نظريّة النقد العربي رؤية قرآنيّة معاصرة

المؤلف:

الدكتور محمد حسين علي الصّغير


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار المؤرّخ العربي
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٧

الفصل الثالث

« دلالة الالفاظ »

ـ أنواع الدلالة

١ ـ الدلالة الصوتية

٢ ـ الدلالة الاجتماعية

٣ ـ الدلالة الإيحائية

٤ ـ الدلالة الهامشية

٤١
٤٢

أنواع الدلالة

الالفاظ مقترنة بمعانيها ، قد نستوحي منها دلالات معينة لها قيمتها الجمالية تارة ، ومفهومها البنائي تارة أخرى ، ووقعها الموسيقي والصوتي ثالثاً ، تتعرف من خلال هذا المنظور على ما يوحيه كل لفظ من صورة ذهنية تختلف عن سواها شدة وضعفاً ، وتتباين وضوحاً وإبهاماً ، وتدرك به العلة بين استعمال هذا اللفظ دون ذاك إزاء المعنى المحدد له بدقة متناهية ، وهذا السر الدلالي في الألفاظ لا يكون واضحاً ـ في جزء منه ـ بحد ذاته مالم يستعن عليه بدلالة الجملة أو العبارة ، إذ لا يمكن أن يتم التعبير عادة عن الغرض الفني بكلمة مفردة ، ومع هذا الغرض ، فالكلمة الواحدة أو اللفظة المفردة كانت لها دلالتها في أبعاد مختلفة ، أحاول أن أجملها بما يلي : ـ

١ ـ الدلالة الصوتية :

وهي التي تستمد من طبيعة الأصوات نغمها وجرسها(١) فتوحي بوقع موسيقي خاص ، يستنبط من ضم الحروف بعضها إلى البعض الآخر.

٢ ـ الدلالة الإجماعية :

وهي الدلالة التي تستقل بها الكلمة عما سواها من فهم معين خاص بها (٢).

فهي دلالة لغوية في حدود العرف العام بما يكون متبادراً إلى الذهن منها عند الإطلاق ، على نحو ما تعارف عليه المجتمع في بيئته الكلامية

__________________

(١) إبراهيم أنيس : دلالة الألفاظ : ٤٦.

(٢) المصدر نفسه : ٤٨.

٤٣

( التخاطبية أو التفاهمية ) والألسنية ، فهي نتاج فهم مشترك عند الأفراد ، وبذلك تتكون اللغة ، فهي إذن دلالة لغوية.

وقد يطلق عليها اسم الدلالة المركزية التي يسجلها اللغوي في معجمه.

٣ ـ الدلالة الإيحائية :

وهي الدلالة التي يوحي بها اللفظ بالأصداء والمؤثرات في النفس فيكون له وقع خاص يسيطر على النفس ، لا يوحيه لفظ يوازيه لغة ، فهو مجال الانفعالات النفسية والتأثر الداخلي للإنسان. وقد أدرك النقاد القدامى حقيقة اللفظ الإيحائي « وإن لم يحددوا للإفصاح عنه عبارة كالتي نستخدمها في عصرنا الحاضر » (١).

٤ ـ الدلالة الهامشية :

وهي الدلالة التي تصاحب اللفظ عند إطلاقه فيكسب دلالة معينة يفيدها كل سامع بحسب تجاربه (٢).

وهذه الدلالة تختلف رصداً بحسب اختلاف الثقافة عند المتلقي ، ويتفاوت فهمها نوعية عند كل مستفيد ، فهي تجري مجرى الفهم الخاص عند كل مفسر للنص الأدبي ، وقد توحي بهذا بما لا يدل عليه ظاهر اللفظ في بقية دلالاته ، وإنما يكشف مدلولها إخضاعاً لطبيعة المؤول في التخصص. فهي ذات علاقة وثيقة بفهم من يستخرجها ، ولكنها لا تخلو من وجه من وجوه الصحة في التفسير.

نلمس كل هذه اللقطات في المباحث التالية.

١ ـ الدلالة الصوتية :

لا شك أن استقلال أية كلمة بحروف معينة بكسبها ذائقة سمعية قد تختلف عن سواها من الكلمات التي تؤدي نفس المعنى بما يجعل كلمة

__________________

(١) أحمد أحمد بدوي ، أسس النقد الأدبي عند العرب : ٤٢٤.

(٢) إبراهيم أنيس ، دلالة الألفاظ : ١٠٧.

٤٤

دون كلمة ـ وإن اتحدا معنى ـ مؤثرة في النفس ، أما بتكثيف المعنى ، وإما بإقبال العاطفة ، وإما بزيادة التوقع.

فهي حيناً تصك السمع ، وحيناً تهيئ النفس وحيناً آخر تضفي صيغة التاثر : فزعاً من شيء أو توجهاً لشيء ، أو رغبة في شيء ... هذا المناخ الحافل تضفيه الدلالة الصوتية ، ونماذجها في المقل القرآني تتجلى مختارة منه ، وحروف صاحبت بعض الكلمات ، فعاد لهما الوقع الخاص من النفس ، بما لا تعطيه كلمة أخرى ، مقاربة للمعنى ، أو لا تفرغه صيغة مماثلة من التركيب.

