موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ مرتضى البروجردي

.................................................................................................

______________________________________________________

والظاهر لزوم ردّ علمها إلى أهله ، لأنّ التفصيل في الإتمام والتقصير بين الإحرام والإحلال ممّا لم يقل به أحد ، ولعلّ الأمر بالقصر ما دام محرماً لما فيه من نوع مشابهة للعامّة القائلين بالقصر مطلقاً (١) ، فيكون محمولاً على التقيّة. وكيف ما كان ، فلا يمكن أن يعارض بها سائر الأخبار بعد القطع بعدم الفرق في التمام والقصر بين الإحرام وغيره.

ومنها : صحيحة ابن بزيع قال : «سألت الرضا (عليه السلام) عن الصلاة بمكّة والمدينة تقصير أو تمام؟ فقال : قصّر ما لم تعزم على مقام عشرة أيام» (٢) وهي صريحة في الأمر بالقصر من دون قصد الإقامة. وقد رواها الصدوق في الفقيه (٣) والعيون (٤) ، ولعلّه استند إليها في الحكم بالتقصير.

وهذه الصحيحة وما يلحق بها هي العمدة في المقام ، فتكون معارضة لنصوص التخيير. ويستفاد من جملة من الأخبار (٥) كما تقدّم بعضها أنّ جماعة من كبار الأصحاب مثل محمد بن أبي عمير وصفوان كانوا يقصّرون ، ولذا أشاروا إلى ابن مهزيار بالتقصير ، وهو أيضاً معارض لنصوص التخيير ، هذا.

ولا بدّ من حمل الأمر بالقصر الوارد في هاتيك الأخبار كعمل الأصحاب على التقيّة ، جمعاً بينها وبين أوامر الإتمام المحمولة على الأفضلية كما مرّ وبين أوامر التخيير.

ويدلّنا على ذلك أُمور :

__________________

(١) الفقه على المذاهب الأربعة ١ : ٤٧١ ، حلية العلماء ٢ : ٢٢٤.

(٢) الوسائل ٨ : ٥٣٣ / أبواب صلاة المسافر ب ٢٥ ح ٣٢.

(٣) الفقيه ١ : ٢٨٣ / ١٢٨٥.

(٤) عيون أخبار الرضا ٢ : ١٨ / ٤٤.

(٥) منها ما في الوسائل ٨ : ٥٣٥ / أبواب صلاة المسافر ب ٢٦ ح ٢.

٤٠١

.................................................................................................

______________________________________________________

أحدها : أنّ من الواضح جدّاً أنّ العامة لا يرون خصوصية لتلك الأماكن بل إنّ حكمها حكم غيرها من ثبوت التقصير في الجميع ، وعليه جرت سيرتهم واستقرّ عملهم وإن اختلف رأيهم ونسب إلى كثير منهم التخيير ، أخذاً بظاهر نفي الجناح في الآية المباركة كما ستعرف (١). ولا ينبغي التأمّل في أنّهم (عليهم السلام) كانوا يرون الخصوصية ، فكانوا يقصّرون في الطريق قبل الوصول إلى تلك المواضع جزماً.

إذن فلو كان الأمر بالقصر في هذه الأخبار لبيان الحكم الواقعي للغيت الخصوصية ، ولم يكن ثمة أيّ فرق بينها وبين غيرها من البقاع ، فلا جرم يكون محمولاً على التقيّة ، بحيث لو لم تكن لدينا أيّة رواية أُخرى ما عدا هاتين الطائفتين المتعارضتين للزم بمقتضى هذه القرينة القاطعة حمل الأمر بالقصر على التقيّة.

ثانيها : ما تقدّم من الروايات الصحيحة الناطقة بأنّ التمام من الأمر المذخور في علم الله المخزون ، وأنّه خاصّ بالشيعة ، وبطبيعة الحال يكون الأمر بالقصر على خلاف ذلك ، فيكون للتقية لا محالة ، أي التقيّة في العمل لا في نفس الأمر إذ هي على قسمين : فتارة : يكون الأمر بنفسه للتقية لأجل وجود من يُتّقى منه في مجلس التخاطب ، وأُخرى : يؤمر بشي‌ء يكون ذلك الشي‌ء لأجل التقيّة كيلا يعرف الشيعة من غيرهم ، فهو في الحقيقة أمر بالتقيّة ، أي بواقع التقيّة لا بعنوانها.

والمقام من هذا القبيل ، فأمروا شيعتهم بالتقصير لهذه الغاية ، إذ الشيعي المقصّر في الطريق وفي القافلة غيره من المخالفين وهم يرونه بطبيعة الحال ، لو أتم عند ما بلغ مكّة مثلاً وهم يقصّرون عرفوا تشيّعه بذلك.

ولعلّ هذا هو السر في أنّ جماعة من كبار أصحابهم (عليهم السلام) كصفوان

__________________

(١) في ص ٤٠٤ ٤٠٥.

٤٠٢

.................................................................................................

______________________________________________________

ومحمد بن أبي عمير كانوا يقصّرون حسبما يشير إليه قوله في صحيحة ابن مهزيار المتقدّمة : «فإنّ فقهاء أصحابنا أشاروا إلىّ بالتقصير».

وثالثها : صحيحة معاوية بن وهب ، قال : «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن التقصير في الحرمين والتمام ، فقال : لا تتمّ حتّى تجمع على مقام عشرة أيام فقلت : إنّ أصحابنا رووا عنك أنّك أمرتهم بالتمام ، فقال : إنّ أصحابك كانوا يدخلون المسجد فيصلّون ويأخذون نعالهم ويخرجون والناس يستقبلونهم يدخلون المسجد للصلاة ، فأمرتهم بالتمام» (١).

