موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ مرتضى البروجردي

.................................................................................................

______________________________________________________

والتمام لدى وصوله في رجوعه إلى حدّ الترخّص إلى أن يدخل منزله.

والمحقّق في الشرائع جعل حدّ الترخص في الذهاب أحد الأمرين من خفاء الأذان أو الجدران ، وفي الإياب خصّه بالأوّل (١).

فالكلام يقع تارة في اعتباره ، وأُخرى في تشخيصه وميزانه.

أمّا الأوّل : فالظاهر أنّه لا ينبغي التأمّل في اعتباره في الإياب كالذهاب للتصريح به في ذيل صحيحة عبد الله بن سنان بقوله (عليه السلام) : «وإذا قدمت من سفرك فمثل ذلك» (٢) ، ولكونه مقتضى الإطلاق في صحيحة حمّاد بن عثمان عن أبي عبد الله (عليه السلام) «قال : إذا سمع الأذان أتمّ المسافر» (٣) ، فإنّه يشمل الرجوع كالشروع فمقتضى هاتين الصحيحتين المؤيّدتين بغيرهما من الروايات عدم الفرق بين الذهاب والإياب ، وأنّ المسافر متى بلغ هذا الحد كأنه خرج عن عنوان المسافر.

ولكن صاحب الحدائق (قدس سره) أصرّ على عدم الاعتبار في الإياب استناداً إلى جملة من النصوص وفيها الصحيح والموثّق الناطقة بأنّ المسافر يقصّر حتّى يدخل بيته أو منزله أو أهله على اختلاف ألسنتها ، التي منها صحيح العيص بن القاسم عن أبي عبد الله (عليه السلام) «قال : لا يزال المسافر مقصّراً حتّى يدخل بيته» (٤) ، وصحيح معاوية بن عمار : «إنّ أهل مكّة إذا زاروا البيت ودخلوا منازلهم أتمّوا ، وإذا لم يدخلوا منازلهم قصّروا» (٥) ، ونحوهما غيرهما ممّا

__________________

(١) الشرائع ١ : ١٦٠.

(٢) الوسائل ٨ : ٤٧٢ / أبواب صلاة المسافر ب ٦ ح ٣.

(٣) الوسائل ٨ : ٤٧٣ / أبواب صلاة المسافر ب ٦ ح ٧.

(٤) الوسائل ٨ : ٤٧٥ / أبواب صلاة المسافر ب ٧ ح ٤.

(٥) الوسائل ٨ : ٤٧٤ / أبواب صلاة المسافر ب ٧ ح ١.

٢٠١

.................................................................................................

______________________________________________________

هو مذكور في محلّه.

وذكر (قدس سره) أنّ الشهيد في الرّوض (١) تبعاً للعلّامة في المختلف (٢) وكذلك الشيخ (٣) حمل هذه الروايات على دخول حدّ الترخص ، باعتبار أنّ من وصل إلى هذا الموضع يخرج من حكم المسافر فيكون بمنزلة من يصل إلى منزله.

واستبعده (قدس سره) بمخالفته لما هو المصرّح به في بعض هذه النصوص من وجوب التقصير حتّى بعد دخول البلد ، وأنّه لا يتم حتّى يدخل أهله ومنزله كما في صحيحة إسحاق بن عمار (٤) وغيرها.

وما أفاده (قدس سره) من الاستبعاد متين جدّاً ، وكيف يمكن المصير إلى الحمل المزبور مع فرض السائل في الصحيحة المذكورة أنّ المسافر دخل الكوفة ولم يدخل أهله ، وحكمه (عليه السلام) بالتقصير حتّى يدخل أهله. ونحوها موثّقة ابن بكير (٥) وغيرها ، فلا بدّ إذن من النظر في هذه الأخبار فنقول :

إنّ هذه الروايات معارضة لصحيحة ابن سنان المتقدّمة (٦) المصرّحة باعتبار حدّ الترخّص في الإياب كالذهاب ، ولا بدّ من ترجيحها على تلك الروايات بالرغم من كثرتها وصحّة أسانيد جملة منها.

أمّا أوّلاً : فلأنّ هذه الأخبار مقطوعة البطلان في أنفسها حتّى مع قطع النظر

__________________

(١) الروض : ٣٩٣ السطر ٢.

(٢) المختلف ٢ : ٥٣٥ المسألة ٣٩٣.

(٣) الاستبصار ١ : ٢٤٢ ذيل ح ٨٦٤.

(٤) الوسائل ٨ : ٤٧٤ / أبواب صلاة المسافر ب ٧ ح ٣ [الظاهر كونها موثقة ، لأن إسحاق فطحي بتصريح الشيخ كما حكاه في معجم رجال الحديث ٣ : ٢٢٣ / ١١٦٥].

(٥) الوسائل ٨ : ٤٧٤ / أبواب صلاة المسافر ب ٧ ح ٢.

(٦) في ص ١٩٤.

٢٠٢

.................................................................................................

