موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ مرتضى البروجردي

[٢٢٤٩] مسألة ١٨ : إذا علم التابع بمفارقة المتبوع قبل بلوغ المسافة (١) ولو ملفّقة بقي على التمام ، بل لو ظنّ ذلك فكذلك ، نعم لو شكّ في ذلك فالظاهر القصر (*) خصوصاً لو ظنّ العدم ، لكن الأحوط في صورة الظنّ بالمفارقة والشكّ فيها الجمع.

______________________________________________________

قاصداً للمسافة وهو لا يدري ، وإلّا فقد عرفت أنّه غير مكلّف حينئذ إلّا بالتمام حتّى واقعاً ، هذا.

مضافاً إلى ما عرفت في الجهة الثانية من عدم وقوع التابع الجاهل في خلاف الواقع على أيّ تقدير ، إمّا لإعادته في الوقت ، أو للإجزاء وعدم القضاء. فلا موضوع لوجوب الإخبار بوجه.

(١) فلا إشكال حينئذ في البقاء على التمام ، لفقد القصد المعتبر في القصر وعدم تحقّقه رأساً لا استقلالاً ولا تبعاً كما هو واضح.

وأمّا الظنّ فقد ألحقه بالعلم في المتن ، وفرّق بينه وبين الشكّ الذي استظهر فيه القصر.

ولكن التفرقة كما ترى في غير محلّها ، إذ بعد البناء على عدم حجّية الظنّ وأنّه لا يغني عن الحقّ فلا جرم يكون محكوماً بحكم الشكّ ، فإلحاقه به أحرى من إلحاقه بالعلم بمقتضى الصناعة كما لا يخفى.

وأمّا الشكّ في المفارقة فقد استظهر فيه القصر كما عرفت ، ولعلّه لأجل ما يقتضيه طبع التبعية ، إذ هي كالمقتضي لقصد المسافة ، فلا يعتنى باحتمال المفارقة الذي هو بمثابة الشكّ في عروض المانع بعد إحراز المقتضي.

__________________

(*) بل الظاهر التمام ما لم يطمئن بطيّ المسافة.

٦١

[٢٢٥٠] مسألة ١٩ : إذا كان التابع عازماً على المفارقة مهما أمكنه أو معلّقاً لها على حصول أمر كالعتق أو الطّلاق ونحوهما (١) فمع العلم بعدم الإمكان وعدم حصول المعلّق عليه يقصّر ، وأمّا مع ظنّه فالأحوط الجمع وإن كان الظاهر التمام ، بل وكذا مع الاحتمال إلّا إذا كان بعيداً غايته بحيث لا ينافي صدق قصد المسافة ، ومع ذلك أيضاً لا يترك الاحتياط (*).

______________________________________________________

ولكن الظاهر تعيّن التمام ، لما تقدّم من أنّ المدار في القصر على حصول القصد الفعلي ولو تبعاً ، ومن المعلوم أنّ احتمال المفارقة فضلاً عن الظنّ بها منافٍ لفعلية القصد ، فهو بالأخرة مردّد في قصد المسافة فعلاً ، وإنّما يقصدها معلّقاً على عدم المفارقة ، وإذ لا قصد فلا قصر ، لكونه مشروطاً بالتعقّب بالمسافة خارجاً على سبيل الشرط المتأخّر ، والمفروض الشكّ في حصول الشرط.

نعم ، لو كان الاحتمال المزبور موهوماً بحيث لا ينافي الاطمئنان بطي المسافة وقطعها وجب القصر حينئذ ، لكون الاطمئنان حجّة عقلائية وعلماً عاديا.

بل قلّما يتّفق العلم الوجداني ، ولا يكاد ينفك القصد عن مثل هذا الاحتمال غالباً ، لجواز حصول ما يمنعه من السير من العوارض الاتفاقية من برد أو لصّ أو عدوّ ونحو ذلك ، كما هو الحال في قصد الإقامة ، إذ من الجائز عروض ما يمنعه من البقاء من مرض أو تسفير أو وصول برقية تدعوه للرجوع ونحو ذلك من الاحتمالات ، فانّ بابها واسع لا يسدّه شي‌ء.

(١) لا ريب حينئذ في وجوب التقصير مع العلم بعدم الإمكان أو بعدم المعلّق عليه من العتق والطلاق ونحوهما كما أفاده (قدس سره) لحصول القصد الفعلي

__________________

(*) لا بأس بتركه.

٦٢

[٢٢٥١] مسألة ٢٠ : إذا اعتقد التابع أنّ متبوعه لم يقصد المسافة أو شكّ في ذلك ، وفي الأثناء علم أنّه قاصد لها فالظاهر وجوب القصر عليه (*) (١) وإن لم يكن الباقي مسافة ، لأنّه إذا قصد ما قصده متبوعه فقد قصد المسافة

______________________________________________________

التنجيزي ، غايته العزم على المفارقة قبل بلوغ المسافة معلّقاً على تقدير يقطع بعدم وقوعه ، غير المنافي لفعلية القصد المزبور الذي هو تمام الموضوع لوجوب القصر كما هو واضح.

وأمّا مع الشكّ في الإمكان أو في حصول المعلّق عليه فضلاً عن الظنّ بهما فالظاهر حينئذ هو التمام كما ذكره في المتن ، لانتفاء فعلية القصد مع فرض التردّد المزبور ، لوضوح التنافي بينهما ، إذ كيف يتمشّى منه قصد المسافة مع تجويزه المفارقة أو حصول المعلّق عليه ، فلا قصد إلّا على سبيل التعليق ، وقد عرفت ظهور الأدلّة في لزوم الفعلية وتنجيز القصد.