فإنّها واضحة الدلالة على أنّ أمره (عليه السلام) أوّلاً بالقصر كان لأجل التقيّة ، وأنّ التمام مشروع في نفسه ، وإلّا فلو لم يكن مشروعاً ولا صحيحاً ، أكان مجرّد الخروج والناس يستقبلونهم من مسوّغات التمام ، وهل هذا إلّا أمر بترك الصلاة في هذا اليوم. فنفس هذا البيان شاهد صدق على استناد الأمر بالقصر إلى التقيّة ، وإلّا فكيف يأمر الإمام (عليه السلام) بالإتيان بغير المأمور به ، هذا.

ويمكن تأييد المطلوب برواية عبد الرحمن بن الحجاج ، قال «قلت لأبي الحسن (عليه السلام) : إنّ هشاماً روى عنك أنّك أمرته بالتمام في الحرمين وذلك من أجل الناس ، قال : لا ، كنت أنا ومَن مضى من آبائي إذا وردنا مكّة أتممنا الصلاة واستترنا من الناس» (٢) حيث يظهر من استتار التمام مخالفته للتقية ، وأنّ عمل العامة كان على القصر.

وإنّما لم نستدلّ بها لأنّها مضافاً إلى نوع غموض وتشويش في دلالتها (٣) كما

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٥٣٤ / أبواب صلاة المسافر ب ٢٥ ح ٣٤.

(٢) الوسائل ٨ : ٥٢٦ / أبواب صلاة المسافر ب ٢٥ ح ٦.

(٣) فانّ مقتضى صدرها أنّ عمل الناس آن ذاك كان على التمام ، ولأجله أمر (عليه السلام)

٤٠٣

.................................................................................................

______________________________________________________

اعترف به في الحدائق (١) غير نقيّة السند وإن عبّر عنها في كلمات القوم بالصحيحة تارة وبالحسنة أُخرى ، فإنّ الحسن بن الحسين اللؤلؤي قد تعارض فيه الجرح والتعديل ، فلا يمكن الحكم بوثاقته كما نبّه عليه سيّدنا الأُستاذ (دام ظلّه) في المعجم (٢).

وعلى الجملة : فالذي يظهر لنا من مجموع هذه الروايات بعد ضمّ بعضها إلى بعض هو ثبوت التخيير ، بل كون التمام أفضل ، بل من المذخور في علم الله. ولكنّهم (عليهم السلام) أمروا أصحابهم بالتقصير مخافة وقوعهم في خلاف التقيّة فإنّ من لاحظ الروايات الواردة في المواضع الأربعة يظهر له بوضوح أنّ المتعارف بين الناس كان هو القصر ، وأمّا التمام فقد كان من العلم المخزوم الذي لم يخبروا به إلّا بعض أصحابهم وخواصّ شيعتهم.

وقد عرفت استقرار عمل العامة وسيرتهم الخارجية بمختلف مذاهبهم على القصر ، من غير فرق بين هذه المواضع وغيرها ، وإن اختلفت آراؤهم وتشتّت أنظارهم في حكم التقصير للمسافر.

ففي كتاب الفقه على المذاهب الأربعة أنّ الشافعية والحنابلة يرون التخيير بين القصر والتمام ، والحنفية والمالكية متّفقون على أنّ القصر واجب غير فرض بمعنى كونه من السنّة المؤكّدة ، إلّا أنّهم اختلفوا في الجزاء المترتّب على تركه.

فالحنفية يرون أنّه لو أتمّ يحرم من الشفاعة ويحكم بصحّة صلاته إذا جلس

__________________

هشاماً بالتمام تقيّة منهم ، ومقتضى ذيلها أنّ عملهم كان على القصر ، ومن ثمّ كان (عليه السلام) يستر الإتمام عن الناس ، ومن المستبعد جدّاً خطأ الراوي ، ولا سيما مع كونه من الأجلاء في مثل هذه الأُمور الحسّية الصادرة بمرأى منه ومسمع.

(١) الحدائق ١١ : ٤٤٣.

(٢) معجم رجال الحديث ٤ : ٢٩٨ / ٢٧٩٣.

٤٠٤

.................................................................................................

______________________________________________________

في الركعة الثانية بمقدار التشهّد ، وإن كان مسيئاً عاصياً. فأصل الصلاة واجب والقصر واجب آخر.

وأمّا المالكية فيرون أنّه لا يؤاخذ على تركه ، وإنّما يحرم من ثواب السنّة المؤكّدة فقط (١).

وفي كتاب المغني لابن قدامة أنّ الحنابلة يرون التخيير ، والشافعية والمالكية يرون الإتمام ، والحنفية يرون وجوب القصر (٢). وكيف ما كان ، فيظهر من مجموع الكلمات استقرار عملهم على القصر ، كاستقرار رأيهم على جوازه بالمعنى الأعم وإن اختلفوا في سائر الخصوصيات حسبما عرفت.

والحاصل : أنّ المستفاد من تتبّع أقوالهم أنّ المتعارف الخارجي في ذلك الزمان كان هو القصر ، ولذلك قال (عليه السلام) في رواية ابن الحجاج المتقدّمة : «أتممنا الصلاة واستترنا من الناس» فإنّ الإتمام لو كان هو المتعارف لم تكن حاجة إلى الاستتار.

وعليه فلا مناص من حمل الأمر في نصوص القصر على التقيّة ، لجهة من الجهات ، ولعلّه لأجل أن لا يعرف الشيعي بذلك كما مرّ ، وهذا هو وجه الجمع بين هذه الأخبار.

إذن فالصحيح ما عليه المشهور من ثبوت التخيير في هذه المواطن ، وإن كان التمام هو الأفضل ، نعم الأحوط اختيار القصر كما أشار إليه في المتن لاحتمال وجوبه كما اختاره الصدوق حسبما عرفت.

وأمّا ما نسب إلى المرتضى من وجوب التمام فهو لضعف مستنده جدّاً

__________________

(١) الفقه على المذاهب الأربعة ١ : ٤٧١.

(٢) المغني ٢ : ١٠٨.

