذب على نفسه لا عليه تعالى كما هو ظاهر.

(٢) فإنّ الرجوع وإن لم يكن عن فصل وكذا التوبة لا يغيّر الواقع ولا ينقلب الشي‌ء عمّا هو عليه ، فقد صدر الكذب بمجرّد الفراغ من الكلام وتحقّق المبطل ، فيترتّب عليه الأثر بطبيعة الحال ، وغاية ما تنفعه التوبة رفع الإثم دون البطلان.

نعم ، إنّ للمتكلّم أن يلحق بكلامه ما شاء ، فلو كان الرجوع قبل انعقاد الظهور واستقراره للكلام وفراغه منه فذيّل كلامه بما يخرجه عن الظهور في الكذب على الله ، كما لو رجع وندم فأردف الكلام المقصود به الكذب بقوله : هكذا قاله فلان ، خرج ذلك عن الكذب على الله ودخل في الكذب على ذلك الشخص المنقول عنه ، فلا يكون مبطلاً من هذه الناحية ولا تترتّب عليه

١٤٤

[٢٤٠٧] مسألة ٢٤ : لا فرق في البطلان بين أن يكون الخبر المكذوب مكتوباً في كتاب من كتب الأخبار أو لا ، فمع العلم بكذبه لا يجوز الإخبار به وإن أسنده إلى ذلك الكتاب (١) ، إلّا أن يكون ذكره له على وجه الحكاية دون الإخبار ، بل لا يجوز الإخبار به على سبيل الجزم مع الظنّ بكذبه ، بل وكذا مع احتمال كذبه ، إلّا على سبيل النقل والحكاية (٢) ، فالأحوط لناقل الأخبار في شهر رمضان مع عدم العلم بصدق الخبر أن يسنده إلى الكتاب أو إلى قول الراوي على سبيل الحكاية.

______________________________________________________

الكفّارة ، لعدم وجود المفطر خارجاً وإن كان الظاهر هو البطلان حينئذٍ أيضاً من أجل نيّة المفطر وقصده ، التي قد عرفت أنّها بنفسها تستوجب البطلان لفرض تعلّق القصد به أولا ، ولا أثر للرجوع في إزالته كما هو الظاهر.

(١) إذ المناط في صدق الكذب قصد الحكاية عن الواقع مع عدم المطابقة له ، فمتى تحقّق ذلك فقد كذب وأبطل صومه ، سواء أكان ذلك مكتوباً في كتاب من كتب الأخبار أم لا ، أسنده إلى ذلك الكتاب أم أخبر به ابتداءً ومن غير إسناد ، إذ لا دخالة لشي‌ء من ذلك في تحقّق ما هو المناط في الكذب حسبما عرفت.

نعم ، لو كان الإخبار على نحو الحكاية عن ذلك الكتاب لا الحكاية عن الواقع لم يكن كذباً ، لصدقه في هذه الحكاية.

(٢) يقع الكلام في الإخبار الجزمي تارةً : مع العلم بكذب الخبر ، وأُخرى : مع الظن به ، وثالثةً : مع الشكّ.

أمّا مع العلم به والقطع بمخالفته للواقع : فإن فسّرنا الكذب بأنّه الإخبار على خلاف الاعتقاد كما قيل به واستشهد له بقوله تعالى : (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ

١٤٥

.................................................................................................

______________________________________________________

الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) (١) حيث حكم تعالى عليهم بالكذب بمجرّد المخالفة لاعتقادهم وإن كان ما أخبروا به من رسالة النبيّ (صلّى الله عليه وآله) مطابقاً للواقع فقد تحقّق البطلان في المقام بمجرّد الإخبار وإن انكشف بعد ذلك أنّه كان مطابقاً للواقع ، لتحقّق موضوعه بتمامه ، وهو التعمّد إلى الإخبار بما يعتقد خلافه ، الذي هو المناط في الكذب حسب الفرض.

وإن فسّرناه كما هو الظاهر بأنّه الإخبار على خلاف الواقع وأنّ الاعتقاد طريقٌ إليه والآية المباركة لا تنافيه لما قيل في محلّه من أنّ تكذيبهم راجع إلى قولهم : نشهد أنّك ... إلخ فحينئذٍ إن كان مخالفاً للواقع فقد تعمّد الكذب وبطل صومه ، وأمّا إذا انكشف أنّه مطابقٌ للواقع فهو وإن لم يرتكب المفطر لانتفاء الكذب فلا كفّارة عليه ، وإلّا أنّه مع ذلك يبطل صومه من أجل نيّة المفطر ، فالصوم باطل على كلّ حال ، طابق الواقع أم خالف ، وإنّما الفرق من حيث ترتّب الكفّارة وعدمه.