نعم ، يتعيّن التقصير فيما إذا كان الاحتمال المذكور بعيداً غايته ، بحيث لا ينافي صدق قصد المسافة ، لعدم العبرة بالاحتمالات البعيدة غير الملتفت إليها عند العقلاء ، التي لا يسلم قصد عن تطرقها لا في المقام ولا في قصد الإقامة إلّا ما شذّ ، لقلّة موارد العلم الوجداني بالبقاء على القصد السابق والنيّة الاولى جدّاً فانّ باب احتمال طروء العوارض غير المترقّبة المانعة عن البقاء على العزم السابق واسع لا يسدّه شي‌ء كما تقدّم ، حتّى في مثل الصلاة ، لجواز عروض ما يوجب قطعها.

(١) بل الظاهر وجوب التمام ما لم يكن الباقي مسافة ، وقياسه بما لو قصد

__________________

(*) بل الظاهر وجوب التمام إلّا إذا كان الباقي مسافة ولو بالتلفيق.

٦٣

واقعاً ، فهو كما لو قصد بلداً معيّناً واعتقد عدم بلوغه مسافة فبان في الأثناء أنّه مسافة ، ومع ذلك فالأحوط الجمع.

[٢٢٥٢] مسألة ٢١ : لا إشكال في وجوب القصر إذا كان مكرهاً على السفر أو مجبوراً عليه ، وأمّا إذا أُركب على الدابّة أو أُلقي في السفينة من دون اختياره بأن لم يكن له حركة سيرية ، ففي وجوب القصر ولو مع العلم بالإيصال إلى المسافة إشكال ، وإن كان لا يخلو عن قوّة (١).

______________________________________________________

بلداً معيّناً كالحلّة معتقداً عدم بلوغه مسافة غير واضح كما مرّ التعرّض له ولكلام الشهيد في المسألة السابعة عشرة (١) لتعلّق القصد بواقع الثمانية فراسخ في المقيس عليه قصداً منجّزاً من غير تعليق على شي‌ء ، وإن كان هو جاهلاً به.

وأمّا في المقام فقصد المسافة معلّق على قصد المتبوع ومنوط به ودائر مداره وليس قصداً فعلياً على سبيل الإطلاق كما في المثال ، فهو من قبيل تردّد المقصد بين مسافات مختلفة ، نظير تردّد مكان الضالّة بين أمكنة عديدة مردّدة بين القريبة والبعيدة ، الذي عرفت أنّ مثله مانع من وجوب التقصير. فكما أنّ طالب الضالّة قاصد للمسافة على تقدير الحاجة ، فكذا التابع قاصد لها على تقدير قصد المتبوع كما هو ظاهر.

(١) السفر كسائر الأفعال الاختيارية يتصوّر على وجوه أربعة :

الأوّل : أن يصدر عن المسافر باختيار وإرادة وطوع منه ورغبة ، بلا إكراه من أحد ولا اضطرار.

__________________

(١) في ص ٥٥ ٥٦.

٦٤

.................................................................................................

______________________________________________________

الثاني : أن يكون مكرهاً عليه ، فيسير باختياره وإرادته ولكن من غير طيب النفس ، بل بإكراه من الغير وتوعيد منه على العقوبة ، ولولاه لما سافر ، نظير المعاملة المكره عليها.

الثالث : أن يكون مضطراً إليه ، لضرورة تدعوه إليه من معالجة مريض أو مضايقة دين ونحو ذلك ، وهو المراد من المجبور في عبارة المتن ، فهو يسافر عن قصد واختيار غير أنّه لا يرضى به إلّا بالعنوان الثانوي ، لما يترتّب عليه من رفع الضرورة الملحّة ، نظير البيع الاضطراري المحكوم بالصحّة من أجل أنّ البطلان على خلاف الامتنان ، بخلاف البيع المكره عليه كما هو محرّر في محلّه (١).

وكيف ما كان ، فلا ينبغي الإشكال في وجوب التقصير في هذه الصور الثلاث بمقتضى إطلاق الأدلّة ، إذ لا يلزم إلّا السير إلى المسافة مع قصدها ، المتحقّق في جميع هذه الفروض ، ولم يقيّد شي‌ء من الأدلّة بالاختيار المقابل للإكراه أو الاضطرار كما هو ظاهر.

إنّما الكلام في الصورة الرابعة : وهي ما إذا لم يكن السير باختياره أبداً ، كما لو أُخذ وشدّت يداه ورجلاه مثلاً وأُلقي في السفينة ونحوها ، فهل يحكم عليه أيضاً بالقصر ، أو أنّه محكوم بالتمام لانتفاء الإرادة وسلب الاختيار؟

الظاهر هو الأوّل ، لإطلاق الأدلّة الشامل لصورتي الاختيار وعدمه ، بعد التلبس بمجرّد القصد وإن لم يستند إلى الاختيار ، مثل قوله تعالى (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ) (٢) بضميمة ما ثبت من الخارج من الملازمة بين الإفطار والتقصير ، ونحوه النصوص (٣) الدالّة على لزوم التقصير

__________________

(١) مصباح الفقاهة ٣ : ٢٩٣ ، ٢٨٧.

(٢) البقرة ٢ : ١٨٤.

(٣) المتقدِّمة في ص ٤ ٥.

٦٥

.................................................................................................

______________________________________________________

في بريدين أو بريد ذاهباً وبريد راجعاً ، أو مسيرة يوم أو بياض النهار ، فإنّها مطلقة من حيث الاختيار وعدمه.

بل لو كنّا نحن وهذه المطلقات لحكمنا بكفاية قطع المسافة كيف ما اتّفق ولو لا عن قصد ، إلّا أنّه قد ثبت من الخارج تقييده بالقصد ، فبهذا المقدار نرفع اليد عن الإطلاق. وأمّا الزائد عليه أعني تقييد القصد بصدوره عن الاختيار فمدفوع بأصالة الإطلاق بعد خلوّ دليل التقييد عن اعتناق هذه الخصوصية. ولمزيد التوضيح ينبغي التعرّض لأدلّة التقييد بالقصد لتستبين صحّة ما ادّعيناه من عدم التقييد بالاختيار.

