موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ مرتضى البروجردي

.................................................................................................

______________________________________________________

وهي كما ترى صريحة في أنّ مجرّد كون الضيعة ملكاً له موجب للإتمام متى دخلها. ونحوها غيرها كما لا يخفى على من لاحظها.

وبإزائها صحاح أُخر دلّت على وجوب القصر في هذا الموضوع بعينه :

منها : صحيحة علي بن يقطين قال «قلت لأبي الحسن الأوّل (عليه السلام) : الرجل يتّخذ المنزل فيمرّ به أيتم أو يقصّر؟ قال : كلّ منزل لا تستوطنه فليس لك بمنزل ، وليس لك أن تتم فيه» (١).

وصحيحته الأُخرى : «عن رجل يمرّ ببعض الأمصار وله بالمصر دار ، وليس المصر وطنه أيتم صلاته أو يقصّر؟ قال : يقصّر الصلاة ، والصيام مثل ذلك إذا مرّ بها» (٢).

وصحيحته الثالثة : «إنّ لي ضياعاً ومنازل بين القرية والقريتين الفرسخ والفرسخان والثلاثة ، فقال : كلّ منزل من منازلك لا تستوطنه فعليك فيه التقصير» (٣).

وصحيحة حماد بن عثمان المروية عن الحلبي في بعض نسخ التهذيب (٤) كما أشار إليه معلّق الوسائل عن أبي عبد الله (عليه السلام) : «في الرجل يسافر فيمرّ بالمنزل له في الطريق يتم الصلاة أم يقصّر؟ قال : يقصّر ، إنّما هو المنزل الذي توطّنه» (٥) وغيرها. فقد دلّت على وجوب القصر في محلّ الكلام ، وأنّ مجرّد الملك لا يؤثّر في الحكم بالتمام.

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٤٩٣ / أبواب صلاة المسافر ب ١٤ ح ٦.

(٢) الوسائل ٨ : ٤٩٣ / أبواب صلاة المسافر ب ١٤ ح ٧.

(٣) الوسائل ٨ : ٤٩٤ / أبواب صلاة المسافر ب ١٤ ح ١٠.

(٤) التهذيب ٣ : ٢١٢ / ٥١٧.

(٥) الوسائل ٨ : ٤٩٣ / أبواب صلاة المسافر ب ١٤ ح ٨.

٢٤١

.................................................................................................

______________________________________________________

وعليه فالطائفة الاولى لو لم يمكن تقييدها بما سيجي‌ء من إقامة ستة أشهر كما سمعت أمّا محمولة على التقيّة أو مطروحة بعد الابتلاء بالمعارض والمخالفة مع السنّة القطعية ، وهي الروايات المتواترة الدالّة على وجوب القصر لكلّ مسافر كما عرفت.

ومن ذلك يظهر الحال في موثّقة عمار التي جعل فيها المدار على مطلق الملك وإن لم يكن قابلاً للسكنى كنخلة واحدة ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) : «في الرجل يخرج في سفر فيمرّ بقرية له أو دار فينزل فيها ، قال : يتم الصلاة ولو لم يكن له إلّا نخلة واحدة ، ولا يقصّر ، وليصم إذا حضره الصوم وهو فيها» (١).

فاتّضح من جميع ما ذكرناه لحد الآن أنّه إذا أعرض عن وطنه ولم يكن فيه ملك أصلاً ، أو كان ولم يكن قابلاً للسكنى ، أو كان ولكن لم يسكن فيه ستة أشهر لم يثبت التمام في شي‌ء من ذلك ، عملاً بإطلاقات التقصير السليمة عما يصلح للتخصيص.

إنّما الكلام في صورة واحدة حكم المشهور فيها بالإتمام حتّى بعد الإعراض وأسموها بالوطن الشرعي ، وهي ما لو كان له ملك قد سكنه ستة أشهر بقصد التوطّن الأبدي ، فإنّه يتم كلّما دخله وإن لم يقم عشرة أيام ما دام الملك باقياً.

ويستدلّ له بصحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع عن أبي الحسن (عليه السلام) قال : «سألته عن الرجل يقصّر في ضيعته ، فقال : لا بأس ما لم ينو مقام عشرة أيام ، إلّا أن يكون له فيها منزل يستوطنه ، فقلت : ما الاستيطان؟ فقال : أن يكون فيها منزل يقيم فيه ستة أشهر ، فإذا كان كذلك يتم فيها متى دخلها» (٢).

وهذه الصحيحة هي عمدة مستند المشهور ، حيث تضمّنت تفسير الاستيطان

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٤٩٣ / أبواب صلاة المسافر ب ١٤ ح ٥.

(٢) الوسائل ٨ : ٤٩٤ / أبواب صلاة المسافر ب ١٤ ح ١١.

٢٤٢

.................................................................................................

______________________________________________________

بأن يكون له منزل يقيم فيه ستة أشهر.

وأورد على هذا الاستدلال غير واحد من الأعاظم منهم المحقّق الهمداني (قدس سره) (١) فأنكروا دلالة الصحيحة على الوطن الشرعي ، بل هي ناظرة إلى الوطن العرفي ، وأنّه يجوز أن يكون الشخص ذا وطنين ، بأن يبني على الإقامة في محلّ من قرية أو ضيعة ستة أشهر في كلّ سنة ، وبذلك يصبح هذا المحل وطنه العرفي في قبال الوطن الأصلي ، فهي مسوقة لبيان كيفية اتخاذ المتوطّن وطناً ثانياً مستجداً ، وأنّ الوطن كما يكون بالأصل يمكن أن يكون بالاتخاذ والجعل ، الذي يتحقّق بالإقامة في كلّ سنة ستّة أشهر. فلا دلالة لها على وطن آخر غير العرفي.

