موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ مرتضى البروجردي

الرابع من المفطرات : الاستمناء ، أي إنزال المني متعمّداً (١) بملامسةٍ أو قبلةٍ أو تفخيذٍ أو نظرٍ أو تصوير صورة المواقعة أو تخيّل صورة امرأة أو نحو ذلك من الأفعال التي يقصد بها حصوله ، فإنّه مبطل للصوم بجميع أفراده. وأمّا لو لم يكن قاصداً للإنزال وسبقه المني من دون إيجاد شي‌ء ممّا يقتضيه ، لم يكن عليه شي‌ء.

______________________________________________________

مترتّباً على واقع الدخول لا على قصده ، كما لو جامع قبل مراعاة الفجر ثمّ ظهر سبق طلوعه وأنّه كان في النهار ، فإنّه يبطل الصوم حينئذٍ ويجب القضاء دون الكفّارة كما سيجي‌ء إن شاء الله تعالى في محلّه (١). فإذا شكّ في هذا الفرض في تحقّق الدخول أو في بلوغ الداخل مقدار الحشفة كان المرجع أصالة عدم الدخول ، أو عدم البلوغ ونتيجته نفي البطلان الذي هو من آثار نفس الدخول الواقعي لا مجرّد قصده كما عرفت.

(١) بلا خلاف فيه ولا إشكال ، من غير فرق بين أسباب الإنزال من الملامسة أو القبلة أو التفخيذ أو النظر أو غير ذلك من الأفعال التي يقصد بها حصوله.

وما في كلام المحقّق وغيره من عدم البأس بالنظر وإن أنزل (٢) ، لا بدّ وأن يُحمل على ما إذا لم يقصد به خروج المني فاتّفق الإمناء قهراً ، حيث إنّ خروجه بمثل النظر قليلٌ جدّاً ونادر التحقّق خارجاً.

وكيفما كان ، فلا ينبغي الإشكال في أصل الحكم ، وأنّ التصدّي لخروج المني

__________________

(١) في ص ٤١٤.

(٢) الشرائع ١ : ٢١٨.

١٢١

.................................................................................................

______________________________________________________

بأيّ سبب كان ما عدا الجماع فإنّه موضوعٌ مستقلّ أنزل أم لم ينزل كما تقدم موجب للبطلان بل الكفّارة أيضاً كما في الجماع ، على ما ورد في عدّة من الروايات.

ففي صحيحة عبد الرّحمن بن الحجّاج قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يعبث بأهله في شهر رمضان حتّى يمني «قال : عليه من الكفّارة مثل ما على الذي يجامع» (١).

وفي موثّقة سماعة قال : سألته عن رجلٍ لزق بأهله فأنزل «قال عليه السلام : عليه إطعام ستّين مسكيناً ، مدّ لكلّ مسكين» (٢).

وهاتان الروايتان كغيرهما من روايات الباب تدلّان على أنّ إخراج المني بأيّ سبب كان موجبٌ للبطلان كنفس الجماع وإن كان المذكور في إحديها العبث بالأهل ، وفي الأُخرى اللزوق ، إذ لا خصوصيّة لهما كما يشير إليه التعبير بكلمة «حتّى» في الصحيحة وبقاء التفريع في الموثقة ، فإنّهما يكشفان عن أنّ المقصود بالسؤال هو الإنزال المترتّب على العبث أو اللزوق من غير خصوصيّة لهما إلّا المقدّميّة ، فذكرهما ليس إلّا من باب المثال لما يترتّب عليه الإمناء والإنزال ، فيعلم من ذلك عموم الحكم لجميع الأفعال التي يقصد بها حصوله.

ومن المعلوم جدّاً أنّ حكمه (عليه السلام) بالكفّارة ولا سيّما مع التنظير بالجماع إنّما هو من أجل فساد الصوم وأنّه يترتّب عليه ما يترتب على الجماع ، لا مجرّد الكفّارة المحضة مع صحّته ، فإنّه بعيدٌ عن الفهم العرفي كما لا يخفى.

ويستفاد البطلان من بعض الروايات الأُخر ، منها صحيحة الحلبي : عن

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ٣٩ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٤ ح ١.

(٢) الوسائل ١٠ : ٤٠ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٤ ح ٤.

١٢٢

.................................................................................................

______________________________________________________

رجلٍ يمسّ من المرأة شيئاً ، أيفسد ذلك صومه أو ينقضه؟ «فقال : إنّ ذلك ليكره للرجل الشاب مخافة أن يسبقه المني» (١).

قوله : «أو ينقضه» عبارة أُخرى عن الفساد ، إذ هو والنقض شي‌ء واحد كما هو ظاهر ، وقد منعه (عليه السلام) عن المسّ ولو تنزيهاً مخافة أن يسبقه المني ، وليس ذلك إلّا من جهة أنّ سبقه موجب للفساد ، نظراً إلى أنّ السؤال كان عن فساد الصوم وانتقاضه.

وعلى الجملة : فهذه الروايات تدلّنا على أنّ الكفّارة لا تترتّب على الفعل مجرّداً ومن غير فساد ، بل هي من أجل بطلان الصوم ، فتترتّب عليه مثل ما تترتّب على الجماع.

هذا كلّه فيما إذا كان الفعل اختياريّاً.