فمنها : الإجماع المدّعى على اعتبار قصد المسافة في وجوب التقصير.

وهو لو تمّ وكان إجماعاً تعبّدياً كاشفاً عن رأي المعصوم (عليه السلام) لم يقتض إلّا اعتبار طبيعي القصد الجامع بين الاختيار وغيره ، المساوق لمجرّد العلم ، نظير اعتبارهم القصد في إقامة العشرة الذي لإيراد به هناك إلّا هذا المعنى جزماً ، ومن ثمّ حكموا بالتمام في من اجبر على المكث في مكان عشرة أيام كما في المحبوس وإن كان فاقداً للاختيار.

وكيف يحتمل تقييدهم القصد فيما نحن فيه بالاختيار مع ذهاب المشهور إلى وجوب التقصير على المكره على السفر ، بل في المستند دعوى الإجماع عليه (١) ويقتضيه إطلاق كلامهم في الأسير كما لا يخفى. وهذا كلّه يكشف عن أنّ مرادهم بالقصد أعمّ من مجرّد العلم كما عرفت ، لا خصوص الحصّة الاختيارية.

ومنها : موثّقة عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال فيها : «لا يكون مسافراً حتّى يسير من منزله أو قريته ثمانية فراسخ ، فليتم الصلاة» (٢).

__________________

(١) المستند ٨ : ٢٢٢.

(٢) الوسائل ٨ : ٤٦٩ / أبواب صلاة المسافر ب ٤ ح ٣.

٦٦

.................................................................................................

______________________________________________________

دلّت على لزوم قصد المسافة من المنزل ، فلا قصر بدون هذا القصد وإن بلغ به السير هذا الحدّ شيئاً فشيئاً كما هو المفروض في السؤال. فبهذا المقدار تقيّد المطلقات ، ولا دلالة لها بوجه على لزوم صدور القصد المزبور عن الإرادة والاختيار ، بل هي مطلقة يكتفى [به] حتّى لو صدر لا عن اختيار.

ودعوى انسباق الاختيار من الأفعال ظهوراً أو انصرافاً غير مسموعة كما حقّق في محلّه (١) ، هذا.

وربّما يستدلّ على المدّعى من كفاية العلم في تحقّق القصد وعدم الحاجة إلى الاختيار بما رواه الشيخ الكليني بإسناده عن إسحاق بن عمار ، قال : «سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن قوم خرجوا في سفر فلمّا انتهوا إلى الموضع الذي يجب عليهم فيه التقصير قصّروا من الصلاة ، فلمّا صاروا على فرسخين أو على ثلاثة فراسخ أو على أربعة تخلّف عنهم رجل لا يستقيم لهم سفرهم إلّا به فأقاموا ينتظرون مجيئه إليهم وهم لا يستقيم لهم السفر إلّا بمجيئه إليهم ، فأقاموا على ذلك أياماً لا يدرون هل يمضون في سفرهم أو ينصرفون ، هل ينبغي لهم أن يتمّوا الصلاة أو يقيموا على تقصيرهم؟ قال : إن كانوا بلغوا مسيرة أربعة فراسخ فليقيموا على تقصيرهم ، أقاموا أم انصرفوا ، وإن كانوا ساروا أقل من أربعة فراسخ فليتمّوا الصلاة ، قاموا أو انصرفوا ، فاذا مضوا فليقصّروا» (٢).

ورواه الشيخ الصدوق في العلل بسنده عن محمد بن علي الكوفي عن محمد ابن أسلم (مسلم) نحوه ، وزاد «قال : ثمّ قال (عليه السلام) : هل تدري كيف صار هكذا؟ قلت : لا ، قال : لأنّ التقصير في بريدين إلى أن قال : قلت : أليس قد بلغوا الموضع الذي لا يسمعون فيه أذان مصرهم الذي خرجوا منه؟

__________________

(١) محاضرات في أُصول الفقه ٢ : ١٤٦ المسألة الثانية من المقام الأوّل من مبحث التوصلي والتعبدي.

(٢) الوسائل ٨ : ٤٦٦ / أبواب صلاة المسافر ب ٣ ح ١٠ ، الكافي ٣ : ٤٣٣ / ٥.

٦٧

.................................................................................................

______________________________________________________

قال : بلى ، إنّما قصّروا في ذلك الموضع لأنّهم لم يشكّوا في مسيرهم وأنّ السير يجدّ بهم ، فلمّا جاءت العلّة في مقامهم دون البريد صاروا هكذا» (١) ، ومثله رواه البرقي في المحاسن عن محمد بن أسلم (مسلم) (٢).

حيث يظهر من قوله (عليه السلام) : «لأنّهم لم يشكّوا في مسيرهم» أنّ العبرة في وجوب التقصير بعدم الشكّ في السفر. فكلّ من يعلم به ولم يشكّ في سيره قصّر وإلّا فلا ، سواء أكان بالاختيار أم بدونه.

أقول : أمّا السند فهو على طريق الكليني بظاهره خال عن الخدش ، لعدم اشتماله على من يغمز فيه عدا محمد بن أسلم ، الذي هو الطبري الجبلي ، وهو من رجال كامل الزيارات (٣). لكن الاستشهاد لم يكن بمتنه (٤).

نعم ، هو ضعيف على طريق الصدوق المشتمل على محمد بن علي الكوفي حيث إنّ الظاهر أنّ المراد به في المقام هو أبو سمينة المشتهر بالكذب ، سيما مع التصريح به في طريق البرقي ، ولا أقل من احتمال ذلك ، فتسقط الرواية بذلك عن درجة الاعتبار.