وقرّبوا ذلك بأنّا لو فرضنا أن ابن بزيع لم يسأل ثانياً عن الاستيطان لكان الإمام (عليه السلام) يقتصر بطبيعة الحال على الجواب الأوّل الذي هو ظاهر في الاستيطان العرفي ، ولم يكن أمراً مجهولاً لا لابن بزيع ولا لغيره من أهل العرف ، غير أنّه من باب الاتفاق استوضحه ثانياً. فلو كان المراد معنى آخر غير العرفي لكان الجواب مشتملاً على نوع من الإجمال والإبهام غير المناسب لمقام الإمام (عليه السلام).

ويؤيّده : التعبير بصيغة المضارع في المفسَّر والمفسِّر ، أعني قوله : «يستوطنه» وقوله (عليه السلام) : «يقيم» الظاهر في الدوام والاستمرار والتلبّس بالحال بأن تكون الإقامة والاستيطان ستّة أشهر مستمرّة في كلّ سنة كما قيّده بذلك الصدوق في الفقيه (٢) الذي لا ينطبق إلّا على المعنى العرفي.

فلو كان المراد الوطن الشرعي بأن يناط الإتمام متى دخل بإقامة الأشهر

__________________

(١) مصباح الفقيه (الصلاة) : ٧٣٩ السطر ١٣.

(٢) الفقيه ١ : ٢٨٧ ذيل ح ١٣٠٩.

٢٤٣

.................................................................................................

______________________________________________________

الستّة المنقضية وإن أعرض عنها كما يزعمه المشهور كان اللّازم التعبير بصيغة الماضي ، بأن يقال : استوطنه وأقام فيه ، دون المضارع كما لا يخفى.

هكذا أورده جماعة من المحقّقين ومنهم المحقّق الهمداني (قدس سره) مصرّاً عليه.

أقول : الظاهر أنّ ما فهمه المشهور من دلالة الصحيحة على ثبوت الوطن الشرعي هو الصحيح ، وأنّ الإمام (عليه السلام) بصدد بيان معنى آخر للوطن غير العرفي. ولو فرضنا أنّ ابن بزيع لم يسأل لكان عليه (عليه السلام) البيان والتوضيح ، وقد التفت ابن بزيع إلى أنّه معنى آخر ولذلك سأل واستوضح.

بيان ذلك : أنّ الإمام (عليه السلام) لما أجاب أوّلاً بقوله : «لا بأس ما لم ينو مقام عشرة أيام» استثنى من ذلك بقوله (عليه السلام) : «إلّا أن يكون له أي لصاحب الضّيعة فيها أي في الضّيعة منزل يستوطنه» أي يستوطن المنزل على ما يقتضيه تذكير الضمير.

وهذا أعني استيطان المنزل أمر لا يعرفه أهل العرف ، ولم يكن معهوداً عند ابن بزيع ولا عند غيره ، ضرورة أنّ المتعارف من مفهوم الاستيطان لدى الإطلاق إنّما هو استيطان البلد أو القرية أو الضيعة لا استيطان المنزل ، إذ لا يتوقّف التوطّن بحسب مفهومه العرفي على وجود منزل للمتوطّن فضلاً عن الإقامة فيه. فلو فرضنا أنّ شخصاً لم يكن له منزل أصلاً بل يعيش في الطرق والشوارع العامّة ، أو يكون ضيفاً أو كَلا على غيره في بلدة طيلة حياته لا شكّ أنّ ذاك البلد وطنه ومسكنه.

ولأجل هذه الجهة والله العالم التفت ابن بزيع إلى أنّه (عليه السلام) بصدد بيان معنى آخر للوطن ، فسأله متعجّباً بقوله : «ما الاستيطان» نظراً إلى أنّ وجود المنزل غير لازم في الوطن العرفي جزماً ، وعلى تقديره لا تعتبر الإقامة

٢٤٤

.................................................................................................

______________________________________________________

فيه قطعاً ، وقد اعتبر الإمام (عليه السلام) كلا الأمرين بمقتضى لام التمليك في قوله (عليه السلام) : «إلّا أن يكون له ...» إلخ وتذكير الضمير في قوله : «يستوطنه» فلأجل ذلك احتاج إلى السؤال والاستيضاح ، لعدم كون الوطن بهذا المعنى معهوداً عنده ولا عند غيره من أهل العرف والمحاورة كما عرفت.

ففسّر (عليه السلام) مراده من الاستيطان وأوضحه بقوله (عليه السلام) : «أن يكون فيها أي في الضيعة منزل يقيم فيه أي في المنزل ستّة أشهر» وأنّه متى تحقّق ذلك يتم فيها أي في الضيعة متى دخلها وإن لم يدخل منزله.

ولأجل ذلك جعل الضمير في قوله (عليه السلام) : «يقيم فيه» مذكراً ، وفي قوله (عليه السلام) : «يتم فيها» مؤنثاً ، إيعازاً إلى أنّ الاستيطان والإقامة في المنزل ستّة أشهر موضوع للتمام متى دخل الضيعة وإن لم يدخل منزله ، وبذلك تصبح تلك الضيعة وطنه الشرعي ، وهذا كما ترى معنى آخر للوطن غير العرفي إذ العرفي منه لا يتوقّف على المنزل فضلاً عن السكنى فيه.

ويؤيّده بل يؤكّده ويعيّنه التقييد بستّة أشهر ، ضرورة أنّ هذا غير معتبر في صدق العنوان العرفي ، لتحقّقه بما دون ذلك جزماً كما لو كان له منازل فأقام في كلّ منها في كلّ سنة ثلاثة أشهر أو أربعة ، فإنّه لا إشكال في أنّ جميع ذلك أوطان له ، فلو كان (عليه السلام) بصدد بيان الوطن العرفي كان اللازم التنبيه على الفرد الخفي ، أعني إقامة أربعة أشهر أو ثلاثة فإنّه المحتاج إلى البيان ، دون الستّة التي هي من أوضح أنحائه وأظهر أفراده من غير حاجة إلى بيانه.