٤٠٥

وما ذكرناه هو القدر المتيقّن ، وإلّا فلا يبعد كون المدار على البلدان (*) الأربعة ، وهي مكّة والمدينة والكوفة وكربلاء ، لكن لا ينبغي ترك الاحتياط خصوصاً في الأخيرتين (١).

______________________________________________________

لا يمكن المساعدة عليه ، فلا يكون هذا القول منافياً للاحتياط المزبور ، هذا كلّه في أصل التخيير.

وأمّا الكلام في موضع هذا التخيير من حيث السعة والضيق فستعرفه في التعليق الآتي.

(١) ينبغي التكلّم تارة في الحرمين الشريفين أعني مكّة والمدينة ، وأُخرى في الحرمين الآخرين ، فهنا مقامان :

أمّا المقام الأوّل : فالمذكور في غير واحد من النصوص عنوان الحرم ، وفسّر ذلك في صحيحة ابن مهزيار المتقدّمة (١) الشارحة لبقية الأخبار بمكّة والمدينة. فبمقتضى هذه الصحيحة المفسّرة مضافاً إلى تعلّق الحكم بنفس البلدين في جملة أُخرى من النصوص وقد تقدّمت يكون التخيير ثابتاً في تمام البلدين الشريفين ولا يختصّ بالمسجدين الأعظمين ، فانّ الحرم لو كان مجملاً فصحيحة ابن مهزيار شارحة ، وبقية الأخبار ظاهرة في العموم.

وما يحتمل أن يكون موجباً للاختصاص جملة من الروايات المشتملة على التقييد بالمسجدين في كلام الإمام (عليه السلام) ، أمّا ما كان في كلام السائل فلا أثر له كما لا يخفى.

__________________

(*) بل هو بعيد بالإضافة إلى كربلاء ، ولا يترك الاحتياط بالنسبة إلى الكوفة.

(١) في ص ٣٩٩.

٤٠٦

.................................................................................................

______________________________________________________

وحينئذ فقد يتوهّم التخصيص ، نظراً إلى ما ذكرناه في الأُصول (١) من أنّ الوصف وإن لم يكن له مفهوم بالمعنى المصطلح ، ولذا لا مانع من ثبوت الحكم في غير مورد الوصف بعنوان آخر ، إلّا أنّه يدلّ لا محالة على أنّ موضوع الحكم لم يكن هو الطبيعي على إطلاقه وسريانه ، وإلّا لكان التقييد جزافاً ولغواً ظاهراً لا يليق بكلام الحكيم إلّا أن تكون هناك نكتة ظاهرة وإن كانت هي الغلبة ، كما في قوله تعالى (وَرَبائِبُكُمُ اللّاتِي فِي حُجُورِكُمْ) ... إلخ (٢). وعليه فالتقييد المزبور يكشف عن عدم تعلّق الحكم بمطلق البلدين بطبيعة الحال.

ولكنّه لا يتم ، أمّا أوّلاً : فلأنّ النكتة المذكورة موجودة هنا أيضاً ، ضرورة أنّ الغالب في مَن يقدم البلدين الشريفين إيقاع صلواته ولا سيما الظهرين والعشاءين في المسجدين العظيمين ، اللّذين أُعدّا للصلاة ، ولا يخفى فضلهما وقداستهما كما هو واضح.

وثانياً : أنّ الروايات المشتملة على التقييد المزبور روايات أربع ، وكلّها ضعيفة السند ، فليست لدينا رواية معتبرة تضمّنت التقييد بالمسجدين في كلام الإمام (عليه السلام) ليدّعى دلالتها على المفهوم ، فإنّه من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع.

وإليك هذه الروايات :

فمنها : رواية عبد الحميد خادم إسماعيل بن جعفر عن أبي عبد الله (عليه السلام) «قال : تتمّ الصلاة في أربعة مواطن ، في المسجد الحرام ، ومسجد الرسول ، ومسجد الكوفة ، وحرم الحسين (عليه السلام)» (٣).

__________________

(١) محاضرات في أُصول الفقه ٥ : ١٣٣ وما بعدها.

(٢) النِّساء ٤ : ٢٣.

(٣) الوسائل ٨ : ٥٢٨ / أبواب صلاة المسافر ب ٢٥ ح ١٤.

٤٠٧

.................................................................................................

______________________________________________________

وهي ضعيفة بمحمّد بن سنان ، وكذا عبد الملك القمي وعبد الحميد ، فإنّهما مجهولان ، ولكنّهما مذكوران في أسانيد كامل الزيارات ، والعمدة ما عرفت. نعم هذه الرواية بعينها مذكورة في كامل الزيارات بسند آخر ، وليس فيه ابن سنان (١). وعليه فتصبح الرواية معتبرة.

ولكن لا يمكن الاعتماد على رواية ابن قولويه ، لمعارضتها برواية الشيخ ، من جهة وجود محمد بن سنان في سندها (٢). وأمّا الكافي فالرواية فيه أيضاً في سندها محمد بن سنان على ما رواه عنه في الوسائل ، إلّا أنّ النسختين المطبوعتين القديمة والحديثة خاليتان عنه (٣) ، وبالأخرة يشكّ في وجود ابن سنان في السند وعدمه ، بل ربما يرجح الأوّل ، نظراً إلى عدم معهودية رواية الحسين بن سعيد عن عبد الملك القمي ، حيث لم توجد له ولا رواية واحدة ، وأمّا روايته عن محمد بن سنان فهي كثيرة جدّاً تبلغ مائة وتسعة وعشرين مورداً.

وكيف ما كان ، فمع التردّد المزبور لا يمكن الحكم بصحّة السند ، إذ لا يحتمل أنّ الحسين بن سعيد روى لأحمد بن محمد عن عبد الملك القمي تارة بواسطة محمد بن سنان كما في رواية التهذيب ، وأُخرى بلا واسطة كما في رواية المزار فانّ هذا بعيد غايته ، بل قد روى مرّة واحدة ، إمّا مع الواسطة أو بدونها ، وحيث لم تكن تلك المرّة محرزة فلا جرم تسقط عن الحجّية.