ومنه تعرف إمكان تطرّق الخدش في طريق الكليني أيضاً ، لعدم احتمال تعدّد الرواية كما لا يخفى ، فيدور الأمر بين حذف الرجل في هذا الطريق وبين زيادته في طريق الصدوق ، ومعه لا يبقى وثوق بصحّة السند.

وأمّا ما في بعض نسخ العلل والمحاسن من ذكرِ (محمد بن مسلم) بدلاً عن (محمد بن أسلم) فليس المراد به الثقفي المعروف قطعاً ، فإنّه يروي عن الباقرين

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٤٦٦ / أبواب صلاة المسافر ب ٣ ح ١١ ، علل الشرائع : ٣٦٧ / ١.

(٢) المحاسن ٢ : ٢٧ / ١١٠٠.

(٣) معجم رجال الحديث ١٦ : ٨٦ / ١٠٢٥٧ [لكنّه لم يوثقه في المعجم فلاحظ].

(٤) [بل بالمتن الذي نقله الصدوق].

٦٨

.................................................................................................

______________________________________________________

(عليهما السلام) بلا واسطة ، لا عن أبي الحسن (عليه السلام) مع الواسطة كما في المقام.

عل أنّه من غلط النساخ جزماً ، إذ لم تعهد رواية محمد بن علي الكوفي عن محمد بن مسلم ، وقد روى عن محمد بن أسلم في مواضع كثيرة كما يظهر بمراجعة المعجم (١). وكيف ما كان ، فقد عرفت أنّ الرواية غير نقيّة السند.

وأمّا الدلالة : فالظاهر أنّها أيضاً قاصرة ، نظراً إلى أنّ تلك الجملة المستشهد بها قد وردت في مقام رفع استبعاد السائل عن أنّهم كيف يتمّون وقد قصّروا قبل ذلك؟ فأجاب (عليه السلام) بأنّهم إنّما قصروا آن ذاك حسب وظيفتهم الفعلية حيث لم يشكّوا في المسير ، وكانوا يعتقدون السفر ، فلمّا انكشف الخلاف أتمّوا.

فهي مسوقة لذبّ الاستبعاد المزبور عنهم ، وليست في مقام بيان أنّه لا يلزم في السفر شي‌ء آخر ، وأنّ الموضوع هو العلم فقط ، ولعلّ القصد بمعنى الاختيار أيضاً معتبر ، وليس المقام مقام ذكره. فالعمدة ما ذكرناه.

والمتحصّل من جميع ما قدّمناه : أنّ الأدلّة الأوّلية تقتضي وجوب التقصير لمن سافر ثمانية فراسخ ، سواء أقصد أم لا ، وسواء أكان باختياره أم لا ، ولكن الأدلّة الخارجية دلّتنا على اعتبار القصد في وجوب التقصير ، وبذلك ترفع اليد عن المطلقات بهذا المقدار ، ويكون الموضوع هو القصد وثمانية فراسخ ، ولم نجد في تلك المقيّدات التي اعتبرت القصد ما يدلّ على اختصاص ذلك بالاختياري بل هي مطلقة سواء أحصل عن إرادة واختيار أم لا ، ولازم ذلك أنّ من سافر بلا اختيار كما في محلّ الكلام يجب عليه التقصير ، لدخوله تحت المطلق حسبما عرفت.

__________________

(١) معجم رجال الحديث ١٦ : ٣٥٢.

٦٩

الثالث : استمرار قصد المسافة ، فلو عدل عنه قبل بلوغ الأربعة أو تردّد أتمّ (١) ، وكذا إذا كان بعد بلوغ الأربعة لكن كان عازماً على عدم العود ، أو كان متردّداً في أصل العود وعدمه ، أو كان عازماً على العود لكن بعد نيّة الإقامة هناك عشرة أيام ، وأمّا إذا كان عازماً على العود من غير نيّة الإقامة عشرة أيام فيبقى على القصر وإن لم يرجع ليومه ، بل وإن بقي متردّداً إلى ثلاثين يوماً ، نعم بعد الثلاثين متردّداً يتم.

______________________________________________________

(١) بلا خلاف ، بل إجماعاً كما ادّعاه غير واحد ، فيعتبر القصد المزبور حدوثاً وبقاءً ، فلو عدل عنه في الأثناء قبل بلوغ الأربعة رجع إلى التمام ، وكذا بعده إلّا إذا كان عازماً على العود بحيث تتشكّل منه المسافة التلفيقية بدلاً عن الامتدادية.

ويدلّ على الحكم نفس الأدلّة الأوّلية المتكفّلة لإناطة التقصير بثمانية فراسخ إذ مقتضى هذا التحديد أنّه لو قلّت المسافة عن الثمانية بأن عزمها ثمّ بدا له في الأثناء انتفى عنه حكم التقصير ورجع إلى التمام ، لانتفاء ما كان الاعتبار به في ثبوته أعني ثمانية فراسخ ولو ملفّقة.

نعم ، إنّ نفس هذه الروايات دلّتنا على وجوب التقصير بمجرّد التجاوز عن حدّ الترخّص من دون انتظار بلوغ الثمانية ، ولأجله ربّما يتراءى نوع تدافع بين الحكمين كما لا يخفى. إذن لا بدّ من الالتزام بالشرط المتأخِّر ، وأنّ الحكم بالتقصير لدى بلوغ حدّ الترخّص مشروط ببلوغ السير إلى نهاية الثمانية مستمرّاً ، فعدوله في الأثناء يكشف عن عدم ثبوت الحكم ، لانتفاء الموضوع واقعاً وإن كان به جاهلاً.

وهل يعيد حينئذ ما صلاه قصراً أو أنّه يجزي كما لعلّه المشهور؟ فيه كلام

٧٠

.................................................................................................

