موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ مرتضى البروجردي

.................................................................................................

______________________________________________________

فكلامه (قدس سره) مبنيّ إمّا على دعوى الانقلاب وأنّ المسافر الجاهل مكلّف واقعاً بالتمام ، والقصر في موضع التمام لا يجزي كما مرّ ، أو على اختلاف ماهية القصر والتمام وقد قصد المصلّي ماهية ووقعت في الخارج ماهية اخرى ولأجله لا يجزي.

وكلتا الدعويين ساقطتان كما علم ممّا مرّ ، فانّ الانقلاب خلاف ظواهر الأدلّة بل غايته اغتفار الزيادة لو حصلت (١). واختلاف الماهيتين ممنوع ، بل هما طبيعة واحدة ، فلا تضرّه نيّة الخلاف ما لم يكن على سبيل التشريع.

وكيف ما كان ، فلا نعرف وجهاً لحكمه (قدس سره) بالبطلان في هذا الفرع بل الأقوى الصحّة. وسيجي‌ء لذلك مزيد توضيح في المسألة الآتية إن شاء الله تعالى.

ثمّ إنّك عرفت أنّ التذكّر إن كان بعد الدخول في ركوع الركعة الثالثة بحيث فات محلّ العدول بطلت ، ولا بدّ من الإعادة قصراً ، كما هو الحال فيما لو كان التذكّر بعد الفراغ من الصلاة ، وهذا فيما إذا كان الوقت وافياً للإعادة ولو بإدراك ركعة منه فلا إشكال.

وأمّا إذا ضاق الوقت حتّى عن إدراك الركعة فقد يتخيّل أنّه يتم صلاته ولا يرفع اليد عنها ، إذ لو رفع اليد لزمه القضاء ، وقد نطقت الروايات بسقوطه عن الناسي والجاهل. فلا مناص من إتمام ما بيده والاكتفاء به.

ويندفع بأنّ الروايات الناطقة بسقوط القضاء موضوعها من أتمّ في موضع القصر سهواً أو جهلاً ، بحيث تتّصف تلك الزيادة بكونها زيادة سهوية أو زيادة جهلية ، وأنّها حينئذ مغتفرة بمقتضى تلك النصوص كما تقدّم (٢).

__________________

(١) كما اتّضح ممّا تقدّم في ص ٣٧٧.

(٢) في المسألة [٢٣٤٧].

٣٨١

[٢٣٥٢] مسألة ٨ : لو قصّر المسافر اتفاقاً لا عن قصد فالظاهر صحّة صلاته ، وإن كان الأحوط الإعادة ، بل وكذا لو كان جاهلاً بأنّ وظيفته القصر فنوى التمام لكنّه قصّر سهواً (١) ، والاحتياط بالإعادة في هذه الصورة آكد وأشد.

______________________________________________________

وأمّا الزيادة المأتي بها عن علم وعمد كما في المقام حيث إنّ الأجزاء المأتي بها بعد التذكّر أو الالتفات عمدية لا محالة فلم يقم أيّ دليل على اغتفارها ومعه كيف يسوغ له إتمام الصلاة ، وكيف يأتي بهذه الزيادات أعني الأقل من الركعة عالماً عامداً ، ولم ترد ولا رواية ضعيفة تقتضي العفو عنها حتّى يخرج بها عن عموم دليل قدح الزيادة. فمقتضى القاعدة البطلان ولزوم الإعادة ، وحيث لا تتيسّر لفرض ضيق الوقت فلا مناص من الانتقال إلى القضاء.

وممّا ذكرنا يظهر حكم عكس المسألة ، أعني ما لو قصد القصر في موضع الإتمام جهلاً بالحكم ، كمن لم يعلم أنّ ناوي الإقامة وظيفته الإتمام ثمّ التفت في الأثناء ، فإنّه يعدل حينئذ إلى التمام ، ولا تضرّه نيّة الخلاف ، فإنّه من باب الخطأ في المصداق كما مرّ.

ولا تتصوّر الزيادة هنا ، إذ لا يزيد القصر على التمام في مفروض المقام إلّا بالنسبة إلى السلام المستحب ، ولا بأس به كما هو ظاهر.

(١) هذا هو الفرع الذي تقدّمت (١) الإشارة إليه إجمالاً ، وعرفت أنّ المحقّق في الشرائع حكم فيها بالبطلان ، ولعلّه المشهور بين الفقهاء ، أي المتعرِّضين للمسألة.

__________________

(١) في ص ٣٨٠.

٣٨٢

.................................................................................................

______________________________________________________

وتفصيل الكلام : أنّ من يقصّر اتفاقاً قد يفرض غفلته عن القصر والتمام بأن لم يكن حين شروعه في الصلاة ملتفتاً إلى شي‌ء منهما ، ومن باب الاتفاق سلّم في الركعة الثانية ، كما لو ائتم المسافر بإمام في ركعته الثالثة وسلم بتبعه في الرابعة ثمّ التفت بعد السلام. ولا ينبغي الشكّ في الصحة حينئذ.

والظاهر أنّ المحقّق وأمثاله لا يريدون البطلان هنا ، لعدم كونه ناوياً للتمام بخصوصه ، وإنّما نوى امتثال الأمر الواقعي ، وقد أتى بمصداقه خارجاً ، كلّ ذلك بقصد التقرّب. فليس ثمّة ما يستوجب احتمال البطلان بوجه كما هو ظاهر جدّاً.

وأُخرى : يفرض نسيانه السفر أو حكمه ، ولأجله دخل في الصلاة بنيّة التمام ، ولكنّه سها بعد ذلك فسلّم على الركعتين اتفاقاً. وهذا الفرض قد تقدّم حكمه (١) ، وعرفت أنّ الأقوى حينئذ الصحّة ، لأنّه قد نوى الأمر الواقعي المتعلّق بصلاة الظهر مثلاً ، غايته أنّه اشتبه في التطبيق فاعتقد أنّ مصداقه التمام ولأجله نواه. ولا ضير فيه بعد أن أتى بأجزاء الواجب خارجاً على ما هي عليه مع قصد التقرّب.