وهذا باب متسع بحدود في دلالة ألفاظ المثل الصوتية ، وأثرها في السمع وجلجلتها في الحس ، هدوءاً وإثارة ، وقد يستوعب جملة من ألفاظه في الجرس والنغمة والصدى والإيقاع ، بيد أنني سأحاول عرض أظهرها دلالة من خلال بعض الأمثلة :

أولاً : الكلمة « متشاكسون » في قوله تعالى :

( ضرب الله مثلاً رجلا فيه شركاء متشاكسون ... ) (١).

تعتبر لغة عن المخاصمة والعناد والجدل في أخذ ورد لا يستقران ، وقد تعطي بعض معناها الكلمة « متخاصمون » ولكن المثل لم يستعملها حفاظاً على الدلالة الصوتية التي جمعت في الكلمة حروف الأسنان والشفة في التاء والشين والسين تعاقبان ، تتخللها الكاف ، فأعطت هذه الحروف مجتمعة نغماً موسيقياً خاصاً حملها أكثر من معنى الخصوصية والجدل والنقاش بما أكسبها من أزيز في الأذن يبلغ السامع إلى أن الخصام قد بلغ درجة الفورة والعنف من جهة ، كما أحاطه بجرس مهموس خاص يؤثر في الحس والوجدان من جهة أخرى.

ثانياً : الكلمة « أوهن » من قوله تعالى :

( وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت ... ) (٢)

__________________

(١) الزمر : ٢٩.

(٢) العنكبوت : ٤١.

٤٥

تعطي معنى الضعف ، وقد تحقق هذا المعنى كلمة « أوهى » ولكن المثل استعملها دون سواها لما يعطيه ضم حروف الحلق وأقصى الحلق على النون من التصاق وانطباق وغنة لا تتأتى بضم الألف المقصورة إليها ، حينئذ تصل الكلمة إلى السمع وهي تحمل لوناً باهتاً مؤكداً بضم هذه النون إلى تلك الحروف لتحدث وقعاً يشعر بالضعف المتناهي لا مجرد الضعف وحده.

ثالثاً : الكلمة ( كل ) من قوله تعالى :

( وهو كلّ على مولاه ... ) (١)

فإنها توحي عادة بمعنى العالة ، ولكن المثل استعملها دون سواها لإضاءة المعنى بما فيها من غلظة وشدة وثقل ، لهذا الصدى الخاص المتولد بأطباق اللسان على اللهاة في ضم الكاف إلى الكلام المشددة. وما ينجم عن ذلك من رنة في النفس ، ووقع على السمع ، من وراء ذلك بأن هذا العبد شؤم لا خير معه وبهيمة لا أمل بإصلاحه ، فهو عالة عادة بل هو « كل » وكفى.

رابعاً : الكلمة « صر » في قوله تعالى :

( كمثل ريح فيها صر ... ) (٢)

إنها كلمة لا يسد غيرها مسدها في المعجم بهذه الدلالة الصوتية الخاصة لما تحمله من وقع تصطك به الأسنان ، ويشتد معه اللسان ، فالصاد الصارخة مع الراء المضعفة قد ولدتا جرسا يضفي صيغة الفزع ، وصورة الرهبة ، فلا الدفء يستنزل ، ولا الوقاية تتجمع ، بما يزلزل وقعه كيان الإنسان.

خامساً : « تمسه » في قوله تعالى :

( ولو لم تمسسه نار ... ) (٣)

__________________

(١) النحل : ٧٦.

(٢) آل عمران : ١١٧.

(٣) النور : ٣٥.

٤٦

لها أزيزها الحالم ، وصوتها المهموس ، ونغمها الرقيق ، نتيجة لالتقاء حرفي السين متجاورين بما لا نحققه كلمة أخرى تؤدي نفس المعنى ، ولكنها لا تؤدي هذه الدلالة الصوتية التي وفرتها هذه الكلمة برقة وبساطة.

وكما دلت الالفاظ دلالة صوتية معينة في الاستعمال المثلي في القرآن فكذلك لمسنا لبعض الحروف دلالة صوتية معينة يتعاقبها في سلك بعض الألفاظ حتى عادت ذات وقع خاص على السمع ، وطبيعة مواتية في الحس من خلال ترادفها وتناظرها واحتشادها ، وسنختار منها « الفاء » العاطفة ، نظراً لاختيار المثل لها دون سواها في دلالته الصوتية كما يلي :

أولاً : الفاء في كل من « اختلط » و « أصبح » في قوله تعالى :

( فاختلط به نبات الأرض فاصبح هشيما ... ) (١)

فيها ترتيب وتعقيب يصك السمع في دلالة وقع الأمر دون حائل وبلا فاصل تعبيراً عن الخسران النهائي ، والحرمان المتواصل دفعة واحدة ، وهنا تلتقي الدلالة الصوتية بالدلالة الاجتماعية بما يستفاد من معنى لغوي.

ثانياً : ويتمثل هذا التوالي عطفاً بالفاء دالاً على سرعة الإيقاع ، وعدم الإمهال ، بما يوحيه للسمع وللذهن كلاً غير منفصل بقوله تعالى :

( فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت ... ) (٢)

فلا حائل ولا زمن بين الإصابة والاحتراق ، إذ تختفي الحدود الزمنية فما هي إلا لحظات حتى تعود الجنة رميماً بمفاجأة الإصابة وشدة الاحتراق ونفاذ الأمر.