وأمّا إذا كان خارجاً عن الاختيار ، بأن لم يكن قاصداً للإنزال وسبقه المني من دون إيجاد شي‌ء ممّا يقتضيه كما في الاحتلام في النوم أو في اليقظة بأن اتّفق خروج المني بطبعه ومن غير سبب لم يكن عليه شي‌ء بلا خلافٍ فيه ولا إشكال ، فإنّ المفطر إنّما هو الفعل الاختياري كما تقدّم وسيأتي إن شاء الله تعالى ، ويشير إليه قوله (عليه السلام) : «لا يضرّ الصائم ما صنع إذا اجتنب» ، فإنّ الواجب هو الاجتناب والابتعاد الذي هو فعل اختياري ، فنفس وجود هذه الأُمور خارجاً من غير قصدٍ من الفاعل لا يوجب البطلان ، فلا بأس بالاحتلام ونحوه ممّا هو خارج عن الاختيار.

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ٩٧ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٣٣ ح ١.

١٢٣

[٢٣٩٧] مسألة ١٤ : إذا علم من نفسه أنّه لو نام في نهار رمضان يحتلم فالأحوط تركه وإن كان الظاهر جوازه خصوصاً إذا كان الترك موجباً للحرج (١).

______________________________________________________

(١) قد عرفت أنّ المفطر انّما هو الفعل الاختياري ، ولأجله لا يكون الاحتلام مضرّاً ، لعدم استناده إلى الاختيار ، بل الظاهر عدم البأس به وإن انتهى إلى الاختيار ، كمن علم من عادته أو حالته أنّه لو نام يحتلم فإنّه يجوز له النوم في نهار رمضان وإن كانت الجنابة حينئذٍ مستندة إلى اختياره ، ضرورة أنّ الممنوع في الروايات لا يشمله ، فإنّه الجماع أو العبث بالأهل أو اللزوق أو اللصوق ونحو ذلك ، وشي‌ءٌ منها لا يصدق على الاحتلام كما هو ظاهر.

نعم ، الجنابة الاختياريّة بنفسها مانعة على ما استفدناه من صحيحة القمّاط المتقدّمة (١) وغيرها ، وهي صادقة على مثل الاحتلام المزبور المنتهى إلى الاختيار ، لفرض العلم بترتّب الجنابة على النوم ، نظير ما تقدّم من وجوب التخليل لمن علم بأنّ تركه يؤدّي إلى دخول البقايا بين أسنانه إلى الجوف (٢) ، فلو كنّا نحن وهذه الصحيحة وغيرها ممّا دلّ على مفطريّة الجنابة الاختياريّة لحكمنا بالبطلان في المقام ، ولكنّا لا نقول به أخذاً بإطلاق نصوص الاحتلام التي هي بمنزلة المخصّص لهذه الصحيحة وغيرها ، فقد وردت جملة من الروايات تضمّنت عدم البأس بالاحتلام بعنوانه ، ومقتضى الإطلاق فيها عدم الفرق بين ما استند إلى الاختيار وعدمه ، ولا سيّما وأنّ الأوّل أمر عادي يتّفق خارجاً للمريض وغيره ، وليس نادراً بحيث لا يشمله الإطلاق.

__________________

(١) في ص ١١٢.

(٢) في ص ١٠٤.

١٢٤

[٢٣٩٨] مسألة ١٥ : يجوز للمحتلم في النهار الاستبراء بالبول أو الخرطات وإن علم بخروج بقايا المني في المجرى ، ولا يجب عليه التحفّظ بعد الإنزال من خروج المني إن استيقظ قبله خصوصاً مع الإضرار والحرج (*) (١).

______________________________________________________

ففي صحيحة عبد الله بن ميمون القدّاح : «ثلاثة لا يفطرن الصائم : القي‌ء ، والاحتلام ، والحجامة» (١).

ونحوها غيرها وإن كانت ضعيفة السند ، مثل : ما رواه الصدوق في العلل بإسناده عن عمر بن يزيد ، قال : قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) : لأيّ علّة لا يفطر الاحتلام الصائم ، والنكاح يفطر الصائم؟ «قال : لأنّ النكاح فعله ، والاحتلام مفعول به» (٢).

فإنّ في السند حمدان بن الحسين والحسين بن الوليد ، وكلاهما مجهولان ، والعمدة ما عرفت من صحيحة القدّاح.

(١) لو احتلم الصائم فاستيقظ بعد حركة المني وقبل خروجه ، فهل يجب عليه التحفّظ؟

ذكر (قدس سره) أنّه لا يجب خصوصاً مع الإضرار أو الحرج ، والأمر كما ذكره (قدس سره).

فإنّ هذه الجنابة وإن كانت اختياريّة إذ يمكنه المنع عنها بالتحفّظ عن خروج المني الذي هو المحقّق للجنابة ، لا مجرّد النزول والحركة من المبدإ ، فهي

__________________

(*) لا خصوصيّة لذلك بالإضافة إلى الحكم الوضعي.

(١) الوسائل ١٠ : ١٠٣ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٣٥ ح ١.

(٢) الوسائل ١٠ : ١٠٤ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٣٥ ح ٤ ، العلل : ٣٧٩ / ١.

١٢٥

.................................................................................................

______________________________________________________

جنابة عمديّة لا محالة إلّا أنّه يجري هنا أيضاً ما تقدّم في النوم الاختياري من أنّه لا يمنع عن صدق الاحتلام (١) ، فهذه بالآخرة جنابة عن احتلام ، وقد صرّح بعدم قدحه في صحيحة القدّاح المتقدّمة ، إذ ليس مراده (عليه السلام) نفس الاحتلام بما هو احتلام ، بل باعتبار خروج المني ، فمرجعه إلى أنّ الخروج المستند إلى الاحتلام لا يضرّ بالصوم ، ومقتضى الإطلاق عدم الفرق بين صورتي الإفراغ حال النوم أو بعد اليقظة بعد إن كان منشأه النوم ، فإنّ هذا أيضاً أمر عادي ، بل لعلّه كثير التحقّق خارجاً ، فيشمله الإطلاق لا محالة ، ومقتضاه أنّ هذه الجناية وإن كانت عمديّة إلّا أنّها غير قادحة.

