موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ مرتضى البروجردي

وعلى القول الآخر يعتبر أن يكون من مبدأ السّير إليه أربعة (*) مع كون المجموع بقدر المسافة (١).

______________________________________________________

(١) قد عرفت أنّ المستفاد من النصوص لزوم التقصير على المسافر الذي يريد قطع مسافة تبلغ ثمانية فراسخ امتدادية ، أو ملفّقة من الذهاب والإياب إمّا مطلقاً أو شريطة أن لا يكون كلّ منهما أقل من أربعة فراسخ كما تقدّم.

ولا ينبغي الشكّ في عدم اعتبار كون المسافة بالخط المستقيم ، إذ كثيراً ما يكون الطريق معوجاً موجباً للانحراف يميناً وشمالاً بحيث يتشكّل منه الخط المنكسر مرة أو مرتين بل مرات عديدة كما في الجبال والأودية.

فلو فرضنا مثلثاً وأراد السير من زاوية إلى زاوية أُخرى لا بنحو الاستقامة ، بل على سبيل الانكسار بحيث كان الطريق واقعاً في ضلعين منه فكان بلده في زاوية ومقصده في زاوية أُخرى والطريق إليها مار على الزاوية الثالثة الموجب بطبيعة الحال لتضاعف البعد عما لو كان السير بنحو الاستقامة.

أو فرضنا نصف دائرة وأراد الانتقال من نقطة إلى أُخرى مسامتة لها ولكن لا بالخط المستقيم ، بل بنحو الانحراف والاستدارة ، إمّا لمانع من وجود بحر ونحوه أو لغرض آخر ، فتوقّف الوصول إلى المقصد على قطع تلك المسافة.

ففي جميع ذلك إذا كان السير بالغاً حدّ المسافة الشرعية أعني ثمانية فراسخ

__________________

(*) لا يعتبر ذلك ، فانّ الظاهر كفاية كون مجموع الدائرة ثمانية فراسخ في وجوب القصر سواء في ذلك وجود المقصد في البين وعدمه ، والأحوط فيما إذا كان ما قبل المقصد أو ما بعده أقل من الأربعة هو الجمع.

٤١

.................................................................................................

______________________________________________________

لزمه التقصير ، وإن كان البعد الواقع بين بلده ومقصده أقل من ذلك بكثير لو كان بنحو الخط المستقيم ، كلّ ذلك لإطلاق الروايات الشامل لما تضمّن الانحراف بل هو الغالب في سير الجمال والقوافل التي هي مورد النصوص ولا سيما في البلاد الجبلية.

والروايات تشير إلى هذا السير العادي المتعارف ، وإلّا فقلّما تجد طريقاً سليماً عن الانحراف عارياً عن نوع من الاستدارة أو الانكسار إلّا في الطرق البحرية أو الجوية كما لا يخفى.

أمّا طريق البر وهو مورد الروايات فشذّ ما يسلم عن الاعوجاج الموجب لازدياد السير ، وقد كانت المسافة بين النجف وكربلاء مقداراً معيّناً ، وأخيراً بعد ما غيّر الطريق وجعل من حي الحسين (عليه السلام) زاد الانحراف فاضيف على المسافة ما يقرب من نصف الفرسخ ، فخرج آخر الطريق من الخط المستقيم إلى الخط المنكسر.

وكيف ما كان ، فالمدار في وجوب التقصير بصدق أمرين : كونه مسافراً وأن يكون مسيره ثمانية فراسخ وإن كان البعد لو قدّر بنحو الاستقامة لعلّه لا يزيد على ثلاثة فراسخ مثلاً ، إذ لا عبرة بالخط المستقيم كما عرفت.

فعليه إذا فرضنا أنّ حركة هذا المسافر كانت في دائرة تامّة فسار في مسافة مستديرة فلها صورتان :

إذ تارة تكون الدائرة خارجة عن البلد فيكون واقعاً على جانب منها ملاصقاً لنقطة من نقاطها أو داخلاً أو خارجاً شيئاً ما ، كما لو خرج من النجف إلى الديوانية ثمّ الحلّة ثمّ كربلاء ثمّ رجع إلى النجف بحيث تشكّلت من سيرة دائرة حقيقية أو ما يشبهها.

٤٢

.................................................................................................

______________________________________________________

واخرى تكون الدائرة حول البلد بحيث يكون البلد مركزاً لها.

أمّا الصورة الاولى : فلا ينبغي الشكّ في وجوب القصر إذا بلغ به السير ثمانية فراسخ ولو ملفّقة من الذهاب والإياب.

ولا فرق في ذلك بين أن يكون له مقصد يروم السفر إليه ، أم لم يكن له مقصد أصلاً كما لو سافر لامتحان فرسه ، أو اختبار سيارته أو غاية أُخرى من الغايات المباحة من غير أن يكون له أيّ مقصد ما عدا نفس السير. فوجود المقصد وعدمه سيّان ، ولا يناط به ملاحظة الذهاب والإياب ، بل هما ينتزعان من مراعاة البعد والقرب بالإضافة إلى البلد.

فإنّه لدى خروجه منه يتباعد عنه شيئاً فشيئاً إلى أن يبلغ نصف الدائرة المحاذي للبلد والنقطة المسامتة له التي هي منتهى البعد ، وبعدئذ يسير في النصف الثاني فيأخذ في الاقتراب ويدنو شيئاً فشيئاً إلى أن يصل إلى البلد.