فالتقييد المزبور كاشف قطعي عن كونه (عليه السلام) بصدد بيان معنى آخر مغاير للوطن العرفي ، وهو ما كان مشتملاً على الملك أوّلاً ، وعلى السكونة فيه ثانياً ، وأن تكون السكونة ستّة أشهر ثالثاً ، وبذلك يتحقّق الوطن الشرعي.

وملخّص الكلام في المقام : أنّ الإمام (عليه السلام) علّق الحكم بالإتمام على

٢٤٥

.................................................................................................

______________________________________________________

استجماع قيود ثلاثة ، لا يعتبر شي‌ء منها في صدق الوطن العرفي ، وهي الإقامة ستّة أشهر ، وأن تكون في المنزل كما يقتضيه تذكير الضمير في «يستوطنه» ، وأن يكون المنزل ملكاً له كما يقتضيه لام التمليك في قوله (عليه السلام) : «إلّا أن يكون له ...» إلخ.

وبما أنّ من الواضح أنّ الوطن العرفي الاتخاذي لا يكون منوطاً بشي‌ء من ذلك ، لجواز اتخاذ مواطن عديدة شتائية وصيفية وربيعية وخريفية يقيم في كلّ منها في كلّ سنة ثلاثة أشهر ، كجواز التوطّن في بلد لا ملك له فيه أصلاً فضلاً عن السكونة فيه ، فلا يكون المذكور في الصحيحة منطبقاً على الوطن العرفي بوجه.

وقد عرفت وجه استفسار ابن بزيع والنكتة الباعثة لاستيضاحه وأنّها الاستغراب الناشئ من تقييد الاستيطان بالمنزل ، الذي هو أمر لم يتعاهده العرف من معنى الوطن لا ابن بزيع ولا غيره ، وأنّه كان عليه (عليه السلام) التفسير والبيان وإن لم يسأل معناه ، لكونه مجهولاً عند أهل العرف كما عرفت.

ومن المعلوم أنّ تفسيره (عليه السلام) راجع إلى مادة الاستيطان ، وإلّا فهيئة الاستفعال التي هي بمعنى الاتخاذ واضح لا يحتاج إلى السؤال ، ففسّر (عليه السلام) نفس الوطن ، وأنّه عبارة عن الإقامة ستّة أشهر في المنزل المملوك له ، وأنّه بذلك تصبح القرية أو الضيعة أو البلد وطنه الشرعي ، المحكوم بلزوم الإتمام متى دخل ، فتدلّ الصحيحة على مذهب المشهور بوضوح.

ومنه تعرف أنّ الاتخاذ والقصد ممّا لا بدّ منه ، رعاية لهيئة الاستفعال ، ومتعلّقه الإقامة ستّة أشهر كما يقتضيه رجوع التفسير إلى المادة حسبما ذكرناه.

وأمّا تعبير الإمام (عليه السلام) بصيغة المضارع في قوله (عليه السلام) : «يستوطنه» وقوله (عليه السلام) : «يقيم» فالظاهر أنّ الوجه فيه المفروغية عن

٢٤٦

.................................................................................................

______________________________________________________

أنّ هذا السائل لم يكن ساكناً في تلك الضيعة قبل ذلك ، فأراد (عليه السلام) بيان قضية حقيقية والتعرّض لحكم كلّي ، وأنّ صاحب الضيعة لا يتم فيها إذا لم يقصد الإقامة فيها عشرة أيام إلّا بعد أن يقيم ستّة أشهر ، فإذا انقضت تلك المدّة أتمّ متى دخل ، ولذا عبّر بصيغة الماضي بعد ذلك بقوله : «فاذا كان كذلك يتم فيها متى دخلها».

إذ من الواضح أنّه لا يحتمل أن يتم فعلاً إذا كان يقيم ستّة أشهر فيما بعد بحيث تكون الإقامة اللاحقة مناطاً للإتمام الفعلي ، بل لا بدّ من انقضاء تلك المدّة ثمّ بعدئذ يحكم بالإتمام. فالتعبير بالمضارع من أجل أنّ تلك الإقامة في الأشهر الستّة لم تكن مفروضة ومتحقّقة قبل ذلك ، فأراد (عليه السلام) بيان أنّه إذا كان كذلك فيما بعد يتوجّه إليه الخطاب بالإتمام متى دخل.

وعلى الجملة : لا ينبغي التأمّل في عدم دلالة المضارع على الاستمرار في المقام لعدم اعتبار شي‌ء من القيود الثلاثة المتقدّمة في الوطن العرفي حسبما عرفت.

وما أشبه المقام بالاستفتاء من الفقيه والإجابة عنه بالصورة التالية : امرأة في دارنا لها زوج ولها ابنة صغيرة ، وإنّني مبتلى بالنظر إلى شي‌ء من بدنها أو لمسه بغير شهوة ، قال : ليس لك ذلك ، إلّا أن تعقد على ابنتها ، قلت : وما العقد على ابنتها ، قال : تتزوجها ولو ساعة ، فإذا كان ذلك جاز لك النظر واللمس بغير شهوة متى شئت.

فإنّ من الواضح الجلي عدم إرادة الاستمرار والتوالي في العقد والتزويج وإن عبّر عنهما بصيغة المضارع.

على أنّ في دلالة هذه الصيغة بمجرّدها على التجدّد والاستمرار نوعاً من التأمّل وإن اشتهرت على الألسن ، وربّ شهرة لا أصل لها. وهل يحتمل التجدّد في

٢٤٧

.................................................................................................

______________________________________________________

المثال المزبور ، أو في مثل قوله تعالى (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا) الآية (١) فتدبّر جيداً هذا.

ويؤكّد ما ذكرناه ، بل يعيّنه التعبير بصيغة الماضي في صحيحة سعد بن أبي خلف قال : «سأل علي بن يقطين أبا الحسن الأوّل (عليه السلام) عن الدار تكون للرجل بمصر والضيعة فيمرّ بها ، قال : إن كان ممّا قد سكنه أتم فيه الصلاة وإن كان ممّا لم يسكنه فليقصّر» (٢).