ثالثاً : وما يقال آنفاً يجري تطبيقه على كل من قوله تعالى :

( فاصابه وابل فتركـه صلدا ... ) (٣)

وقوله تعالى :

__________________

(١) الكهف : ٤٥.

(٢) البقرة : ٢٦٦.

(٣) البقرة : ٢٦٤.

٤٧

( فان لم يصبها وابل فطل ... (٢٦٥) ) (١)

فوجود الفاء مكرورة على هذا النمط سواء أكان الحرف عاطفاً أم رابطاً فإن له دخلاً كبيراً في الوقع الموسيقي على الأذن.

رابعاً : ويبلغ هذا الترتيب في التعاقب دورته بقوله تعالى :

( فأزره فاستغلظ فاستوى على سوقه ) (٢)

فالتوالي هنا زيادة على جرسه السمعي ليوحي إلى النفس نقطة الانتهاء من حقيقة الأمر حتى عاد واقعاً دون شك مقترناً بالدلالة الإيحائية في كشف تماسك هذه الجماعة وترابطها ، وكذا الزرع في شدة أسره ، وقوة تشابكه.

٢ ـ الدلالة الاجتماعية :

تتوافر دلالة الألفاظ الاجتماعية في استعمالها اللغوي في عدة مجالات من المثل القرآني ، ومرجع هذه الدلالة هو التبادر العام في العرف العربي بما يعطي للكلمة من دلالة خاصة بها ، ومراعات هذا العرف ذو أثر مهم في الدلالة المعينة للكلمة ولهذا اعتبر الخطابي ( ت ٣٨٣ ـ ٣٨٨ هـ ) إن الكلام إنما يقوم بأشياء ثلاثة « لفظ حاصل ، ومعنى به قائم ، ورباط لهما ناظم. وإذا تأملت القرآن وجدت هذه الأمور منه في غاية الشرف والفضيلة ، حتى لا ترى شيئاً من الألفاظ أفصح ولا أجزل ولا أعذب من ألفاظه » (٣).

وقد جرى المثل القرآني وهو جزء من القرآن على هذا المجرى فأعطاه أهميته في تخير ألفاظه للدلالة على المعنى المراد ، وسنختار بعض المفردات منه منفردة بنفسها ، أو مضمومة لغيرها ، من أجل تحقيق الفكرة بأصولها.

أولاً : الكلمة « صفوان » من قوله تعالى :

__________________

(١) البقرة : ٢٦٥.

(٢) الفتح : ٢٩.

(٣) الخطابي ، بيان إعجاز القرآن ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن : ٢٤.

٤٨

( كمثل صفوان عليه تراب ... )(١)

وتعطي صورة الحجر المتكلس الذي يجتمع من ذرات غير قابلة للانفصال يتماسك ويتوافر بعد أن يخالطه التراب المهيل من هنا وهناك ، فبعبارة تقاطر المطر وتدافع السيول ، بدلاً من أن يهش ويلين ويتفتت وإذا به يعود كتلة حجرية واحدة ، صلباً لا ينفذ ، ومتحجراً لا ينفذ ، فإذا طالعتنا اللغة بأنه : « الحجر الأملس » (٢) اتضح مدلول الكلمة في عمقها عدم ثبات شيء عليها.

ثانياً : والكلمة « وابل » من الآية نفسها ( فأصابه وابل ... ) (٣)

تدل لغوياً ، على الغيث المنهمر ، والمطر المتدافع ، وتلمح مجازاً إلى الجود المتناهي في العطاء فهل يا ترى أن سيؤدي معناها بضم هذه الصفات جميعاً لغظ سواها ، قد يؤدي معناها بعدة كلمات وإذا تم هذا فهو يعني الخروج عن الإيجاز المتوافر في وابل إلى الأطناب الذي لا مسوغ له في عدة ألفاظ أخر.

ثالثاً : والكلمة « لا يقدرون ».

بضمها إلى « ما كسبوا » في قوله تعالى :

( لا يقدرون على شيء مما كسبوا ) (٤) فيها من الدلالة على ما يلي :

تصوير لحالة الحرمان ، وإيذان بحلول الفقر ، فلا المال المجموع بنافع ، ولا الآمال الموهومة بمتحققة ، يأس وادقاع مادي من تلك الأموال ، وفقر معنوي من تلك الآمال سواء في الجزاء أو في الثواب الذين توهموا حصولهما ، وعي متواصل يصلب القدرة والكسب معاً ، وهذا إنما يتأتى فهمه بحسب العرف العام في تبادره لفهم معاني الألفاظ عند إطلاقها.

__________________

(١) البقرة : ٢٦٤.

(٢) الطريحي ، مجمع البحرين ١/٢٦٤.

(٣) (٤) البقرة : ٢٦٤.

٤٩

رابعاً : والكلمة « مشكاة » في قوله تعالى :

( مثل نوره كمشكاة فيها مصباح ... )(١)

ذات دلالة اجتماعية خاصة ، وإن تداولتها عدة لغات ، واتفقت استعمالاً بين لسانين عند جيلين من البشر ، لأن المشكاة عند العرب :

« الكوة التي لا منفذ لها. وقيل هي في لسان الحبشة : الكوة ».