وأمّا مع الظن فحيث إنّه لا دليل على حجّيّته فيلحق بالشكّ ، وحكمه عدم جواز الإخبار بدون العلم بالواقع على صورة الجزم ، سواء أكان ظانّاً به أم بعدمه أم شاكّاً ، وهذا ممّا لا كلام فيه حسبما دلّت عليه الآيات ، التي منها قوله تعالى (أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (٢).

وإنّما الكلام في إبطاله للصوم ، فربّما يقال بعدم البطلان ، نظراً إلى الشكّ في مخالفته للواقع ، الموجب للشكّ في حصول الإفطار به ، فيرجع إلى أصالة البراءة ، بل لا حاجة إلى التمسّك بالأصل ، للعلم بعدم المفطريّة واقعاً ، لأنّه إن كان مطابقاً للواقع فلا كذب أصلاً ، وإن كان مخالفاً فلا تعمّد إليه ، فإنّ المفطر خصوص

__________________

(١) المنافقون ٦٣ : ١.

(٢) يونس ١٠ : ٦٨.

١٤٦

.................................................................................................

______________________________________________________

التعمّد إليه كما سيجي‌ء إن شاء الله تعالى (١) ، المنتفي في المقام بعد فرض الشكّ في المطابقة.

أقول : بل الظاهر هو البطلان ، لصدق العمد بعد تنجّز الاحتمال ، لأجل كونه من أطراف العلم الإجمالي ، الذي لا مجال معه للرجوع إلى أصالة البراءة ، حيث إنّه يعلم إجمالاً بكذب أحد الأمرين إمّا ذاك الخبر المفروض أو نقيضه ، وإنّ أحد الإسنادين إلى الإمام (عليه السلام) مخالفٌ للواقع جزماً ، فمثلاً : لو فرض أنّ الخبر المشكوك مطابقته للواقع هو أنّ الصادق (عليه السلام) قال : إنّ الشي‌ء الفلاني حرام ، فيعلم إجمالاً بعدم مطابقة أحد الخبرين للواقع أمّا هذا الخبر ، أو خلافه وهو أنّه قال الصادق (عليه السلام) : الشي‌ء الفلاني بعينه حلال وأنّ أحدهما كذب قطعاً ، فبالعلم الإجمالي يتنجّز الواقع لا محالة ، ولا مجال معه للرجوع إلى أصالة البراءة.

ونتيجة ذلك : أنّه يكون قد تعمّد الكذب اختياراً على تقدير كون الخبر مخالفاً للواقع ، نظير ما لو علم إجمالاً أنّ أحد الإناءين خمر ، فشرب أحدهما وصادف الواقع ، فإنّ الإقدام مع الاحتمال غير المقرون بالمؤمّن الموجب لتنجّز الواقع كافٍ في صدق العمد إلى شرب الخمر. ففي أيّ موردٍ أقدم مع تنجّز الواقع فقد تعمّد ، سواء أكان في موارد العلم الإجمالي أو الشبهات قبل الفحص.

ففي المقام إذا انكشف مخالفة الخبر للواقع واتّصافه بالكذب فقد تعمّد الكذب حينئذٍ وبطل صومه ، بل هو باطل وإن لم ينكشف ، لأنه مع هذا العلم الإجمالي قاصدٌ للكذب على تقدير مخالفة الواقع كما عرفت ، فيوجب ذلك إخلالاً بنيّة الصوم ، لأنّ اللازم على الصائم نيّة الإمساك عن جميع المفطرات في جميع الآنات وعلى جميع التقادير ، والمفروض أنّه غير ناوٍ للإمساك عن الكذب على تقدير

__________________

(١) في ص ٢٦٥.

١٤٧

[٢٤٠٨] مسألة ٢٥ : الكذب على الفقهاء والمجتهدين والرواة وإن كان حراماً لا يوجب بطلان الصوم (١) ، إلّا إذا رجع إلى الكذب على الله ورسوله (صلّى الله عليه وآله).

[٢٤٠٩] مسألة ٢٦ : إذا اضطرّ إلى الكذب على الله ورسوله (صلّى الله عليه وآله) في مقام التقيّة من ظالمٍ لا يبطل صومه به (٢) ،

______________________________________________________

كون الخبر المزبور مخالفاً للواقع ، فلم تقع النيّة على وجهها.

فتحصّل : أنّ الإخبار الجزمي مع احتمال المخالفة أيضاً موجبٌ للبطلان ، سواء انكشف الواقع أم لا ، لعدم تعلّق قصده بالصوم الصحيح.