حيث علّق (عليه السلام) الحكم بالتمام على ما إذا سكنه سابقاً وإن أعرض عنه ، غايته أنّها مطلقة من حيث تحديد السكونة بستّة أشهر وأن تكون في منزله المملوك ، فيقيّد بكلا الأمرين بمقتضى صحيحة ابن بزيع.

وكيف ما كان ، فلا ينبغي التأمل في دلالة الصحيحة بوضوح على ثبوت الوطن الشرعي كما يقوله المشهور ، ويتحقّق بوجود منزل مملوك له في محلّ قد سكنه ستّة أشهر عن قصد ونيّة كما تقتضيه هيئة الاستيطان ، باعتبار دلالة الاستفعال على الاتخاذ المتقوّم بالقصد ، فاذا تحقّق ذلك أتمّ المسافر صلاته كلّما دخله إلى أن يزول ملكه.

بقي هنا أمران :

أحدهما : أنّه نسب إلى المشهور اعتبار قصد التوطّن الأبدي في تحقّق الوطن الشرعي ، وأنّه متى مضى على هذا العزم والقصد ستّة أشهر يحكم بالإتمام متى دخل وإن أعرض ، فلا تكفي الإقامة الفاقدة لقصد التوطّن الدائم.

ولكن هذه النسبة لم نتحقّقها ، ولم يثبت ذهاب المشهور إليها ، وعلى تقدير الثبوت لا دليل عليه بوجه ، فانّا قد ذكرنا أنّ التفسير المذكور في الصحيح ناظر

__________________

(١) البقرة ٢ : ٢٣٠.

(٢) الوسائل ٨ : ٤٩٤ / أبواب صلاة المسافر ب ١٤ ح ٩.

٢٤٨

.................................................................................................

______________________________________________________

إلى مادّة الاستيطان لا هيئته ، وأنّ نفس الوطن عبارة في نظر الشرع عن الإقامة ستّة أشهر في منزله المملوك ، غايته بشرط أن تكون عن قصده ونيّته بمقتضى وضع الهيئة ، وأمّا قصد التأبيد فليس في الصحيحة ما يدلّ عليه.

نعم ، لو كان التفسير راجعاً إلى الهيئة من غير نظر إلى المادة صحّ ما ذكر باعتبار إشراب التأبيد في مفهوم الوطن بمقتضى الفهم العرفي ، لكنّك عرفت أنّ هيئة الاستفعال واضحة المفاد لا إجمال فيها كي تحتاج إلى التفسير والسؤال وإنّما الإجمال كلّه في نفس المادة بالتقريب الذي تقدّم. فالتفسير راجع إليها خاصّة ، ولازمه كما عرفت كفاية الإقامة الخارجية ستّة أشهر عن قصد ونيّة من غير حاجة إلى قصد التأبيد والتوطّن الدائم.

ثانيهما : أنّ التحديد بستّة أشهر الوارد في الصحيح ظاهر في الاتصال كما هو الحال في سائر التحديدات الشرعية ، كالتحديد بعشرة في قصد الإقامة ، وبالثلاثة في أقل الحيض وفي صوم الحج ، وبثلاثين يوماً متردِّداً ونحو ذلك ، فانّ كلّها ظاهر بمقتضى الفهم العرفي في اعتبار الاتصال والاستمرار ، فلا يكفي مع التقطيع والتلفيق في الحكم بالإتمام في المقام ، ولا أقل من الشكّ في ذلك والإجمال في اعتبار الاتصال.

وبما أنّ الحكم المزبور على خلاف القاعدة الأوّلية الدالّة على لزوم التقصير على كلّ مسافر فلا بدّ من الاقتصار في التخصيص على المقدار المتيقّن ، وهو المشتمل على الاتصال كما هو ظاهر.

نعم ، الأسفار الجزئية غير المنافية للإقامة العرفية لا بأس بها كمن يقيم في النجف الأشرف وفي كلّ شهر يزور الحسين (عليه السلام) يوماً مثلاً ، فانّ المدار في الإقامة في المنزل المذكورة في النص التي ينافيها السفر بما هو المتعارف الخارجي ، وسيجي‌ء إن شاء الله تعالى (١) في قصد الإقامة أنّه لا ينافيه الخروج

__________________

(١) في ص ٢٧٢.

٢٤٩

[٢٣٠٣] مسألة ٢ : قد عرفت عدم ثبوت الوطن الشرعي (١) وأنّه منحصر في العرفي فنقول : يمكن تعدّد الوطن العرفي بأن يكون له منزلان في بلدين أو قريتين من قصده السكنى فيهما أبداً في كلّ منهما مقداراً من السنة بأن يكون له زوجتان مثلاً كلّ واحدة في بلدة يكون عند كلّ واحدة ستّة أشهر أو بالاختلاف ، بل يمكن الثلاثة أيضاً ، بل لا يبعد الأزيد أيضاً.

______________________________________________________

من المنزل للدرس أو الكسب أو تشييع الجنازة ونحو ذلك ، بل إلى خارج البلد ونواحيه للتفرّج والتنزّه ونحوهما. فلا يلزم عدم الخروج من البيت.

فإذا كانت الإقامة كذلك فالسفر المنافي لها كما في المقام أيضاً كذلك ، فإنّه محمول على المتعارف ، غير الشامل للسفر الجزئي الواقع في الزمان القليل كما عرفت ، نعم هذا السفر الجزئي ينافي قصد إقامة العشرة ، للتحديد هناك بعدم الخروج من البلد بخلاف المقام.

(١) بل قد عرفت ثبوت الوطن الشرعي وتحقّقه بوجود منزل مملوك في محلّ قد سكنه ستّة أشهر متّصلة عن قصد ونيّة ، وأنّه يتم المسافر صلاته كلّما دخله وإن أعرض عنه إلّا أن يزول ملكه ، فلا ينحصر في العرفي.