فكلّما يتباعد فهو ذهاب ، وكلّما يتقارب فهو إياب ، سواء أكان له مقصد أم لا ، وسواء أكان مقصده على تقدير وجوده واقعاً على رأس منتهى البعد أم قبله أم بعده ، فانّ ذلك كلّه أجنبي عن ملاحظة الذهاب والإياب المعلّق عليهما التلفيق في لسان الروايات ، إذ لا يفرق ذلك في واقع الذهاب والإياب المنتزع ممّا عرفت.

نعم ، قد يطلق الإياب على مجرّد الخروج من المقصد وإن كان قبل ذلك ، كما لو كان مقصده في فرسخين والمفروض أنّ منتهى البعد أربعة مثلاً ، فيقال حينئذ أنّه يرجع.

لكنّه مبني على المسامحة ، يراد منه أنّه يرجع من مقصده لا أنّه يرجع عن سفره ، والاعتبار بالثاني دون الأوّل كما لا يخفى. وإلّا فكلّما يبعد فهو ذاهب وكلّما يقرب فهو راجع آئب.

٤٣

.................................................................................................

______________________________________________________

فما في المتن من جعل المدار على الوصول إلى المقصد في غير محلّه ، بل قد عرفت عدم لزوم فرض مقصد من أصله ، فإذا كان كلّ منهما أعني من مبدأ السير إلى منتهى البعد والعود عنه أربعة فراسخ فقد تحقّقت المسافة التلفيقية الموجبة للتقصير ، وإذا كان كلّ منهما بنفسه ثمانية فراسخ فلا إشكال.

وعلى الجملة : بعد أن لم يعتبر في السفر أن يكون بالخط المستقيم ، بل لعلّه لا يتّفق في البر إلّا نادراً كما مرّ فحال السير في الدائرة حال السير في غيرها من غير أي إشكال فيه ، كما هو الحال في المثلث ، فإنّه يقصّر إذا بلغ مجموع الضلعين ثمانية فراسخ. فالمسافة المستديرة والمسافة المستقيمة والمسافة المنكسرة كلّها شرع سواء فيما هو مناط للتقصير حسبما عرفت.

وأمّا الصورة الثانية : أعني ما لو كان البلد مركزاً للدائرة ، فخرج عن بلده بالخط المستقيم مثلاً إلى أن بلغ الدائرة فسار فيها وطاف حول البلد ، بحيث تكون نسبته إلى البلد في جميع الحالات على حد سواء إلى أن وصل إلى المكان الذي شرع منه في السير ، فهل يكون حكمه التقصير أيضاً إذا كانت المسافة ثمانية فراسخ كما في الصورة الأُولى؟ الظاهر هو التفصيل.

إذ تارة تكون الدائرة قريبة من البلد جدّاً بحيث لا يصدق معها عنوان السفر لكونها من توابعه وملحقاته ، كما لو خرج من النجف إلى آخر ضواحيه ثمّ طاف حوله لغاية الزراعة أو التفرّج ونحوهما من الغايات المشروعة.

فحينئذ لا إشكال في لزوم التمام وإن بلغ به السير عشرة فراسخ ، بل عشرين لفرض كبر البلد ، لأنّ سيره خارج البلد كسيرة داخل البلد في عدم صدق عنوان المسافر عليه ، ولا بدّ في التقصير من صدق هذا العنوان ، لما تقدّم (١) من

__________________

(١) في ص ٨ ، ١٣.

٤٤

.................................................................................................

______________________________________________________

عدم كون العبرة بمطلق شغل اليوم كيف ما اتّفق.

ولذا قلنا إنّه لو ذهب فرسخاً ورجع ثمّ ذهب ورجع إلى أن بلغ المجموع ثمانية لا يكفي في التقصير ، لما عرفت من لزوم أمرين في وجوب القصر : صدق السفر ، وكونه ثمانية فراسخ ، فاذا لم يصدق المسافر كما في المقام لكون بعده عن البلد بمقدار نصف الفرسخ مثلاً لم يجب التقصير.

وأُخرى تكون الدائرة بعيدة بمقدار يصدق معه عنوان المسافر ، كما لو بعد عن البلد مقدار ثلاثة فراسخ مثلاً ثمّ دار حول البلد ، فالظاهر حينئذ وجوب التقصير فيما إذا بلغ مجموع سيره ثمانية فراسخ ولو ملفّقاً.

فإنّه حينما يشرع في البعد فهو ذاهب ويمتد ذلك إلى أن يصل منتهاه ، وهي النقطة المقابلة من الدائرة مع النقطة التي دخل فيها ، وحينما يتجاوز عن هذه النقطة يشرع في القرب ويتحقّق معه الرجوع والإياب إلى أن يصل سيره في الدائرة إلى النقطة التي دخل فيها ، فاذا كان كلّ منهما أربعة فراسخ بحيث تلفّقت منهما الثمانية وجب التقصير ، لما عرفت من عدم اعتبار كون السير في الخط المستقيم ، وأنّ العبرة بمطلق الثمانية ، سواء أكانت الخطوط مستقيمة أم مستديرة ، بشرط صدق عنوان المسافر عليه ، والمفروض تحقّقه في المقام. فلا مناص من التقصير حسبما عرفت.

فإذا فرضنا أنّ مجموع سيره في الدائرة ست ساعات فالسير في الثلاث الاولى ذهاب وفي الثلاث الثانية إياب ، فإذا بلغ كلّ منهما أربعة فراسخ وجب عليه القصر.