نعم ، يتّجه البطلان لو كان ذلك على سبيل التشريع ، لعدم كونه في الحقيقة قاصداً للأمر الفعلي. على أنّ التشريع بنفسه محرّم ، ولا يمكن التقرّب بالحرام. لكنّه خارج عن محلّ الكلام ، ومن البعيد جدّاً أن يريده المحقّق أو غيره.

وثالثة : يفرض جهله بالحكم فنوى التمام جاهلاً بأنّ وظيفته القصر ، ولكنّه قصّر سهواً. وقد ذكر في المتن أنّ الصلاة حينئذ وإن كانت صحيحة إلّا أنّ الاحتياط بالإعادة في هذه الصورة آكد وأشد.

وقد ظهر ممّا قدّمناه الفرق بين هذه الصورة وسابقتها ، المستوجب لآكدية

__________________

(١) في ص ٣٨٠.

٣٨٣

.................................................................................................

______________________________________________________

الاحتياط ، حيث إنّه قيل هنا بانقلاب التكليف عن القصر إلى التمام ، وأنّ وظيفة الجاهل بالحكم هو التمام حتّى واقعاً. فعلى هذا المبنى لا مناص من الإعادة فإنّ القصر المأتي به لم يكن مأموراً به حسب الفرض ، وما تعلّق به الأمر وهو التمام لم يأت به خارجاً ، ولا دليل على إجزاء القصر عن التمام إلّا في صورة واحدة بمقتضى صحيحة منصور (١) ، وهي غير ما نحن فيه كما سبق.

ولكنّك عرفت (٢) فساد المبنى ، وأنّ الانقلاب ممّا لا أساس له من الصحّة بوجه ، حتّى أنّ تعيّن التقصير لم ينقلب إلى التخيير وإن سبق التعبير به منّا في مطاوي ما مرّ ، فإنّه كان مبنياً على ضرب من المسامحة ، والمراد أنّ زيادة الركعتين مغتفرة ، وأنّها لو حصلت جهلاً لم تقدح في الصحّة بمقتضى النصوص المتضمّنة لإجزاء التمام عن الجاهل بالقصر ، لا أنّه مخيّر واقعاً بين القصر والتمام وموظّف بالجامع بينهما ، فانّ النصوص المزبورة غير وافية لإثبات ذلك كما لا يخفى.

وعلى الجملة : الوظيفة الواقعية هي تعيّن القصر ، من غير فرق بين الجاهل وغيره من المسافرين ، غاية الأمر أنّ الروايات دلّت على أنّ الزيادة لو حصلت من الجاهل فهي مغتفرة ، وأنّه لو زاد ركعتين لم تبطل صلاته ، ومن باب الاتفاق لم يزد في المقام لأجل غفلة أو نحوها.

وعليه بما أنّ المأمور به الواقعي وهو القصر قد تحقّق مقروناً بقصد القربة فلا مناص من الحكم بالصحّة ، من غير حاجة إلى الإعادة ، وقد عرفت (٣) أنّ القصر والتمام طبيعة واحدة ، وليسا حقيقتين متغايرتين ليكون قصد أحدهما

__________________

(١) المتقدمة في ص ٣٧٤.

(٢) في ص ٣٧٧ ، ٣٨١.

(٣) في ص ٣٧٩.

٣٨٤

[٢٣٥٣] مسألة ٩ : إذا دخل عليه الوقت وهو حاضر متمكّن من الصلاة ولم يصلّ ثمّ سافر وجب عليه القصر ، ولو دخل عليه الوقت وهو مسافر فلم يصلّ حتّى دخل المنزل من الوطن أو محلّ الإقامة أو حدّ الترخّص منهما (*) أتمّ. فالمدار على حال الأداء لا حال الوجوب والتعلّق ، لكن الأحوط في المقامين الجمع (١).

______________________________________________________

مكان الآخر قادحاً في الصحّة ، بل هو من باب الخطأ في التطبيق والتخلّف في الداعي اشتباهاً ، ومثله لا ضير فيه.

فتحصّل : أنّ الأظهر هو الحكم بالصحّة في جميع الفروض الثلاثة المتقدّمة من الغفلة والنسيان والجهل ، وإن كان الاحتياط بالإعادة ممّا لا ينبغي تركه.

(١) لا يخفى أنّ ما أفاده (قدس سره) من أنّ الاعتبار في القصر والتمام بمراعاة حال الأداء وظرف الامتثال لا حال تعلّق الوجوب هو المطابق لمقتضى القاعدة أعني إطلاقات الأدلّة مع قطع النظر عن النصوص الخاصّة الواردة في المقام فإنّ إطلاقات القصر تقتضي وجوبه متى تصدّى المسافر للصلاة ، سواء أكان مسافراً أيضاً حال تعلّق الوجوب أم لا.

وهكذا عكسه ، فإنّ الإطلاقات الدالّة على وجوب سبع عشرة ركعة في كلّ يوم لكلّ مكلّف غير مسافر تقتضي وجوب التمام حين التصدّي للامتثال ، سواء أكان حاضراً أوّل الوقت أيضاً أم لا.

فلو كنّا نحن وتلك الأدلّة ولم يرد أيّ نصّ في المقام لكانت القاعدة تقتضي ما ذكره (قدس سره). فلا بدّ إذن من النظر إلى الروايات ، فان تضمّنت ما يخالفها

__________________

(*) لا اعتبار بحدّ الترخّص في محلّ الإقامة كما مرّ.

٣٨٥

.................................................................................................

______________________________________________________

خرجنا بها عنها وكانت مخصّصة لها بطبيعة الحال ، وإن لم يثبت ذلك ولو من أجل الابتلاء بالمعارض كان المتّبع حينئذ هي تلك الإطلاقات بعد سلامتها عما يصلح للتقييد.