______________________________________________________

عن المعارضة ، ضرورة أنّ التقصير خاصّ بالمسافر ، ولا يعم غيره ممّن لم يتلبّس بهذا العنوان ، ولا شكّ أنّ المسافر لدى رجوعه عن السفر يخرج من هذا العنوان بمجرّد دخوله البلد ، سواء أدخل منزله أم لا ، إذ الاعتبار في السفر بالسير من البلد إلى البلد لا من البيت إلى البيت ، فكيف يمكن الالتزام بما تضمّنته هذه الأخبار من التقصير حتّى بعد دخول البلد ، المستلزم للخروج عن عنوان السفر ولا سيما بعد المكث فيه يوماً أو يومين إلى أن يدخل أهله كما تضمّنه بعضها (١) وهل هذا إلّا الحكم بالتقصير لغير المسافر المقطوع بطلانه.

فلا مناص من طرح هذه الروايات ، أو حملها على التقية ، لموافقتها للعامّة كما احتمله صاحب الوسائل (٢). فهي ساقطة عن درجة الاعتبار في أنفسها.

وثانياً : مع الغض عما ذكر فالترجيح مع صحيحة ابن سنان ، لموافقتها مع السنّة القطعية ، وهي العمومات الدالّة على وجوب التمام على كلّ مكلّف ، المقتصر في الخروج عنها على المقدار المتيقّن وهو المسافر ، ومخالفة هذه لها. فلا ينبغي التأمّل في تقدّم الصحيحة عليها.

نعم ، قد يعارض الصحيحة ما رواه الشيخ عن البرقي في المحاسن بإسناده عن حماد عن أبي عبد الله (عليه السلام) «قال : المسافر يقصّر حتّى يدخل المصر» (٣) حيث إنّ ظاهرها أنّ الاعتبار بدخول المصر لا بلوغ حدّ الترخّص فيمكن أن يقال حينئذ : إنّها مقدّمة على تلك الصحيحة أي صحيحة ابن سنان لموافقتها مع ما دلّ على وجوب القصر على كلّ مسافر ، إذ لم يفرض فيها دخول البيت بل دخول المصر.

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٤٧٥ / أبواب صلاة المسافر ب ٧ ح ٦.

(٢) الوسائل ٨ : ٤٧٥ / أبواب صلاة المسافر ذيل ب ٧.

(٣) الوسائل ٨ : ٤٧٣ / أبواب صلاة المسافر ب ٦ ح ٨ ، المحاسن ٢ : ١٢٠ / ١٣٢٩ [لم نعثر على نقل الشيخ لهذه الرواية].

٢٠٣

.................................................................................................

______________________________________________________

ولكنّه يندفع أوّلاً : بأنّ الرواية مرسلة ، فانّ حماداً يرويها عن رجل عن أبي عبد الله (عليه السلام) كما أثبتها كذلك في الحدائق (١) وفي نفس المصدر أعني محاسن البرقي. فما هو الموجود في نسخة الوسائل الطبعة الجديدة وطبعة عين الدولة من حذف كلمة (عن رجل) الظاهر في صحّة الرواية سقط إمّا من قلم صاحب الوسائل أو من النسّاخ. وكيف ما كان ، فالرواية ضعيفة السند من جهة الإرسال ، فلا يعتمد عليها.

وثانياً : على تقدير صحّتها فيمكن الالتزام هنا بالجمع المتقدّم عن الشيخ وغيره بالإضافة إلى صحيح ابن سنان والنصوص المتقدّمة الذي منعناه ثمّة فإنّه لا مانع من الالتزام به في خصوص هذه الرواية ، لأجل التعبير فيها بدخول المصر ، لا دخول المنزل أو البيت كما كان مذكوراً في تلك الأخبار ، بأن يقال : إنّ صحيحة ابن سنان صريحة في اعتبار حدّ الترخّص ، وهذه الرواية ظاهرة في العدم ظهوراً قابلاً للتصرّف ، بأن يراد من المصر المعنى الجامع الشامل لحدِّ الترخّص ، أي المصر ونواحيه وتوابعه ، فانّ من بلغ في رجوعه إلى حدّ يسمع فيه أذان المصر يصح أن يقال ولو بضرب من العناية التي لا يأباها العرف إنّه دخل المصر. فلا تنافي بينها وبين الصحيحة المتقدّمة الصريحة في اعتبار الحدّ المزبور. ولا شكّ أنّ هذا الجمع ممّا يساعده الفهم العرفي.

فتحصّل : أنّ ما ذكره المشهور بل معظم الفقهاء من اعتبار حدّ الترخّص في الإياب كالذهاب هو الصحيح. هذا كلّه في أصل اعتبار الحد.

وأمّا الثاني : أعني تشخيص هذا الحدّ ، فالظاهر أنّه لا ينبغي التأمّل في انحصاره هنا في عدم سماع الأذان كما سمعته عن المحقّق في الشرائع ، فإنّ خفاء الجدران المعبّر عنه في النص بالتواري من البيوت لم يرد إلّا في رواية واحدة

__________________

(١) الحدائق ١١ : ٤١١.

٢٠٤

من وطنه أو محلّ إقامته (*) (١) وإن كان الأحوط تأخير الصلاة إلى الدخول في منزله أو الجمع بين القصر والتمام إذا صلّى قبله بعد الوصول إلى الحدّ.