قيل : كيف جاز أن تخاطب العرب بذلك مع قوله تبارك وتعالى : ( عربي مبين ) فالجواب : أنه جائز اتفاق الاسم الواحد في لغتين لا ينكر مثل ذلك فيما يقع من الوفاق بين أهل اللسانين.

ويجوز أن تكون المشكاة من جملة ما أعربته العرب من اللغات فغيرته ونطقت به فصار كلغتها (٢).

والحق أن العربية قد أعطت هذه الكلمة غرضاً لغوياً خاصاً بها (٣).

لذا وجدنا أن الكوة لا تعطي دقائق معنى المشكاة بما فيها من بهاء وجمال ، وتبادر ذهني عام إلى المدلول منها في كل الوجوه المحتملة.

خامساً : والكلمة « الضمآن » في قوله تعالى :

( يحسبه الظمان ماء ... ) (٤) ذات دلالة لغوية خاصة بها ، لا تمثلها كلمة الرائي مثلاً ، ولو استعملها المثل لأصاب المعنى في جزء منه ، ولكنها لا تقع موقع الظمان ، فلو قال ، يحسب الرائي ماء لم يقع موقع قوله « الظمآن » لأن الظمان أشد فاقة إليه ، وأعظم حرصاً عليه (٥).

سادساً : والكلمة « لجي » في قوله تعالى :

( أو كظلمات في بحر لجي ... ) (٦) تشعرك مركزياً يتدافع الأمواج ،

__________________

(١) النور : ٣٥.

(٢) ابن ناقيا ، الجمان في تشبيهات القرآن ، ١٦٦.

(٣) ظ : تفصيل القول معاني المشكاة ، الطبري جامع البيان : ١٨/١٣٧ ـ ١٤٠ ، ط الحلبي.

(٤) النور : ٣٩.

(٥) العسكري ، الصناعتين : ٢٤٦.

(٦) النور : ٤٠.

٥٠

وتتابع الأمداد فأنت أمام فيض من السيول ، وكثافة من الأزباد ، ومهما أجال اللغوي فكره في معجمه فإنه لن يصل إلى كلمة تسد مسدها في الدلالة على صورة المعاني النابعة منها.

وفي هذا الضوء فإنني أميل إلى ما ذهب إليه زميلنا الدكتور العزاوي بقوله « إن في استقرار اللغة ، وثبات صيغتها ، قيمة عظمى ، ونفعاً محموداً ، وذلك في أكثر من وجه. فبعض الصيغ الموروثة ، والتراكيب المتداولة ، تؤدي المراد منها بدقة لأنها اكتسبت دلالة خاصة تعارف عليها الناس وأصبح من العسير أن تقوم مقامها أو تؤدي مؤداها عبارات أخرى قد يبتدعها أهل اللغة ، ويحلونها محل تلك العبارات (١).

والدليل على صحة هذه الدعوى ما لمسناه من استعمال المثل القرآني للألفاظ المتقدمة : صفوان ، وابل ، مشكاة ، الظمان ، لجي.

سابعاً : وفي « لم يكد يراها » من قوله تعالى :

( إذا أخرج يده لم يكد يراها ) (٢) دلالة لغوية على إرادة عدم الرؤية الحقيقية ونفيها إطلاقاً ، بما أثبته النقاد اللغويون ، تخطئة لابن شبرمة وتصحيحاً لقول ذي الرمة ، حين بلغ هذا البيت (٣) :

إذا غير النأي المحبين لم يكد

رسيس الهوى من حب مية يبرح

فقال له ابن شبرمة ، يا ذا الرمة أراه قد برح ، ففكر ساعة ثم قال :

إذا غير الناي المحبين لم أجد

رسيس الهوى من حب مية برح

قال الراوي : فرجعت إلى أبي الحكم بن البحتري فأخبرته الخبر ، فقال : أخطأ ابن شبرمة حيث أنكر عليه ، وأخطأ ذو الرمة حيث رجع إلى قوله ، إنما هذا كقول الله عز وجل :

( أو كظلمت في بحر لجى يغشه موج من فوقه موج من فوقه سحاب

__________________

(١) نعمة رحيم العزاوي ، النقد اللغوي عند العرب : ٣٢١.

(٢) النور : ٤٠.

(٣) ذو الرمة ، ديوان شعر ذي الرمة : ٩٠.

٥١

ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها من نور ... (٤٠) ) (١) ، أي لم يرها ولم يكد (٢).

وأيد ذلك السيد المرتضى ( ت ٤٣٦ هـ ) وازاد من تفصيل الدلالة الاجتماعية فيه ، وعرض لجملة من الآراء في التأكيد على نوعية الظلمات وتدافعها بما استخرجه من « لم يكد يراها » قال المرتضى :

« أي لم يرها أصلاً. لأنه عز وجل قال :

أو كظلمات في بحر لحي يغضه موج من فوقه موج من فوقه سحابج ظلمات بعضها فوق بعض (٤٠) ) (٣) كان بعض هذه الظلمات يحول بين العين وبين النظر إلى اليد وسائر المناظر فـ ( يكد ) على هذا التأويل زيدت للتوكيد ، والمعنى إذا أخرج يده لم يرها ».