وأولى من الأمرين مالوا استيقظ بعد خروج المني ولكن مقداراً من المني باقٍ في المجرى كما هو مقتضى طبيعة الحال ، فهل يجوز له إخراجه بالبول ونحوه ، أم يلزمه الإمساك إلى انتهاء النهار ، نظراً إلى أنّه إنزالٌ اختياري؟

الظاهر هو الجواز كما ذكره في المتن ، بل هو أولى ممّا سبق ، إذ لا يترتّب على مثل هذا الخروج جنابة جديدة ، إذ المفروض أنّه جنب وهذه بقيّة المني الموجودة في المجرى ، فلا يترتّب عليها جنابة اخرى ، ومن المعلوم أنّ الأدلّة المتضمّنة لقادحيّة الإمناء منصرفة عن المقام ، كما أنّ دليل قدح الجنابة ظاهر في الإحداث ولا يعمّ البقاء ، فلا ينبغي الإشكال في الجواز في محلّ الكلام.

يبقى الإشكال في صورة واحدة تعرّض لها في المسألة الآتية ، وهي ما لو بقي شي‌ء في المجرى لا يخرج إلّا بالاستبراء ببولٍ ونحوه ، فهل يجوز له أن يغتسل قبل الاستبراء مع علمه بخروج البقايا بعد الغسل ببولٍ ونحوه ، أو لا ، نظراً إلى أنّه إجنابٌ عمدي وإحداثٌ لجنابة جديدة؟

__________________

(١) في ص ١٢٤.

١٢٦

.................................................................................................

______________________________________________________

ولا يبعد أن يقال بالجواز هنا أيضاً ، نظراً إلى انصراف الأدلة حتّى مثل صحيحة القماط المتقدّمة عن مثل هذه الجنابة التي وجد سببها قبلاً ، وهذا متمّم للسابق ، فإنّ المنسبق من تلك الأدلّة إنّما هو الإجناب العمدي مثل الجماع والاستمناء والملاعبة ونحو ذلك ، ولا يعمّ مثل المقام الذي يكون الخارج فيه بعد الاغتسال هو بقيّة ما خرج قبل الاغتسال ، ولا فرق بين خروج هذه البقيّة قبل الاغتسال أو بعده إلّا في أنّ الثاني يوجب الجنابة دون الأوّل ، ولكن الاحتياط لا ينبغي تركه ، لأنّ المفروض أنّ الجنابة السابقة ارتفعت ، وهذه بالآخرة جنابة جديدة فيشكل إحداثها من الصائم وإن كان الإشكال ضعيفاً كما عرفت.

وملخّص الكلام في هذه المسألة : أنّا لو كنا نحن وصحيحة الفضلاء المتضمّنة أنّه : «لا يضرّ الصائم ما صنع إذا اجتنب ثلاث خصال : الطعام والشراب ، والنساء ، والارتماس في الماء» (١) لحكمنا بعدم مفطريّة ما عدا الجماع من موجبات الجنابة.

إلّا أنّ صحيحة القمّاط دلّتنا على بطلان الصوم بمطلق الجنابة ، حيث سأل أبا عبد الله (عليه السلام) عمّن أجنب في شهر رمضان في أوّل الليل فنام حتّى أصبح «قال (عليه السلام) : لا شي‌ء عليه ، وذلك أنّ جنابته كانت في وقتٍ حلال» (٢).

فجعل الاعتبار في البطلان بوقوع الجنابة في وقتٍ حرام وهو النهار ، سواء أكان سببها محلّلاً أم محرّماً ، كما أنّها لو وقعت محلّل وهو الليل بمقتضى قوله تعالى (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ) (٣) لم توجب البطلان وإن كانت

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ٣١ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ١ ح ١.

(٢) الوسائل ١٠ : ٥٧ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ١٣ ح ١.

(٣) البقرة ٢ : ١٨٧.

١٢٧

[٢٣٩٩] مسألة ١٦ : إذا احتلم في النهار وأراد الاغتسال فالأحوط تقديم الاستبراء إذا علم أنّه لو تركه خرجت البقايا بعد الغسل فتحدث جنابة جديدة (١).

[٢٤٠٠] مسألة ١٧ : لو قصد الإنزال بإتيان شي‌ء ممّا ذكر ولكن لم ينزل بطل صومه من باب نيّة إيجاد المفطر (٢).

______________________________________________________

الجنابة في نفسها محرّمة كالمقاربة حال الحيض.

وعلى الجملة : فيستفاد منها أنّ المفطر مطلق الجنابة الواقعة في النهار الشامل لفروض الاحتلام المذكورة في المقام ، فتكون هذه الصحيحة مخصّصة للصحيحة الأُولى.

غير انّه ورد مخصِّص على هذا المخصّص وهي روايات الاحتلام ، كصحيحة الحلبي (١) وغيرها المصرّحة بعدم قادحيّته للصوم ، فتصبح أدلّة قدح الجنابة مختصّة بغير الاحتلام.