ومنه يظهر الجواب عمّا أفيد من أنّه غير عامد للكذب ، فلاحظ.

(١) لفقد الدليل بالنسبة إليهم ، ومقتضى الأصل البراءة كما هو واضح.

(٢) من الواضح عدم الملازمة بين المفطريّة وبين الحرمة ، لجواز حصول الإفطار بالتناول الحلال ، كما في صورة الاضطرار إلى الأكل أو الشرب أو الارتماس في الماء لإنقاذ نفسٍ محترمة ، بل قد يجب كما في الفرض الأخير ، فمجرّد الحلّيّة ولو لأجل التقيّة كما في المقام لا تنافي البطلان بعد إطلاق الدليل ، إلّا أن تقوم قرينة على الخلاف كما في خصوص المقام ، حيث إنّ مناسبة الحكم والموضوع تقتضي أن يكون الوجه في مفطريّة الكذب تشديد الأمر على الصائم ليكون على حذر منه ، وهذا كما ترى ينصرف إلى الكذب الحرام ، فلا يعمّ المحلّل لأجل الاضطرار أو التقيّة بوجه.

ويؤيّده ما في موثّقة أبي بصير المتقدّمة (١) من قوله «هلكنا» إلخ ، فإنّه منصرف

__________________

(١) في ص ١٣٢.

١٤٨

كما أنّه لا يبطل مع السهو أو الجهل المركّب (١).

______________________________________________________

إلى الكذب المتداول المتعارف الموجب للهلكة كما لا يخفى.

فلأجل ذلك يمكن أن يدّعى الانصراف الموجب لصرف الظهور ، ولا أقلّ من أن لا يكون للكلام ظهورٌ في الإطلاق ، فينتهي الأمر إلى الشكّ ، والمرجع حينئذٍ أصالة البراءة.

فإنّ قلت : مقتضى ما ذكرت عدم مفطريّة الكذب بالإضافة إلى الصبي ، لصدوره عنه حلالاً بمقتضى ما دلّ على رفع قلم التكليف عنه ، وأنّ عمده وخطأه واحد.

قلت : كلّا ، فإنّ المرفوع عنه إنّما هو قلم المؤاخذة والإلزام لا كلّ شي‌ء ليشمل الأجزاء والشرائط والموانع ، فلا بدّ في صومه من الإتيان به على حدّ ما يأتي به البالغون كما هو مقتضى قوله (عليه السلام) : «مروا صبيانكم بالصلاة والصيام» (١) ، ومن هنا لو تكلم في صلاته بطلت وإن لم يرتكب محرّماً ، فيعتبر في صومه أيضاً الاجتناب عن الكذب على الله ورسوله كالبالغ.

وبالجملة : ففرقٌ واضح بين مثل هذا الكذب غير الحرام وبين موارد انصراف الدليل الذي قلنا : إنّه منصرف عن الكذب المباح ، أولا أقلّ من عدم الظهور في الإطلاق ، بحيث يكون كالمحفوف بما يحتمل للقرينية كما لا يخفى ، فلاحظ.

(١) لاعتبار العمد في حصول الإفطار به كما في سائر المفطرات على ما سيأتي إن شاء الله تعالى (٢).

__________________

(١) انظر الوسائل ٤ : ١٩ / أبواب أعداد الفرائض ب ٣ ح ٥ وج ١٠ : ٢٣٤ / أبواب من يصح منه الصوم ب ٢٩ ح ٣.

(٢) في ص ٢٦٥.

١٤٩

[٢٤١٠] مسألة ٢٧ : إذا قصد الكذب فبان صدقاً دخل في عنوان قصد المفطر (١) بشرط العلم بكونه مفطراً.

[٢٤١١] مسألة ٢٨ : إذا قصد الصدق فبان كذباً لم يضرّ كما أُشير إليه (٢).

[٢٤١٢] مسألة ٢٩ : إذا أخبر بالكذب هزلاً بأن لم يقصد المعنى أصلاً لم يبطل صومه (٣).

السادس : إيصال الغبار الغليظ (*) إلى حلقة (٤) ، بل وغير الغليظ على

______________________________________________________

(١) فيبطل صومه من أجل نيّة المفطر ، لكن بشرط العلم بكونه مفطراً كما ذكره في المتن ، لاعتبار تعلّق القصد بالمفطر بوصفه العنواني ليتنافى مع قصد الصوم ، ولا يكفي مجرّد القصد إلى ذات المفطر كما سيجي‌ء توضيحه في محلّه إن شاء الله تعالى (١).