وقال قوم : معنى الآية : إذا أخرج يده رآها بعد إبطاء وعسر لتكاثف الظلمة ، وترادف الموانع من الرؤية.

وقال آخرون : معنى الآية إذا أخرج يده لم يرد أن يراها ، لأن الذي شاهد من تكاثف الظلمات بأسه من تأمل يده ، وقرر في نفسه أنه لا يدركها ببصره (٤).

وأياً كان التفسير فدلالة الكلمة المركزية ظاهرة لدى التحقيق ، إلا أن هناك شبهة في هذا الفهم المتقابل للكلمة مصدره العرف العام ، وقد أوضح سبب هذه الشبهة ابن الزملكاني ( ت ٦٥١ هـ ) بقوله : « وما سبب هذا الشبهة إلا أنه قد جرى في العرف أن يقال :

« ما كاد يفعل » و « لم يكد يفعل » في فعل قد فعل على معنى أنه لم يفعل إلا بعد جهد. فمن هنا وهم ابن شبرمة في زعمه أن الهوى قد برح ، وظن ذو الرمة مثل ذلك ، وإنما هو في الحقيقة على نفي المقاربة فإن « كاد »

__________________

(١) النور : ٤٠.

(٢) المرزباني ، الموشح في مآخذ العلماء على الشعراء : ٢٨٣.

(٣) النور : ٤٠.

(٤) المرتضى ، أمالي المرتضى : ١/٣٣١.

٥٢

موضوعة للدلالة على قرب الوجود بمحال أن يكون نفيها موجباً وجود الفعل » (١).

ثامناً : وفي كل كلمتي « ذهب » و « بنورهم » من قوله تعالى :

( مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم ) (٢) دلالة مركزية في انسحاب أثر نفي العام على نفي الخاص ، ولم يستعمل المثل : « الضوء » بدل « النور » ولا « اذهب » « ذهب » إلا مراعاة لذلك بما أشار إليه الزركشي ( ت ٧٩٤ هـ ) بقوله : ولم يقل : « بضوئهم » بعد قوله ( اضاءت ) لأن النور أهم من الضوء ، إذ يقال على القليل والكثير ، وإنما يقال الضوء على الكثير ، ولذلك قال تعالى :

( هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا ) (٣) ففي الضوء دلالة على الزيادة ، فهو أخص من النور ، وعدمه لا يوجب عدم الضوء ، لاستلزم عدم العام عدم الخاص ، فهو أبلغ من الأول ، والغرض إزالة النور عنهم أصلاً ، ألا ترى ذكره بعده ( تركهم في ظلمات ) وهنا دقيقة ، وهي أنه قال : ( ذهب الله بنورهم ) ولم يقل « أذهب نورهم » لأن الإذهاب بالشيء إشعار له يمنع عودته ، بخلاف الذهاب ، إذ يفهم من الكثير استصحابه في الذهاب ، ومقتضى من الرجوع » (٤).

تاسعاً : والكلمة « عبدا » بتقييدها « مملوكاً » في ( ضرب الله مثلاً عبداً مملوكاً ... ) (٥) قد يتبادر لأول وهلة في الذهن أن العبد دون تقييد فيه دلالة على عدم الحرية فلماذا هذا التقييد إذن ، ولكن الفهم الدقيق يقتضي التقييد ، لأن الحر والعبد سواء أمام الله تعالى ، فهما عبدان له ، اتصفا بالحرية أو العبودية ، فاراد الاحتراز من هذه الناحية بأنه عبد مملوك وليس بحر مقيد.

__________________

(١) ابن الزملكاني : البرهان الكاشف عن إعجاز القرآن : ١٥٤.

(٢) البقرة : ١٧.

(٣) يونس : ٥.

(٤) الزركشي ، البرهان في علوم القرآن : ٣/٤٠٢.

(٥) النحل : ٧٥.

٥٣

عاشراً : واستعمال كلمة « امرأة » بدل « زوج » بالنسبة لامرأة نوح ولوط ، وهما زوجتان لهما ، وبالنسبة لامرأة فرعون ، وهي زوجته دون ريب في كل من ( امرأت نوح وامرأت لوط ... ) (١) وقوله ( امرأت فرعون ) (٢) هذا الاستعمال الدقيق ذو دلالة اجتماعية رائعة ، توضحها الدكتورة عائشة عبد الرحمن بقولها :

ونتدبر استعمال القرآن للكلمتين ، فيهدينا إلى سر الدلالة ، كلمة زوج تأتي حيث تكون الزوجية هي مناط الموقف : حكمة وآية ، أو تشريعاً وحكماً ( ومن ءاياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة ) (٣) فإذا تعطلت آيتها من السكن والمودة والرحمة ، بخيانة أو تباين في العقيدة فامرأة لا زوج (٤).

وهذا بين بامرأتي نوح ولوط ، ففي الخيانة الدينية التي أحدثاها انفصلت عرى الزوجية ، وعاد كل زوج منهما امرأة فحسب ، وفي امرأة فرعون تعطلت آية الزوجية بكفره وإيمانها ، فعادا حقيقتين مختلفتين ، لا تربطهما رابطة من سكن ، ولا صلة من مودة ، فعادت زوجته امرأة.