وبما أنّ هذه الروايات مطلقة تشمل جميع فروض الاحتلام المتقدّمة فلأجله يحكم بعدم مفطريّة كلّ جنابة منتهية إلى الاحتلام ، أخذاً بإطلاق هذه النصوص حسبما عرفت.

(١) قد ظهر الحال فيها ممّا قدّمناه في المسألة السابقة ، فلاحظ.

(٢) كما تقدّم سابقاً (٢).

__________________

(١) لم نعثر على نص مصرح بذلك إلّا ما روي عن منصور بن حازم البجلي في الفقيه ٢ : ٧٠ / ٢٩٣.

(٢) في ص ٨٤ ٨٥.

١٢٨

[٢٤٠١] مسألة ١٨ : إذا أوجد بعض هذه الأفعال لا بنيّة الإنزال لكن كان من عادته الإنزال بذلك الفعل بطل صومه أيضاً إذا أنزل ، وأمّا إذا أوجد بعض هذه ولم يكن قاصداً للإنزال ولا كان من عادته فاتّفق أنّه أنزل فالأقوى عدم البطلان (*) وإن كان الأحوط القضاء ، خصوصاً في مثل الملاعبة والملامسة والتقبيل (١).

______________________________________________________

(١) أشرنا فيما مرّ إلى أنّه لو لم يكن هناك غير صحيحة ابن مسلم الحاصرة للمفطرات في الخصال الثلاث أو الأربع لحكمنا بعدم مفطريّة غير الجماع ممّا يتعلّق بالنساء من اللمس والتقبيل واللعب ونحوها وإن أمنى ، إذ المراد من النساء المعدود فيها من إحدى الخصال خصوص مقاربتهنّ كما صرّح به في بعض الأخبار (١) لا مطلق الفعل المتعلّق بهن.

غير أنّه قد وردت في المقام روايات مختلفة وهي على طوائف ثلاث :

منها : ما دلّت على الجواز مطلقاً ، كموثّقة سماعة : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن القبلة في شهر رمضان للصائم ، أتفطر؟ «قال : لا» (٢) ، ونحوها غيرها ممّا يظهر منه اختصاص المنع بغشيان النساء.

وبإزائها ما دلّ على المنع مطلقاً ، كما في صحيحة علي بن جعفر : عن الرجل أيصلح أن يلمس ويُقبّل وهو يقضي شهر رمضان؟ «قال : لا» (٣).

وصحيحته الأُخرى : عن الرجل هل يصلح له وهو صائم في رمضان أن

__________________

(*) هذا فيما إذا كان واثقاً بعدم الخروج وإلّا فالأقوى هو البطلان.

(١) الوسائل ١٠ : ١٠٠ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٣٣ ح ١٦ ، ١٤.

(٢) الوسائل ١٠ : ١٠٠ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٣٣ ح ١٦ ، ١٤.

(٣) الوسائل ١٠ : ١٠١ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٣٣ ح ٢٠.

١٢٩

.................................................................................................

______________________________________________________

يقلب الجارية فيضرب على بطنها وفخذها وعجزها؟ «قال : إن لم يفعل ذلك بشهوة فلا بأس به ، وأمّا بشهوة فلا يصلح» (١).

وورد أيضاً في صحيحة عبد الرّحمن بن الحجّاج : عن الرجل يعبث بأهله في شهر رمضان حتّى يمني «قال : عليه من الكفّارة مثل ما على الذي يجامع» (٢).

وهناك طائفة ثالثة تضمّنت التفصيل بين خوف خروج المني فلا يجوز ، وبين الوثوق بعدم الخروج فلا بأس به ، وبها يجمع بين الطائفتين الأُوليين.

فمنها : صحيحة الحلبي : عن رجل يمسّ من المرأة شيئاً ، أيفسد ذلك صومه أو ينقضه؟ «فقال : إنّ ذلك ليكره للرجل الشابّ مخافة أن يسبقه المني» (٣).

وموثقة سماعة : عن الرجل يلصق بأهله في شهر رمضان «فقال : ما لم يخف على نفسه فلا بأس» (٤).

وأوضح منها صحيحة منصور بن حازم : قال : قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) : ما تقول في الصائم يُقبّل الجارية والمرأة؟ «فقال : أمّا الشيخ الكبير مثلي ومثلك فلا بأس ، وأمّا الشابّ الشبق فلا ، لأنّه لا يُؤمَن والقبلة إحدى الشهوتين» (٥) إلخ.

وأوضح من الكلّ صحيحة محمد بن مسلم وزرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) أنّه سُئل : هل يباشر الصائم أو يقبّل في شهر رمضان؟ «فقال : إنِّي

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ١٠١ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٣٣ ح ١٩.

(٢) الوسائل ١٠ : ٣٩ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٤ ح ١.

(٣) الوسائل ١٠ : ٩٧ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٣٣ ح ١.

(٤) الوسائل ١٠ : ٩٨ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٣٣ ح ٦.

(٥) الوسائل ١٠ : ٩٧ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٣٣ ح ٣.

١٣٠

الخامس : تعمّد الكذب على الله تعالى أو رسوله أو الأئمّة صلوات الله عليهم (١) ،

______________________________________________________

أخاف عليه ، فليتنزّه من ذلك ، إلّا أن يثق أن لا يسبقه منيّه» (١) ، فإنّها صريحة في أنّ المستثنى من المنع خصوص صورة الوثوق بعدم السبق ، فتخصّص ما دلّ على عدم الإفطار بذلك ، كما أنّها تخصّص ما دلّ على البطلان من رواية ترتّب الكفّارة بالإنزال مطلقاً بذلك أيضاً وأنّه يفطر إذا لم يكن واثقاً من نفسه لا مطلقاً.