ومنها : رواية حذيفة بن منصور عمّن سمع أبا عبد الله (عليه السلام) يقول : «تتم الصلاة في المسجد الحرام ، ومسجد الرسول ، ومسجد الكوفة ، وحرم الحسين (عليه السلام)» (٤) وهي مضافاً إلى الإرسال ضعيفة بمحمّد بن سنان.

__________________

(١) كامل الزيارات : ٢٤٩ / ٣.

(٢) التهذيب ٥ : ٤٣١ / ١٤٩٧.

(٣) الكافي ٤ : ٥٨٧ / ٥.

(٤) الوسائل ٨ : ٥٣٠ / أبواب صلاة المسافر ب ٢٥ ح ٢٣.

٤٠٨

.................................................................................................

______________________________________________________

ومنها : رواية أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : «سمعته يقول : تتم الصلاة في أربعة مواطن : في المسجد الحرام ، ومسجد الرسول ، ومسجد الكوفة وحرم الحسين (عليه السلام)» (١) وهي ضعيفة بمحمّد بن سنان أيضاً.

ومنها : رواية إبراهيم بن أبي البلاد (و) عن رجل من أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : «تتم الصلاة في ثلاثة مواطن : في المسجد الحرام ومسجد الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) وعند قبر الحسين (عليه السلام)» (٢) فإنّها مرسلة ، ولا أقل من احتمال الإرسال حسب اختلاف النسخ ، حيث ذكر في بعض النسخ عن رجل من غير ذكر العاطف.

نعم ، أُشير إلى الرجل في الكافي بقوله : يقال له حسين (٣) ، وفي الكامل : يقال له الحسين (٤) ، فربما يقال بأنّه الحسين بن المختار القلانسي الثقة ، بقرينة إبراهيم ابن أبي البلاد الراوي عنه في غير موضع.

ولكنّه غير واضح ، لاحتمال كون الرجل مجهولاً مطلقاً كما ينبئ عنه التنكير في نسخة الكافي ، ومعه لا تورث القرينة المزبورة وثوقاً يركن إليه ، ومن المعلوم أنّ الرجل المجهول لا يعدّ من رجال الكامل ليشمله توثيقه.

فتحصّل : أنّ هذه الروايات كلّها ضعاف ، لا يعتمد على شي‌ء منها. إذن ما دلّ على إتمام الصلاة بل أفضليته في مكّة والمدينة بتمامهما سليم عمّا يصلح للمعارضة. فالصحيح ثبوت التخيير في البلدين الشريفين مطلقا.

وأمّا المقام الثاني : أعني الحرمين الآخرين :

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٥٣١ / أبواب صلاة المسافر ب ٢٥ ح ٢٥.

(٢) الوسائل ٨ : ٥٣٠ / أبواب صلاة المسافر ب ٢٥ ح ٢٢.

(٣) الكافي ٤ : ٥٨٦ / ٤.

(٤) كامل الزيارات : ٢٤٩ / ٢.

٤٠٩

.................................................................................................

______________________________________________________

أمّا الكوفة : فالروايات الواردة فيها مختلفة :

فمنها : ما تضمّن التعبير بحرم أمير المؤمنين (عليه السلام) وهي صحيحة حماد بن عيسى المتقدّمة (١).

ولكنّها مجملة لم يعلم المراد من الحرم ، وأنّه مطلق البلد أم خصوص المسجد وإن كان قد يستشعر الأوّل بمقتضى مناسبة الحكم والموضوع ، حيث إنّ مكّة والمدينة المذكورين في الصحيحة بتمامهما حرم الله ورسوله كما عرفت ، والمناسب لذلك أن يكون حرم أمير المؤمنين (عليه السلام) أيضاً كذلك.

ولكنّه مجرّد إشعار ، وهو غير الدلالة. ومن المعلوم أنّ المخصّص إذا كان مجملاً دائراً بين الأقلّ والأكثر لا بدّ فيه من الاقتصار على المقدار المتيقّن ، وهو في المقام خصوص المسجد ، فيرجع فيما عداه إلى عمومات القصر.

ومنها : ما علّق الحكم فيه على نفس البلد أعني الكوفة ، وهي رواية زياد القندي قال «قال أبو الحسن (عليه السلام) : يا زياد أُحبّ لك ما أُحبّ لنفسي وأكره لك ما أكره لنفسي ، أتمّ الصلاة في الحرمين ، وبالكوفة ، وعند قبر الحسين (عليه السلام)» (٢).

رواها الشيخ (قدس سره) بسندين (٣) ، كلاهما ضعيف ، ولا أقلّ من جهة وقوع جعفر بن محمد بن مالك فيهما ، فقد قيل إنّه كذّاب ، بل اجتمعت فيه عيوب الضعاف ، ولذا تعجّب النجاشي قائلاً : لا أدري كيف روى عنه شيخنا النبيه الثقة أبو علي بن همام وشيخنا الجليل الثقة أبو غالب الزراري (٤). وأمّا

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٥٢٤ / أبواب صلاة المسافر ب ٢٥ ح ١ ، وقد تقدّمت في ص ٣٩٨.

(٢) الوسائل ٨ : ٥٢٧ / أبواب صلاة المسافر ب ٢٥ ح ١٣.

(٣) التهذيب ٥ : ٤٣٠ / ١٤٩٥ ، ١٤٩٩.

(٤) رجال النجاشي : ١٢٢ / ٣١٣ ، معجم رجال الحديث ٥ : ٨٧ / ٢٢٨٨.

٤١٠

.................................................................................................