ثمّ إنّ ما ذكره (قدس سره) من أنّ الاعتبار بحال الأداء هو المعروف المشهور بل المتسالم عليه بين المتأخّرين ، ونسب الخلاف إلى جماعة منهم الصدوق في المقنع (١) والعماني (٢) وبعض آخر ، فذكروا أنّ الاعتبار بحال الوجوب.

وذهب الشيخ في النهاية (٣) وتبعه بعضهم إلى التخيير بين مراعاة كلّ من الحالتين المتخالفتين المشتمل عليهما الوقت ، فهو بالخيار بين القصر والتمام.

ومنشأ الخلاف اختلاف الروايات الواردة في المقام ، فقد تضمّنت جملة منها وفيها الصحاح أنّ الاعتبار بحال الأداء ، فيقصّر المسافر وإن كان حاضراً أوّل الوقت ، وفي العكس ينعكس الأمر.

فمنها : صحيحة محمد بن مسلم في حديث قال «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) : الرجل يريد السفر فيخرج حين تزول الشمس ، فقال : إذا خرجت فصلّ ركعتين» (٤).

وصحيحة إسماعيل بن جابر قال «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) : يدخل عليّ وقت الصلاة وأنا في السفر ، فلا أُصلّي حتّى أدخل أهلي ، فقال : صلّ وأتمّ

__________________

(١) المقنع : ١٢٥.

(٢) حكاه عنه في المختلف ٢ : ٥٤٠ المسألة ٣٩٦.

(٣) [لاحظ النهاية : ١٢٣ فإنّ المذكور فيها : فإن خرج من منزله وقد دخل الوقت وجب عليه التمام إذا كان قد بقي من الوقت مقدار ما يصلِّي فيه على التمام ، فان تضيق الوقت قصّر ولم يتم. نعم ذكر التخيير في الخلاف ١ : ٥٧٧ المسألة ٣٣٢].

(٤) الوسائل ٨ : ٥١٢ / أبواب صلاة المسافر ب ٢١ ح ١.

٣٨٦

.................................................................................................

______________________________________________________

الصلاة ، قلت : فدخل عليّ وقت الصلاة وأنا في أهلي أُريد السفر فلا أُصلّي حتّى أخرج ، فقال : صلّ وقصّر ، فان لم تفعل فقد خالفت والله رسول الله (صلّى الله عليه وآله)» (١). وقد تضمّنت الحكم من كلا الطرفين.

وصحيحة العيص بن القاسم : «عن الرجل يدخل عليه وقت الصلاة في السفر ثمّ يدخل بيته قبل أن يصلّيها ، قال : يصلّيها أربعاً ، وقال : لا يزال يقصّر حتّى يدخل بيته» (٢) ونحوها غيرها.

وبإزائها روايات اخرى دلّت على أنّ الاعتبار بحال الوجوب ، فمنها : صحيحة محمد بن مسلم قال : «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يدخل من سفره وقد دخل وقت الصلاة وهو في الطريق ، فقال : يصلّي ركعتين ، وإن خرج إلى سفره وقد دخل وقت الصلاة فليصلّ أربعاً» (٣).

فإنّها ظاهرة في التعرّض لحكم ما بعد الدخول ، لا حكم الصلاة في الطريق فانّ قوله : «وقد دخل ...» إلخ جملة حالية ، لا أنّها بنفسها مورد للسؤال كما هو ظاهر جدّاً ، وكذا الحال في ذيل الصحيحة المتعرّض لعكس المسألة. ونحوها غيرها ممّا دلّ على أنّ العبرة بزمان تعلّق الوجوب ، ولأجله وقع الخلاف كما عرفت.

أمّا ما ذهب إليه الصدوق من أنّ الاعتبار بحال الوجوب فلا نعرف له وجهاً أبداً ، فإنّه ترجيح لأحد المتعارضين من غير مرجّح ، إذ لا موجب لتقديم هذه الصحيحة ونحوها على الطائفة الأُولى الدالّة على أنّ المناط هو حال الأداء. فهذا القول ساقط جزماً.

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٥١٢ / أبواب صلاة المسافر ب ٢١ ح ٢.

(٢) الوسائل ٨ : ٥١٣ / أبواب صلاة المسافر ب ٢١ ح ٤.

(٣) الوسائل ٨ : ٥١٣ / أبواب صلاة المسافر ب ٢١ ح ٥.

٣٨٧

.................................................................................................

______________________________________________________

وأمّا ما اختاره الشيخ من المصير إلى التخيير ، بدعوى أنّه مقتضى الجمع بين الطائفتين بعد رفع اليد عن ظهور كلّ منهما في التعيين ، كما هو الشأن في كلّ مورد دار الأمر بين رفع اليد عن أصل الوجوب أو عن تعيّنه ، فانّ المتعيّن حينئذ هو الثاني ، ونتيجته الحمل على التخيير.

فيندفع بأنّ هذه الدعوى في نفسها شي‌ء لا نضايق عنها ، إلّا أنّها بعيدة في المقام ، من جهة أنّ التخيير مناف لصريح صحيحة إسماعيل بن جابر الناطقة بتعيّن القصر ، حيث قال : «فان لم تفعل فقد خالفت والله رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)» إذ مع كونه مخيّراً كيف يكون مخالفاً لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) في اختيار التمام (١).

وعلى الجملة : فالحمل على التخيير ساقط جزماً ، لأنّه مخالف لصريح الصحيحة المزبورة. فلا يمكن المساعدة على هذا القول أيضاً ، هذا.

ونسب إلى العلّامة الجمع بحمل ما دلّ على أنّ العبرة بحال الوجوب على ما لو خرج عن منزله وكان متمكّناً من التمام فلم يصلّ بعد ما استقرّ عليه الوجوب وما دلّ على أنّ العبرة بحال الأداء على ما لو خرج أوّل الوقت قبل أن يتمكّن من الإتيان بالصلاة التامة بمقدّماتها (٢).