______________________________________________________

وسنبحث عنه إن شاء الله تعالى عند تعرّض الماتن له في مسألة مستقلّة قريباً (١).

وكيف ما كان ، فقد عرفت أنّ نفس الأدلّة الأوّلية وافية لإثبات هذا الاشتراط ، فالحكم مطابق للقاعدة من غير حاجة إلى التماس نصّ خاص.

مضافاً إلى استفادته من صحيحة أبي ولاد ، قال «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) : إنّي كنت خرجت من الكوفة في سفينة إلى قصر ابن هبيرة وهو من الكوفة على نحو من عشرين فرسخاً في الماء ، فسرت يومي ذلك أُقصّر الصلاة ثمّ بدا لي في اللّيل الرجوع إلى الكوفة ، فلم أدر أُصلّي في رجوعي بتقصير أو بتمام ، وكيف كان ينبغي أن أصنع؟ فقال : إن كنت سرت في يومك الذي خرجت فيه بريداً فكان عليك حين رجعت أن تصلّي بالتقصير ، لأنّك كنت مسافراً إلى أن تصير إلى منزلك ، قال : وإن كنت لم تسر في يومك الذي خرجت فيه بريداً فانّ عليك أن تقضي كلّ صلاة صلّيتها في يومك ذلك بالتقصير بتمام من قبل أن تؤم (٢) من مكانك ذلك ، لأنّك لم تبلغ الموضع الذي يجوز فيه التقصير حتّى رجعت ، فوجب عليك قضاء ما قصّرت ، وعليك إذا رجعت أن تتمّ الصلاة حتّى تصير إلى منزلك» (٣).

وقد تضمّنت الصحيحة أحكاماً ثلاثة :

الأوّل : أن من عدل عن سفره قبل بلوغ الأربعة يتمّ صلاته.

الثاني : أنّه يعيد ما صلاه قصراً تماماً ، لعدم تحقّق السفر منه.

الثالث : أنّه إذا أراد الرجوع بعد بلوغ الأربعة قصّر ، وهذا الأخير أجنبي عن محلّ الكلام ، والأمران الأوّلان يعطيان اعتبار الاستمرار في القصد ، وأنّ

__________________

(١) في ص ٨٣ وما بعدها.

(٢) [في التهذيب ٣ : ٢٩٨ / ٩٠٩ : من قبل أن تريم].

(٣) الوسائل ٨ : ٤٦٩ / أبواب صلاة المسافر ب ٥ ح ١.

٧١

.................................................................................................

______________________________________________________

القصد البدائي لا يكفي في ثبوت التقصير.

ولكن صحيحة زرارة تعارض هذه الصحيحة في الحكم الثاني ، حيث قال : «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يخرج مع القوم في السفر يريده فدخل عليه الوقت وقد خرج من القرية على فرسخين فصلّوا ، وانصرف بعضهم في حاجة ، فلم يقض له الخروج ، ما يصنع بالصلاة التي كان صلاها ركعتين؟ قال : تمّت صلاته ولا يعيد» (١).

فدلّت على عدم إعادة ما صلاه قصراً على خلاف هذه الصحيحة ، ولا بدّ من التساقط في هذه الفقرة أو التقديم.

وكيف ما كان ، فهذا حكم آخر خارج عن نطاق هذا البحث ، وهذه غير متعرّضة لما دلّت عليه صحيحة أبي ولاد في حكمها الأوّل ، أعني الحكم بالتمام في من عدل قبل بلوغ المسافة ، فهي في هذا الحكم الذي هو محلّ الكلام سليمة عن المعارض ، وهي صريحة الدلالة على اعتبار الاستمرار في القصد كما عرفت.

ويعضدها رواية إسحاق بن عمار ، ورواية المروزي (٢) المتقدّمتان (٣) فلاحظ.

ولكنّهما ضعيفتا السند كما تقدّم ، فلا تصلحان إلّا للتأييد ، وإن كانت الثانية معتبرة على مسلكنا ، لوقوع المروزي في أسناد كامل الزيارات ، والعمدة هي هذه الصحيحة. إذن يعتبر استمرار القصد ، فلا يكفي لو عدل ، بل وكذا لو تردّد للشكّ في تحقّق الشرط.

بقي شي‌ء وهو أنّه لو قصد المسافة وفي الأثناء عدل أو تردّد ، ومع ذلك سار شيئاً فشيئاً متردِّداً إلى أن بلغ المسافة فكانت قطعة من سيرة فاقدة للعزم

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٥٢١ / أبواب صلاة المسافر ب ٢٣ ح ١.

(٢) الوسائل ٨ : ٤٦٦ / أبواب صلاة المسافر ب ٣ ح ١٠ ، ٤٥٧ / ب ٢ ح ٤.

(٣) [تقدّمت رواية عمار في ص ٦٧ دون رواية المروزي ، نعم ستأتي في ص ٨٥].

٧٢

.................................................................................................

______________________________________________________

والجزم ، فهل يقصّر حينئذ نظراً إلى أنّه قصد المسافة وقد قطعها خارجاً فيشملها إطلاقات الأدلّة الدالّة على إناطة التقصير بقصد الثمانية وطيّها؟

الظاهر هو الحكم بالتمام ، لأجل قوله (عليه السلام) في موثقة عمار المتقدّمة : «... لا يكون مسافراً حتّى يسير من منزله أو قريته ثمانية فراسخ» (١).

فانّ التعبير بصيغة المضارع في قوله : «حتّى يسير» يعطينا لزوم التلبّس الفعلي بكون سيره من منزله أو قريته ثمانية فراسخ ، وهذا لا يكون إلّا مع استمرار القصد ، بأن يكون القصد المزبور محفوظاً من لدن خروجه من المنزل وحتّى النهاية ، وإلّا ففي حال الرجوع عن عزمه أو التردّد لا يصدق أنّه متلبّس فعلاً بالسير من منزله أو قريته إلى ثمانية فراسخ.