[٢٢٨٩] مسألة ٥٨ : المناط في خفاء الجدران خفاء جدران البيوت (*) (٢)

______________________________________________________

وهي صحيحة ابن مسلم المتقدّمة ، قال «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) : الرجل يريد السفر متى يقصّر؟ قال : إذا توارى من البيوت» (١). وموردها كما ترى هو الشروع في السفر والسؤال عن مبدأ التقصير ، فينحصر لا محالة في الذهاب ولا يعمّ الإياب بوجه.

إذن كان المتعيّن هنا التحديد بعدم سماع الأذان ، الوارد في صحيحة ابن سنان المصرّحة بكون الإياب كالذهاب ، السليمة عن المعارض كما هو ظاهر.

(١) كأنّه (قدس سره) جعل اعتبار حدّ الترخّص في محلِّ الإقامة أمراً مفروغاً عنه فتعرّض لتعميمه للذهاب والإياب كالوطن ، لكنّك ستعرف إن شاء الله تعالى عند تعرّض الماتن له في مسألة مستقلّة (٢) عدم اعتبار الحدّ المزبور في محلّ الإقامة ، وأنّه خاص بالوطن. وعلى تقدير الاعتبار في الذهاب لا يعتبر في الإياب ، فإنّه لا دليل عليه فيه بوجه ، وتمام الكلام في محلّه.

(٢) قد عرفت أنّ التعبير بخفاء الجدران لم يرد في شي‌ء من النصوص ، وإنّما الوارد في صحيحة ابن مسلم التواري من البيوت ، أي تواري المسافر عن البيوت

__________________

(*) اعتبار حدّ الترخّص في محلّ الإقامة ولا سيّما في العود إليه محلّ إشكال بل منع ، والأولى رعاية الاحتياط فيه.

(**) بل المناط تواري أهل البيوت ، فإنّه يستكشف به تواري المسافر عن البيوت ، وبذلك يظهر الحال فيما بعده.

(١) الوسائل ٨ : ٤٧٠ / أبواب صلاة المسافر ب ٦ ح ١.

(٢) في ص ٢١٠ المسألة [٢٢٩٦].

٢٠٥

لا خفاء الأعلام والقباب والمنارات ، بل ولا خفاء سور البلد إذا كان له سور ويكفي خفاء صورها وأشكالها وإن لم يخف أشباحها.

[٢٢٩٠] مسألة ٥٩ : إذا كان البلد في مكان مرتفع بحيث يرى من بعيد يقدّر كونه في الموضع المستوي ، كما أنّه إذا كان في موضع منخفض يخفى بيسير من السير أو كان هناك حائل يمنع عن رؤيته كذلك يقدّر في الموضع المستوي ، وكذا إذا كانت البيوت على خلاف المعتاد من حيث العلو أو

______________________________________________________

المستلزم لتواري أهل البيوت عنه لتساوي النسبة ، فلا عبرة بالجدار بل المدار بكون أهل البيوت متوارين عنه.

إلّا أن يقال : إنّ الغالب عدم وجود إنسان خارج البلد فجعل الجدار بدل الإنسان ، فإذا لم يميّز المسافر جداراً عن جدار فطبعاً لا يميّز إنساناً عن إنسان فاعتبر الجدران نظراً إلى عدم حضور الإنسان دائماً ، فإذا خفيت كشف ذلك عن التواري عن البيوت بطبيعة الحال.

وكيف ما كان ، فلا ينبغي التأمل في عدم كون العبرة بخفاء الأعلام والقباب والمنارات التي ربما لا تخفى حتّى بعد بلوغ المسافة الشرعية ، كما هو المشاهد في القبة العلوية على مشرفها آلاف الثناء والتحيّة ، حيث يمكن النظر إليها من بعد أربعة فراسخ أو أزيد ، وعلى أيّ حال فهي خارجة عن البيوت وأهلها الوارد في النص (١). وكذا الحال في سؤر البلد ، لعدم كونه منه. والمدار على خفاء صورها وأشكالها على نحو تتميّز عما عداها ، ولا عبرة بخفاء الأشباح كما هو ظاهر جدّاً.

__________________

(١) كصحيحة ابن مسلم ومرسلة حماد المتقدّمتين في ص ٢٠٥ ، ١٩١.

٢٠٦

الانخفاض فإنّها تردّ إليه ، لكن الأحوط خفاؤها مطلقاً ، وكذا إذا كانت على مكان مرتفع فانّ الأحوط خفاؤها مطلقاً (١).

[٢٢٩١] مسألة ٦٠ : إذا لم يكن هناك بيوت ولا جدران يعتبر التقدير (٢) نعم في بيوت الأعراب ونحوهم ممّن لا جدران لبيوتهم يكفي خفاؤها ولا يحتاج إلى تقدير الجدران (٣).

______________________________________________________

(١) ما أفاده (قدس سره) من لزوم التقدير حينئذ هو الصحيح الذي لا ينبغي التأمّل فيه ، ضرورة أنّ الصحيحة (١) المتكفّلة للمواراة ناظرة إلى التحديد بحسب البعد المكاني ، بحيث يكون عدم الرؤية مستنداً إليه ، لا إلى الموانع الأُخر من الانخفاض أو الارتفاع ، أو وجود حائل مانع عن الرؤية الفعلية من غيم أو جبل ونحو ذلك.