فالجمع بين الروايات يقتضي ما ذكرناه ، لا ما ذكره المصنّف كما لا يخفى. وأمّا تخصيصه الاحتياط بالثلاثة التي ذكرها في المتن فلأجل ورودها في النصّ حسبما عرفت.

(١) لا إشكال كما لا خلاف في حرمة الكذب على الله ورسوله والأئمّة (عليهم السلام) ، بل مطلقاً في حالة التعمّد والاختيار.

وإنّما الكلام في مفطريّته للصوم ، فالمنسوب إلى جماعة من القدماء بل المشهور بينهم المفطريّة إذا كان على أحد العناوين الثلاثة ، بل ادّعى السيّد قيام الإجماع عليه (٢) ، ولكن المشهور بين المتأخرين عدم الإفطار به وإن كان محرّماً ، غايته أنّه يوجب نقصاً في كمال الصوم لا إبطالاً لحقيقته.

ويستدل للمفطريّة بطائفة من الأخبار التي لا إشكال في اعتبار أسانيدها وإن كانت من قسم الموثّق ولم تكن صحيحة بالمعنى المصطلح ، وإنّما البحث في دلالتها وكيفيّة الجمع بينها وبين ما دلّ على حصر المفطريّة في الخصال الثلاث

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ١٠٠ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٣٣ ح ١٣.

(٢) لاحظ جمل العلم والعمل (رسائل الشريف المرتضى ٣) : ٥٤.

١٣١

.................................................................................................

______________________________________________________

أو الأربع كصحيحة ابن مسلم المتقدّمة.

فمنها : ما رواه الشيخ بإسناده عن علي بن مهزيار ، عن عثمان بن عيسى عن سماعة ، قال : سألته عن رجل كذب في رمضان «فقال : قد أفطر وعليه قضاؤه» فقلت : فما كذبته؟ «قال : يكذب على الله وعلى رسوله» (١).

ورواها الشيخ أيضاً عن الحسين بن سعيد ، عن عثمان بن عيسى ، عن سماعة ، قال : سألته عن رجل كذب في شهر رمضان ، «فقال : قد أفطر وعليه قضاؤه وهو صائم ، يقضي صومه ووضوءه إذا تعمّد» (٢).

وهي في كلتا الروايتين مضمرة ، وجملة «قد أفطر وعليه قضاؤه» موجودة فيهما معاً ، والسند واحد إلى عثمان بن عيسى ، غير أنّ الراوي عنه تارةً : علي بن مهزيار ، وأُخرى : الحسين بن سعيد ، والظاهر أنّهما رواية واحدة ، إذ من البعيد جدّاً أنّ عثمان بن عيسى سمع الحديث عن سماعة وقد سأل هو الإمام مرّتين وأجابه (عليه السلام) بجوابين ، تارةً : مع الزيادة ، وأُخرى : بدونها ، بل هي في الحقيقة رواية واحدة نُقلت بالمعنى كما لا يخفى ، وعلى أيّ حال فهي موثقة.

ومنها : موثّقة أبي بصير التي رواها المشايخ الثلاثة مع اختلافٍ يسير ، قال : سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول : «الكذبة تنقض الوضوء وتفطر الصائم» قال : قلت له : هلكنا! «قال : ليس حيث تذهب ، إنّما ذلك الكذب على الله وعلى رسوله وعلى الأئمّة (عليهم السلام)» (٣).

ومنها : موثّقته الأُخرى عن أبي عبد الله (عليه السلام) : «إنّ الكذب على الله

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ٣٣ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٢ ح ١ ، التهذيب ٤ : ١٨٩ / ٥٣٦.

(٢) الوسائل ١٠ : ٣٤ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٢ ح ٣.

(٣) الوسائل ١٠ : ٣٣ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٢ ح ٢ ، الكافي ٢ : ٢٥٤ / ٩ ، ٤ : ٨٩ / ١٠ ، معاني الأخبار : ١٦٥ / ١ ، التهذيب ٤ : ٢٠٣ / ٥٨٥.

١٣٢

.................................................................................................

______________________________________________________

وعلى رسوله وعلى الأئمّة (عليهم السلام) يفطر الصائم» (١).

هذه هي مجموع الروايات التي استُدلّ بها على مفطريّة الكذب لا بمعناه الشامل بل على الله ورسوله خاصّة ، وفي بعضها أُضيف إليهما الأئمّة (عليهم السلام) كما عرفت.

غير أنّ المشهور بين المتأخّرين هو عدم البطلان كما سمعت ، نظراً إلى أنّهم ناقشوا في تلك الروايات من وجوه :

أحدها : أنّها ضعيفة السند لا يمكن التعويل عليها.

وفيه : أنّ الرواة كلّهم ثقات ولا يعتبر في حجّيّة الرواية أكثر من ذلك. نعم ، بناءً على اعتبار كون الراوي عدلاً إمامياً كي تتّصف الرواية بالصحّة بالمعنى المصطلح كما يراه صاحب المدارك يتّجه الإشكال ، لكن المبنى سقيم كما بُيِّن في محلّه.

المناقشة الثانية : أنّ هذه الرواية منافية لما دلّ على حصر المفطرات في الثلاث أو الأربع كما تقدّم في صحيحة ابن مسلم «لا يضرّ الصائم ما صنع إذا اجتنب» إلخ ، فلا بدّ من حملها على إرادة الإفساد والإبطال بالنسبة إلى مرتبة القبول والكمال من غير إخلالٍ بأصل الصوم وحقيقته.