٤٥

[٢٢٤٦] مسألة ١٥ : مبدأ حساب المسافة سور البلد أو آخر البيوت فيما لا سور فيه في البلدان الصغار والمتوسطات ، وآخر المحلّة في البلدان الكبار (*) الخارقة للعادة ، والأحوط مع عدم بلوغ المسافة من آخر البلدان الجمع وإن كانت مسافة إذا لوحظ آخر المحلّة (١).

______________________________________________________

(١) المستفاد من نصوص التحديد بالثمانية أنّ مبدأ الاحتساب هو أوّل زمان يتلبّس المسافر بالوصف العنواني ، ويتّصف عرفاً بكونه مسافراً ، وهو بحسب المتفاهم العرفي إنّما يتحقّق بالخروج من البلد ، وإلّا فعند ما يسير في البلد ولم يخرج بعدُ عنه فهو مريد للسفر وليس بمسافر ، فانّ السفر هو البروز والخروج ومنه المرأة السافرة ، أي البارزة الكاشفة لما لا ينبغي كشفه.

فصدق عنوان السفر متقوّم بالخروج من البلد ، ويختلف صدقه حسب اختلاف الموارد ، ففيما له سور يتحقّق بالخروج عن السور ، وفيما لا سور له بالتجاوز عن آخر البيوت ، وفي من كان من سكنة البوادي القاطنين في بيت من شعر أو قصب يتحقّق بالخروج من المنزل.

فمبدأ الاحتساب يكون هو السور أو آخر البيوت أو المنزل حسب اختلاف الموارد كما ذكره في المتن. هذا ما يقتضيه التبادر والفهم العرفي من نصوص التحديد. ويستفاد ذلك أيضاً من بعض النصوص الخاصّة.

ففي صحيحة زرارة : «وقد سافر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) إلى ذي خشب وهو مسيرة يوم من المدينة» (١) حيث جعل مبدأ الاحتساب بلد

__________________

(*) إذا كانت البلدة الكبيرة متّصلة المحلّات فالظاهر اعتبار المبدأ من سور البلد أو من آخر البيوت فيما لا سور له.

(١) الوسائل ٨ : ٤٥٢ / أبواب صلاة المسافر ب ١ ح ٤.

٤٦

.................................................................................................

______________________________________________________

المدينة ، أي أوّل نقطة من حدودها ، لا منزله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أو غير ذلك.

ولا يخفى أنّ هذه الرواية رواها الصدوق في الفقيه في ذيل رواية يرويها عن زرارة ومحمد بن مسلم (١) ، وطريقه إلى ابن مسلم وإن كان ضعيفاً لكن طريقه إلى زرارة صحيح (٢) ، ولا يقدح ضمّ غيره معه. فالرواية موصوفة بالصحّة.

ولكن صاحب الوسائل كأنه تخيّل أنّ هذه العبارة من كلام الصدوق فنسبها إليه ، حيث قال : قال : وقد سافر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) إلى آخر ما مرّ.

وليس كذلك قطعاً ، فانّ في ذيل هذه العبارة قرينة واضحة تشهد بأنّها من كلام الإمام (عليه السلام) حيث قال بعد ذلك : «وقد سمّى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) قوماً صاموا حين أفطر العصاة ، قال : فهم العصاة إلى يوم القيامة ، وإنّا لنعرف أبنائهم وأبناء أبنائهم إلى يومنا هذا» (٣).

فانّ هذه الدعوى أعني معرفة العصاة وأبنائهم وأبناء أبنائهم لا تكاد تصدر من غير الإمام (عليه السلام) كما هو ظاهر. وكيف ما كان ، فهي رواية صحيحة عن الإمام (عليه السلام) كما ذكرناه ، دلّت على أنّ المبدأ نفس البلد هذا.

ويستفاد من موثّقة عمار أنّ المدار على أحد الأمرين من القرية أو المنزل قال (عليه السلام) : «لا يكون مسافراً حتّى يسير من منزله أو قريته ثمانية فراسخ ...» إلخ (٤).

__________________

(١) الفقيه ١ : ٢٧٨ / ١٢٦٦.

(٢) الفقيه ٤ (المشيخة) : ٦ ، ٩.

(٣) الفقيه ١ : ٢٧٨ / ١٢٦٦.

(٤) الوسائل ٨ : ٤٦٩ / أبواب صلاة المسافر ب ٤ ح ٣.

٤٧

.................................................................................................

______________________________________________________

ولكن بما أنّ التخيير بين الأقل والأكثر لا معنى له كما لا يخفى ، فهي محمولة على أنّ المسافر إن كان في قرية فالعبرة بقريته ، وإلّا كما في أهل البوادي الساكنين في بيوت الشعر فمن منزله.

فالعبرة بأحد الأمرين حسب اختلاف الموردين على ما يقتضيه طبع السفر عرفاً بمقتضى سير الجمال والدواب ، فانّ الساكنين في القرى أو البلدان يتحقّق الركوب منهم للسفر في آخر القرية أو البلد غالباً ، وأمّا سكنة البر فمن منازلهم.

وكيف ما كان ، فالمستفاد من الروايات ومن نفس نصوص التحديد هو ما عرفت ، ولا شكّ أنّ مقتضى الإطلاق عدم الفرق في البلدان بين الصغيرة والمتوسطة والكبيرة ، وأنّ العبرة في جميعها بنفس البلدة.

ولكن الماتن (قدس سره) تبعاً لغيره جعل المدار في البلدان الكبار الخارقة للعادة بآخر المحلّة. وليس له وجه ظاهر ، بل هو مخالف للإطلاق كما عرفت وقد كانت الكوفة في زمانهم (عليهم السلام) كبيرة جدّاً كما يشهد به التاريخ وغيره ، ومع ذلك كان مبدأ الاحتساب نفس البلدة كما يشهد به حديث القادسية حسبما تقدّم (١).