وبعبارة اخرى : لا يحتمل أن يكون التواري بنفسه موضوعاً للحكم ، بل المراد وصول المسافر في بعده حدّا من أجله يتوارى عن البيوت ، ويتحقّق في مقدار ثمن الفرسخ تقريباً ، فلا عبرة بالرؤية الفعلية أو عدمها الناشئة من الجهات الأُخر.

(٢) إذ العبرة كما ظهر ممّا سبق بالبعد المكاني ، فلا بدّ إذن من التقدير.

(٣) فانّ الاعتبار بالتواري عن البيوت أو أهلها ، وهو حاصل في بيوت الأعراب.

__________________

(١) المتقدّمة في ص ٢٠٥.

٢٠٧

[٢٢٩٢] مسألة ٦١ : الظاهر في خفاء الأذان كفاية عدم تميّز فصوله (*) (١) وإن كان الأحوط اعتبار خفاء مطلق الصوت حتّى المتردّد بين كونه أذاناً أو غيره ، فضلاً عن المتميّز كونه أذاناً مع عدم تميّز فصوله.

______________________________________________________

(١) فلا يعتبر عدم تمييز الأذان عن غيره فضلاً عن خفاء مطلق الصوت فانّ المحتملات في السماع ثلاثة :

أحدها : سماع الأذان وتمييزه عن غيره ، سواء أميّز فصوله أم لا.

ثانيها : سماعه مع تمييز الفصول بعضها عن بعض.

ثالثها : أن يكتفى بسماع الصوت فقط وإن لم يشخّص أنّ المسموع أذان أو غيره من قرآن ونحوه ، وإن كان يعلم من الخارج أنّه أذان.

والظاهر من هذه الوجوه هو الأوّل ، وأن يكون السماع بعنوان الأذان ، فإنّ الاحتمال الأخير أعني كون الاعتبار بسماع الصوت مطلقاً ساقط ، لعدم كونه سماعاً للأذان ، وإنّما هو سماع صوت يعلم من الخارج أنّه أذان ، فإنّ السماع هو إدراك الشي‌ء وإحساسه بآلة السمع خاصّة لا من طريق آخر ، فانّا ربما نعلم بأنّ زيداً يتكلّم الآن في داره ولا يطلق عليه السماع بالضرورة.

نعم ، الأذان المذكور في النص لا خصوصية له ، وإنّما هو مثال لأظهر أفراد الصوت المرتفع ، فمن الجائز أن نضع مكانه القرآن أو الشعر أو الدعاء ونحو ذلك إلّا أنّ النص يدلّ على لزوم كون ذلك المسموع أياً ما كان أذاناً أو غيره مدركاً بحاسة السمع ، بحيث يسمع الأذان أو يسمع القرآن ونحو ذلك ، فلا بدّ من تمييزه عمّا عداه ، وإلّا كان ذلك من سماع الصوت لا من سماع الأذان مثلاً. وقد عرفت دلالة النص على اعتبار سماع هذه الخصوصية الجامعة بين الأذان وغيره. وكيف

__________________

(*) الاكتفاء بتميّز كونه أذاناً ولو مع عدم تميّز فصوله لا يخلو عن وجه.

٢٠٨

[٢٢٩٣] مسألة ٦٢ : الظاهر عدم اعتبار كون الأذان في آخر البلد في ناحية المسافر في البلاد الصغيرة والمتوسطة (١) ، بل المدار أذانها وإن كان في وسط البلد على مأذنة مرتفعة ، نعم في البلاد الكبيرة يعتبر كونه في أواخر البلد من ناحية المسافر.

[٢٢٩٤] مسألة ٦٣ : يعتبر كون الأذان على مرتفع معتاد في أذان ذلك البلد ولو منارة غير خارجة عن المتعارف في العلو (٢).

______________________________________________________

ما كان ، فالاحتمال الأخير ساقط كما عرفت.

وكذلك الاحتمال الثاني أعني تمييز الفصول بعضها عن بعض ، فانّ هذا تقييد بلا دليل ، إذ لم يرد في الروايات إلّا سماع الأذان ، الصادق حتّى مع عدم التمييز المذكور ، كما لو سمع كلمة (أشهد) ولم يميز أنّها شهادة بالتوحيد أو بالرسالة ، أو سمع الحيّعلات من دون تمييز ، فإنّه يصدق على مثله سماع الأذان كما لا يخفى. والتقييد المذكور مدفوع بالإطلاق ، فتعيّن الاحتمال الأوّل.

فتحصّل : أنّ الأظهر هو القول المتوسط بين الإفراط والتفريط ، فلا يكفي مطلق الصوت ، ولا يعتبر التمييز للفصول ، بل العبرة بسماع الأذان وإن لم يميّز فصوله. ومنه يظهر ما في اختيار المتن فلاحظ.

(١) فانّ البلد الصغير أو المتوسط لو كان بحيث يسمع الأذان من خارجه لا مانع من كونه مشمولاً للإطلاق وإن كان الأذان في وسطه على مأذنة مرتفعة فلا يعتبر لحاظه في آخر البلد ، نعم في البلدان الكبيرة حيث لم يسمع الأذان الصادر من وسطها من الخارج لا مناص من اعتبار الأذان الصادر في آخر المحلّة في ناحية المسافر كما هو ظاهر.