(٢) أي في ذيل المسألة السادسة والعشرين من اعتبار العمد وعدم البطلان بالسهو أو الجهل المركّب ، فلاحظ.

(٣) لتقوّم الخبر بقصد الحكاية عن الواقع المفقود في المقام ، فلا موضوع للكذب بتاتاً كما هو ظاهر.

(٤) اختلفت الأنظار في مفطريّة الغبار :

فعن جماعة منهم : صاحب الوسائل (٢) أنّه موجب للإفطار ويترتّب

__________________

(*) على الأحوط وكذا في البخار والدخان.

(١) في ص ٢٦٥.

(٢) لاحظ الوسائل ١٠ : ٧٠ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٢٢.

١٥٠

الأحوط ، سواء كان من الحلال كغبار الدقيق أو الحرام كغبار التراب ونحوه وسواء كان بإثارته بنفسه بكنسٍ أو نحوه ، أو بإثارة غيره ، بل أو بإثارة الهواء (*) مع التمكين منه وعدم تحفّظه.

______________________________________________________

عليه القضاء والكفّارة إذا كان عن عمد.

ونُسِبَ إلى المشهور القضاء دون الكفّارة.

والقائل بالمفطريّة بين من يقول بها مطلقاً أي غليظاً كان أم خفيفاً كما في الشرائع (١) ، وبين من يقيّده بخصوص الغليظ.

وذهب جماعة كالصدوق والسيّد والشيخ (٢) وغيرهم إلى عدم المفطريّة مطلقاً.

وليس في المقام إجماع تعبدّي كاشف عن رأي الإمام (عليه السلام) وإن ادُّعي ذلك ، وإنّما هناك شهرة الفتوى بالمفطريّة حسبما عرفت.

ومحلّ البحث بين الأعلام ما إذا لم يبلغ الغبار من الغلظة حدّا يصدق عليه أكل التراب أو الطحين إذا كان غبار الدقيق مثلاً وإلّا فهو مشمول لإطلاقات أدلّة الأكل كما هو ظاهر لا ريب فيه.

ولا يخفى أنّه لو لم يكن في البين نصّ خاصّ على المفطريّة أو عدمها لكان مقتضى الصحيحة المتقدّمة الحاصرة للمفطريّة في الأمور الأربعة عدم الإفطار ،

__________________

(*) الظاهر عدم البأس به.

(١) الشرائع ١ : ٢١٧.

(٢) المقنع : ٩٠ ، جمل العلم والعمل (رسائل الشريف المرتضى ٣) : ٥٤ ، ولاحظ المبسوط ١ : ٢٧١.

١٥١

.................................................................................................

______________________________________________________

إذ ليس الغبار بأكل ولا شرب ، فلا بدّ من النظر فيما ورد من النصّ في المقام ، لنخرج على تقدير صحّة الاستدلال به عن مقتضى تلك الصحيحة.

روى الشيخ (قدس سره) بإسناده عن الصفّار ، عن محمد بن عيسى ، عن سليمان بن جعفر (حفص) المروزي ، قال : سمعته يقول : «إذا تمضمض الصائم في شهر رمضان أو أستنشق متعمّداً أو شمّ رائحة غليظة أو كنس بيتاً فدخل في أنفه وحلقه غبار فعليه صوم شهرين متتابعين ، فأنّ ذلك مفطر مثل الأكل والشرب والنكاح» (١).

وهذه الرواية معتبرة سنداً ، إذ الراوي إنّما هو سليمان بن حفص لا سليمان بن جعفر ، فإنّه لا وجود له بتاتاً ، على أنّ الراوي عنه هو محمّد بن عيسى بن عبيد ، وهو يروي كثيراً عن ابن حفص ، ولا يبعد أنّ الاشتباه نشأ من مشابهة كلمة «حفص» مع «جعفر» في كيفية الكتابة ، وكيفما كان ، فسليمان بن حفص موثّق والرواية معتبرة ، كما أنّها واضحة الدلالة ، لتضمّنها أنّ الغبار بمثابة الأكل والشرب في مفطريّته للصائم ، بل ترتّب الكفّارة عليه.

غير أنّه نوقش في الاستدلال بها من وجوه :

أحدها : ما عن صاحب المدارك من المناقشة في سندها تارةً بالإضمار وأُخرى باشتماله على عدّة من المجاهيل ، ولأجله حكم عليها بالضعف (٢).