نعم ، ما ذكره من إمكان تعدّد الوطن العرفي بأن يكون له منزلان أو ثلاثة بل أربعة يسكن في كلّ منها مقداراً من السنة بقصد السكونة الأبدية إمّا على التساوي أو بالاختلاف ، بأن يسكن أربعة أشهر في منزل ، وثمانية في منزل آخر ونحو ذلك ، ولا سيما إذا أكّد التوطّن الدائم باختيار زوجة في كلّ منها وشراء دار وعقار وأثاث ونحوها من لوازم المعيشة ، فهو أمر ظاهر لا ينبغي التأمّل فيه بعد صدق التوطّن العرفي في الجميع بمناط واحد.

٢٥٠

[٢٣٠٤] مسألة ٣ : لا يبعد أن يكون الولد تابعاً لأبويه أو أحدهما في الوطن ما لم يعرض بعد بلوغه عن مقرّهما وإن لم يلتفت بعد بلوغه إلى التوطّن فيه أبداً ، فيعدّ وطنهما وطناً له أيضاً إلّا إذا قصد الإعراض عنه سواء كان وطناً أصلياً لهما ومحلا لتولّده أو وطناً مستجدّاً لهما كما إذا أعرضا عن وطنهما الأصلي واتّخذا مكاناً آخر وطناً لهما وهو معهما قبل بلوغه ثمّ صار بالغاً ، وأمّا إذا أتيا بلدة أو قرية وتوطّنا فيها وهو معهما مع كونه بالغاً فلا يصدق وطناً له إلّا مع قصده بنفسه (١).

______________________________________________________

(١) ما ذكره (قدس سره) من تبعية الولد لأبويه أو أحدهما في الوطن ما لم يعرض بعد بلوغه عن مقرّهما وأنّ ذلك يعدّ وطناً له بالتبع هو الصحيح ، نظراً إلى ما تقدّم (١) من أنّ الوطن بعنوانه لم يكن موضوعاً لحكم من الأحكام الشرعية بل الموضوع إنّما هو المسافر وغير المسافر. فكلّ مكلّف محكوم بالإتمام إلّا أن يكون مسافراً ، فالحاضر في بلده سواء أكان وطنه الأصلي أو الاتخاذي يتم لا لأجل أنّه وطنه ، بل لأنّه ليس بمسافر.

ومن هنا ذكرنا سابقاً (٢) أنّه لا يبعد أن يكون الحكم بالإتمام في من بيته معه كالأعراب لهذه العلّة ، أي لعدم كونه مسافراً ، لا لخصوصية فيه. وكيف ما كان فالمناط في الإتمام عدم صدق المسافر ، لا صدق عنوان الوطن.

ولا ينبغي التأمل في انطباق هذا الضابط على الولد بعد فرض تبعيته لأبويه في المسكن ، فانّ هذا منزله ومقرّه ومحلّ أهله وعشيرته ، ومن هذا شأنه لا يصدق

__________________

(١) في ص ١٨٨.

(٢) في ص ١٤٩.

٢٥١

.................................................................................................

______________________________________________________

عليه المسافر بوجه ، كما كان هو الحال في أبويه ، من غير فرق بين ما إذا كان وطناً أصلياً لهما أو مستجداً اتخاذيا.

فلا يحتاج الولد بعد فرض التبعية المزبورة إلى قصد التوطّن ، بل لو كان غافلاً عن ذلك بالكلّية ولم يلتفت بعد بلوغه بل طيلة حياته إلى أنّ هذا وطنه فلم يصدر عنه القصد رأساً لم يكن قادحاً ، لما عرفت من أنّ موضوع الحكم من لم يكن مسافراً ، الصادق عليه بالوجدان ، لا من كان متوطّناً كي يتأمل في صدقه عليه.

نعم ، لو بلغ وأعرض كان مستقلا كسائر المكلّفين. فلو أعرض الوالدان وهو متردِّد في الإعراض لا يكفي توطّنهما المستجد في توطّنه ، بل لا بدّ من قصده بنفسه. فلا أثر للتبعية وإن كان معهما بعد فرض البلوغ والاستقلال. والحاصل : أنّ المدار على صدق المسافر وعدمه.

يبقى الكلام فيما لو أعرض عن بلده وهو غير بالغ فهل يترتّب أثر عليه؟

الظاهر العدم ، لعدم نفوذ أفعاله في نظر الشرع من غير مراجعة الولي ، فهو مولّى عليه ، لا يكون مستقلا في فعله ولا مالكاً لأمره كما عبّر بمثل ذلك فيما ورد في نكاح الصبية بقوله (عليه السلام) : الصبية غير مالكة لأمرها (١). فليس له الاستقلال في اتخاذ المكان ، بل الولاية لوليه في جميع شؤونه وجهاته التي منها المسكن ، ومنوط بما يراه مصلحة له.

ويؤيّده ما ورد بعد سؤال الراوي متى يخرج الولد عن اليتم من قوله (عليه السلام) : لا يجوز أمر الغلام حتّى يحتلم (٢).

__________________

(١) الوسائل ٢٠ : ٢٧٦ / أبواب عقد النكاح وأولياء العقد ب ٦ ح ٣.

(٢) الوسائل ١ : ٤٣ / أبواب مقدّمة العبادات ب ٤ ح ٢.

٢٥٢

[٢٣٠٥] مسألة ٤ : يزول حكم الوطنية بالإعراض والخروج (١) وإن لم يتخذ بعد وطناً آخر ، فيمكن أن يكون بلا وطن مدّة مديدة.

[٢٣٠٦] مسألة ٥ : لا يشترط في الوطن إباحة المكان الذي فيه (٢) ، فلو غصب داراً في بلد وأراد السكنى فيها أبداً يكون وطناً له ، وكذا إذا كان

______________________________________________________

وعلى الجملة : المستفاد من الأدلّة أنّ الشارع قد ألغى كافّة أفعال الصبي عن درجة الاعتبار ، وفرضها كالعدم ما لم يبلغ حدّ البلوغ ، وإن كان العرف لا يفرّق بين البالغ وغيره بل العبرة عندهم بالتمييز وعدمه. فإعراض الصبي واتخاذه وطناً آخر لنفسه في حكم العدم ، فإنّه عمل صادر من غير أهله ، كما هو الحال في المجنون.