(٢) كما هو الشأن في سائر التقديرات الشرعية التي لها مراتب مختلفة ، فإنّ

٢٠٩

[٢٢٩٥] مسألة ٦٤ : المدار في عين الرائي وأُذن السامع على المتوسط في الرؤية والسماع في الهواء الخالي عن الغبار والريح ونحوهما من الموانع عن الرؤية أو السماع ، فغير المتوسّط يرجع إليه ، كما أنّ الصوت الخارق في العلو يردّ إلى المعتاد المتوسط.

[٢٢٩٦] مسألة ٦٥ : الأقوى عدم اختصاص اعتبار حدّ الترخّص بالوطن (*) ، فيجري في محلّ الإقامة أيضاً ، بل وفي المكان الذي بقي فيه ثلاثين يوماً متردّداً ، وكما لا فرق في الوطن بين ابتداء السفر والعود عنه في اعتبار حدّ الترخّص كذلك في محلّ الإقامة ، فلو وصل في سفره إلى حدِّ الترخّص من مكان عزم على الإقامة فيه ينقطع حكم السفر ويجب عليه أن يتم ، وإن كان الأحوط التأخير إلى الوصول إلى المنزل كما في الوطن ، نعم لا يعتبر حدّ الترخّص في غير الثلاثة كما إذا ذهب لطلب الغريم أو الآبق بدون قصد المسافة ثمّ في الأثناء قصدها ، فإنّه يكفي فيه الضرب في الأرض (١).

______________________________________________________

المتبع في كلّ ذلك هو الحدّ العادي المتعارف المتوسط بين الإفراط والتفريط ومنه تعرف الحال في المسألة الآتية.

(١) هل يعتبر حدّ الترخّص في غير الوطن من محلّ الإقامة أو المكان الذي بقي فيه ثلاثين يوماً متردِّداً ، أو أنّه خاص بالوطن فيقصّر ويفطر فيما عداه بمجرّد الخروج من البلد.

يقع الكلام تارة في الذهاب ، وأُخرى في الإياب ، ولنعبّر عنهما بالخروج والدخول الذي هو أوسع من الإياب ، لشمول البحث لمجرّد الدخول وإن لم يكن عوداً كما

__________________

(*) بل الأقوى الاختصاص ، وإن كانت رعاية الاحتياط أولى.

٢١٠

.................................................................................................

______________________________________________________

لا يخفى. فهنا مقامان :

أمّا المقام الأوّل : فقد نسب إلى الأكثر اعتبار حدّ الترخص وأنّه لا فرق فيه بين الوطن وغيره. وناقش فيه غير واحد بعدم الدليل على التعميم. والظاهر عدم الاعتبار.

فانّا لو بنينا على أنّ قصد الإقامة قاطع لموضوع السفر وموجب للخروج عن عنوان المسافر عرفاً كما قيل به وقرّبه غير واحد ، بحيث لا يعمّه دليل التقصير في حدّ نفسه ، لخروجه عنه بالتخصّص لا التخصيص ، صحّ حينئذ ما نسب إلى الأكثر بل المشهور من الإلحاق بالوطن في اعتبار حدّ الترخّص لاندراجه في إطلاق صحيحة ابن مسلم : «الرجل يريد السفر متى يقصّر؟ قال : إذا توارى من البيوت» (١).

لدلالتها على أنّ كلّ من يريد التلبّس بالسفر بعد أن لم يكن متصفاً به لا يحكم عليه بالتقصير إلّا بعد التجاوز عن حدّ الترخّص ، فتكون حاكمة على أدلّة القصر.

ومن الواضح أنّ هذا العنوان صادق على المقام ، إذ بعد فرض خروج المقيم عن موضوع المسافر فهو ممّن يريد التلبّس بإنشاء سفر جديد بعد أن لم يكن كذلك ، فيشمله الإطلاق بطبيعة الحال. فهذه الصحيحة بنفسها كافية لإثبات اعتبار حدّ الترخص لقاصد الإقامة.

وأمّا لو بنينا كما هو الصحيح على عدم خروج المقيم من موضوع المسافر وأنّ الحكم بوجوب التمام عليه تخصيص في أدلّة القصر لا تخصّص ، فهو مسافر يجب عليه التمام كالمسافر في صيد اللهو أو السفر الحرام ونحو ذلك.

فعلى هذا المبنى لا يكون المقيم المزبور مشمولاً للصحيح ، لعدم كونه ممّن

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٤٧٠ / أبواب صلاة المسافر ب ٦ ح ١.

٢١١

.................................................................................................

______________________________________________________

يريد السفر ، بل هو مسافر بالفعل حقيقة ، لعدم خروجه بقصد الإقامة عن كونه مسافراً وغريباً حسب الفرض ، فحينئذ يطالب بالدليل على اعتبار حدّ الترخّص في حقِّه بعد أن كان مقتضى إطلاق وجوب القصر لكلّ مسافر التقصير بمجرّد الخروج من محلّ الإقامة ولو بخطوة أو خطوتين.