أقول : أمّا الإضمار فغير قادح بعد أن أثبتها مثل الشيخ في كتب الحديث ، ولا سيّما وأنّه ينقلها عن كتاب الصفّار ، لتصريحه في آخر التهذيب بأنّ كلّما يرويه

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ٦٩ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٢٢ ح ١ ، التهذيب ٤ : ٢١٤ / ٦٢١ ، الاستبصار ٢ : ٩٤ / ٣٠٥.

(٢) مدارك الأحكام ٦ : ٥١ ٥٢.

١٥٢

.................................................................................................

______________________________________________________

فيه من رواية فهي منقولة عن كتاب من بدأ سندها به (١) ، وهل يحتمل أنّ مثل محمّد بن الحسن الصفّار يورد في كتابه الموضوع للأحاديث الشريفة حديثاً عن غير المعصوم (عليه السلام) مضمِراً إيّاه؟!

وعلى الجملة : إنّ سليمان وإن لم يكن بدرجة زرارة في الجلالة إلّا أنّ الراوي للرواية هو الصفّار في كتابه ، الذي هو مشهور وعليه العمل والاعتماد كما نصّ عليه الصدوق (٢) ، ولا يحتمل أنّ الصفّار يروي عن غير المعصوم (عليه السلام) كما لا يخفى.

وأمّا الاشتمال على المجاهيل فقد أُجيب بأنّ الضعف من هذه الناحية مجبورٌ بعمل الأصحاب ، حيث إنّهم أفتوا على طبقها.

وأنت خبير بما فيه ، إذ ليس المشهور بين الفقهاء الحكم على طبقها من لزوم القضاء والكفّارة ، بل صرّح في الحدائق بأنّ الفقهاء أفتوا بالقضاء فقط دون الكفارة ، وبعضهم أفتى بعدم المفطريّة رأساً (٣).

نعم ، ذكر الشيخ في كتبه وكذا صاحب الوسائل أنّ الغبار مفطرٌ (٤) ، ولكنّه ليس بمشهور كما عرفت.

وبالجملة : فدعوى الانجبار ممنوعة صغرىً ، مضافاً إلى المنع الكبروي كما هو المعلوم من مسلكنا.

فالأحسن في الجواب أن يُنكَر على صاحب المدارك وجود المجاهيل في

__________________

(١) التهذيب (شرح المشيخة) ١٠ : ٤.

(٢) لاحظ الفقيه ١ : ٣ و (شرح المشيخة) ٤ : ٢٠.

(٣) الحدائق ١٣ : ٧٢.

(٤) لاحظ التهذيب ٤ : ٢١٤ ، الإستبصار ٢ : ٩٥ ، الوسائل ١٠ : ٧٠ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٢٢.

١٥٣

.................................................................................................

______________________________________________________

السند ، فإنّ طريق الشيخ إلى الصفّار صحيح ، وهو يرويها عن محمّد بن عيسى ابن عبيد ، وهو وإن كان محلّاً للخلاف ليس بمجهول ، بل من المعاريف وثقة على الأظهر وإن استثناه ابن الوليد والصدوق ، إلّا أنّ ابن نوح وغيره أشكل عليه قائلاً : إنّه من يكون مثل محمّد بن عيسى (١)؟! كما مرّ مراراً.

وكيفما كان ، فلا شكّ في أنّه من المعاريف وليس مجهولاً جزماً ، إنّما المجهول هو سليمان بن حفص ، حيث لم يوثّق في كتب الرجال ، فكان على صاحب المدارك أن يناقش من ناحيته فقط ، ولكنّه مع ذلك ثقة على الأظهر ، لوقوعه في أسناد كامل الزيارات ، فالمناقشة في السند ساقطة من أصلها.

هذا وقد ادّعى في الرياض أنّ الرواية مقطوعة (٢).

فإن أراد بالقطع الإضمار ولو على خلاف الاصطلاح فلا مشاحّة فيه ، وإن أراد المصطلح من المقطوعة فلا قطع في السند بوجه كما لا يخفى.

ثانيها : المناقشة في الدلالة نظراً إلى أنّها اشتملت على أُمور لم يلتزم بها الفقهاء ، من مفطريّة المضمضة والاستنشاق متعمداً وشمّ الرائحة الغليظة ، فتسقط الرواية بذلك عن درجة الاعتبار ، وغاية ما يمكن أن يوجّه به ذلك تقييدُ المضمضة والاستنشاق بقرينة سائر الأخبار وبمناسبة الحكم والموضوع بما إذا أدّى إلى وصول الماء إلى الحلق ، إلّا أنّ شم الرائحة الغليظة غير قابل لمثل هذا الحمل ، ولا يمكن الالتزام في مثله بالبطلان بوجه ، فلا بدّ من حمل الرواية على التنزّه والاستحباب.