ويؤكّد ذلك ما ورد في جملة من الروايات من بطلان الصوم بالغيبة والنميمة والسباب وما شاكل ذلك من كلّ فضول وقبيح ممّا ينبغي أن يمسك عنه الصائم (٢) ، مع وضوح عدم قدحها في الصحّة ، وإنّما هي تخلّ بالكمال ، نظراً إلى أنّ الفرد

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ٣٤ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٢ ح ٤.

(٢) الوسائل ١٠ : ٣٤ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٢ ح ٥ وص ٣٥ ب ٢ ح ٨ ، ٩ ، ١٠.

١٣٣

.................................................................................................

______________________________________________________

الكامل من الصوم هو الذي يتضمّن إمساك عامّة الجوارح ممّا حرّم الله عليها ، أمّا الصوم الصحيح فيكفي فيه الإمساك عن الأُمور المعيّنة فحسب.

ومقتضى ذلك مع قرينيّة التأكيد المزبور حمل أخبار الكذب على الله والرسول والأئمّة (عليهم السلام) على إخلاله بكمال الصوم لا بحقيقته ، فلا يكون الكذب مفطراً.

والجواب : أنّ الرواية الحاصرة أقصاها أن تكون دلالتها بالإطلاق ، فلا مانع من رفع اليد عنه بما دلّ على أنّ الكذب أو غيره أيضاً مفطرٌ على ما هو مقتضى صناعة الإطلاق والتقييد ، كما في غير المقام ممّا يأتي من المفطرات.

وهذا نظير ما دلّ من الأخبار على أنّ ناقض الوضوء هو ما خرج من الأسفلين ، ولكن دلّت الأدلة الأُخرى على أنّ زوال العقل والنوم والاستحاضة مبطلٌ أيضاً ، فلا منافاة بوجهٍ بين الحصر وبين الأدلة المقيّدة ، إذ هو لا يزيد على الظهور الذي لا مانع من رفع اليد عنه بعد قيام الدليل على التقييد.

وأمّا بقية الأخبار الدالّة على أنّ الغيبة والسبّ ومطلق الكذب مضرٌ بالصوم فهي بحسب السند ضعيفة ، ولو فرض وجود الموثّق فيها فهي محمولة على نقض الكمال دون الحقيقة ، وإنّ أوهمه قول السائل : هلكنا ، وذلك لقيام التسالم حتى من العامّة عدا من شذّ على عدم كونها مفطراً ، فقياس المقام عليه مع الفارق الواضح كما لعلّه ظاهر.

المناقشة الثالثة : أنّ بعض تلك النصوص كموثقة أبي بصير مشتمل على ما لا يقول به أحد من علماء الفريقين ، وهو نقض الوضوء بالكذب على الله أو الرسول ، فلا بدّ من الحمل على النقض بالعناية بإرادة نقض مرتبة الكمال ، حيث إنّ الشخص المتطهّر لا ينبغي له أن يكذب على الله ورسوله ، لأنّه لا يلائم روحانيّته الحاصلة من الوضوء.

١٣٤

.................................................................................................

______________________________________________________

فبقرينة اتّحاد السياق تحمل ناقضيّته للصوم على ذلك أيضاً ، أي على إرادة مرتبة الكمال لا الحقيقة كي يفسد به الصوم.

والجواب عنها أوّلاً : إنّ رفع اليد عن الظهور في جملةٍ لقرينة لا يستوجب رفع اليد عن الظهور في جملةٍ أُخرى على ما أوضحناه في الأُصول (١) ولأجله أنكرنا قرينيّة اتّحاد السياق ، نظير ما ورد من الأمر بالغسل للجمعة والجنابة ، فإنّ طبيعة الأمر تقتضي الإيجاب عقلاً ، وقيام القرينة على الاستحباب في الجمعة لا يصرف ظهوره عن الوجوب في الجنابة.

وكذا الحال في المقام ، فإنّ ناقضيّة الكذب للوضوء إذا حُمِلت على الكمال لقرينة خارجيّة لا توجب صرف المفطريّة للصوم عن الحقيقة إلى الكمال أيضاً ، بل لا بدّ من حمله في الصوم على الإفطار الحقيقي.

وثانياً : إنّ هذه الزيادة لم تذكر إلّا في بعض الروايات ، فغايته أنّها توجب الإجمال في الرواية المشتملة عليها ، نظراً إلى أنّها توجب عدم انعقاد الظهور في إرادة الإفطار الحقيقي ، دون غيرها ممّا لا يشتمل على هذه الزيادة كموثّقة أبي بصير الأُخرى (٢) ، لوضوح عدم سراية الإجمال من رواية إلى رواية أُخرى عارية عن سبب الإجمال ، فأيّ مانع من التمسّك بظهور مثل هذه الرواية الخالية عن تلك الزيادة؟! وثالثاً : إنّ هذه الزيادة لم تثبت حتّى في نفس الرواية المدّعى اقترانها بها ، فإن موثّقتي سماعة قد عرفت أنّ الظاهر اتّحادهما ، ومعه لم تحرز صحّة النسخة

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٩٤ ٩٦.

(٢) الوسائل ١٠ : ٣٤ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٢ ح ٤.

١٣٥

.................................................................................................