وقد استدلّ لذلك بوجوه :

أحدها : الوجه الاعتباري بدعوى أنّ الغرض من تشريع حدّ الترخّص تعيين الموضع الذي يجب فيه التمام وتمييزه عن غيره ، المبني على التحاق توابع البلد به ، وأنّ المسافر ما لم يتجاوز ذلك الحدّ كأنه لم يخرج بعد من البلد ولم يصدق عليه عنوان المسافر ولو بضرب من الاعتبار ، وإن كان مبدأ المسافة هو البلد نفسه ، وهذا المناط كما ترى يشترك فيه الوطن ومحلّ الإقامة.

وفيه : ما لا يخفى ، فانّ الوجه الاعتباري لا يصلح سنداً للحكم الشرعي. مع أنّه لا ينبغي التأمل في كونه مسافراً عرفاً حينما يخرج من البلد ، فيطلق عليه المسافر جزماً من لدن حركة السيارة ونحوها. فالحكم تعبّدي محض لا يمكن التعويل فيه إلّا على الروايات ، وهي العمدة في المقام.

ثانيها : رواية حماد : «إذا سمع الأذان أتمّ المسافر» (١) فقيل : إنّ إطلاقها يشمل الخروج من محلّ الإقامة.

وفيه أوّلاً : أنّها ضعيفة السند بالإرسال ، فانّ حماداً يرويها عن رجل عن أبي عبد الله (عليه السلام) كما في الحدائق (٢) وفي نفس المصدر أعني محاسن البرقي (٣) ، فما في الوسائل من حذف كلمة (عن رجل) سقط منه أو من النسّاخ.

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٤٧٣ / أبواب صلاة المسافر ب ٦ ح ٧.

(٢) الحدائق ١١ : ٤٠٥.

(٣) المحاسن ٢ : ١٢٠ / ١٣٣٠.

٢١٢

.................................................................................................

______________________________________________________

فهي ضعيفة وإن عبّر عنها بالصحيحة في غير واحد من الكلمات.

وثانياً : أنّها قاصرة الدلالة على المطلوب ، لعدم الإطلاق لها جزماً ، أفهل يحتمل أن يكون المراد وجوب التمام على أيّ مسافر في أيّ مكان سمع الأذان فيه حتّى لو كان ماراً في طريقه على قرية فسمع أذانها أو سمع في أثناء الطريق أذان نفسه أو صاحبه؟ كلا ، فانّ هذا مقطوع البطلان.

بل ظاهرها إرادة مسافر خاص في مكان مخصوص ، وهو المسافر في أوّل سفره وابتداء تلبّسه بعنوان المسافر بعد أن لم يكن كذلك ، ولا تعمّ من كان مسافراً من قبل.

وقد عرفت أنّ المقيم مسافر ، ولا يكون بخروجه من محلّ الإقامة منشئاً لسفر جديد ، بل هو إبقاء للسفر واستمرار فيه ، فيخصّص مورد الرواية بمن خرج من وطنه ومسكنه بطبيعة الحال ، ولا تعم المقيم بوجه.

كما لا يحتمل أيضاً أن يكون المراد أنّ من كان محكوماً بالتمام في سفره لا ينقلب إلى القصر ما دام يسمع الأذان ، إذ لا يتم هذا على إطلاقه جزماً ، لضرورة عدم اعتبار حدّ الترخّص في من خرج للصيد أو لطلب الغريم وفي أثناء الطريق بدا له في السفر ، أو سافر للمعصية ثمّ ندم في الأثناء فسافر للطاعة ، ونحو ذلك ممّن كان محكوماً بالتمام لانتفاء شرط من شرائط القصر ثمّ اتفق حصوله ، كمن كان مكارياً وفي أثناء الطريق عزم على السفر لغاية أُخرى كالزيارة مثلاً ، ففي جميع ذلك لا يعتبر حدّ الترخص قطعاً ، ولم ينقل القول به عن أحد ، بل يقصّر من مكانه ومن لدن حصول شرطه.

وعلى الجملة : لا إطلاق للرواية ، وعلى تقديره لا يمكن الأخذ به ، بل هي خاصّة بمن خرج من بلده ووطنه. فلا تشمل الخروج من محلِّ الإقامة كما عرفت.

ثالثها : صحيحة ابن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : «سألته عن

٢١٣

.................................................................................................

______________________________________________________

التقصير قال : إذا كنت في الموضع الذي تسمع فيه الأذان فأتمّ ، وإذا كنت في الموضع الذي لا تسمع فيه الأذان فقصّر ، وإذا قدمت من سفرك فمثل ذلك» (١) فاستدلّ بإطلاقها كالرواية المتقدّمة.

وهو أيضاً ممنوع ، لعدم الإطلاق لها في نفسها ، بل هي ناظرة مثل الرواية المتقدّمة إلى أوّل الشروع في السفر وابتداء التلبّس به ، لا من كان محكوماً به قبل ذلك. فتختصّ لا محالة بالخروج من الوطن.