وهذا كما ترى جمع تبرّعي لا شاهد عليه. على أنّ هذا القيد وهو التمكّن من التمام وإن كان منسوباً إلى المشهور ، حيث أخذوه في موضوع الخلاف إلّا أنّه أيضاً لا دليل عليه كما أشار إليه المحقّق الهمداني (٣) (قدس سره) فإنّه تقييد بلا موجب ، والروايات مطلقة من الطرفين ، فانّ المذكور فيها الخروج عن منزله

__________________

(١) [الموجود في الأصل : القصر ، والصحيح ما أثبتناه].

(٢) التذكرة ٤ : ٣٥٣ المسألة ٦١٠ ، المنتهي ١ : ٣٩٦ السطر ٨.

(٣) مصباح الفقيه (الصلاة) : ٧٦٤ السطر ٢٧.

٣٨٨

.................................................................................................

______________________________________________________

بعد ما دخل الوقت ولم يصلّ ، وهذا قد يفرض مع تمكّنه ، وأُخرى مع عدمه لاحتياج الصلاة إلى مقدّمات لا يسع الوقت لها كالغسل وغسل الثوب والبدن ونحو ذلك ، فحينما يخرج من حدّ الترخّص لم يمض مقدار من الزمان يتمكّن فيه من الصلاة مع المقدّمات. فالتقييد المزبور لا نعرف له وجهاً أصلا.

وكيف ما كان ، فالجمع المذكور عارٍ عن الشاهد كما عرفت. على أنّ بعض هذه الروايات كالصريح في أنّه كان متمكّناً وأخّر ، ومع ذلك حكم (عليه السلام) بالقصر كما في صحيحة إسماعيل بن جابر ، حيث قال : «فلا أُصلّي حتّى أخرج» إذ فرض أنّه لم يصلّ باختياره ، لا لأجل أنّه لم يتمكّن.

وربما قيل بالجمع بالحمل على ضيق الوقت وسعته ، وأنّ المسافر الذي يقدم أهله إن كان الوقت واسعاً يصلّي تماماً وإلّا قصراً.

وهذا الجمع بعيد في حدّ نفسه كما لا يخفى ، ولكن قد يستشهد له بما ورد في موثّقة إسحاق بن عمار قال : «سمعت أبا الحسن (عليه السلام) يقول في الرجل يقدم من سفره في وقت الصلاة ، فقال : إن كان لا يخاف فوت الوقت فليتم ، وإن كان يخاف خروج الوقت فليقصّر» (١) حيث تضمّنت التفصيل بين سعة الوقت وضيقه. وهل المراد به وقت الفضيلة أو الأجزاء كلام آخر. وكيف ما كان فربما تجعل هذه شاهدة الجمع بين الطائفتين.

ولكنّه لا يتم ، فانّ المراد من هذه الموثّقة إتمام الصلاة في المنزل مع السعة وقصرها في السفر مع الضيق ، كما يكشف عن ذلك صحيحة محمد بن مسلم : «في الرجل يقدم من الغيبة فيدخل عليه وقت الصلاة ، فقال : إن كان لا يخاف أن يخرج الوقت فليدخل وليتم ، وإن كان يخاف أن يخرج الوقت قبل أن يدخل

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٥١٤ / أبواب صلاة المسافر ب ٢١ ح ٦.

٣٨٩

.................................................................................................

______________________________________________________

فليصلّ وليقصّر» (١).

فانّ هذه الصحيحة توضّح المراد من الموثّقة ، وأنّه يؤخّر الصلاة إلى أن يدخل أهله إن وسع الوقت والظاهر هو وقت الفضيلة فيتم حينئذ ، وإلّا فيقصّر وهو في الطريق وقبل أن يدخل ، لا أنّه بعد الدخول يتم إن وسع الوقت وإلّا فيقصّر. فهذا الجمع أيضاً ساقط.

إذن فالصحيح أنّ الروايات متعارضة ، ولا سبيل إلى الجمع العرفي بوجه. وعليه فيحتمل أن تكون الروايات الدالّة على التمام في السفر محمولة على التقيّة كما لا يبعد استفادته من قوله (عليه السلام) في صحيحة إسماعيل بن جابر : «فان لم تفعل فقد خالفت والله رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)». فكأنّ العامّة كانوا يصلّون تماماً في السفر ، ولأجله عبّر بهذا التعبير ، فتأمّل.

فإن أمكن هذا الحمل فهو ، وإلّا فينتهي الأمر إلى التساقط ، والمرجع حينئذ عمومات الكتاب والسنّة الدالّة على لزوم التقصير في السفر كما مرّ ، إذ لم يثبت شي‌ء على خلافها.

وإن شئت قلت : إنّ تلك العمومات مرجّحة لنصوص الاعتبار بالأداء. فأخبار الاعتبار بالوجوب ساقطة ، لمعارضتها بتلك النصوص الموافقة لعمومات الكتاب والسنّة.

فتحصّل : أنّ ما عليه جمهور المتأخّرين من أنّ الاعتبار بحال الأداء لا حال تعلّق الوجوب هو الصحيح.

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٥١٤ / أبواب صلاة المسافر ب ٢١ ح ٨.

٣٩٠

[٢٣٥٤] مسألة ١٠ : إذا فاتت منه الصلاة وكان في أوّل الوقت حاضراً وفي آخره مسافراً أو بالعكس فالأقوى أنّه مخيّر بين القضاء قصراً أو تماماً لأنّه فاتت منه الصلاة في مجموع الوقت ، والمفروض أنّه كان مكلّفاً في بعضه بالقصر وفي بعضه بالتمام ، ولكن الأحوط مراعاة حال الفوت (*) وهو آخر الوقت ، وأحوط منه الجمع بين القصر والتمام (١).