وزيادة على ما سبق بيانه ، فإن الدلالة الاجتماعية تكشف بعمق ما يحيط بمؤدى اللفظ من إبهام وغموض ليعود جلياً مشرقاً ، ففي قوله تعالى :

( يأيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له ... ) (٥) تبدو كلمة « مثل » موهمة بأن لا مثل في العبارات التالية للمادة ، حتى قال الأخفش : إن قيل أين المثل؟ فالجواب أنه ليس ها هنا مثل ، وإنما المعنى : يا أيها الناس ضرب لي مثل : أي شبهت بي الأوثان فاستمعوا لهذا المثل (٦).

ولكن الدلالة الاجتماعية تؤكد وجود المثل بمدلوله اللغوي أو بنقله

__________________

(١) الستحريم : ١٠.

(٢) التحريم : ١١.

(٣) الروم : ٢١.

(٤) بنت الشاطي ، الإعجاز البياني للقرآن ومسائل ابن الأزرق : ٣١٢ ـ ٢١٣.

(٥) الحج : ٧٣.

(٦) ابن الجوزي ، زاد المسير : ٥/٤٥١.

٥٤

الاستعاري بما عبر عنه الزمخشري بقوله :

« فإن قلت الذي جاء به ليس بمثل ، فكيف سماه مثلاً؟ قلت : قد سميت الصفة أو القصة الرائعة الملتقاة بالاستحسان والاستغراب : مثلاً » (١).

فارجع الفصل بالموضوع إلى اللغة لتنفي الشبهة والإشكال.

ويبدو مما سلف أن الدلالة الاجتماعية في حدود ما عرضنا له من ألفاظ المثل القرآني قد روعي فيها الفهم المتبادر عنه الهيئة الاجتماعية في تحديد معنى اللفظ ، وضبط مدلوله ، فهي وسيلة مهمة لكشف الغموض والإبهام عن الألفاظ ، وإليها يرجع في معرفة النص من خلال المعجم اللغوي.

٣ ـ الدلالة الإيحائية :

وتبرز ملامح الدلالة الإيحائية في استيعاب المثل القرآني لصيغ ألفاظ معينة ، وكلمات مؤثرة ، توحي بأكثر من مدلولها الظاهري ، وتنطوي على جملة من المعاني الأخرى ، فهي المقياس الفني لتقدير قيمة اللفظ بقدر ما ينتجه ذلك اللفظ من إيحائية خاصة به ، فقيمة اللفظ تتأثر بهذه الإيحائية ونوعيتها قوة وضعفاً ، فكلما كانت إيحائية الكلمة عالية ، كانت قيمة تلك الكلمة فنياً عالية أيضاً والعكس بالعكس.

وإذا كان المثل القرآني قد امتاز بتخير الألفاظ وانتقائها فإنه يرصد بذلك ما لهذه الألفاظ دون تلك « من قوة تعبيرية ، بحيث يؤدي بها فضلاً عن معانيها العقلية ، كل ما تحمل في أحشائها من صور مدخرة ، ومشاعر كامنة ، لفت نفسها لفاً حول ذلك المعنى العقلي » (٢).

وفي هذا الضوء نرصد إيحائية ألفاظ المثل القرآني في جزء منها :

أولاً : الكلمة « تثبيتاً » في قوله تعالى :

__________________

(١) الزمخشري : الكشاف : ٣/١٧١.

(٢) هـ. ب. تشارلتن ، فنون الأدب : ٧٦.

٥٥

( وتثبيتاً من أنفسهم ... ) (١) فيها من الدلالة الإيحائية ، الانتقال بمشاعر الإنسان في الغبطة والسرور إلى عالم روحي محض يحمل بين برديه جميع مقومات الرضا من الله ، والعناية بالنفس المطمئنة ، التي لا تأمل إلا التثبيت والاستقامة.

ثانياً : والكلمة « ربوة » في قوله تعالى :

( كمثل جنة بربوة أصابها وابل ... ) (٢)

تحمل صورة فريدة في تخيل الجنان تتساقط عليها الأمطار فتمسح سطحها ، وهي سامقة شامخة فتزيل القذى عن أشجارها ، وتثبت جذورها ، وتمنحها القوة والحياة والاستمرار ، وهي على نشز من الأرض تباكرها هذه الهبات ، وما يوحي ذلك من مناخ نفسي يسكن إليه الضمير.

ثالثاً : والكلمة « بصير » في قوله تعالى :

( والله بما تعملون بصير (٢٦٥) ) (٣) توحي هنا بدقة الملاحظة وشدة الرقابة والإحاطة الشاملة بجزئيات الأمور كلياتها ، وحيثيات الإنسان وتصرفاته ، فعمله منظور لا يغفل عنه ، ووجوده في رصد لا يترك ، وأعماله في سبر وإحصاء. وهذا الإيحاء نفسه يوحي بإيحاء آخر هو :

إن الله بصير لا بالعين الناظرة ، لأن العين لها ما شاهدت والله يرصد ما يشاهد ما يخفى وما تجن الصدور.