فتحقيقاً للتلبّس الفعلي المستفاد من التعبير بالمضارع لا بدّ من مراعاة القصد المزبور في جميع آنات السير ، بأن يكون متّصفاً بهذا العنوان أي عنوان أنّه يسير من منزله إلى ثمانية فراسخ في جميع الحالات وحتّى نهاية المسافة ، فكما يعتبر القصد من الأوّل يعتبر في الأثناء أيضاً ، فلو تردّد لم يصدق أنّه سار من منزله إلى ثمانية فراسخ ، بل يصدق أنّه سار من منزله إلى فرسخين مثلاً ثمّ سار الباقي متردّداً.

وبالجملة : مورد القصد أي العلم لا يقبل عروض الشكّ ، ومبدأ هذا العلم من منزله ، ومنتهاه نهاية الثمانية فراسخ ، فمتى تحقّق يقصّر ، وإلّا لم يكن مسافراً ، بل يندرج تحت عمومات وجوب التمام على كل مكلّف حسبما عرفت.

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٤٦٩ / أبواب صلاة المسافر ب ٤ ح ٣.

٧٣

[٢٢٥٣] مسألة ٢٢ : يكفي في استمرار القصد بقاء قصد النوع وإن عدل عن الشخص (١) ، كما لو قصد السفر إلى مكان مخصوص فعدل عنه إلى آخر يبلغ ما مضى وما بقي إليه مسافة ، فإنّه يقصّر حينئذ على الأصح ، كما أنّه يقصّر لو كان من أوّل سفره قاصداً للنوع دون الشخص ، فلو قصد أحد المكانين المشتركين في بعض الطريق ولم يعيّن من الأوّل أحدهما بل أوكل التعيين إلى ما بعد الوصول إلى آخر الحدّ المشترك كفى في وجوب القصر.

______________________________________________________

(١) فلو قصد مسافة معيّنة امتدادية وفي الأثناء عدل إلى مكان آخر يبلغ المجموع ممّا مضى وما بقي إليه المسافة ، فبدّل الامتداد بامتداد آخر ، أو بدا له في الرجوع وقد بلغ أربعة فراسخ ، فبدّل الامتداد بالتفليق ، أو كان قاصداً للنوع دون الشخص من أوّل سفره فقصد أحد المكانين المشتركين في بعض الطريق وأوكل التعيين إلى ما بعد الوصول إلى آخر الحد المشترك ، ففي جميع ذلك يحكم بالتقصير ، لعدم الدليل على اعتبار الاستمرار في شخص القصد ، بل المدار على بقاء قصد نوع المسافة وكلّيها.

ويدلّنا على ذلك الإطلاقات الأوّلية المتضمّنة لإناطة التقصير بقطع الثمانية المعبّر عنها بمسيرة يوم أو بياض النهار ونحو ذلك ممّا ذكر في لسان الروايات (١) خرجنا عن ذلك بمقتضى موثّقة عمّار الدالّة على عدم كفاية الثمانية على إطلاقها بل لا بدّ وأن تكون مقصودة من أوّل الأمر مع استمرار هذا القصد كما تقدّم (٢) فلا يكون مسافراً حتّى يسير من منزله أو قريته ثمانية فراسخ ، أي يكون قاصداً لذلك من ابتداء سيره إلى بلوغ الثمانية. فبهذا المقدار نرتكب التقييد في تلك الإطلاقات.

__________________

(١) المتقدِّمة في ص ٤ ٥.

(٢) في ص ٥١.

٧٤

.................................................................................................

______________________________________________________

وأمّا الزائد على ذلك أعني لزوم استمراره على شخص الثمانية التي عيّنها في ابتداء سفره فلا تدلّ الموثقة عليه بوجه ، بل ظاهرها اعتبار البقاء على مجرّد قصد الثمانية في مقابل من يقطعها بقصدين وعزمين المفروض في السؤال. فلو قصد النوع من الأوّل ، أو بدّل شخصاً بشخص آخر ، فلا ينبغي التأمّل في كونه مشمولاً لإطلاق الموثّقة ، إذ يصدق حينئذ أنّه سار من منزله ثمانية فراسخ كما لا يخفى.

ولو أغمضنا عن ذلك وسلمنا ظهورها في لزوم البقاء على شخص القصد الذي لازمه انتفاء القصر في الفروض المذكورة ، لكونها من قبيل ما قصد لم يقع وما وقع لم يقصد ، فلا مناص من رفع اليد عن هذا الظهور بصحيحة أبي ولاد الصريحة في التقصير لدى العدول من الامتداد إلى التلفيق ، حيث قال (عليه السلام) : «... إن كنت سرت في يومك الذي خرجت فيه بريداً فكان عليك حين رجعت أن تصلّي بالتقصير ، لأنّك كنت مسافراً إلى أن تصير في منزلك ...» إلخ (١).

فإنّها كما ترى صريحة في عدم لزوم الاستمرار في شخص القصد ، وكفاية البقاء على نوعه ، ولأجله حكم (عليه السلام) بالتقصير لدى التبدّل بالتلفيق مع أنّ قصده في ابتداء السفر كان متعلّقاً بخصوص المسافة الامتدادية.

ومن ثمّ اعترف الشيخ (قدس سره) (٢) بجواز العدول عن شخص القصد لكن في خصوص ما لو عدل عن الامتداد إلى التلفيق الذي هو مورد هذه الصحيحة ، ولم يلتزم بالقصر فيما لو عدل عن الامتداد إلى امتداد مثله ، جموداً على مورد النص.

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٤٦٩ / أبواب صلاة المسافر ب ٥ ح ١.

(٢) [لعلّه ناظر إلى ما ذكره في النهاية : ١٢٤ ، السطر الأخير].