______________________________________________________

(١) تقدّم (١) أنّ العبرة في القصر والتمام بحال الأداء لا حال تعلّق الوجوب هذا حكم الأداء.

وأمّا في القضاء فقد حكم في المتن بالتخيير بين القصر والتمام ، نظراً إلى أنّ الفائت منه طبيعي الصلاة في مجموع الوقت الذي كان مكلّفاً بالقصر في بعضه وبالتمام في البعض الآخر ، وحيث لا ترجيح لأحدهما على الآخر ، ومن الضروري عدم وجوب الجمع ، إذ القضاء لا يزيد على الأداء ، ولم يكن مكلّفاً في الوقت إلّا بأحدهما ، فلا مناص من التخيير.

وفيه : أنّ ما أُفيد وإن كان هو المطابق لمقتضى القاعدة ، إلّا أنّك عرفت في مبحث القضاء (٢) دلالة النصوص على أنّ ما فات قصراً يقضى قصراً ، وما فات تماماً يقضى تماماً ، فيظهر منها أنّ العبرة في القضاء بحال الفوت ، وبطبيعة الحال يكون الاعتبار بآخر الوقت ، الذي هو المناط في صدق الفوت ، فان كان حاضراً حينئذ فقد فاتته الصلاة التامة فيجب القضاء تماماً ، وإن كان مسافراً فقصراً ولا عبرة بالحالة السابقة ، لعدم صدق الفوت بملاحظتها.

__________________

(*) بل هو الأظهر.

(١) في ص ٣٨٥.

(٢) شرح العروة ١٦ : ١٣١.

٣٩١

.................................................................................................

______________________________________________________

نعم ، خبر زرارة صريح الدلالة في أنّ العبرة في القضاء بحال الوجوب ، عن أبي جعفر (عليه السلام) : «أنّه سئل عن رجل دخل وقت الصلاة وهو في السفر فأخّر الصلاة حتّى قدم وهو يريد يصلّيها إذا قدم إلى أهله ، فنسي حين قدم إلى أهله أن يصلّيها حتّى ذهب وقتها ، قال : يصلّيها ركعتين صلاة المسافر ، لأنّ الوقت دخل وهو مسافر ، كان ينبغي له أن يصلّي عند ذلك» (١) وبمقتضى التعليل يتعدّى إلى عكس الفرض المذكور في السؤال.

ودعوى أنّها وإن وردت في القضاء إلّا أنّ ظاهر التعليل عموم الحكم للأداء فتكون من الأخبار الدالّة على أنّ الاعتبار في الوقت بحال الوجوب ، فتعارض بما دلّ على أنّ الاعتبار بحال الأداء كما تقدّم في المسألة السابقة ، ولأجله تسقط عن صلاحية الاستدلال بها في المقام.

غير مسموعة ، فإنّ النظر فيها سؤالاً وجواباً مقصور على التعرّض لحكم القضاء فحسب ، ولا تعرّض فيها للأداء بوجه ، إذ لا يكاد يشك السائل في أنّه لو صلّى في الوقت عند أهله لصلّى تماماً ، إذ لو اعتقد أنّه يصلّي حينئذ قصراً باعتبار حال الوجوب لم يكن له شكّ بعد هذا في وجوب القضاء قصراً أيضاً فلم يبق موقع للسؤال عن حكم القضاء.

وإنّما الذي أوقعه في الشك ودعاه إلى السؤال تعاقب الحالتين المختلفتين في الوقت المستتبعتين لحكمين متباينين ، حيث رأى أنّه لو صلّى أوّل الوقت لصلّى قصراً ، ولو صلّى آخره لكان تماماً ، من غير شكّ في شي‌ء من هذين الحكمين وعند ما خرج الوقت وفاتته الفريضة تردّد في أنّ الاعتبار في القضاء بأوّل الوقت أم بآخره ، ولأجله اضطرّ إلى السؤال عن حكمه ، فأجاب (عليه السلام) بعد تقرير ما كان مغروساً في ذهنه بعدم الردع بأنّ الاعتبار بأوّل الوقت

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٥١٣ / أبواب صلاة المسافر ب ٢١ ح ٣.

٣٩٢

.................................................................................................

______________________________________________________

معلّلاً بأنّ الوقت دخل وهو مسافر فكان ينبغي له أن يصلّي عند ذلك ، فكأنّ حلول الوقت يستدعي استقرار الوجوب إن قصراً أو تماماً ، ولا يسقط إلّا به أو ببديله المأتي به في الوقت ، وإلّا فهو على عهدته إلى أن يقضي خارج الوقت.

وعلى الجملة : فظهور الرواية في أنّ الاعتبار في القضاء بحال الوجوب لعلّه غير قابل للإنكار ، هذا.

ولكن صاحب الوسائل ذكر الرواية في عداد الروايات الواردة في من دخل عليه الوقت وهو حاضر فسافر أو بالعكس ، وأنّ الاعتبار هل هو بوقت الوجوب أو بحال الأداء. وكأنّه فهم (قدس سره) منها أنّ السؤال والجواب ناظران إلى الصلاة أداءً لا قضاءً (١).

ولعلّه من أجل أنّه فهم من الوقت المذكور فيها الوقت الأوّل المعبّر عنه في كلام المتأخّرين بوقت الفضيلة ، والذي يطلق عليه الوقت في لسان الأخبار كثيراً ، سيما الوارد منها في باب الأوقات ، وقد ورد أنّ لكلّ صلاة وقتين إلّا المغرب فانّ لها وقتاً واحداً (٢) ، فإطلاق الوقت على هذا المعنى كان من الشائع المعروف ، بل عبّر بتضييع الوقت في من أخّر الصلاة عنه (٣) وإن كانت أداءً ، حتّى قيل بحرمته.