بل هذه أولى بمنع الإطلاق ، بقرينة قوله (عليه السلام) في ذيلها : «وإذا قدمت من سفرك فمثل ذلك» فإنّه يجعلها كالصريح في كون الصدر ناظراً إلى ابتداء الشروع في السفر ، لعدم كون العود إلى محلّ الإقامة قدوماً من السفر ، بل القدوم منه بالدخول في الوطن ، فيكون مورد الصدر الخروج منه فقط ، فلا تعمّ الخروج من محلّ الإقامة جزماً.

وأمّا صحيحة ابن مسلم المتقدّمة (٢) فقد عرفت أنّها أوضح في عدم الدلالة على الإطلاق ، لكونها سؤالاً عمن يريد السفر ، فهي ناظرة إلى الحاضر الذي يريد إحداث السفر وإنشاءه ، فأجاب (عليه السلام) بأنّه لا يقصر إلّا مع تواري البيوت. فهي أجنبية عمّن كان مسافراً وقد قصد الإقامة.

وعلى الجملة : فشي‌ء من هذه الروايات لا تدلّ بوجه على اعتبار حدّ الترخّص في محلّ الإقامة.

نعم ، الذي يمكن أن يستدلّ به على ذلك ما ورد من أنّ المقيم عشرة بمكّة بمنزلة أهلها ، وهي صحيحة زرارة «قال : مَن قدم قبل التروية بعشرة أيام وجب عليه إتمام الصلاة ، وهو بمنزلة أهل مكّة» (٣) فيدعى أنّ عموم التنزيل يقتضي

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٤٧٢ / أبواب صلاة المسافر ب ٦ ح ٣.

(٢) الوسائل ٨ : ٤٧٠ / أبواب صلاة المسافر ب ٦ ح ١ ، وقد تقدّمت في ص ٢١١.

(٣) الوسائل ٨ : ٤٦٤ / أبواب صلاة المسافر ب ٣ ح ٣.

٢١٤

.................................................................................................

______________________________________________________

شمول جميع أحكام الوطن وجريانها على المقيم عشرة ، التي منها اعتبار حدّ الترخّص.

ولكن قد مرّ الكلام حول هذه الصحيحة سابقاً (١) ، وقلنا أنّها مهجورة لا يمكن العمل بها حتّى في موردها وهو مكّة فضلاً عن التعدِّي إلى غيرها ، لتضمّنها ما لم يقل به أحد من الأصحاب ، حيث حكم (عليه السلام) أوّلاً بالتقصير إذا خرج إلى منى ، وهذا ظاهر ، لكونه قاصداً لعرفات التي هي مسافة شرعية ، وأمّا حكمه (عليه السلام) بالتمام لدى عوده إلى مكة وكذا في رجوعه إلى منى حتّى ينفر ، الذي هو بمقدار فرسخ فلم ينقل القول به عن أحد ، إذ بعد السفر عن مكّة يسقط حكم الإقامة ، لما عرفت من أنّ الفصل بين مكّة ومنى فرسخ واحد ، ومحلّ الإقامة إنّما يكون بمنزلة مكّة ما دام مقيماً لا بعد الخروج وإنشاء السفر ثمّ العود إليه. فالرواية مهجورة.

وعلى تقدير العمل بها لكونها صحيحة يقتصر على موردها وهو مكّة فيلتزم بأنّ المقيم فيها بمنزلة أهلها من جميع الجهات ، فبأي دليل يتعدّى عنها إلى غيرها ، ولا بدّ في الحكم المخالف لمقتضى القاعدة من الاقتصار على مورد النص.

فالمتحصّل من جميع ما ذكرناه : أنّه ليس لدينا أيّ دليل يدلّ على اعتبار حدّ الترخّص في محلّ الإقامة كي يرتكب التخصيص في أدلّة القصر ، لاختصاص الأدلّة من صحيح ابن مسلم وغيره بمن ينشئ السفر ، الذي هو خاص بالوطن فيرجع فيما عداه إلى عمومات القصر على كلّ مسافر ، الصادق بمجرّد الخروج من محلّ الإقامة وإن لم يبلغ حدّ الترخّص. هذا كلّه في الخروج من محلّ الإقامة.

وأمّا المقام الثاني : أعني الرجوع والدخول فيه فأظهر حالاً ، إذ لا دليل

__________________

(١) في ص ٩١.

٢١٥

.................................................................................................

______________________________________________________

على اعتبار حدّ الترخّص في الرجوع إلّا صحيحة ابن سنان ، وهي خاصّة بالوطن كما عرفت ، ولا سيما بملاحظة ذيلها ، فلو التزمنا بالاعتبار في الخروج من محلّ الإقامة استناداً إلى بعض الوجوه المتقدّمة لا نلتزم في الرجوع ، لانحصار دليله فيما يختص بالوطن فقط.

نعم ، لو تمّ عموم التنزيل حتّى قبل الإقامة أمكن دعوى الاعتبار حينئذ ولكنّه واضح الفساد ، ضرورة أنّ عموم المنزلة على القول به يختص بمن قدم البلد واتصف بعنوان المقيم ، فيدّعى أنّه ما دام مقيماً فهو بمنزلة المتوطّن ، لا من لم يدخل بعد ويريد الدخول والإقامة بعد ما دخل أو رجع ، فإنّه غير مشمول للتنزيل بالضرورة. فحتّى على تقدير العمل بصحيحة زرارة والالتزام بعموم المنزلة لا نقول به في المقام ، لاختصاصه بالمحلّ الذي أقام فيه ، لا المحلّ الذي يريد الإقامة فيه.