وعلى الجملة : مقتضى الجمود على ظواهر النصوص تعميم الحكم لما إذا كانت البلدة صغيرة كالمدينة ، أو كبيرة كالكوفة ، أو متوسطة كغيرهما ، بعد أن لم يكن دليل على التقييد بالمحلّة في البلدان الكبيرة.

نعم ، ربّما يفرض بلوغ البلدة من الكبر حدّا خارقاً للعادة جدّاً بحيث يصدق على السير فيها عنوان السفر ، كما لو بلغ طولها خمسين فرسخاً أو مائة أو مائتين وإن لم يوجد مصداق لها لحدّ اليوم ، وربّما يتّفق في الأجيال القادمة ـ

__________________

(١) [الظاهر عدم تقدّم ما يدلّ على ذلك فلاحظ].

٤٨

الشرط الثاني : قصد قطع المسافة من حين الخروج (١) فلو قصد أقل منها

______________________________________________________

ففي مثل ذلك لا مناص من الالتزام بالتقصير من لدن صدق عنوان المسافر عليه ، المتحقّق بالخروج من محلّته أو نواحيها ، لأنّ موضوع الحكم صدق هذا العنوان كما تقدّم (١) ، ومقتضى الإطلاق عدم الفرق بين ما لو اتّفق الصدق على السير في نفس البلدة أو في خارجها ، فمتى صدق هذا العنوان وكان قاصداً للثمانية امتدادية أو تلفيقية وجب التقصير وإن كان مورد الصدق هو السير في نفس البلد.

وأمّا إذا لم يبلغ الكبر هذا الحد ، بحيث لا يصدق معه عنوان السفر كالبلدان الكبار في عصرنا الحاضر مثل بغداد وطهران وبعض البلاد الغربية ، فلا موجب للالتزام فيها بالاحتساب من آخر المحلّة ، إذ لا دليل عليه بوجه ، مع أنّه لا ضابط له ، إذ قد يكون منزله في أوّل المحلّة ، واخرى في وسطها ، وثالثة في آخرها ، ويلزم في الفرض الأخير أن يكون المبدأ حيطان الدار ، ولا شاهد عليه أصلاً كما لا يخفى.

وعلى الجملة : فالميزان الكلّي في الاحتساب أوّل نقطة يصدق معها عنوان المسافر ، وهو في البلاد المتعارفة بل الكبار الحاضرة إنّما يتحقّق بالخروج عن البلد إمّا عن سورة أو آخر بيوته ، وفي غيره عن منزله حسبما عرفت ، ولا اعتبار بالخروج عن المحلّة بوجه ، إذ لا شاهد عليه في شي‌ء من الأخبار.

(١) هل المدار في التقصير على مجرّد قطع المسافة خارجاً من غير اعتبار القصد بوجه ، أو على نفس القصد على نحو تمام الموضوع ، سواء أبلغ سيره خارجاً حدّ المسافة الشرعية أم لا ، نظير قصد الإقامة الذي هو الموضوع للتمام

__________________

(١) في ص ١٣ وغيرها.

٤٩

وبعد الوصول إلى المقصد قصد مقداراً آخر يكون مع الأوّل مسافة لم يقصّر نعم لو كان ذلك المقدار مع ضمّ العود مسافة قصّر من ذلك الوقت بشرط أن يكون عازماً على العود ، وكذا لا يقصّر من لا يدري أيّ مقدار يقطع كما لو طلب عبداً آبقاً أو بعيراً شارداً ، أو قصد الصيد ولم يدر أنّه يقطع مسافة أو لا ، نعم يقصّر في العود إذا كان مسافة ، بل في الذهاب إذا كان مع العود بقدر المسافة وإن لم يكن أربعة (*) ، كأن يقصد في الأثناء أن يذهب ثلاثة فراسخ والمفروض أنّ العود يكون خمسة أو أزيد ، وكذا لا يقصر لو خرج ينتظر رفقة إن تيسّروا سافر معهم وإلّا فلا ، أو علّق سفره على حصول مطلب في الأثناء قبل بلوغ الأربعة إن حصل يسافر وإلّا فلا ، نعم لو اطمأنّ بتيسّر الرفقة أو حصول المطلب بحيث يتحقّق معه العزم على المسافة قصّر بخروجه عن محلّ الترخّص.

______________________________________________________

سواء أكمل العشرة أم لا ، فكما أنّ العبرة هناك بقصد العشرة لا واقعها فكذا في المقام بقصد المسافة لا وقوعها. أو على مجموع الأمرين منضمّاً من القصد المقترن بالقطع الخارجي ، فلا يكفي أحدهما منعزلاً عن الآخر؟ وجوه واحتمالات ثلاثة تتطرّق في المسألة ، ولا رابع لها كما لا يخفى.

مقتضى الجمود على ظواهر غير واحد من النصوص المتضمّنة للتحديد بثمانية فراسخ امتدادية أو بريد ذاهباً وبريد جائياً هو الأوّل ، فلو كنّا نحن وهذه الأخبار لالتزمنا بأنّ المدار على واقع الثمانية ، سواء أكانت مقصودة أم لا.

__________________

(*) تقدّم اعتبار كون كلّ من الذهاب والإياب أربعة.

٥٠

.................................................................................................