٧٥

.................................................................................................

______________________________________________________

لكن الظاهر هو التعميم ، أمّا أوّلاً : فبالأولوية القطعية ، إذ الأصل في المسافة هي الامتدادية ، والتلفيق ملحق بها بدليل الحكومة ومنزّل منزلتها بمقتضى قوله (عليه السلام) : «إنّه ذهب بريداً ورجع بريداً ، فقد شغل يومه» المذكور في صحيح ابن مسلم كما تقدم (١) ، فاذا ثبت الحكم في التلفيق وهذا شأنه ففي الامتداد الذي هو الأساس بطريق أولى كما لا يخفى.

وثانياً : مع الغض عن ذلك فيكفينا في التعدِّي عن مورد الصحيحة ما اشتمل ذيلها من التعليل بقوله (عليه السلام) : «لأنّك كنت مسافراً إلى أن تصير في منزلك» فانّ مقتضى عموم العلّة انسحاب الحكم لكلّ مورد يصدق معه كونه مسافراً إلى أن يصير في منزله ، ولا ريب في صدق هذا العنوان لدى تبدّل الامتداد بامتداد آخر ، كصدقه عند تبدّله بالتلفيق بمناط واحد.

على أنّ الظاهر أنّه لا إشكال عندهم في أنّ من خرج قاصداً لكلّي المسافة ونوع الثمانية على أن يعيّنها فيما بعد أنّه يقصّر في الحدّ المشترك من الطريق. فيظهر من ذلك كلّه أنّ الاعتبار في الاستمرار بالبقاء على قصد النوع ، فلا يضرّه العدول عن شخص القصد ، فإنّه غير دخيل في موضوع الحكم.

نعم ، لا تشمل الصحيحة ما لو عدل عن الامتداد إلى امتداد آخر ، وكان ذلك قبل بلوغ أربعة فراسخ ، كما لو خرج بقصد الثمانية الشخصية وبعد مضي ثلاثة فراسخ عدل عن مقصده وعزم مكاناً آخر يبلغ خمسة فراسخ ، بحيث كان مجموع الباقي مع الماضي ثمانية امتدادية ، فإنّ هذا الفرض غير مشمول للصحيحة بوجه ، لاختصاصها بما إذا كان العدول بعد الخروج بريداً.

لكن التقصير ثابت هنا أيضاً ، لعدم القول بالفصل ، فإنّ القائل بجواز تبديل الامتداد بالامتداد لا يفرّق بين ما لو كان ذلك بعد مضي أربعة فراسخ أم قبله كما لا يخفى.

__________________

(١) في ص ٨.

٧٦

[٢٢٥٤] مسألة ٢٣ : لو تردّد في الأثناء ثمّ عاد إلى الجزم فامّا أن يكون قبل قطع شي‌ء من الطريق أو بعده ، ففي الصورة الأُولى يبقى على القصر (*) إذا كان ما بقي مسافة ولو ملفّقة ، وكذا إن لم يكن مسافة في وجه ، لكنّه مشكل فلا يترك الاحتياط (**) بالجمع ، وأمّا في الصورة الثانية فإن كان ما بقي مسافة ولو ملفّقة يقصّر أيضاً ، وإلّا فيبقى على التمام ، نعم لو كان ما قطعه حال الجزم أوّلاً مع ما بقي بعد العود إلى الجزم بعد إسقاط ما تخلّل بينهما ممّا قطعه حال التردّد مسافة ففي العود إلى التقصير وجه ، لكنّه مشكل فلا يترك الاحتياط بالجمع (***) (١).

______________________________________________________

وكيف ما كان ، فلا ينبغي التأمّل في عموم الحكم لجميع هذه الفروض ، وأنّ المدار في الاستمرار على النوع دون الشخص كما عرفت.

(١) لو تردّد في أثناء المسافة أو بدا له في الرجوع ثمّ عاد إلى الجزم السابق فحصل له البداء عن البداء الأوّل فهل يبقى حينئذ على القصر ، أو يجب التمام أو أنّ فيه تفصيلاً كما ذكره في المتن؟

وحاصله : أنّه لا إشكال في البقاء على القصر فيما إذا كان الباقي بنفسه مسافة ولو ملفّقة ، سواء قطع شيئاً من الطريق بين البداءين أم لا.

وأمّا إذا لم يكن بنفسه مسافة إلّا بضميمة ما مضى حال الجزم السابق فحينئذ إن لم يقطع شيئاً من الطريق حال تردّده أو حال ما بدا له في الرجوع

__________________

(*) هذا إذا شرع في السفر ، وكذا الحال فيما بعده.

(**) الأظهر كفاية التمام.

(***) الأظهر كفاية التمام.

٧٧

.................................................................................................

______________________________________________________

ففي البقاء على القصر أيضاً وجه ذكره صاحب الجواهر (١) ، ولكنّه مشكل ، فلا يترك الاحتياط بالجمع.

وأمّا إذا قطع شيئاً فيبقى على التمام إلّا إذا كان الباقي بعد العود إلى الجزم بضميمة ما قطعه حال الجزم الأوّل بعد إسقاط ما تخلّل بينهما ممّا قطعه حال التردّد ، أو حال ما بدا له في الرجوع مسافة ، فانّ في العود حينئذ إلى التقصير وجهاً ، ولكنّه مشكل ، فلا يترك الاحتياط بالجمع.

أقول : ينبغي التكلّم في ضمن مسائل :

الاولى : لا ينبغي التأمّل في لزوم التقصير فيما إذا كان الباقي بعد الجزم الثاني بنفسه مسافة ولو ملفّقة كما أفاده الماتن ، فإنّه إنشاء لسفر جديد بعد انقطاع حكم الأوّل بالترديد.