فما ذكره الماتن (قدس سره) من نفي البُعد عن تبعيّة الولد لأبويه هو الصحيح بل هو واضح مع عدم الإعراض ، وكذا مع الإعراض إذا كان قبل البلوغ ، فانّ قصده كلا قصد كما عرفت.

(١) لتقوّم صدق الوطن بما له من المفهوم العرفي بالاستقرار والسكونة في المحل بحيث يعدّ البلد مقرّه ومسكنه ، وبعد الإعراض المتعقّب بالخروج يزول هذا العنوان بطبيعة الحال ، فلا يُقال إنّه من أهل البلد الفلاني ، بل يُقال إنّه كان من أهل ذاك البلد ، سواء اتخذ وطناً آخر أم لم يتخذ ، إمّا لأنّه لا يريد الاتخاذ رأساً بحيث يكون سائحاً في الأرض أو من الذين بيوتهم معهم ، أو لأنّه بانٍ على الاتخاذ ولكنّه لم يتخذ بعد.

وعلى أي تقدير فقد زال حكم الوطن الأوّل بالإعراض والخروج ، فلا يكون وطنه فعلاً ، بل كان كذلك سابقا.

(٢) لعدم الدليل على التقييد بعد وضوح عدم دخل الحلّية في صدق الوطن

٢٥٣

بقاؤه في بلد حراماً عليه من جهة كونه قاصداً لارتكاب حرام ، أو كان منهياً عنه من أحد والديه أو نحو ذلك.

[٢٣٠٧] مسألة ٦ : إذا تردّد بعد العزم على التوطّن أبداً فإن كان قبل أن يصدق عليه الوطن عرفاً بأن لم يبق في ذلك المكان بمقدار الصدق فلا إشكال في زوال الحكم وإن لم يتحقّق الخروج والإعراض ، بل وكذا إن كان بعد الصدق في الوطن المستجد ، وأمّا في الوطن الأصلي إذا تردّد في البقاء فيه وعدمه ففي زوال حكمه قبل الخروج والإعراض إشكال (*) لاحتمال صدق الوطنية ما لم يعزم على العدم ، فالأحوط الجمع بين الحكمين (١).

______________________________________________________

بما له من المفهوم العرفي الشامل للسكونة المحرّمة كالمحلّلة بمناط واحد ، من غير فرق بين ما إذا كان المسكن حراماً كما لو غصب داراً في بلد وعزم على السكنى فيها أبداً ، أو كان أصل السكنى محرّماً كما لو كان بقاؤه في بلد حراماً عليه من جهة من الجهات كنذر ، أو شرط في ضمن عقد ، أو النهي عنه من أحد أبويه فيما كان النهي نافذاً ولازم الإطاعة ونحو ذلك ، فإنّه في جميع ذلك لو عصى وارتكب الحرام كان ذلك المكان محلّه ومسكنه ، بحيث لو خرج منه يقال سافر عن محلّه ، ولو رجع يقال دخل أهله ومنزله.

وعلى الجملة : فالعبرة في صدق الوطن بعدم كونه مسافراً عرفاً ، والحلِّيّة والحرمة أجنبيتان عن الصدق المزبور.

(١) تقدّم سابقاً (١) أنّ مجرّد العزم على التوطّن واتِّخاذ محلّ مقرّاً له لا يكفي في

__________________

(*) والأظهر عدم الزوال ، بل الحال كذلك في المستجد.

(١) في ص ٢٣٦.

٢٥٤

.................................................................................................

______________________________________________________

ترتيب أحكام الوطنية إلّا بعد مضي زمان أو التصدِّي لترتيب آثار بحيث يصدق معه عنوان الوطن عرفاً وأنّ هذا محلّه ومسكنه ومقرّه ومنزله ، فالنيّة بمجرّدها ما لم ينضم إليها الصدق المزبور لا أثر لها بتاتاً.

وعليه فلو تردّد بعد العزم والنيّة وقبل حصول الصدق لا إشكال في عدم ترتيب أحكام الوطن ، إذ مع عدم التردّد لم تثبت تلك الأحكام فكيف بما إذا تردّد ، فهي منفية هنا بطريق أولى.

وهذا واضح وإن كانت عبارته (قدس سره) قاصرة وغير خالية عن المسامحة ، لأجل تعبيره (قدس سره) بزوال الحكم ، الذي هو فرع الحدوث ، مع أنّه لا حكم أوّلاً كي يزول. ومراده (قدس سره) بالزوال عدم ترتيب الأحكام بمجرّد النيّة السابقة المتعقّبة بالتردّد ، فكأنه زوال للحكم الاقتضائي لا الفعلي. وكيف ما كان ، فالأمر سهل ولا إشكال في المسألة.

وأمّا إذا حصل التردّد بعد تحقّق الصدق المزبور فقد ذكر (قدس سره) أنّه يزول عنه الحكم في الوطن المستجد ، فلو سافر ورجع مع فرض تردّده لا يجري عليه حكم الوطن ، إذ كما يعتبر القصد في الوطن الاتخاذي حدوثاً يعتبر بقاءً أيضاً ، لأنّه إنّما صار وطناً بجعله وقصده ، فهو متقوّم به ودائر مداره ، فاذا زال القصد بالتردّد زالت الوطنية بطبيعة الحال.

وأمّا في الوطن الأصلي فقد استشكل (قدس سره) في زوال الحكم بالتردّد من احتمال تقوّمه بالقصد كما في المستجد ، ومن جواز كونه وطناً في طبعه فهو باق على وضعه ما لم يلحقه الإعراض ، فلا أثر للتردّد ، ولأجله احتاط في هذه الصورة ، هذا.

والذي ينبغي أن يقال : إنّه لا فرق بين القسمين ، ولا أثر للتردّد في شي‌ء

٢٥٥

.................................................................................................