إن هذه الإيحائية تحتمها دلالة اللفظ.

رابعاً : واختيار كلمة « تراب » بدلاً من « طين » في قوله تعالى :

( إن مثل عيسى عند الله كمثل ءادم خلقه من تراب ... (٥٩) ) (٤) ذو طبيعة إيحائية تضفي على اللفظ أكثر من المعنى الظاهر الذي يتبادر له الذهن ، فقد أريد بها هنا أن الإنسان خلق من أدنى القسيمين الطين

____________

(١) (٢) (٣) البقرة : ٢٦٥.

(٤) آل عمران : ٥٩.

٥٦

والتراب. فاختار التراب ليومي إلى هذه الدلالة. وقد اعتبرها الزركشي ( ت ٧٩٤ هـ ) من مشاكلة اللفظ للمعنى ، ومتى كان اللفظ جزلاً كان المعنى كذلك ، وتابع في تعليله ابن أبي الاصبع فيما تقدم (١).

قال الزركشي « إنما عدل عن الطين الذي هو مجموع الماء والتراب إلى ذكر مجرد التراب لمعنى لطيف ، وذلك أنه أدنى العنصرين وأكثفهما ، لما كان المقصود مقابلة من ادعى في المسيح الإلهية بما يصغر خلقه عند من ادعى ذلك ، فلهذا كان الاتيان بلفظ التراب أمس في المعنى من غيره من العناصر » (٢).

خامساً : والكلمة « فجرنا » في قوله تعالى :

( وفجرنا خلالهما نهراً ) (٣) توحي زيادة على الوقع الهائل في تصور التفجير وما يصاحبه من صخب وتموج ـ بعدم المعاناة في السقي ، والإجهاد في الإرواء ، فالمياه متسلطة ، والأنهار جارية ، دون مشقة أو عناء ، فلا كراء مرير ، ولا توجيه لمجاري المياه ولا انتظار لهطول الأمطار ، فالتفجير حاصل متيقن ، وحاصله المياه الغزيرة.

سادساً : وفي تكرار الكلمة نفسها ، واللفظ في صيغ معينة له دلالته على المعاني الموحية ففي الآيات ( ١٣ ، ١٤ ، ١٦ ، ٢٠ ) من سورة ياسين ، تكرار لكلمة « المرسلين » ففي الآية الأولى أخبار عن مجيئهم ، وفي الثانية تأكيد لإرسالهم بـ« انا » وفي الثالثة تأكيد مضاعف « بانا » واللام ، وفي الرابعة تحلية بالألف واللام الهدية.. وفي هذا التوسع بذكر المرسلين وتفاوت التأكد تدريجياً بين الشدة والضعف ، تثبت بالاستدلال على صحة إرسالهم ، فالأولى ضمن جملة خبرية ، والثانية مؤكدة من قبلهم برسول ثالث ، والثالثة تؤكد بإصرار وحزم بعد تكذيبهم من قبل أممهم ، وفي الرابعة يرسل الرجل المؤمن رسالتهم إرسال المسلمات ، فيتحلى اللفظ بالألف واللام للعهد القديم المؤكد ، وكل هذا يوحي بصدق دعواهم ،

__________________

(١) ظ : فيما تقدم : القيمة اللفظية من هذا الفصل.

(٢) الزركشي ، البرهان : ٣/٣٧٨.

(٣) الكهف : ٣٣.

٥٧

وصحة رسالتهم. ومن خلال هذه الصيغ المتدرجة عرفنا أن في هذا التأكيد بهذه الصيغ في « أن » مؤكدة لضمير المتكلم المعظم نفسه ، أو جماعة المتكلمين ، واللام المؤكدة على الخبر بالإرسال ، جمالاً في المعنى الإيحائي لا يتأتى بإهمال هذه الحروف عند هذه الصيغ ، لأن أهل الطباع يجدون من زيادة الحرف معنى لا يجدونه بإسقاطه » (١).

فإذا أضفنا إلى ذلك أن اجتماعهما قد كان : بمنزلة تكرير الجملة ثلاث مرات ، لأن إفادة التكرير مرتين ، فإذا دخلت اللام صارت ثلاثاً.

وعن الكسائي : أن اللام لتوكيد الخبر ، وأن لتوكيد الاسم.. وأن التوكيد للنسبة (٢) أي النسبة القائمة بين الاسم والخبر.. علمنا مدى انطباق الدلالة الإيحائية على هذا التأكيد من جهة ، وعلى تكرار كلمة « المرسلين » من جهة أخرى.

سابعاً : والحق أن بهذا المثل زيادة على ما تقدم عدة كلمات ذات إيحائية خاصة نشير إلى بعضها بما يلي :

أ ـ الكلمة « تطيرنا » في قوله تعالى :

( قالوا إنا تطيرنا بكم ... ) (٣) لها إيحاء نفسي مرير يخالج القوم بالتطير ، وما يضفيه مناخ التشاؤم من تثاقل وغم ، وما يعنيه من إيمانهم بالخرافات والاساطير التي تحاك حول ذلك ، ليصور مدى ضيق القوم بهؤلاء المرسلين حتى أصبح وجودهم بين ظهرانيهم مثاراً للمخاوف والهواجس.