______________________________________________________

محمد بن حمدان فهو وإن كان مجهولاً لكنّه مذكور في أسناد كامل الزيارات ، ثمّ إنّ الشيخ روى ثانيهما بإسناده عن محمد بن أحمد بن داود ، والظاهر أنّه هو القمي الثقة ، إلّا أنّ في الوسائل : محمد بن أحمد بن داود القندي ، ولا شكّ أنّه غلط ، وليست في التهذيب ولا في الاستبصار (١) كلمة (القندي).

ومنها : ما علّق الحكم فيه على المسجد ، وهي عدّة روايات كلّها ضعاف وهي الروايات الثلاث المتقدّمة (٢) في الحرمين أعني رواية عبد الحميد ، وحذيفة وأبي بصير ، أضف إليها رواية رابعة وهي مرسلة الصدوق (٣) وخامسة وهي مرسلة حماد بن عيسى عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : «من الأمر المذخور إتمام الصلاة في أربعة مواطن : بمكّة ، والمدينة ، ومسجد الكوفة ، والحائر» (٤).

هذه مجموع الروايات الواردة في الباب ، وقد عرفت أنّ كلّها ضعاف ما عدا الصحيحة التي ذكرناها أوّلاً المشتملة على التعبير بالحرم. غير أنّه من جهة الإجمال لا بدّ من الاقتصار على القدر المتيقّن ، وهو المسجد كما مرّ. إذن يشكل إسراء الحكم لمطلق البلد.

ومع ذلك كلّه لا يبعد إلحاق الكوفة بالحرمين في ثبوت التخيير لمطلق البلد كما ذكره في المتن ، وذلك لصحيحتين تضمّنتا أنّ حرم أمير المؤمنين (عليه السلام) هو الكوفة ، فتكونان مفسّرتين للصحيحة المتقدّمة ورافعتين لإجمالها :

إحداهما : صحيحة حسّان بن مهران أخي صفوان ، الذي وثّقه النجاشي صريحاً

__________________

(١) [لم نعثر على هذا السند في الاستبصار].

(٢) في ص ٤٠٧ ٤٠٩.

(٣) الوسائل ٨ : ٥٣١ / أبواب صلاة المسافر ب ٢٥ ح ٢٦ ، الفقيه ١ : ٢٨٣ / ١٢٨٤.

(٤) الوسائل ٨ : ٥٣٢ / أبواب صلاة المسافر ب ٢٥ ح ٢٩.

٤١١

.................................................................................................

______________________________________________________

بل قال : هو أوجه من أخيه (١). والسند إلى حسّان أيضاً صحيح ، قال : «سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : مكّة حرم الله والمدينة حرم رسول الله ، والكوفة حرمي ، لا يريدها جبّار بحادثة إلّا قصمه الله» (٢).

ومن المعلوم جدّاً أنّها وردت في مقام الشرح والتفسير ، يعني كما أنّ حرم الله مكّة ، وحرم رسوله المدينة فكذلك حرمي الكوفة. وعليه فاذا كان حكم ثابتاً لحرمة (عليه السلام) وهو جواز الإتمام بمقتضى الصحيحة المتقدّمة فهو ثابت للكوفة ، لأنّها حرمه (عليه السلام) بمقتضى هذه الصحيحة.

ثانيتهما : صحيحة خالد القلانسي المروية بطريق الكليني ومزار ابن قولويه وكلاهما صحيح ، مع اختلاف في الجملة في متنهما عن الصادق (عليه السلام) قال : «مكّة حرم الله وحرم رسوله وحرم علي بن أبي طالب (عليه السلام) ... إلى أن قال : والكوفة حرم الله وحرم رسوله وحرم علي بن أبي طالب» إلخ (٣).

وهي صحيحة السند كما عرفت وإن رميت بالضعف ، فانّ طريقي الصدوق (٤) والشيخ (٥) وإن اشتملا على نضر بن شعيب ولم يوثّق ، إلّا أنّ طريق الكليني ومزار ابن قولويه خال عن ذلك ، نعم فيهما محمد بن الحسن بن علي بن مهزيار عن أبيه عن جدّه ، ولم يوثّق لا هو ولا أبوه ، ولكنّهما موجودان في أسناد كامل الزيارات.

__________________

(١) رجال النجاشي : ١٤٧ / ٣٨١.

(٢) الوسائل ١٤ : ٣٦٠ / أبواب المزار ب ١٦ ح ١.

(٣) الوسائل ٥ : ٢٥٦ / أبواب أحكام المساجد ب ٤٤ ح ١٣ ، الكافي ٤ : ٥٨٦ / ١ ، كامل الزيارات : ٢٩ / ٨.

(٤) الفقيه ٤ (المشيخة) : ٣٥.

(٥) الفهرست : ٦٦ / ٢٥٦ [ولكن الشيخ رواها في التهذيب ٦ : ٣١ / ٥٨ بسند آخر غير مشتمل على النضر بن شعيب ، بل نفس سند المزار].

٤١٢

.................................................................................................

______________________________________________________

وأمّا الطعن في السند بجهالة (خلّاد) على ما هو الموجود في الكافي بمختلف طبعاته ، ففيه أنّه لا ينبغي التأمّل في كونه محرّف (خالد) كما في الوسائل والتهذيب والكامل ، إذ لم تثبت للأوّل ولا رواية واحدة. ودعوى تردّده أي خالد بين ابن ماد الثقة وابن زياد المجهول ، يردّها الانصراف إلى الأوّل الذي هو أعرف وأشهر كما لا يخفى.

وعلى الجملة : فالرواية من حيث السند تامّة ، كما أنّها ظاهرة الدلالة ، لكونها في مقام الشرح والتفسير كما مرّ ، لا مجرّد التطبيق كما قيل.

وعليه فلا يبعد أن يقال : إنّ التخيير ثابت في تمام الكوفة ، لأنّه ثابت للحرم وحرم أمير المؤمنين هو الكوفة بتمامها بمقتضى هاتين الصحيحتين.

وأمّا النجف الأشرف فهو ظهر الكوفة وليس منها ، وإن احتمل بعض الفقهاء شمول الحكم لحرم أمير المؤمنين (عليه السلام).