______________________________________________________

المشتملة على الزيادة ، وأمّا موثقة أبي بصير (١) التي رواها المشايخ الثلاثة فهي خالية من تلك الزيادة أيضاً على رواية الصدوق ، كما أنّها خالية أيضاً في إحدى روايتي الكليني كما نبّه عليه في الوسائل وهي المذكورة في أُصول الكافي في باب الكذب ومعه لا وثوق بتحقّقها ليناقش في قدحها في الظهور كما لا يخفى.

المناقشة الرابعة : أنّه ورد في موثّقة سماعة : عن رجل كذب في شهر رمضان «فقال : قد أفطر وعليه قضاؤه وهو صائم ، يقضي صومه ووضوءه إذا تعمّد» (٢) ، وجملة «وهو صائم» ظاهرة في أن صومه لم يبطل بسبب الكذب ، فيكون ذلك قرينة على التصرّف في قوله (عليه السلام) : «قد أفطر وعليه قضاؤه» بالحمل على نفي الكمال لا الحقيقة ، فلا يكون الكذب مفطراً لحقيقة الصوم ، وإلّا لما كان معنى لقوله (عليه السلام) بعد ذلك : «وهو صائم».

وبعبارة اخرى : جملة «وهو صائم» ظاهرة في التلبّس الفعلي بالصوم ، وإذا كان صومه صحيحاً كان ذلك قرينة على التصرّف في جملة «قد أفطر وعليه قضاؤه» ، فلا بدّ من التصرّف هنا وفي سائر الروايات الأُخر بحمل الإفطار فيها على العناية والتنزيل.

والجواب عنها أوّلاً : إنّ هذه الموثّقة وسابقتها التي رواها علي بن مهزيار هي رواية واحدة كما سبق ، مردّدة بين الزيادة والنقيصة ، فلم ندر أنّ سماعة أخبر بأيّتهما ، ومعه لا تكون تلك الجملة ثابتة من أصلها.

وثانياً : على فرض تعدّد الرواية وأنّ سماعة سأل الإمام (عليه السلام) مرّتين

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ٣٣ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٢ ح ٢. وانظر ص ١٣٢.

(٢) تقدّمت مع مصادرها في ص ١٣٢.

١٣٦

.................................................................................................

______________________________________________________

وأجاب كذلك ، فليس في هذه الجملة دلالة على أنّ الصوم صحيح ، لأنّ جملة : «وهو صائم» وجملة : «قد أفطر وعليه قضاؤه» متهافتتان بحسب الفهم العرفي ، نظير قوله : صحّت صلاته ، و: بطلت ، لأنّ قوله : «وهو صائم» معناه : أنّ صومه صحيح لا يحتاج إلى القضاء ، لاحتياج موضوع القضاء إلى الفوت ولا فوت معه ، ومقتضى قوله : «قد أفطر وعليه قضاؤه» أنّ صومه غير صحيح ، فهذا تناقض صريح بين الجملتين ، ولا محالة تصبح الرواية مجملة ، وعليه فلا بدّ من حمل جملة «وهو صائم» على أحد أُمور :

الأوّل : أن يراد بالصوم معناه اللغوي ، أعني : مطلق الإمساك ، وتكون الجملة في مقام الأمر. وحاصل المعنى : أنّ الصوم وإن بطل ووجب عليه القضاء إلّا أنّه يجب عليه الإمساك عن بقيّة المفطرات تأدّباً ، فإنّ ذلك من أحكام الإبطال في شهر رمضان ، فقوله : «وهو صائم» أي يبقى على إمساكه وإن وجب عليه القضاء.

وهذا الوجه بعيد ، لما ذكرناه في الأُصول (١) في بحث الأوامر من أنّ استعمال الجملة الاسميّة ك : زيد قائم في مقام الطلب غيرُ معهود في اللغة العربيّة ، بل منافٍ للذوق العربي كما لا يخفى. وإنّما المتعارف استعمال الجملة الفعليّة ماضيها ومضارعها ، مثل : أعاد ويعيد ونحو ذلك.

الثاني : أن تعود الجملة إلى الصدر ، حيث إنّ الراوي سأل عن مطلق الكذب في شهر رمضان من غير فرض كون السائل صائماً ، ولعلّ في ذهنه أنّ لشهر رمضان أحكاماً خاصّة ، ومن الجائز أن تكون للكذب في هذا الشهر الشريف خصوصيّة من كفّارة ونحوها وإن لم يصدر في حال الصوم ، فقيّده الإمام (عليه السلام) بأنّه قد أفطر وعليه القضاء إذا كان صائماً ، وأمّا غير الصائم

__________________

(١) محاضرات في أُصول الفقه ٢ : ١٣٧.

١٣٧

.................................................................................................

______________________________________________________

كالمسافر والمريض والشيخ ونحو ذلك فلا شي‌ء عليه من هذه الناحية ما عدا الإثم.

وهذا الوجه أبعد من سابقه جدّاً ، ولا يكاد يساعده الفهم العرفي ، لعدم معهوديّة التعبير عن هذا المقصود بمثل ذلك كما لا يخفى.

الثالث : أن يحمل قوله «وهو صائم» على حقيقته ، أي على مرتبة من الصحّة ، ويحمل قوله «أفطر» على الادّعاء والتنزيل ، فهو مفطر حكماً وتنزيلاً ولكنّه صائم واقعاً.

وهذا الوجه وإن أمكن ثبوتاً إلّا أنّه مشكل إثباتاً ، إذ لا وجه للتفرقة بينهما بحمل الصوم على معناه الحقيقي والإفطار على الادّعائي ، لظهور كلّ منهما في حقيقته.