إلّا أنّه لا يتمّ على إطلاقه كما قد يقتضيه ظاهر عبارته من ثبوت القصر بمجرّد العود إلى الجزم ، بل لا بدّ في ذلك من التلبس بالسير ولو شيئاً ما ليتّصف بكونه مسافراً الذي هو الموضوع لوجوب التقصير في النصوص ، وإلّا فلم يثبت في شي‌ء من الأدلّة وجوب القصر بمجرّد العزم على السفر من قبل تلبّسه بالسير خارجاً.

نعم ، لا يشترط في ذلك الخروج عن حدّ الترخّص ، لعدم الدليل على اعتبار هذا الشرط في كلّ من وجب عليه التمام ، بل هو خاصّ بمن خرج عن وطنه ومنزله ، ولم يثبت فيما عدا ذلك حتّى من خرج عن محلّ قصد فيه الإقامة عشرة أيام ، فإنّه يقصّر بمجرّد الخروج عن المحلّ والتلبّس بشي‌ء من السير كما سيجي‌ء التعرّض له في محلّه عند تعرّض الماتن إن شاء الله تعالى (٢).

__________________

(١) الجواهر ١٤ : ٢٣٦.

(٢) في ص ٢١٠.

٧٨

.................................................................................................

______________________________________________________

وبالجملة : فإطلاق كلام الماتن في المقام لا يمكن المساعدة عليه.

الثانية : لا إشكال في وجوب التمام حال التردّد أو العزم على الرجوع ، لفقد القصد المعتبر في القصر كما هو ظاهر ، وأمّا بعد العود إلى الجزم والمفروض عدم كون الباقي بنفسه مسافة ولو ملفّقة ولم يقطع بعد شيئاً من الطريق ، فهل يجب القصر حينئذ كما اختاره في الجواهر ، أو أنّه يتعيّن التمام؟

ربما يقال باندراج المقام في كبرى الدوران بين الرجوع إلى عموم العام أو استصحاب حكم المخصّص ، فانّ المسافر من لدن خروجه من منزله إلى نهاية ثمانية فراسخ محكوم بوجوب القصر في كلّ مكان من الأمكنة المتخلّلة في هذه المسافة ، خرجنا عن ذلك في النقطة التي عرض الترديد أو العزم على الرجوع فإنّها محكومة بالتمام بلا إشكال ، وأمّا فيما بعد هذه الحالة أعني حالة العود إلى الجزم السابق فيشكّ في حكمه وأنّه هل هو التمام استناداً إلى استصحاب حكم الخاص ، أو أنّه القصر عملاً بعموم العام؟

وحيث إنّ الصحيح هو الثاني ، لكون العموم في المقام انحلالياً استغراقياً لا مجموعياً ليكون حكماً وحدانياً مستمرّاً ، فلا مناص من الحكم بالتقصير.

أقول : لا ينبغي التأمّل في أنّه بناءً على اعتبار الاستمرار في قصد المسافة ولزوم الانبعاث في قطع الثمانية عن قصد وحداني مستمرّ كما دلّت عليه موثّقة عمّار على ما تقدّم (١) ، فما يقطعه حال العود إلى الجزم غير قابل للانضمام إلى ما قطعه حال الجزم السابق ، لتخلّل التردّد أو العزم على الرجوع بين الجزمين فانّ الوظيفة الواقعية في هذه الحالة أعني حالة التردّد أو العزم على الخلاف هي التمام بالضرورة ، لفقد القصد ، وبها يستكشف أنّ الوظيفة الواقعية كانت

__________________

(١) في ص ٧٣.

٧٩

.................................................................................................

______________________________________________________

هي التمام من أوّل الأمر ومن لدن خروجه من المنزل ، لفقد شرط الاستمرار بعروض التردّد ، وأنّ ما تخيّله من القصر كان خيالاً محضاً.

فلا قصر لا في الحالة السابقة ولا اللّاحقة ، كما هي منفيّة عن الحالة الفعلية أي التردّد فهو منفي عن الكلّ ومفقود في جميع الحالات بمناط واحد ، وهو انتفاء شرط الاستمرار في القصد عن الجميع ، لا أنّ بعض الأفراد محكوم بحكم العام وقد خرج فرد في حالة ونشكّ في بقاء حكمه في الحالة الأُخرى كي يبتني على الرجوع إلى الاستصحاب أو عموم العام ، بل لم يكن القصر باقياً في شي‌ء من الحالات ولا في مكان من الأمكنة وإن تخيّل هو ثبوته سابقاً ، بل الوظيفة هي التمام من أوّل الأمر كما عرفت.

ولو بنينا على ثبوت القصر سابقاً حتّى واقعاً كما عليه المشهور ولا نلتزم به كما ستعرف (١) فإنّما هو لدليل خاص ، وهي صحيحة زرارة (٢) الدالّة على الإجزاء بزعمهم ، وإلّا فمقتضى القاعدة الأوّلية هو التمام واقعاً بعد انكشاف فقد شرط القصر كما عرفت.

وممّا يؤكِّد ما ذكرناه من انقطاع اللّاحق عن السابق وعدم قبول الانضمام بعد تخلّل التردّد أو العزم على الرجوع في البين ما اتّفقوا عليه من غير خلاف كما قيل من أنّ قصد الإقامة عشرة أيام قبل بلوغ الثمانية قاطع لحكم السفر ، فلو خرج من النجف قاصداً كربلاء وبانياً على إقامة عشرة أيام في خان النصف لم يقصّر ، بل يتمّ في طريقه كلّه.

فلولا اعتبار الاستمرار في القصد مضافاً إلى اعتبار الاتصال في القطع الخارجي فلما ذا لم يحكم بالقصر فيما قبل محلّ الإقامة وما بعدها مع فرض بلوغ

__________________

(١) في المسألة الآتية.

(٢) الآتية في ص ٨٤.

٨٠