وأمّا حرم الحسين (عليه السلام) : فالروايات الواردة فيه على طوائف وعناوين ثلاثة :

أحدها : ما تضمّن عنوان حرم الحسين (عليه السلام) كصحيحة حمّاد بن عيسى المتقدّمة (١) ، ونحوها غيرها. ولكنّ السند غير نقي ، كروايات عبد الحميد وحذيفة ، وأبي بصير المتقدّمات (٢) ، وقد عرفت أنّها بين ضعيف ومرسل ، والعمدة ما عرفت.

ثانيها : ما كان بعنوان عند قبر الحسين (عليه السلام) وهي كلّها ضعيفة.

منها : رواية أبي شبل قال «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) : أزور الحسين

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٥٢٤ / أبواب صلاة المسافر ب ٢٥ ح ١ ، وقد تقدّمت في ص ٣٩٨.

(٢) في ص ٤٠٧ ٤٠٩.

٤١٣

.................................................................................................

______________________________________________________

(عليه السلام) قال : نعم ، زر الطيب وأتمّ الصلاة عنده ، قلت : بعض أصحابنا يرى التقصير ، قال : إنّما يفعل ذلك الضعفة» (١).

والمراد إمّا ضعف الإيمان أو ضعف البدن عن الإتيان بالتمام كالعجزة والشيبة. وكيف ما كان ، فهي ضعيفة السند بسهل بن زياد.

ومنها : روايتا زياد القندي وإبراهيم بن أبي البلاد (٢) ، وقد مرّ ضعفهما.

ومنها : رواية عمرو بن مرزوق قال : «سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن الصلاة في الحرمين وعند قبر الحسين ، قال : أتمّ الصلاة فيهنّ» (٣).

وهذه الرواية وإن كان بعض رواتها مجهولاً إلّا أنّه مذكور في كامل الزيارات فيمكن القول بصحّتها. إلّا أنّها لا تدلّ على الاختصاص ، لوقوع التقييد بـ «وعند قبر الحسين» في كلام السائل ، فكأنّ السؤال عن خصوص ذلك. فلا تدلّ على عدم شمول الحكم لتمام البلد ، لعدم كونها متعرّضة لذلك كما هو ظاهر.

ثالثها : ما ورد بعنوان الحائر ، وهو روايتان ، كلتاهما ضعيفة بالإرسال إحداهما مرسلة الصدوق والأُخرى مرسلة حماد بن عيسى المتقدّمتان (٤).

فاتّضح أنّ الرواية المعتبرة منحصرة في عنوان حرم الحسين (عليه السلام) وحيث إنّ لفظ الحرم ليس له وضع شرعي ولا متشرّعي ، بل هو مأخوذ من الحريم بمعنى الاحترام ، فالمراد به في المقام يتردّد بين أُمور :

أحدها : أن يراد به كربلاء بتمامها ، كما كان كذلك في حرم الله وحرم رسوله

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٥٢٧ / أبواب صلاة المسافر ب ٢٥ ح ١٢.

(٢) المتقدِّمتين في ص ٤١٠ ، ٤٠٩.

(٣) الوسائل ٨ : ٥٣٢ / أبواب صلاة المسافر ب ٢٥ ح ٣٠.

(٤) في ص ٤١١ [لم يتقدّم متن مرسلة الصدوق ، إلّا أنّه قريب جدّاً من متن الثانية].

٤١٤

.................................................................................................

______________________________________________________

وحرم أمير المؤمنين (عليه السلام) على ما عرفت ، فإنّ قدسية الحسين العظيمة وشرافته تقتضي ذلك كما لا يخفى.

ثانيها : أن يكون أخص من ذلك ، وهو الصحن الشريف وما يحتوي عليه كما ذهب إليه جماعة ، منهم العلّامة المجلسي (قدس سره) (١) باعتبار أنّ من يرد الصحن الشريف حتّى من أهالي كربلاء يرى أنّ لهذا المكان المقدّس احتراماً خاصاً لا يشاركه خارج الصحن ، ولأجله لا يرتكب بعض الأفعال التي لا تناسب المقام من ضحك كثير أو لعب ونحو ذلك.

ثالثها : أن يكون أضيق من ذلك أيضاً ، بأن يراد به الرواق وما حواه من الحرم الشريف ، فانّ الاحترام هناك آكد ومناط التجليل أزيد ، ولذا لا يرتكب فيه ما قد يرتكب في الصحن الشريف.

رابعها : أن يراد به الأضيق من الكلّ ، وهو ما دار عليه سور الحرم ، والمعبّر عنه باسم الحرم في عصرنا الحاضر ، فانّ هذا المكان الشريف هو الفرد البارز وأظهر المصاديق ممّا يطلق عليه لفظ الحرم. فهو القدر المتيقّن ممّا يراد من هذا اللفظ عند الإطلاق.

فإذا دار الأمر بين هذه المحتملات فمقتضى الصناعة الاقتصار على المقدار المتيقّن لدى تردّد المخصّص المجمل بين الأقلّ والأكثر ، وهو المعنى الأخير والرجوع فيما عداه إلى عمومات القصر التي هي المرجع ما لم يثبت التخصيص بدليل قاطع.

وأمّا احتمال الاختصاص بما حول الضريح المقدس ملاصقاً معه أو في حكم الملاصق تحت القبة السامية فهذا لا دليل عليه بعد كون المتيقّن من الحرم أوسع من ذلك حسبما عرفت.

__________________

(١) البحار ٨٦ : ٨٩ [وفيه : انّه مجموع الصحن القديم لا ما تجدّد منه في الدولة الصفوية].

٤١٥

ولا يلحق بها سائر المشاهد (١).