______________________________________________________

إلّا أنّ صحيحة زرارة ظاهرة في أنّ العبرة بنفس القصد ، قال : «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يخرج مع القوم في السفر يريده فدخل عليه الوقت وقد خرج من القرية على فرسخين فصلّوا ، وانصرف بعضهم في حاجة فلم يقض له الخروج ، ما يصنع بالصلاة التي كان صلّاها ركعتين؟ قال : تمت صلاته ولا يعيد» (١).

فلو كنّا نحن وهذه الصحيحة لكانت دالّة على أنّ الثمانية كإقامة العشرة يراد بها القصد الموجود في أُفق النفس ، لحكمه (عليه السلام) بالتقصير على مجرّد إرادة السفر وإن لم يبلغ سيره الثمانية خارجاً.

إلّا أنّ هذه الصحيحة معارضة في موردها بصحيحة أبي ولاد المتضمّنة لإعادة الصلاة التي صلّاها قصراً إذا بدا له الرجوع قبل بلوغ المسافة (٢) ، فتسقطان بالمعارضة ، فنبقى نحن وتلك الروايات الأوّلية الدالّة على أنّ العبرة بنفس المسافة الخارجية ، سواء أكانت مقرونة بالقصد أم لا.

لكنّا علمنا من موثّقة عمّار عدم كفاية الثمانية بمجرّدها ، بل في خصوص ما إذا كانت مقصودة من مبدأ السفر ، حيث قال (عليه السلام) : «لا يكون مسافراً حتّى يسير من منزله أو قريته ثمانية فراسخ ، فليتمّ الصلاة» (٣).

فإنّه (عليه السلام) حكم بالتمام مع أنّ المفروض في السؤال قطع الأكثر من ثمانية فراسخ ، لكن عارياً عن قصدها من أوّل الأمر ، بل كان ذلك بعزمين وقصدين.

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٥٢١ / أبواب صلاة المسافر ب ٢٣ ح ١.

(٢) الوسائل ٨ : ٤٦٩ / أبواب صلاة المسافر ب ٥ ح ١.

(٣) الوسائل ٨ : ٤٦٩ / أبواب صلاة المسافر ب ٤ ح ٣.

٥١

.................................................................................................

______________________________________________________

فعلّق (عليه السلام) التقصير على مجموع الأمرين من القصد والمسافة الخارجية. وبذلك تقيّد الإطلاقات الأوّلية ، مؤيّداً بعدّة من الروايات ، ولكنّها ضعاف ، والعمدة هي الموثّقة.

فظهر من ذلك كلّه أنّ المدار على مجموع الأمرين من قصد الثمانية من أوّل الأمر مقروناً بواقع الثمانية على سبيل الشرط المتأخّر ، فلو قصد ولم يبلغها لمانع خارجي ، أو بلغها ولم يكن قاصداً لها من الأوّل وجب عليه التمام ، كما لو خرج لطلب الضالّة أو الغريم أو الصيد فبلغ الثمانية اتفاقاً ، فإنّه لا يكفي في وجوب التقصير إلّا إذا كان الرجوع مسافة أو كان الباقي بضميمة الرجوع مسافة تلفيقية ، بشرط عدم كون كلّ منهما أقل من أربعة فراسخ على المختار ، وبغير هذا الشرط على مختار الماتن كما تقدّم (١).

وكذا الحال فيما لو خرج ينتظر رفقة إن تيسّروا سافر معهم وإلّا فلا ، أو علّق سفره على حصول مطلب في الأثناء قبل بلوغ الأربعة إن حصل سافر وإلّا فلا بحيث لم يتحقّق معه العزم على المسافة ، فإنّه يتمّ ، لانتفاء فعلية القصد وعدم تنجيزه ، إلّا إذا كان مطمئناً بتيسّر الرفقة أو حصول المطلب بحيث حصل العزم فإنّه يقصر لدى خروجه عن حدّ الترخّص كما أشار إليه في المتن.

__________________

(١) في ص ٧ وما بعدها.

٥٢

[٢٢٤٧] مسألة ١٦ : مع قصد المسافة لا يعتبر اتصال السير (١) فيقصّر وإن كان من قصده أن يقطع الثمانية في أيام ، وإن كان ذلك اختياراً لا لضرورة من عدوّ أو برد أو انتظار رفيق أو نحو ذلك ، نعم لو كان بحيث لا يصدق عليه اسم السفر لم يقصّر كما إذا قطع في كلّ يوم شيئاً يسيراً جدّاً للتنزّه أو نحوه ، والأحوط في هذه الصورة أيضاً الجمع.

______________________________________________________

(١) إذ لا دليل على تقييد السير بالاتصال والاستمرار ، فلو قصد قطع المسافة خلال أيام عديدة كأن يمشي كلّ يوم نصف فرسخ بحيث يكمل الثمانية خلال ستّة عشر يوماً مثلاً وجب التقصير أيضاً ، لإطلاق الأدلّة ، سواء أكان ذلك لاختيار أم ضرورة تقتضيه من برد أو عدوّ ونحو ذلك ، هذا.

وقد استثنى (قدس سره) من ذلك ما لو كان بطء السير بمثابة لا يصدق معه اسم السفر عرفاً ، كما لو قطع كلّ يوم شيئاً يسيراً جدّاً كمقدار بستان مثلاً لأجل التنزّه والتفرّج في أوراده وأشجاره والتمتّع من مياهه ونحو ذلك ، فإنّه لا يقصّر وإن كان قاصداً من الأوّل للثمانية فما زاد ، كما لو قصد من الكوفة إلى كربلاء عن طريق البساتين على النهج المزبور ، إذ هو تحديد للمسافر لا لكلّ من يقطع الثمانية كيف ما كان ، وهذا العنوان منفي في المقام.