والجواب : إنّ اشتمال الرواية على بعض ما ثبتت فيه إرادة الاستحباب لقرينة قطعيّة خارجيّة لا يستوجب رفع اليد عن ظهور غيره في الوجوب ، فالأمر

__________________

(١) لاحظ رجال النجاشي : ٣٤٨ / ٩٣٩ ، في ترجمة محمّد بن أحمد بن يحيى.

(٢) الرياض ٥ : ٣١٥ ٣١٦.

١٥٤

.................................................................................................

______________________________________________________

بالكفّارة في هذه الرواية محمولٌ على الاستحباب فيما عدا الغبار من المضمضة ونحوها ، للعلم الخارجي بعدم البطلان كما ذكر ، أمّا فيه فيحمل على ظاهره من الوجوب الكاشف عن البطلان ، ولا مانع من التفكيك في رواية واحدة بعد قيام القرينة.

ثالثها : إنّ هذه الموثّقة معارضة بموثّقة اخرى دلّت على عدم المفطريّة ، فتسقط بالمعارضة ، ويرجع عندئذٍ إلى ما دلّ على حصر المفطر في الخصال الأربع التي ليس منها الغبار ، أو أنّها تُحمل على الاستحباب.

وهي موثّقة عمرو بن سعيد عن الرضا (عليه السلام) ، قال : سألته عن الصائم يتدخّن بعود أو بغير ذلك فتدخل الدخنة في حلقه «فقال : جائز لا بأس به» قال : وسألته عن الصائم يدخل الغبار في حلقه «قال : لا بأس» (١).

والجواب : أنّه لا تعارض بين الروايتين إلّا بنحو الإطلاق والتقييد الممكن فيه الجمع بحمل أحدهما على الآخر ، فإنّ موثّقة سليمان ظاهرة في صورة التعمّد في إيصال الغبار إلى الحلق بقرينة التقييد بالعمد في الصدر أي في المضمضة والاستنشاق الكاشف عن أنّ الكلام ناظر إلى فرض التعمّد إلى هذه الأُمور ، واحتمال التفكيك بينهما وبين الشمّ والغبار المنافي لوحدة السياق مستبعد ، بل مستبشع جدّاً كما لا يخفى. وبقرينة فرض الكلام في الكنس الذي هو وسيلة اختياريّة لتعمّد إدخال الغبار في الحلق باعتبار كونه معرضاً لإثارته. وبقرينة إيجاب الكفّارة التي لا تكاد تجتمع مع عدم العمد كما لا يخفى.

فبهذه القرائن يستظهر اختصاص الموثقة بصورة العمد.

وأمّا موثقة عمرو بن سعيد فهي مطلقة من حيث العمد وغيره ، ولو كان ذلك من أجل هبوب الرياح المثيرة للعجاج كما في فصل الربيع. وظهور صدرها

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ٧٠ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٢٢ ح ٢.

١٥٥

.................................................................................................

______________________________________________________

في العمد لمكان قوله : يتدخّن ... إلخ ، الظاهر في الاختيار لا يستدعي كون الذيل كذلك ، للفصل بينهما بقوله : قال : وسألته ... إلخ. فلا قرينيّة في البين ، كما كان كذلك في الموثقة المتقدّمة.

إذن فيمكن الجمع بينهما بحمل المطلق على المقيّد ، فتقيّد هذه الموثّقة بتلك الموثّقة وتُحمل على صورة عدم التعمّد.

وأمّا ما تصدى له صاحب الوسائل من الجمع بين الروايتين بحمل الاولى على الغبار الغليظ والثانية على الخفيف (١).

فهو جمع تبرّعي عري عن الشاهد ، إذ كلمة الغبار الواردة فيهما معاً لها ظهور واحد ، إمّا في الغليظ أو الخفيف أو الأعم منهما ، فالتفرقة بينهما تحكّم بحت.

وما قيل من أنّ الغلظة مستفادة من فرض الكنس المشتمل على الغبار الغليظ غالباً.

غير واضح ، لاختلاف موارد كنس البيوت ، وجداناً فربّ بيت يكنس في كلّ يوم أو يومين فيخفّ غباره ، وربّما يبقى بدون تنظيف أيّاماً عديدة كشهر مثلاً فيغلظ ، فليس لهذا ضابط ولا شهادة له على المطلوب بوجه.

والصحيح هو ما عرفت في وجه الجمع من حمل المانعة على العمد والمجوّزة على غيره ، من غير فرق بين الغلظة وغيرها.