______________________________________________________

منهما ، فانّا ذكرنا سابقاً (١) أنّ الحكم بالتمام لم يثبت لعنوان الوطن حتّى يدور مداره ويبحث عن أنّه متقوّم بالقصد أم لا ، بل هو ثابت لكلّ مكلّف لم يكن مسافراً ، صدق عليه المتوطّن أو لا ، فالحكم منوط بالسفر وعدمه لا بالوطن وعدمه ، فانّ التمام هي الوظيفة الأوّلية لكلّ مكلّف ، خرج منه عنوان المسافر فيكون الموضوع بعد التخصيص مَن لم يكن مسافراً.

وعليه ففي الوطن الأصلي لا ينبغي الإشكال في عدم الزوال بمجرّد التردّد ضرورة عدم استيجابه لانقلاب الحاضر بالمسافر ، بل يقال في حقّه إنّه يحتمل أن يسافر ، لا أنّه مسافر بالفعل ، فهو بعدُ في منزله وفي مقرّه ومسكنه ، فكيف يحتمل زوال الحكم بمجرّد الترديد.

بل الحال كذلك حتّى مع العزم على الإعراض فضلاً عن التردّد فيه ، فلا يزول الحكم بالعزم المزبور ما لم يتحقّق الخروج والإعراض ولم يتلبّس بالانتقال ، لما عرفت من عدم صدق المسافر عليه قبل ذلك ، بل هو عازم على السفر ، لا أنّه مسافر ، وزوال الحكم بالتمام منوط بفعلية السفر لا بنيته.

وعلى الجملة : فالجزم بالإعراض لا يوجب الزوال والانقلاب فكيف بالتردّد.

بل الحال كذلك في الوطن المستجد بعين المناط المتقدّم ، فانّ التردّد في الإعراض عن الوطن الاتخاذي ما لم يقترن بالهجرة والإعراض الخارجي لا يوجب صدق عنوان المسافر ، بل الجزم به كذلك فضلاً عن الشك.

فتحصّل : أنّ الأظهر عدم زوال الحكم بالعزم على عدم التوطّن فضلاً عن التردّد ، من غير فرق بين الوطن الأصلي والاتخاذي.

__________________

(١) في ص ١٨٨.

٢٥٦

[٢٣٠٨] مسألة ٧ : ظاهر كلمات العلماء رضوان الله عليهم اعتبار قصد التوطّن أبداً في صدق الوطن العرفي ، فلا يكفي العزم على السكنى إلى مدّة مديدة كثلاثين سنة أو أزيد ، لكنّه مشكل (*) ، فلا يبعد الصدق العرفي بمثل ذلك ، والأحوط في مثله إجراء الحكمين بمراعاة الاحتياط (١).

______________________________________________________

(١) استشكل (قدس سره) في من عزم على السكنى في محلّ مدّة مديدة كثلاثين أو عشرين سنة ، بل عشر سنوات من غير قصد التوطّن الأبدي في أنّه هل يجري عليه حكم الوطن باعتبار صدق الوطن العرفي بمثل ذلك ، أو لا يجري نظراً إلى اعتبار قصد التوطّن الدائم كما نسبه إلى ظاهر كلمات المشهور فيحكم عليه بالقصر لو سافر ورجع ما لم ينو مقام عشرة أيام ، وأخيراً احتاط (قدس سره) بإجراء كلا الحكمين.

أقول : ممّا قدّمناه في المسألة السابقة يظهر حكم هذه المسألة أيضاً ، حيث عرفت أنّ الوطن بعنوانه لم يؤخذ موضوعاً للحكم بالتمام في شي‌ء من الأدلّة كي يتصدّى لتحقيق حدوده وموارد صدقه ، بل الموضوع للتمام بعد التخصيص بأدلّة التقصير الثابت لعنوان المسافر كلّ مكلّف لم يكن مسافراً ، سواء أصدق عليه المتوطّن أم لا. فالاعتبار في إجراء الحكمين بصدق عنوان المسافر وعدم صدقه ، لا المتوطّن وعدمه.

ولا ينبغي التأمل في أنّ القاطن في محلّ مدّة طويلة لغاية من الغايات من طبابة أو تجارة أو دراسة كطلبة العلم الساكنين في النجف الأشرف لا يصدق عليه عنوان المسافر ، بل يعدّ هذا المحلّ مسكنه ومقرّه ، ولا سيما إذا اشتدّت

__________________

(*) الإشكال في صدق التوطّن عرفاً لا يضرّ بوجوب التمام إذا لم يصدق عليه عنوان المسافر مع كونه منزلاً له ومحلا لأهله.

٢٥٧

الثاني من قواطع السفر : (١)

______________________________________________________

علائقه باختيار زوجة وشراء دار وترتيب أثاث وغير ذلك من لوازم المعيشة وشؤونها ، بحيث لو سُئل أين تسكن لأجاب بأنِّي أسكن النجف الأشرف مثلاً وإن كان عازماً على الإعراض بعد مدّة طويلة كانقضاء دور الدراسة مثلاً فيصح سلب اسم المسافر عنه فعلاً على سبيل الحقيقة ، ولو خرج إلى كربلاء يقال إنّه سافر إلى كربلاء أو رجع من سفره ، فلا يتّصف بالمسافر إلّا لدى إنشاء سفر جديد ، وبدونه لا يتّصف بعنوان المسافر بوجه.

وكأنّ استشكاله (قدس سره) نشأ من تخيّل أنّ الحكم بالتمام منوط بصدق عنوان الوطن. وليس كذلك ، بل هو موقوف على عدم كونه مسافراً ، الذي لا ينبغي التأمل في انطباقه على هؤلاء كما عرفت وإن لم يكونوا متوطّنين.