أقول : ما أفاده (قدس سره) صحيح على تقدير عدم صدق اسم المسافر عرفاً ، فالكبرى مسلمة لا إشكال فيها ، لكنّ الشأن في الصغرى.

فانّ المنع عن صدق اسم السفر فيما ذكره من الفرض مشكل جدّاً ، بل ممنوع كيف والسفر هو البروز والخروج ، ومنه المرأة السافرة أي الكاشفة ، ولا ريب أنّ من بُعد عن وطنه فراسخ عديدة ولو بحركة بطيئة وفي خلال أيام كثيرة فهو بارز خارج غريب في هذا المحل ، بحيث لو سئل لقيل إنّه مسافر قطعاً.

٥٣

.................................................................................................

______________________________________________________

نعم ، المشي إلى توابع البلد ليس من السفر في شي‌ء ، وأمّا مع الابتعاد الكثير ولو على سبيل التدريج فلا ينبغي التأمّل في صدق اسم المسافر عليه جزماً.

ولكن مع ذلك لا يثبت في حقّه القصر ، لا لعدم صدق اسم السفر ، بل لكونه من المقيم حقيقة ، فإنّ المراد به كما سيجي‌ء إن شاء الله تعالى (١) ليس من يقصد الإقامة في مكان واحد شخصي ، بل يشمل المحلّ وتوابعه ، فلا ينافي الحركة إلى الأسواق والشوارع ، بل إلى خارج البلد لتشييع جنازة أو تفرّج ونحو ذلك ، كما لا ينافي الحركة إلى توابع المحلّ في سكنة البوادي لتحصيل حطب أو سقي دابة ونحوهما ، فانّ كلّ ذلك لا يتنافى مع عنوان الإقامة وقصدها.

وعليه فإذا فرضنا أنّ هذا الخارج خرج قاصداً للثمانية بانياً على أن يمشي كلّ يوم عشرة أمتار مثلاً ، أو كما حكي عن الدرويش الفلاني من مشيه كلّ يوم بمقدار العصا أي متراً واحداً فمثل هذا الشخص مقيم دائماً ، ولأجله يجب عليه التمام.

وبعبارة اخرى : الخارج بقصد أن يمشي في كلّ يوم عشرة أمتار مثلاً فهو لا محالة قاصد للإقامة في كلّ مائة عشرة أيام ، إذ هو كذلك في المائة الثانية والثالثة وهكذا ، فهذا المقدار من المساحة مورد لقصد الإقامة دائماً ، لما عرفت من عدم منافاته مع الحركة في خلالها ، إذ لا يراد بها الإقامة في مكان شخصي.

ولو فرضنا ذلك في من لا يتمكّن من المشي كالأعرج فالأمر أظهر ، إذ لا شك حينئذ في كونه مسافراً غايته أنّ حركته بطيئة.

وعلى الجملة : فالمتعيّن في الفرض المزبور هو التمام ، لكن لكونه من المقيم ، لا لعدم كونه مسافراً. نعم ، لو فرضنا الحركة أكثر من ذلك بحيث لا يصدق معه المقيم تعيّن التقصير حينئذ ، بعد ما عرفت من صدق اسم السفر عليه. فالمتّجه

__________________

(١) في ص ٢٧١ ٢٧٢.

٥٤

[٢٢٤٨] مسألة ١٧ : لا يعتبر في قصد المسافة أن يكون مستقلا (١) بل يكفي ولو كان من جهة التبعية للغير لوجوب الطاعة كالزوجة والعبد ، أو قهراً كالأسير والمكره ونحوهما ، أو اختياراً كالخادم ونحوه بشرط العلم بكون قصد المتبوع مسافة ، فلو لم يعلم بذلك بقي على التمام.

______________________________________________________

هو التفصيل بين صدق عنوان المقيم وعدمه حسبما عرفت.

(١) فان مقتضى إطلاق الأدلّة المتضمّنة لإناطة التقصير بقصد المسافة عدم اعتبار الاستقلال في القصد المزبور ، فيشمل ما إذا كان تابعاً لقصد الغير ، سواء أكانت التبعيّة واجبة كما في الزوجة والعبد ، أم مباحة مع الاختيار كما في الخادم أو الإكراه كالأسير ، أو الاضطرار كمن شدّت يداه ورجلاه وأُخذ قهراً ، كلّ ذلك للإطلاق بعد صدق قصد المسافة الذي هو الموضوع للحكم.

نعم ، يعتبر في ذلك علم التابع بمقصد المتبوع وأنّه يريد المسافة ، أمّا مع جهله بذلك فهو باق على التمام ، إذ الاعتبار بفعلية القصد ، المنفي عن التابع ، لأنّ تعلّق قصده بالمسافة منوط بقصد المتبوع ، فيقصد على تقدير قصده وإلّا فلا وحيث إنّه لا يدري فلا جرم ليس له قصد فعلي.

فحاله حال طالب الضالّة أو الصيد ، أو الخارج لاستقبال أحد ونحوه ممّن لم يعلم ببلوغ السير حدّ المسافة الشرعية ، فإنّ هؤلاء لا يقصّرون ، لعدم إحرازهم للسفر ، الموجب لانتفاء القصد ، هذا.

ولكن المنسوب إلى جماعة منهم الشهيد (قدس سره) (١) تعيّن القصر فيما إذا كان المتبوع قاصداً للمسافة واقعاً ، نظراً إلى أنّ التابع بمقتضى فرض التبعية

__________________

(١) الدروس ١ : ٢٠٩.