______________________________________________________

اللهمّ إلّا أن يستند في ذلك إلى الروايات المتقدّمة المتضمّنة للتعبير بـ (عند القبر) إذ عليه يمكن أن يقال بانصراف هذا العنوان إلى ما حول الضريح ، ولذا لو صلّى بعيداً عنه لزحام ونحوه يصح أن يقول لم أتمكّن من الصلاة عند القبر بل صلّيت في المسجد الذي هو داخل الحرم الشريف. فالاختصاص المزبور على هذا المبنى غير بعيد ، لكنّك عرفت ضعف تلك الروايات بأجمعها ، فهذا التخصيص بلا موجب.

فالنتيجة على ما ذكرناه : تعميم الحكم بالتخيير لتمام الحرم الشريف ، ولكن لا يتعدّى إلى خارجه حتّى الرواق ، فضلاً عن غيره ، لعدم الدليل. وإنّما تعدّينا عن المساجد في الحرمين وفي الكوفة لقيام الدليل ، المفقود في المقام حسبما عرفت.

(١) ذهب السيّد (١) وابن الجنيد (٢) إلى إلحاق المشاهد المشرفة بالأماكن الأربعة في الحكم بالتخيير ، بدعوى أنّ المستفاد من الأخبار أنّ المناط في أفضلية التمام هو الاحترام وشرافة المكان ، وهو شامل لحرم جميع المعصومين (عليهم السلام).

ولكنّه كما ترى يشبه القياس ، وأنّى لنا معرفة ملاكات الأحكام وهي تعبّدية صرفة ، ومن الجائز اشتمال هذه الأماكن على خصوصية مفقودة في غيرها ، كما أنّ لحرم الحسين (عليه السلام) بل ولزيارته خصوصية لم تثبت حتّى لحرم

__________________

(١) حكاه عنه الحلّي في السرائر ١ : ٣٤٢ ٣٤٣ ، والعلّامة في المختلف ٢ : ٥٥٥ المسألة ٤٠٠ [وربما استفيد ذلك من جمل العلم والعمل (رسائل الشريف المرتضى ٣) : ٤٧ حيث قال : ولا تقصير في مكّة ومسجد النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) ومسجد الكوفة ومشاهد الأئمة القائمين مقامه (عليهم السلام)].

(٢) حكاه عنه في المختلف ٢ : ٥٥٥ المسألة ٤٠٠.

٤١٦

والأحوط في المساجد الثلاثة الاقتصار على الأصلي منها (١) دون الزيادات الحادثة في بعضها ، نعم لا فرق فيها بين السطوح والصحن والمواضع المنخفضة منها ، كما أنّ الأحوط في الحائر الاقتصار (*) على ما حول الضريح المبارك.

______________________________________________________

أمير المؤمنين (عليه السلام) فضلاً عن غيره من الأئمة المعصومين (سلام الله عليهم أجمعين).

فالظاهر اختصاص الحكم بموارد النصوص وهي الأماكن الأربعة فقط.

(١) فلا يتعدّى إلى الزيادات الحادثة بعد صدور هذه الأخبار ، إذ النصوص تشير إلى ما هو موصوف فعلاً بالمسجدية ، لكونها ناظرة إلى تلك المساجد المعروفة المعلومة على سبيل القضيّة الخارجية. فلا تعمّ الإضافات اللّاحقة بعد عهد الصادقين (عليهما السلام). وأمّا مسجد الكوفة فلم يزد عليه شي‌ء لو لم ينقص عنه.

ومنه تعرف أنّ الزيادات الحادثة قبل صدور هذه الأخبار مشمولة للحكم لاندراجها تحت النصوص.

هذا كلّه بناءً على اختصاص الحكم بالمساجد ، وأمّا بناءً على تعميمه لمطلق البلد فلا يبعد القول بشمول الحكم لعنوان البلد وإن اتّسع ، نظراً إلى أنّ المستفاد من الأدلّة دوران الحكم مدار صدق البلدة بنحو القضيّة الحقيقية ، ومن ثمّ لو اتّسع آخر البيوت بعد صدور هذه النصوص لم يكد يتأمل في شمول الحكم للمقدار الزائد من ذاك البيت ، لكونه من البلدة حقيقة ، والمفروض تعلّق الحكم بعنوان البلد.

وعلى الجملة : الحكم المتعلّق بعنوان البلد يدور بحسب المتفاهم العرفي مدار صدق اسمه سعة وضيقاً ، ولأجله ترى أنّ ما ورد في الأخبار من كراهة البيتوتة

__________________

(*) والأظهر التخيير في جميع الحرم الشريف.

٤١٧

.................................................................................................

______________________________________________________

في بغداد ، أو استحباب المبيت في النجف الأشرف أو في كربلاء (١) لا يختص بتلك البلدان على مساحتها القديمة الكائنة عليها في عهد صدور تلك الأخبار بل يشمل الزيادات المتصلة المندرجة تحت اسم البلد ، ويتعدّى إليها ، هذا.

ولكن الظاهر عدم التعدِّي في المقام ، لوجود مزيّة فيه مفقودة في غيره ، وهي أنّ الحكم وإن تعلّق بعنوان مكّة والمدينة في جملة من الأخبار كصحيحة ابن مهزيار (٢) إلّا أنّ المستفاد من مجموع النصوص أنّ موضوع الحكم ليس هو مجرّد اسم البلد وعنوانه على إطلاقه وسريانه ، بل بما أنّه مصداق للحرم ومعنون بهذا الوصف العنواني ، ولا ريب أنّ المنسبق منه ما كان متصفاً بالحرمية في عهده (صلّى الله عليه وآله وسلم) وموصوفاً بالاحترام آن ذاك ، المحدود طبعاً بحدود معيّنة ، ولا تشمل الزيادات المستحدثة بعد ذلك ، كما يفصح عنه قوله (عليه السلام) في صحيحة معاوية بن عمار : «... وحدّ بيوت مكّة التي كانت قبل اليوم عقبة المدنيين ، فانّ الناس قد أحدثوا بمكّة ما لم يكن» (٣).