فبناءً عليه تكون الرواية من روايات المسألة السابقة ، ومن قبيل ما دلّ على أنّ الاعتبار بأوّل الوقت وحال تعلّق الوجوب ، لا بحال الأداء ، فتكون معارضة بالطائفة الأُخرى الدالّة على أنّ العبرة بوقت الأداء وظرف الامتثال.

__________________

(١) نعم ، ولكنّه (قدس سره) أوردها في باب قضاء الصلوات أيضاً الوسائل ٨ : ٢٦٨ / باب ٦ ح ٣ ، فكأنه فهم كما فهم غيره أيضاً من التعليل الوارد في الذيل عموم الحكم لفرض الأداء والقضاء.

(٢) الوسائل ٤ : ١٨٧ / أبواب المواقيت ب ١٨ ح ١ ، ٢.

(٣) الوسائل ٤ : ١٢٣ / أبواب المواقيت ب ٣ ح ١٧.

٣٩٣

.................................................................................................

______________________________________________________

ولا يبعد أنّ ما فهمه (قدس سره) هو الصحيح ، إذ لم يقل (عليه السلام) في مقام الجواب : يقضيها ، بل قال : «يصلّيها ...» إلخ ، الظاهر في أنّ المأتي به هو نفس الصلاة المأمور بها في الوقت ، لا أنّ أمرها سقط وهذه صلاة أُخرى تقوم مقام الاولى تداركاً لها ، المعبّر عنها بالقضاء خارج الوقت. وعليه فالرواية أجنبية عن باب القضاء ، وتكون من روايات باب الأداء كما عرفت.

وهي معتبرة السند ، فانّ موسى بن بكر وإن لم يوثّق صريحاً في كتب الرجال ولكنّه مذكور في أسناد تفسير علي بن إبراهيم ، الذي شهد كابن قولويه بوثاقة من في أسناد كتابه. مضافاً إلى شهادة صفوان بأنّ كتاب موسى بن بكر ممّا لا يختلف فيه أصحابنا (١). فما فهمه (قدس سره) غير بعيد ، بل لعلّه قريب.

نعم ، إذا حملناها على وقت الإجزاء بأن أُريد من ذهاب الوقت صيرورة الصلاة قضاء ، والتعبير بقوله (عليه السلام) : «يصلّيها» لأجل مشاركة القضاء مع الأداء في الصورة إذن تكون الرواية واردة في مورد القضاء ، وقد دلّت على أنّ الميزان في القضاء بأوّل الوقت. فبناءً على هذا يمكن أن يقال : إنّ هذه الرواية مخصّصة لعموم ما دلّ أنّ ما فات قصراً يقضى قصراً ، وما فات تماماً فتماماً.

ولكنّه مع ذلك لا يتم ، إذ ليس التعليل ناظراً إلى خصوص القضاء ، بل مفاده أنّ الميزان في الخروج عن الوظيفة مراعاة أوّل الوقت ، بلا فرق بين كون الخروج داخل الوقت أم خارجه. فمقتضاه أنّ العبرة في الامتثال بحدوث التكليف المستلزم لكونه في الوقت أيضاً كذلك ، وإلّا لم نعرف وجهاً للتعليل على تقدير الاختصاص بالقضاء ، بل لا يكاد يصحّ كما لا يخفى. وعليه فتسقط من أجل المعارضة ببقية الروايات الدالّة على أنّ العبرة بحال الأداء.

وكيف ما كان ، فلا يمكن رفع اليد عن عموم ما دلّ على تبعية القضاء لفوت

__________________

(١) معجم رجال الحديث ٢٠ : ٣٣ / ١٢٧٦٧.

٣٩٤

[٢٣٥٥] مسألة ١١ : الأقوى كون المسافر مخيّراً بين القصر والتمام في الأماكن الأربعة (١) ، وهي مسجد الحرام ، ومسجد النبيّ (صلّى الله عليه وآله) ومسجد الكوفة ، والحائر الحسيني (عليه السلام) ، بل التمام هو الأفضل ، وإن كان الأحوط هو القصر.

______________________________________________________

الأداء من حيث القصر والتمام بمثل هذه الرواية وإن كانت معتبرة.

(١) على المشهور المعروف بين القدماء والمتأخِّرين ، بل عن غير واحد دعوى الإجماع عليه ، بل نسبته إلى مذهب الأصحاب ومتفرّداتهم. وعن المرتضى (١) وابن الجنيد (٢) تعيّن التمام ، وعن الصدوق تعيّن القصر وأنّه لا فرق بين هذه المواطن وسائر البلدان ، غير أنّه رعاية لشرافة البقعة يستحبّ له أن يقيم فيتم لا أنّه يتم من غير قصد الإقامة (٣). ومنشأ الخلاف اختلاف الأخبار ، فقد دلّت جملة منها على التمام ، وأُخرى على القصر ، وثالثة على التخيير كما ستعرف. ولا يمكن أن يراد بالأخير التخيير بين قصد الإقامة وعدمه.

إذ فيه أوّلاً : أنّ هذا لا يختص بتلك الأماكن ، بل يعمّ جميع البلاد ، فما هو الامتياز لهذه البقاع.

وثانياً : يأباه بعض نصوص التمام الدالّة على أنّه يتم ولو بقي بمقدار صلاة واحدة وكان بنحو المرور (٤) ، فانّ هذا لا يجتمع مع التخيير بالمعنى المزبور كما هو ظاهر جدّاً.

__________________

(١) جمل العلم والعمل (رسائل الشريف المرتضى ٣) : ٤٧.

(٢) [لاحظ المختلف ٢ : ٥٥٢ المسألة ٤٠٠ ، فإنّه حكى عنه فيه استحباب الإتمام].

(٣) الفقيه ١ : ٢٨٣ ذيل ح ١٢٨٤.

(٤) الوسائل ٨ : ٥٣٢ / أبواب صلاة المسافر ب ٢٥ ح ٣١.

٣٩٥

.................................................................................................