ب ـ والكلمة « صيحة » في قوله تعالى :

( إن كانت إلا صيحة واحدة ... ) (٤) فإنها توحي بهول الصدمة ، وعظم الهدة ، وتعني إخماد الأنفاس ، وشل الحركة ، وانهيار الحياة ، وقيام الساعة.

__________________

(١) السيوطي ، الاتقان : ٣/١٩٦.

(٢) المصدر نفسه : ٣/١٩٥.

(٣) يس : ١٨.

(٤) يس : ٢٩.

٥٨

جـ ـ والكلمة « ادخل » في قوله تعالى :

( قيل ادخل الجنة ... ) (١) فإنها تحمل نداء الرب إلى العبد ، وحديث القلب للقلب ، فالدخول متحقق من أوسع أبوابه ، وفيها إيحاء خاص بأن المؤمن المستقيم سوف يتمتع بثمرة أتعابه ، وينعم ببركة إيمانه ، فما بعد هذا الدخول من خروج.

ثامناً : وقد عد السيد المرتضى ( ت ٤٣٦ هـ ) كلمتي « خاشعاً » و « متصدعاً » في قوله تعالى :

( لو أنزلنا هذا القرءان على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله ) (٢) من صيغ الإيحاء في الدلالة على المبالغة التي تدعو إلى تعظيم القرآن في مقام الأخبار عن جلالة خطره ، وعظم قدره فقال : « إننا لو أنزلنا القرآن على جبل ، وكان الجبل مما يتصدع إشفاقاً من شيء أو خشية لامر ، لتصدع مع صلابته وقوته ، فكيف بكم يا معاشر المكلفين مع ضعفكم وقلتكم وأنتم أولى بالخشية والإشفاق » (٣).

وهذا يعني أن وراء اللفظ معنى آخر يوحيه بدلالته : وهو صيغة الانفعال عند الإنسان ، فليس المقصود خشية الجيل وتصدعه ، بل المقصود خشية الإنسان وخشوعه ، إذ ليس من شأن الجيل أن يخشع والخشوع والخشية ، كلاهما من أفعال القلوب التي لا تصدر عن جماد ، إلا أن يكون ذلك من صنع البيان إذ يبث الحياة في الصخر الأصم (٤).

تاسعاً : والجانب الإشاري في الألفاظ يوحي بالتعبير عن الصورة الفنية للشكل ، بما يستنبط من اللفظ من معنى جديد ، من خلال تركيب النص ، يوحي ذلك المعنى بأكثر من إرادة ظاهر اللفظ ، ويتمثل هذا الجانب ببعض النماذج التالية :

__________________

(١) يس : ٢٦.

(٢) الحشر : ٢١.

(٣) المرتضى : ١/٤٢٨ وما بعدها.

(٤) بنت الشاطي ، الإعجاز البياني للقرآن : ٢٠٩.

٥٩

أ ـ الكلمتان « يذهب » و « يمكث » في قوله تعالى :

( فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ... ) (١) لا يراد بهما مجرد الذهاب أو الاستقرار والإقامة فحسب ، وهو المتناول اللغوي من ظاهر الكلمتين بل فيهما إشارة بالكناية توحي : بأن الأشرار قد يظهرون على الأبرار ، وأن الأخيار قد يلفهم التيار ، ولكن هذا لا يعني تلاشي الحق وضياع الواقع ، إذ لا بد للحقيقة أن تتزين بأبهى حللها ولو بعد حين ، وإذا بالمعدن الأصيل ثابت شامخ ، وإذا بالأوضار منفية ذائبة ، وإذا بالأول « يمكث » في الأرض رسوخاً ، وإذا بالثاني « يذهب » غائراً في خضم الأحداث.

ب ـ الكلمة « أشداء » في قوله تعالى :

( أشداء على الكفار ... ) (٢) تحمل إلى الذهن كل معاني الغلظة والثبات والمجاهدة وتوحي بأبعاد الصبر واليقظة والحذر ، لا الشدة في مقابل الضعف فحسب ، بل تذهب إلى أكثر من هذا فتشير إيحائياً ـ لتحرك النفوس وتهز الضمائر ـ إلى التفاني في ذات الله ، وإلى التشدد بأحكام الله ، وإلى التنفيذ لأوامر الله ، فلا لومة لائم ، ولا غضب عاتب.

جـ ـ والكلمة « القانتين » في قوله تعالى :

( وكانت من القانتين ) (٣) استفاد منها الزركشي ( ت ٧٩٤ هـ ) دلالة إيحائية برفع مستوى مريم فيها إلى مصاف الرجال ممن وصفوا بالجد والصبر والمثابرة على أسمى مراتب العبادة « أذاناً بأن وضعها في العباد جداً واجتهاداً ، وعلماً وتبصراً ، ورفعة من الله لدرجتها في أوصاف الرجال القانتين وطريقهم » (٤).

والمستفاد هنا لا وصفها بالعبادة فحسب ، بل رفع درجتها إلى مصاف الرجال الموصوفين بذلك إشارة لتمخضها في العبادة.

__________________

(١) الرعد : ١٧.

(٢) الفتح : ٢٩.

(٣) التحريم : ١٢.

(٤) الزركشي ، البرهان : ٣/٣٠٢.

٦٠