ومنه تعرف أنّه على القول بالبطلان كما هو الصحيح عملاً بالموثّقة السليمة عن التعارض حسبما عرفت لا يفرق فيه بين الغليظ والخفيف كما اختاره الماتن عملاً بإطلاق النصّ ، إلّا إذا بلغ من الخفّة والقلّة حدّا لا يصدق معه عرفاً أنّه دخل الغبار في حلقه ، فإنّه لا يضرّ حينئذٍ ، لانصراف النصّ عن مثله ، وأمّا مع فرض الصدق فلا يفرق بين الأمرين كما عرفت.

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ٦٩ ٧٠ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٢٢ ح ١ ، ٢.

١٥٦

.................................................................................................

______________________________________________________

نعم ، ينبغي أن يقتصر على الغبار الناشئ من الكنس الذي هو مورد الرواية وما هو مثله ممّا فيه إثارة إمّا منه أو من غيره حتّى يصدق أنّه باختياره دخل في الحلق ، إذ لا يحتمل اختصاص البطلان بصورة مباشرة الصائم للكنس كما هو ظاهر.

وأمّا لو كان بإثارة الهواء كما يتّفق كثيراً في فصل الربيع ولا سيّما في هذه البلاد وأمثالها حيث يكثر فيها العجاج خصوصاً في الصحاري والبراري فالموثّقة قاصرة عن إثبات البطلان في مثل ذلك ، بل الظاهر عدم البطلان كما حكي التصريح به عن كاشف الغطاء (١).

كيف؟! ولو كان التحفّظ عن مثل ذلك واجباً بحيث كان بتركه متعمّداً مفطراً لكان على الأصحاب التعرّض هل ، بل كان من الواضحات ، لشدّة الابتلاء به ، خصوصاً لسكنة هذه البلاد التي كان يسكنها الأئمّة (عليه السلام) أيضاً ، ولا سيّما في فصل الربيع الذي قد يصادف شهر رمضان ، مع أنّه لم ترد بذلك ولا رواية ضعيفة ، ولم يتعرّض له أحدٌ من الأصحاب.

وعلى الجملة : فمضافاً إلى أنّ الرواية المتقدّمة في نفسها قاصرة ، نفسُ عدم ورود الرواية بذلك وعدم تعرّض الأصحاب مع كثرة الابتلاء دليلٌ على العدم ، ولذلك ترى أنّ كاشف الغطاء أفتى بعدم البطلان فيما كان الغبار الداخل في الحلق بإثارة الهواء وأنّه لا يجب التحفّظ عن ذلك كما تقدّم.

فما في المتن من تعميم الحكم لذلك حيث قال : بل أو بإثارة الهواء مع التمكّن منه وعدم تحفّظه ... إلخ غير ظاهر.

نعم ، لا فرق في الغبار بين الحلال كالدقيق أو الحرام كالتراب فإنّ

__________________

(١) كشف الغطاء : ٣١٩.

١٥٧

والأقوى إلحاق البخار الغليظ ودخان التنباك ونحوه (١).

______________________________________________________

المذكور في الرواية وإن كان هو غبار الكنس الظاهر في التراب إلّا أنّ المفهوم عرفاً بمقتضى مناسبة الحكم والموضوع عدم الفرق بين الأمرين كما لا يخفى.

(١) كما حكي ذلك عن جماعة من المتأخرين.

ومستند الإلحاق : أمّا في البخار فهو مشاركته مع الغبار في مناط المفطريّة ، إذ كما أنّ الغبار أجزاء دقيقة منتشرة في الهواء حاملة لشي‌ء من التراب تدخل جوف الإنسان يصدق معها الأكل ، فكذلك البخار أجزاء دقيقة مائيّة منتشرة في الهواء تدخل جوف الإنسان يصدق معها الشرب.

وفيه ما لا يخفى ، ضرورة أنّه أشبه شي‌ء بالقياس ، ومن الواضح أنّ ثبوت الحكم في الغبار لم يكن لأجل صدق عنوان الأكل وإن الحِق به في النصّ ، إلّا أنّه إلحاق تنزيلي حكمي لا حقيقي ، كيف؟! ولا يصدق الأكل على الغبار ، كما لا يصدق الشرب على البخار عرفاً بالوجدان ، وإنّما ثبت الحكم فيه بالتعبّد المحض للنصّ الخاصّ ، ولم يرد مثل هذا التعبّد في البخار كي يلحق بالشرب حكماً ، فلا وجه لقياسه على الغبار بتاتاً.