______________________________________________________

ولا يخفى أنّ نصوص التمام قابلة للجمع مع أخبار التخيير ، بأن يحمل الأمر بالتمام على أفضل الأفراد ، فيرفع اليد عن ظهور الأمر في التعيين ويحمل على التخيير.

وأمّا نصوص القصر فلا يمكن حمل الأمر فيها على الجواز ، سيما المفضول من الفردين ، وإن احتمله الشيخ فحمل الأمر بالقصر على الجواز ، غير المنافي للتخيير (١).

على أنّ هذا لا يتم في مثل صحيحة أبي ولاد (٢) الواردة في المدينة ، لظهورها بل صراحتها في تعيّن القصر فيما بينه وبين شهر ما لم ينو المقام عشرة أيام.

نعم ، لو كانت نصوص التقصير منحصرة في هذه الصحيحة لأمكن الذبّ عن الإشكال ، بأن يقال : إنّ النظر في الجواب والسؤال معطوف على جهة العدول عن نيّة الإقامة ، والتفصيل بين الإتيان بالرباعية وعدمها ، فهي متعرّضة لبيان حكم عام لمطلق البلدان على سبيل الكبرى الكلّية ، مع قطع النظر وغمض العين عن خصوصية المورد. فلم ينظر الإمام (عليه السلام) إلى مورد الصحيحة وإنّما نظر إلى جهة السؤال ، أعني حيثية العدول عن نيّة الإقامة. ولكنّها غير منحصرة في ذلك كما ستعرف (٣).

وكيف ما كان ، فقد عرفت أنّ النصوص على طوائف ثلاث :

فممّا دلّ على التخيير جملة من الأخبار :

منها : صحيحة علي بن يقطين عن أبي الحسن (عليه السلام) : «في الصلاة بمكّة ، قال : من شاء أتمّ ومن شاء قصّر» (٤).

__________________

(١) التهذيب ٥ : ٤٢٧ ذيل ح ١٤٨٣ ، ٤٧٤ ذيل ح ١٦٦٨.

(٢) المتقدّمة في ص ٢٨٤.

(٣) في ص ٤٠٠.

(٤) الوسائل ٨ : ٥٢٦ / أبواب صلاة المسافر ب ٢٥ ح ١٠.

٣٩٦

.................................................................................................

______________________________________________________

وصحيحة الحسين بن المختار عن أبي إبراهيم (عليه السلام) قال «قلت له : إنّا إذا دخلنا مكّة والمدينة نتم أو نقصّر؟ قال : إن قصّرت فذلك ، وإن أتممت فهو خير تزداد» (١).

وصحيحة علي بن يقطين الأُخرى ، قال : «سألت أبا إبراهيم (عليه السلام) عن التقصير بمكّة؟ فقال : أتمّ ، وليس بواجب ، إلّا أنّي أُحبّ لك ما أُحبّ لنفسي» (٢) ونحوها غيرها.

وهذه الأخيرة وإن كان في سندها إسماعيل بن مرار ، ولم يوثق صريحاً في كتب الرجال ، إلّا أنّه مذكور في أسناد تفسير علي بن إبراهيم ، الذي التزم (٣) كابن قولويه (٤) أن لا يروي إلّا عن الثقة ، فهو موثّق بتوثيقه الذي لا يقلّ عن توثيق الرجاليين.

وقد عرفت عدم إمكان حمل هذه النصوص على التخيير في الموضوع ، بمعنى كونه مخيّراً بين قصد الإقامة وعدمه كما لعلّ الشيخ الصدوق فهم هذا المعنى ولذا ذهب إلى التقصير مع روايته أخبار التخيير ، لبعده في حدّ نفسه ، من أجل استلزامه نفي الخصوصية لهذه المواطن ، فإنّ الأمر بالإتمام يمكن أن تكون له خصوصية وهي الإيعاز إلى الأفضلية ، وأمّا الأمر بالتخيير بهذا المعنى فهو مشترك فيه بين البلاد ، فينتفي الاختصاص.

على أن جملة من النصوص صريحة في الإتمام ولو صلاة واحدة وكان بنحو المرور على هذه الأماكن من غير الإقامة فيها.

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٥٢٩ / أبواب صلاة المسافر ب ٢٥ ح ١٦.

(٢) الوسائل ٨ : ٥٢٩ / أبواب صلاة المسافر ب ٢٥ ح ١٩.

(٣) تفسير القمي ١ : ٤.

(٤) كامل الزيارات : ٤.

٣٩٧

.................................................................................................

______________________________________________________

منها : صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج قال : «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن التمام بمكّة والمدينة ، فقال : أتمّ وإن لم تصلّ فيهما إلّا صلاة واحدة» (١).

وصحيحة مسمع بن عبد الملك : «إذا دخلت مكّة فأتمّ يوم تدخل» (٢). ولا يمنع اشتمال الطريق على ابن أبي جيد الذي لم يوثق صريحاً في كتب الرجال فإنّه من مشايخ النجاشي ، وكلّهم ثقات حسب ما التزم به من عدم روايته بلا واسطة إلّا عن الثقة (٣).

وصحيحة (٤) عثمان بن عيسى قال : «سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن إتمام الصلاة والصيام في الحرمين ، فقال : أتمّها ولو صلاة واحدة» (٥) ونحوها غيرها.

ولعلّ إعراضه (عليه السلام) في الجواب عن حكم الصوم من أجل عدم ثبوت التخيير فيه واختصاصه بالصلاة.

وكيف ما كان ، فهذه النصوص لا تجتمع مع التخيير بالمعنى المزبور.

وبإزاء نصوص التخيير روايات دلّت بظاهرها على تعيّن الإتمام.

منها : صحيحة حماد بن عيسى عن أبي عبد الله (عليه السلام) : «أنّه قال : من مخزون علم الله الإتمام في أربعة مواطن : حرم الله ، وحرم رسوله ، وحرم أمير المؤمنين (عليه السلام) وحرم الحسين بن علي (عليه السلام)» (٦) ، والمراد

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٥٢٥ / أبواب صلاة المسافر ب ٢٥ ح ٥.