وأوضح منها قوله (عليه السلام) في ذيل صحيحته الأُخرى الطويلة الحاكية لكيفية حجّ النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) : «... ودخل من أعلى مكّة من عقبة المدنيين ، وخرج من أسفل مكّة من ذي طوى» (٤).

حيث يظهر منهما بوضوح أنّ العبرة في الأحكام المترتّبة على هذه البلدة المقدّسة من قطع التلبية أو عقد الإحرام أو التخيير بين القصر والتمام وما شاكل ذلك إنّما هي بما كان كذلك في عهده (صلّى الله عليه وآله وسلم) ولا تعمّ الزيادات المستحدثة في العصور المتأخّرة.

__________________

(١) [لم نعثر عليه].

(٢) المتقدمة في ص ٣٩٩.

(٣) الوسائل ١٢ : ٣٨٨ / أبواب الإحرام ب ٤٣ ح ١.

(٤) الوسائل ١١ : ٢١٣ / أبواب أقسام الحج ب ٢ ح ٤.

٤١٨

[٢٣٥٦] مسألة ١٢ : إذا كان بعض بدن المصلّي داخلاً في أماكن التخيير وبعضه خارجاً ، لا يجوز له التمام (١) نعم لا بأس بالوقوف منتهى أحدها إذا كان يتأخّر حال الركوع والسجود بحيث يكون تمام بدنه داخلاً حالهما.

______________________________________________________

فتحصّل : أنّ الأحوط لو لم يكن أقوى الاقتصار على ما كان عليه سابقاً وعدم التجاوز عنها. هذا كلّه بالنسبة إلى مكّة والمدينة والكوفة.

وأمّا في كربلاء فقد عرفت عدم لزوم الاقتصار على ما حول الضريح المبارك بل العبرة بصدق الحرم الوارد في الصحيحة (١) ، ولكن من المقطوع به أنّ الحرم الشريف بوضعه الفعلي لم يكن موجوداً في ذلك الزمان ، وإنّما خصصنا الحكم بما دار عليه سور الحرم لكونه المتيقّن من معنى الحرم ، الذي هو من الحريم بمعنى الاحترام ، وعليه فلو فرضنا توسعة الحرم الشريف فيما بعد وصيرورته ضعفين مثلاً أمكن شمول الحكم لتلك الزيادة أيضاً ، نظراً لصدق الحرم عليها بعد التوسعة المفروضة ، فيكون مجموع الزائد والمزيد عليه مصداقاً للمتيقّن ، ولكن يجري النقاش فيه أيضاً بمثل ما تقدّم. وسبيل الاحتياط غير خفي ، هذا.

ولا فرق في الأماكن الأربعة المذكورة بين محالّها من السطوح والصحن والمواضع المنخفضة منها كسرداب مسجد الكوفة المعروف ببيت نوح ، أو سرداب مسجد الحرام ونحو ذلك ، كلّ ذلك لإطلاق الأدلّة بعد صدق العنوان على الجميع بمناط واحد كما هو ظاهر.

(١) لخروجه عن منصرف الأدلّة ، كما لو وقف على حافة المسجد بحيث كانت إحدى رجليه داخلة والأُخرى خارجة ، أو وقف على منتهى الخط بحيث كان نصف قدميه داخلاً والنصف الآخر خارجاً.

__________________

(١) وهي صحيحة حماد بن عيسى المتقدمة في ص ٣٩٨.

٤١٩

[٢٣٥٧] مسألة ١٣ : لا يلحق الصوم بالصلاة في التخيير المزبور (١) فلا يصحّ له الصوم فيها إلّا إذا نوى الإقامة أو بقي متردّداً ثلاثين يوماً.

______________________________________________________

نعم ، لو وقف عند منتهى الخط وكانت قدماه داخلتين إلّا أنّ بعض بدنه يخرج حال الركوع والسجود ، ولكنّه يتأخّر حالهما بحيث يكون تمام البدن داخلاً لم يكن به بأس ، لعدم اعتبار وحدة المكان ، وعدم قدح المشي اليسير حال الصلاة ، وإذ يصدق معه الصلاة في المواطن المذكورة فيشمله إطلاق الأدلّة.

(١) لعدم الدليل على الإلحاق ليرفع به اليد عن إطلاق ما دلّ على المنع عن الصيام في السفر (١) ، مضافاً إلى ما في صحيحة عثمان بن عيسى المتقدّمة (٢) من الإعراض عن حكم الصوم ، حيث يستشعر أو يستظهر منه الاختصاص بالصلاة.

بل يمكن أن يقال : إنّ التخيير في الصوم لا معنى له ، فإنّه في الصلاة أمر معقول ، فيؤمر بالطبيعي الجامع مخيّراً في كيفيته بين التمام والقصر ، وأمّا في الصوم فمرجعه إلى الأمر بالجامع بين الفعل والترك والتخيير بين فعل الواجب وتركه وهو كما ترى لا محصّل له إلّا بضرب من العناية ، البعيد عن الأذهان العرفية بأن يراد به التخيير بين الأداء والقضاء.

وأمّا ما ورد من حديث الملازمة بين القصر والإفطار (٣) فغير ناظر إلى القصر الخارجي قطعاً ، حتّى لو بنينا على ثبوت التخيير في الصوم ، فإنّه لا يدور اختيار الإفطار مدار فعل القصر خارجاً ، بل لا دوران حتّى في الصلاتين المترتّبتين فضلاً

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ١٧٣ / أبواب من يصح منه الصوم ب ١ ، ٢.

(٢) الوسائل ٨ : ٥٢٩ / أبواب صلاة المسافر ب ٢٥ ح ١٧ ، وقد تقدّمت في ص ٣٩٨ [وتقدّمت الملاحظة في كونها موثقة فراجع].

(٣) كما في صحيحة معاوية بن وهب المتقدّمة في ص ١١٨.

٤٢٠