٥٥

.................................................................................................

______________________________________________________

قاصد لما يقصده المتبوع ، لأنّ قصده تابع لقصده ومرتبط بإرادته ، فإذا كان المتبوع قاصداً للمسافة فالتابع أيضاً قاصد لها واقعاً وإن كان هو لا يدري بذلك.

فهو نظير من قصد مسافة معيّنة كما بين الكوفة إلى الحلّة بزعم أنّها سبعة فراسخ وهي في الواقع ثمانية ، فإنّه يجب عليه التقصير حينئذ ، لكونه قاصداً للمسافة بحسب الواقع ، إذ المدار على واقع الثمانية لا عنوانها ، غايته أنّه جاهل بذلك فيكون معذوراً في الإتمام ، ويجب عليه الإعادة قصراً بعد انكشاف الحال وإن لم يكن الباقي مسافة.

وعلى الجملة : لو سئل التابع عن مقصده لأجاب بأنّ قصدي ما يقصده متبوعي ، فاذا كان مقصوده واقعاً هي الثمانية فهو أيضاً قاصد لها بطبيعة الحال فلا مناص من التقصير.

هذا ما ذكره الشهيد (قدس سره) وجماعة ، وهو مختار الماتن (قدس سره) أيضاً كما سيصرّح به في المسألة العشرين الآتية.

ولكنّه لا يتم ، لما عرفت من لزوم فعلية القصد المتعلّق بواقع الثمانية وثبوته على كلّ تقدير ، المنفي في حقّ التابع ، لكونه معلّقاً على تقدير خاص ، وهو قصد المتبوع للثمانية ، وإلّا فهو غير قاصد لها.

ومنه تعرف بطلان التنظير وضعف قياس المقام بقاصد المسافة الواقعية جاهلاً بها ، فانّ القياس مع الفارق ، ضرورة أنّ القصد هنا تعليقي وهناك تنجيزي.

فإنّ من قصد السير من الكوفة إلى الحلّة المشتمل على بعد ثمانية فراسخ وإن جهل بها فهو في الحقيقة قاصد فعلاً للثمانية قصداً تنجيزياً ، لتعلّق قصده بالذهاب إلى الحلّة على كلّ تقدير ، والمفروض أنّ هذه المسافة ثمانية واقعاً ، فهو

٥٦

ويجب الاستخبار مع الإمكان (*) ، نعم في وجوب الإخبار على المتبوع إشكال وإن كان الظاهر عدم الوجوب (١).

______________________________________________________

لا محالة قاصد للثمانية منجّزاً بطبيعة الحال. فلا مناص من التقصير.

وهذا بخلاف التابع ، فإنّه لا يقصد الثمانية إلّا على تقدير كونها مقصودة للمتبوع ، فليس له قصد فعلي تنجيزي ثابت على كلّ تقدير كما كان كذلك في مورد التنظير.

وعلى الجملة : مقتضى فرض التبعية إناطة القصد بالقصد وتعليقه عليه فيقول التابع الخارج مع متبوعه عن النجف مثلاً جاهلاً بمقصده : إنّ متبوعي إن كان قاصداً للكوفة فقد قصدتها ، وإن قصد ذا الكفل فكذلك ، وإن قصد الحلّة فكذلك. فكلّ ذلك تقدير وتعليق على قصده ، وإلّا فهو فاقد للقصد الفعلي بتاتاً. فبالنتيجة لا يكون قصده للمسافة إلّا على تقدير قصد المتبوع لها.

فالمقام أشبه شي‌ء بطالب الضالة أو الصيد أو الغريم ، أو الخارج لاستقبال الحاجّ ونحو ذلك ممّن لا يقصد المسافة إلّا على تقدير دون تقدير ، فهو يخرج لطلب الصيد مثلاً مهما وجده ، إمّا على رأس الفرسخين أو الثمانية ، فيسير في مساحة واقعية حاوية لمقصده مردّدة بين المسافة وغيرها ، فكما يجب التمام هناك بلا كلام فكذا في المقام بمناط واحد.

(١) ينبغي التكلّم في جهات :

الاولى : هل يجب على التابع الجاهل بمقصد متبوعه الاستخبار لدى التمكّن منه؟ حكم (قدس سره) بالوجوب ، والظاهر العدم ، فانّ الوجوب مبني على أمرين :

__________________

(*) على الأحوط ، والأظهر عدم الوجوب.

٥٧

.................................................................................................

______________________________________________________

أحدهما : دعوى كون الوظيفة الواقعية الثابتة في حقّ التابع هي القصر لو كان متبوعه قاصداً للمسافة وإن كان التابع جاهلاً بها ، كما أنّ وظيفته التمام لو لم يقصدها. وعليه لا مناص من الفحص والسؤال تحقيقاً للامتثال والإتيان بالوظيفة الواقعية على وجهها.

ثانيهما : وجوب الفحص في طائفة من الشبهات الموضوعية ، وهي التي يؤدّي ترك الفحص فيها إلى الوقوع في مخالفة الواقع غالباً كما في باب الاستطاعة وبلوغ المال حدّ النصاب ونحوهما ، ومنه المقام أعني التحقيق عن المسافة كما تقدّم (١).

ولكن شيئاً منهما لا يتم.

أمّا الأوّل : فلما عرفت من دوران القصر مدار القصد الفعلي التنجيزي الثابت على كلّ تقدير ، وهو مفقود بالإضافة إلى التابع بالوجدان ، لكونه معلّقاً على قصد المتبوع ، وهو مشكوك حسب الفرض ، ومعه لا قصد فلا قصر.