وأمّا حدّ الصدق من حيث كمّية المدّة فهو موكول إلى نظر العرف ، ولا يبعد عدم صدق المسافر بنيّة الإقامة خمس سنوات. فمن عزم على الإقامة هذه المدّة في النجف مثلاً يتم ما دام فيه وإن سافر ليالي الجمع أو أيام الزيارات إلى كربلاء ولم ينو الإقامة عشرة أيام بعد رجوعه إلى النجف الأشرف.

(١) ظاهر العبارة أنّ إقامة العشرة قاطعة لنفس السفر لا لحكمه ، وقد تقدّم الكلام (١) حول ذلك مستقصى وقلنا : إنّ القائل بالقطع الموضوعي إن أراد به قطع السفر عرفاً فهو خلاف الوجدان جزماً ، فانّ المقيم مسافر بلا إشكال ضرورة عدم كون محلّ الإقامة مقرّه ومسكنه ، بل هو منزل من منازل سفره احتاج إلى الإقامة فيه عشرة أيام أو أكثر.

وإن أراد به القطع تنزيلاً بمعنى أنّ المقيم بمنزلة المتوطّن في نظر الشرع ، ففيه

__________________

(١) في ص ٨٩.

٢٥٨

العزم على إقامة عشرة أيام (١)

______________________________________________________

أنّه لا دليل على هذا التنزيل بوجه إلّا رواية واحدة تضمّنت أنّ المقيم عشراً بمكّة بمنزلة أهلها ، وقد تقدّم أنّها إمّا مطروحة أو مخصوصة بموردها ، لتضمّنها ما لا يقول به أحد من الأصحاب في غير مكّة جزماً ، بل وفيها أيضاً ظاهراً وهو إتمام المقيم حتّى بعد الخروج والعود ، فامّا أن تطرح أو يخصص الحكم بموردها وهو مكّة. فلا دليل على عموم التنزيل.

وإن أراد قطع موضوع الحكم بالقصر فهو حقّ لا محيص عنه ، لأنّ تخصيص الحكم مرجعه إلى تقييد الموضوع لا محالة ، ضرورة أنّه بعد خروج المقيم عن حكم المسافر يكون موضوع الحكم بالقصر المسافر الذي لا يكون مقيماً ، فيتقيّد الموضوع بغير المقيم بطبيعة الحال ، ولا يمكن بقاؤه على إطلاقه ، لمنافاة الإطلاق مع التقييد ، فاذا صار المسافر مقيماً انقطع موضوع الحكم بالقصر.

إلّا أنّ القطع بهذا المعنى مرجعه إلى التخصيص ، بداهة أنّ رفع موضوع الحكم بما هو موضوع عبارة أُخرى عن رفع الحكم نفسه. وهذا أمر واضح غير قابل للنزاع.

وهذا الأخير هو الصحيح ، أي أنّ الإقامة قاطعة لموضوع الحكم بالقصر بما هو موضوع ، الراجع إلى التخصيص ورفع الحكم نفسه ، لا قطع الموضوع بذاته. فالمقيم مسافر محكوم عليه بالتمام تخصيصاً.

(١) لا ريب أنّ المسافر لدى خروجه من البلد يحتاج في أثناء السير إلى نوع من المكث والإقامة بمقدار ما تقتضيه الحاجة لمأكله ومشربه ونومه واستراحته ونحو ذلك ، لعدم جريان العادة على الاسترسال في السير واستمراره بين البلد والمقصد كما هو ظاهر. فالإقامة نوعاً ما وبنحو الموجبة الجزئية ممّا تقتضيه

٢٥٩

.................................................................................................

______________________________________________________

طبيعة السفر.

وأمّا الزائد على ذلك كما لو أقام يوماً أو يومين أو أكثر للزيارة أو التجارة ونحوهما من الأغراض التي هي زيادة على مقتضى طبع السفر فقد حدّدت تلك الإقامة الزائدة في الروايات الكثيرة بعشرة أيام وبما دونها ، فالأقل محكوم بحكم السفر وإن لم يكن متشاغلاً فعلا بالسير والحركة لعدم عروض موجب التمام ، فانّ العود إليه يحتاج إلى الدليل ولا دليل.

وأمّا إذا كانت الإقامة عشرة أيام فما زاد في مكان واحد من بلد أو قرية أو فلاة أو جزيرة ونحو ذلك فقد تضمّنت النصوص المستفيضة انقلاب الحكم حينئذ من القصر إلى التمام ، وعلى ما ذكرنا آنفاً تكون هي تخصيصاً في أدلّة القصر لكلّ مسافر ، فهو مسافر محكوم بوجوب التمام إلّا أن يسافر سفراً جديداً وهذه الروايات قد علّق الحكم في كثير منها على قصد الإقامة ونيّتها (١).

نعم ، في بعضها وهي صحيحة زرارة تعليق الحكم باليقين ، قال (عليه السلام) فيها : «إذا دخلت أرضاً فأيقنت أنّ لك بها مقام عشرة أيام فأتمّ الصلاة ...» إلخ (٢) فيستفاد منها كفاية العلم بالبقاء واليقين به من غير حاجة إلى العزم والقصد بل يتم حتّى مع العزم على الخروج متى تهيّأ ، مع فرض علمه بالعدم خلال العشرة كما في المحبوس ، أو من منعته الحكومة عن الخروج لمنع قانوني ، أو لعدم تكميل جواز السفر ونحو ذلك. فإطلاق هذه الصحيحة يشمل المختار والمكره والمضطر على البقاء إذا كانوا عالمين به.

والظاهر أنّ الحكم ممّا لا إشكال فيه وأنّه لا يعتبر العزم والنيّة ، بل يكفي مجرّد العلم بالإقامة. وقد تقدّم (٣) نظير ذلك في حدوث السفر وأنّه يكفي في السفر

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٤٩٨ / أبواب صلاة المسافر ب ١٥ ، ٥٠٠ / ب ١٥ ح ٩.

(٢) الوسائل ٨ : ٤٩٨ / أبواب صلاة المسافر ب ١٥ ، ٥٠٠ / ب ١٥ ح ٩.

(٣) في ص ٦٥ ٦٦.

٢٦٠