بل يمكن دعوى استقرار سيرة المسلمين على عدم التجنّب عن البخار ، لدخولهم الحمّامات في شهر رمضان ، وعدم التحفّظ من البخار وإن كان غليظاً ، وهذه السيرة القطعيّة المستمرّة المتّصلة بزمن المعصومين (عليهم السلام) بضميمة عدم ردعهم عنها وهي بمرأى منهم ومسمع ، الكاشف عن إمضائهم (عليهم السلام) ـ ، كافية في الحكم بالجواز كما لا يخفى.

وأمّا في الدخان : فهو دعوى أنّه يستفاد من النصّ الوارد في الغبار أنّ كلّما يدخل جوف الإنسان من غير الهواء الذي لا بدّ منه ومنه الدخان يكون مفطراً.

١٥٨

ولا بأس بما يدخل في الحلق غفلةً أو نسياناً أو مع ترك التحفّظ بظنّ عدم الوصول ونحو ذلك (١).

______________________________________________________

ولكنّها كما ترى عريّة عن كلّ شاهد ، إذن لا دليل على البطلان ، بل يمكن إقامة الدليل على العدم ، وهو موثّقة عمرو بن سعيد المتقدّمة (١) حيث قال فيها : ... فتدخل الدخنة في حلقه «فقال : جائز لا بأس به».

اللهمّ إلّا أن يفرّق بينه وبين ما تقدّمه من البخار باستقرار سيرة المتشرّعة على التحرّز عن الدخان من مثل التنباك والترياك والتتن حال الصوم ، بحيث أصبح البطلان به كالمرتكز في أذهانهم ، بل قد يدّعى بلوغ تناوله من الاستبشاع حدّا يكاد يُلحقه بمخالفة الضروري.

ولكن التعويل على مثل هذه السيرة والارتكاز مشكل جدّاً ، لعدم إحراز الاتّصال بزمن المعصومين (عليهم السلام) وجواز الاستناد إلى فتاوى السابقين لو لم يكن محرز العدم كما لا يخفى.

إذن لم يبق لدينا دليل يعتمد عليه في الحكم بالمنع بعد وضوح عدم صدق الأكل ولا الشرب عليه. وعليه ، فمقتضى القاعدة هو الجواز وإن كان الاحتياط بالاجتناب ممّا لا ينبغي تركه ، رعايةً للسيرة المزبورة حسبما عرفت ، والله سبحانه أعلم.

(١) لاعتبار العمد في حصول الإفطار كما سيأتي التعرض له في محلّه إن شاء الله تعالى المنفي في هذه الفروض.

__________________

(١) في ص ١٦٥.

١٥٩

السابع : الارتماس في الماء (١).

______________________________________________________

(١) اختلفت الأنظار في حكم ارتماس الصائم في الماء ، فالمشهور بين الأصحاب هو المفطريّة ، بل ادُّعي عليه الإجماع وإن كانت الدعوى موهونة بعد الخلاف المحقّق بينهم.

وذهب جماعة منهم : الشيخ والعلامة والشهيد الثاني والمحقّق في الشرائع وصاحب المدارك (١) وغيرهم إلى الحرمة التكليفيّة من غير أن يكون مفطراً ، فلا يستوجب ارتكابه القضاء ولا الكفّارة ولا يترتّب عليه عدا الإثم.

وقيل بانتفاء الإثم أيضاً ، بل غايته الكراهة ، كما عن السيّد المرتضى وابن إدريس (٢) وغيرهما.

وكيفما كان ، فالمتّبع هو الروايات الخاصّة الواردة في المقام ، فنقول : قد ورد في جملة من النصوص المعتبرة النهي عن الارتماس :

كصحيح حريز عن أبي عبد الله (عليه السلام) «قال : لا يرتمس الصائم ولا المحرم رأسه في الماء» (٣).

وصحيح الحلبي عنه (عليه السلام) «قال : الصائم يستنقع في الماء ولا يرمس رأسه» (٤) وغيرها.

ومعلوم أنّ النهي هنا ظاهرٌ في الإرشاد إلى الفساد ، الذي هو ظهورٌ ثانوي

__________________

(١) الاستبصار ٢ : ٨٥ ، المختلف ٣ : ٢٧٠ ، المسالك ٢ : ١٦ ، الشرائع ٢ : ١٥ ، المدارك ٦ : ٤٨.

(٢) جمل العلم والعمل (رسائل الشريف المرتضى ٣) : ٥٤ ، السرائر ١ : ٣٨٦ ٣٨٧.

(٣) الوسائل ١٠ : ٣٨ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٣ ح ٨.

(٤) الوسائل ١٠ : ٣٧ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٣ ح ٧.

١٦٠