فالوظيفة المقرّرة في حقّ التابع حتّى في صقع الواقع إنّما هي التمام ، فإنّها وظيفة كلّ من لم يكن قاصداً للمسافة فعلاً ، والتابع من أبرز مصاديقه كما لا يخفى. فليس هناك واقع مردّد مجهول ليلزم الفحص عنه مقدّمة للامتثال.

نعم ، بالفحص يتبدّل الموضوع الموجب لتبدّل الحكم ، فينقلب غير القاصد إلى القاصد لو انكشف صدور القصد من المتبوع ، فيحدث عندئذ وجوب القصر ، لا أنّه ينكشف به واقع مجهول ليلزم الفحص عنه ، إذ لا جهالة في الحكم الواقعي الثابت في حقّه فعلاً الذي هو التمام كما عرفت. ومن المعلوم عدم الدليل على لزوم هذا التبديل وقلب الموضوع وتغييره كما هو ظاهر جدّاً.

__________________

(١) في ص ٣٣.

٥٨

.................................................................................................

______________________________________________________

وأمّا الثاني : فلما تقدّم من منع استلزام ترك الفحص للوقوع في خلاف الواقع غالباً حتّى في أمثال هذه الموارد ، فانّ الشكّ في المسافة أو في قصد المتبوع وكذا الاستطاعة والنصاب ونحو ذلك ليس ممّا يكثر الابتلاء به كي يوجب العلم إجمالاً بالمخالفة لو لم يفحص كما لا يخفى.

فشأن هذه الموارد شأن سائر موارد الشبهات الموضوعية في اشتراك الكلّ في عدم وجوب الفحص بمناط واحد ، ولا تمتاز

عنها بشي‌ء.

الجهة الثانية : لا يخفى أنّ الشك في المسافة يمتاز عن غيره من سائر موارد الشبهات الموضوعية في اختصاصه بعدم وجوب الفحص ، حتّى لو بنينا على ثبوت القصر واقعاً وسلمنا وجوب الفحص فيما يوجب تركه الوقوع في مخالفة الواقع غالباً كما في الشكّ في الاستطاعة ، وبلوغ المال حدّ النصاب ونحو ذلك لاختصاص المقام بعدم احتمال الوقوع في خلاف الواقع بتاتاً.

ضرورة أنّ الشاك الباني على التمام استناداً إلى أصالة التمام لا يخلو إمّا أن ينكشف له الخلاف في الوقت ، أو في خارجه ، أو لا ينكشف رأساً ، ولا رابع.

فعلى الأوّل : يعيدها قصراً ، فلم يفته الواقع كما هو واضح.

وعلى الثاني : فهو محكوم بالإجزاء ، لصحيحة العيص بن قاسم الصريحة في عدم القضاء لو أتمّ في موضع التقصير جهلاً (١) كما سنتعرّض له في محلّه (٢) إن شاء الله تعالى مفصّلاً ، فلم يفته الواقع أيضاً.

وعلى الثالث : فالإجزاء فيه بطريق أولى ، إذ مع القطع بالخلاف وحصول الانكشاف لم يجب القضاء ، فما ظنّك بالشك. فعلى جميع التقادير لا يحتمل

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٥٠٥ / أبواب صلاة المسافر ب ١٧ ح ١.

(٢) في ص ٣٦٠ وما بعدها.

٥٩

.................................................................................................

______________________________________________________

الوقوع في مخالفة الواقع كي يجب الفحص عنه.

وعليه فلا مقتضي لسؤال التابع وفحصه عن مقصد متبوعه بوجه ، حتّى لو سلّمنا وجوب القصر عليه واقعاً إذا كان متبوعه قاصداً للمسافة واقعاً ، لعدم احتمال استلزام تركه الوقوع في محذور مخالفة الواقع على أيّ حال كما عرفت. فاحتمال وجوب الفحص هنا ساقط جزماً.

الجهة الثالثة : بناءً على وجوب الفحص والاستخبار هل يجب الإخبار على المتبوع؟

الظاهر العدم كما ذكره في المتن ، إذ لا مقتضي له بوجه ، فانّ التسبيب إلى وقوع الغير في الحرام الواقعي وإن كان محرماً كمباشرته ، مثل ما لو قدّم طعاماً متنجّساً إلى الغير فأكله بزعم الطهارة ، لاستناد ارتكاب الحرام حينئذ إلى السبب كاستناده إلى المباشر لدى علمه بالحرمة ، ولا فرق بينهما في مناط التحريم كما حرّر في محلّه (١).

إلّا أنّ إيجاد المانع عن صدور الحرام الواقعي عمّن يفعله جاهلاً به غير لازم قطعاً ، فلا يجب الإعلام بنجاسة الطعام لمن يأكله من تلقاء نفسه جاهلاً بنجاسته ، إذ لا تسبيب حسب الفرض ، ولم يصدر منه منكر بعد اعتقاد الطهارة ليلزم ردعه من باب النهي عن المنكر. ومجرّد صدور الحرام الواقعي عن المعذور لا ضير فيه.

وعليه فلا بأس بترك الإخبار وعدم الإعلام في المقام بعد أن لم يكن المتبوع هو السبب في وقوع التابع في الحرام الواقعي.

هذا كلّه بناءً على وجوب القصر واقعاً على التابع الذي يكون متبوعه

__________________

(١) شرح العروة ٣ : ٣٠٩.

٦٠