الرابع : أن يحمل على إرادة الصوم الإضافي ، أي إذا كان ممسكاً من غير هذه الناحية فهو مفطر من جهة الكذب وإن كان هو صائماً من غير هذه الناحية. وهذا مع بعده في نفسه لعلّه أقرب من غيره.

وكيفما كان ، فلا يحتمل ظهور قوله : «وهو صائم» في صحّة الصوم ، للزوم المناقضة ، فإن تمّ الوجه الأوّل وإلّا فغاية الأمر أن تصبح الرواية مجملة فتسقط عن الحجّيّة ويردّ علمها إلى أهلها. وحينئذٍ فيرجع إلى بقيّة الروايات الواضحة الدلالة على المفطريّة والمعتبرة السند كما عرفت.

فالصحيح ما عليه المشهور من القدماء من بطلان الصوم بتعمّد الكذب على الله ورسوله والأئمّة (عليهم السلام) ، بل ادّعى السيد أنّ الإجماع عليه كما مرّ.

١٣٨

سواء كان متعلّقاً بأُمور الدين أو الدنيا (١) ، وسواء كان بنحو الإخبار أو

______________________________________________________

(١) أخذاً بإطلاق النصوص ، وما عن كاشف الغطاء من التخصيص بالأوّل استناداً إلى الانصراف (١) غير ظاهر ، وعهدته على مدّعيه ، إذ لم تثبت هذه الدعوى على نحوٍ توجب رفع اليد عن ظهور الأدلّة في الإطلاق بعد صدق عنوان الكذب حتّى على ما يرجع إلى أمر دنيوي ، كالإخبار عن نوم أمير المؤمنين (عليه السلام) في ساعة معيّنة كاذباً مثلاً.

نعم ، بعض الروايات الواردة في غير باب الصوم تضمّنت أنّه : «من كذب علينا فقد كذب على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، ومن كذب على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فقد كذب على الله» (٢) ، وهي كما ترى ظاهرة في الكذب المتعلّق بأمر ديني ، باعتبار أنّ الرسول يخبر عن الله والأئمّة عن الرسول ، فإذا نسب إلى الإمام فبالدلالة الالتزاميّة نسبه إلى الرسول وأيضاً إلى الله تعالى ، ولأجله يختصّ بأمر الدين الصالح للانتساب إلى الجميع. ومن ثَمّ ورد في بعض الأخبار أنّه إذا سمعتم شيئاً منّا فلا بأس بأن تنسبوه إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) وبالعكس (٣) ، وهذا ليس إلّا لأجل أنّهم بمنزلة متكلّم واحد ويفرغون عن لسان واحد ، فما يقوله الإمام السابق يقوله اللاحق بعينه وبالعكس.

وعلى الجملة : فهذه الروايات وإن ظهر منها اختصاص الكذب بالأحكام ولا تشمل الأُمور الدنيويّة إلّا أنّ ذلك لأجل القرينة ، لوضوح أنّ من كذب على علي (عليه السلام) في أمر تكويني لا يكون كاذباً على رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

__________________

(١) كشف الغطاء : ٣٢١ ٣٢٢.

(٢) الوسائل ١٢ : ٢٤٨ / أبواب أحكام العشرة ب ١٣٩ ح ٤.

(٣) لاحظ الوسائل ٢٧ : ١٠٤ / أبواب صفات القاضي ب ٨ ح ٨٥.

١٣٩

بنحو الفتوى (١) ، بالعربي أو بغيره من اللغات (٢) ، من غير فرق بين أن يكون بالقول أو الكتابة أو الإشارة أو الكناية أو غيرها ممّا يصدق عليه

______________________________________________________

وأمّا روايات المقام المتعرّضة للمفطريّة فهي عارية عن مثل هذه القرينة ، وقد عرفت منع الانصراف ، فلا مناص من الأخذ بالإطلاق بعد صدق الكذب عليهم في كلا الموردين أي المتعلّقة بالدين والدنيا بمناطٍ واحد حسبما عرفت.

(١) لعدم الفرق بينهما في صدق عنوان الكذب على الله ورسوله بعد أن كانت الفتوى معدودة من طرق إثبات الحكم في الشريعة ، فلا فرق بين قوله : قال الله كذا ، أو : أنّ هذا حلال ، في أنّ كليهما إخبار عن الله تعالى ، غايته أنّ أحدهما صريح والآخر غير صريح.

هذا فيما إذا أخبر عن الواقع وأفتى بما في الشرع.

وأمّا إذا أخبر عن رأيه وفهمه وأسنده إلى اجتهاده ، فهذا ليس من الكذب على الله في شي‌ء وإنّما هو كذب على نفسه لو لم يكن مطابقاً لرأيه.

وهكذا لو نقل الفتوى عن الغير أو الرواية عن الراوي كذباً ، كأن يقول : قال زرارة : إنّه قال الصادق (عليه السلام) ، فإنّه كذبٌ على ذلك الغير أو على الراوي لا على الله أو على الإمام (عليه السلام) ، ومن هذا القبيل ما لو نقل عن مؤلّف وليس فيه ، كما لو قال : حكي في البحار عن الصادق (عليه السلام) كذا ، فإنّه كذبٌ على المجلسي لا على الإمام (عليه السلام) ، فلا يترتّب عليه إلّا الإثم دون البطلان.

(٢) للإطلاق ، بل لا ينبغي التعرّض له ، إذ لا يتوهّم في مثل المقام اختصاص الحكم بلغة دون لغة فضلاً عن وجود القول به.

١٤٠