(٢) الوسائل ٨ : ٥٢٦ / أبواب صلاة المسافر ب ٢٥ ح ٧.

(٣) رجال النجاشي : ٨٥ / ٢٠٧ ، ٣٩٦ / ١٠٥٩.

(٤) [الظاهر كونها موثقة ، لعدم ثبوت رجوعه عن الوقف كما صرّح في المعجم ١٢ : ١٣٢ / ٧٦٢٣].

(٥) الوسائل ٨ : ٥٢٩ / أبواب صلاة المسافر ب ٢٥ ح ١٧.

(٦) الوسائل ٨ : ٥٢٤ / أبواب صلاة المسافر ب ٢٥ ح ١.

٣٩٨

.................................................................................................

______________________________________________________

بحرم أمير المؤمنين (عليه السلام) الكوفة أو مسجدها كما في النصوص الأُخر على ما ستعرف.

وصحيحة مسمع عن أبي إبراهيم (عليه السلام) قال : «كان أبي يرى لهذين الحرمين ما لا يراه لغيرهما ويقول : إنّ الإتمام فيهما من الأمر المذخور» (١).

ولا يخفى أنّا لو كنّا نحن وهاتين الروايتين المعتبرتين لأمكن أن يقال : إنّه لا دلالة لهما على الوجوب ، بل غايته أنّ الإتمام من الأمر المخزون المذخور ، وأمّا أنّه واجب أو مستحبّ فلا دلالة عليه بوجه.

ولكن هناك روايات تضمّنت الأمر بالتمام ، الظاهر في الوجوب ، مثل صحيحة ابن الحجاج ونحوها المتقدّمة آنفاً ، الآمرة بالتمام ولو صلاة واحدة.

إلّا أنّ الجمع العرفي بينها وبين نصوص التخيير يقتضي الحمل على الاستحباب ، فيرفع اليد عن ظهور الأمر في الوجوب بصراحة الآخر في جواز الترك إلى البدل.

على أنّ الاستحباب مستفاد من نفس الروايات كقوله (عليه السلام) في صحيحة علي بن يقطين المتقدّمة : «أتم ، وليس بواجب إلّا أنّي أُحبّ لك ما أُحبّ لنفسي» (٢).

ونحوها صحيحة علي بن مهزيار قال : «كتبت إلى أبي جعفر الثاني (عليه السلام) : إنّ الرواية قد اختلفت عن آبائك في الإتمام والتقصير للصلاة في الحرمين فمنها أن يؤمر بتتميم الصلاة ، ومنها أن يؤمر بقصر الصلاة ، بأن يتم الصلاة ولو صلاة واحدة ، ومنها أن يقصّر ما لم ينو عشرة أيام ، ولم أزل على الإتمام فيها إلى أن صدرنا في حجّنا في عامنا هذا ، فانّ فقهاء أصحابنا أشاروا إلىّ بالتقصير

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٥٢٤ / أبواب صلاة المسافر ب ٢٥ ح ٢.

(٢) الوسائل ٨ : ٥٢٩ / أبواب صلاة المسافر ب ٢٥ ح ١٩.

٣٩٩

.................................................................................................

______________________________________________________

إذا كنت لا أنوي مقام عشرة أيام ، فصرت إلى التقصير ، وقد ضقت بذلك حتّى أعرف رأيك ، فكتب إليّ (عليه السلام) بخطِّه : قد علمت يرحمك الله فضل الصلاة في الحرمين على غيرهما ، فأنا أُحبّ لك إذا دخلتهما أن لا تقصّر ، وتكثر فيهما من الصلاة ، فقلت له بعد ذلك بسنتين مشافهة : إنّي كتبت إليك بكذا وأجبتني بكذا ، فقال : نعم ، فقلت : أيّ شي‌ء تعني بالحرمين؟ فقال : مكّة والمدينة» (١).

قوله : «ومنها أن يؤمر بقصر الصلاة ...» إلخ ، الظاهر أنّ النسخة مغلوطة والصحيح : أن يؤمر بإتمام الصلاة ولو صلاة واحدة (٢).

فيريد ابن مهزيار أنّ الروايات الواردة عنهم (عليهم السلام) على ثلاثة أقسام : الأمر بالتمام ، والأمر بالتمام ولو صلاة واحدة ، والأمر بالقصر. وكيف ما كان ، فهي كالصريح في استحباب التمام ، فلا منافاة بينها وبين نصوص التخيير بوجه.

إنّما الكلام في الجمع بينها أي نصوص التخيير وبين الطائفة الثالثة ، أعني الروايات الدالّة على القصر ، وهي عدّة من الأخبار.

فمنها : صحيحة أبي ولّاد المتقدّمة ، وقد عرفت حملها على ما لا ينافي التخيير فان تمّ كما هو الحقّ وإلّا فحالها حال سائر ما دلّ على القصر.

ومنها : صحيحة معاوية بن عمار قال : «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل قدم مكّة فأقام على إحرامه ، قال : فليقصّر الصلاة ما دام محرماً» (٣). وقد حملها الشيخ على الجواز (٤) ، وهو بعيد كما لا يخفى.

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٥٢٥ / أبواب صلاة المسافر ب ٢٥ ح ٤.

(٢) [الموجود في التهذيب ٥ : ٤٢٨ / ١٤٨٧ ، والاستبصار ٢ : ٣٣٣ / ١١٨٣ هكذا : «فمنها أن يأمر بتتميم الصلاة ولو صلاة واحدة ، ومنها أن يأمر بقصر الصلاة ما لم ينو مقام عشرة أيام ...»].

(٣) الوسائل ٨ : ٥٢٥ / أبواب صلاة المسافر ب ٢٥ ح ٣.

(٤) التهذيب ٥ : ٤٧٤ ذيل ح ١٦٦٨.

٤٠٠