فتحصّل : أنّا لو التزمنا باعتبار حدّ الترخّص في محلّ الإقامة ذهاباً لا نلتزم به إياباً البتة. هذا كلّه حكم محلّ الإقامة.

وأمّا المكان الذي بقي فيه ثلاثين يوماً متردّداً فهل يعتبر فيه حدّ الترخّص أو لا؟ أمّا الإياب فلا يمكن فرضه هنا ، إذ لا معنى للدخول في بلد يعلم ببقائه فيه ثلاثين يوماً متردِّداً كما هو ظاهر ، فيختصّ محلّ البحث بالذهاب. وقد ظهر من جميع ما تقدّم أنّه لا موجب لاعتباره هنا أيضاً ، لعدم الدليل عليه بوجه.

نعم ، ورد في الصحيحة (١) هذا المضمون : أنّ من بقي شهراً في مكّة فهو بمنزلة أهلها (٢). فربّما يدّعى أنّ مقتضى عموم التنزيل جريان أحكام الأهل

__________________

(١) [الظاهر كونها موثقة ، لأنّ إسحاق بن عمار فطحي بتصريح الشيخ كما حكاه في معجم رجال الحديث ٣ : ٢٢٣ / ١١٦٥].

(٢) الوسائل ٨ : ٤٧٢ / أبواب صلاة المسافر ب ٦ ح ٦.

٢١٦

[٢٢٩٧] مسألة ٦٦ : إذا شكّ في البلوغ إلى حدّ الترخّص بنى على عدمه فيبقى على التمام في الذهاب وعلى القصر في الإياب (١).

______________________________________________________

بتمامها التي منها اعتبار حدّ الترخّص.

ويندفع أوّلاً : أنّ المتبادر من التنزيل أن يكون بلحاظ أظهر الآثار ، وهو في المقام إتمام الصلاة ، فلا يشمل غيره ، ولا سيما مثل حدّ الترخّص الذي ربما لا يعرفه أكثر الناس.

وثانياً : أنّ الموضوع في النص مَن بقي ، وظاهره اعتبار الوصف العنواني في التنزيل ، وأنّ الباقي ما دام باقياً فهو بمنزلة الأهل ، فمع خروجه من مكّة يزول العنوان ، فلا موضوع حتّى يشمله عموم المنزلة كي يحكم باعتبار حدّ الترخّص. وبعبارة اخرى : ليس التنزيل بلحاظ ذات الباقي ، بل بوصف أنّه باق ، فلا يشمل ما بعد الخروج وزوال العنوان.

وثالثاً : مع الغض عن كلّ ذلك فلعلّ هذا من مختصّات مكّة كسائر خصائصها فلا مقتضي للتعدّي من مورد النص من غير دليل ظاهر.

فتحصّل من جميع ما ذكرناه : أنّ الأظهر اختصاص اعتبار حدّ الترخّص بالوطن ، فلا يعم غيره من محلّ الإقامة أو المكان الذي أقام فيه ثلاثين يوماً ومع ذلك كلّه فالاحتياط بالجمع أو تأخير الصلاة ممّا لا ينبغي تركه.

(١) إذا كان حدّ الترخّص معلوماً فيما يعتبر فيه الحد ذهاباً أو إياباً فلا إشكال وأمّا لو شكّ في ذلك لجهة من الجهات المانعة عن الإحراز من ظلمة أو عمى أو عدم كونه وقت الأذان ونحو ذلك فلا ريب أنّ الشبهة موضوعية ، يجرى فيها الاستصحاب ، أعني أصالة عدم بلوغ البعد المقرّر شرعاً ، فيتم في الذهاب كما أنّه يقصّر في الإياب ، عملاً بالاستصحاب ، فكلّ منهما في حدِّ نفسه مورد للأصل.

٢١٧

.................................................................................................

______________________________________________________

ولكن قد يكون هناك علم إجمالي يمنع عن الرجوع إليه من أجل المعارضة وهذا أمر آخر لا ربط له بجريان الاستصحاب في حدّ نفسه ، كما هو الحال في سائر الشبهات الموضوعية التي يجرى فيها الاستصحاب لولا الابتلاء بالعلم الإجمالي الموجب لسقوطه من جهة المعارضة.

فعليه لو فرض حصول العلم الإجمالي في المقام ، كما لو اتفق عروض الشك بعينه في الإياب عند ما وصل إلى نفس المكان الذي شكّ فيه في الذهاب ففي مثله لا يمكن الجمع بين الاستصحابين ، للعلم الإجمالي بمخالفة أحدهما للواقع.

فانّ هذا المكان إن كان بالغاً البعد المقرّر شرعاً وكان مصداقاً لحدّ الترخّص واقعاً فالاستصحاب الجاري في الذهاب المترتّب عليه التمام مخالف للواقع ، وإلّا بأن كان دون حدّ الترخّص فالاستصحاب في الإياب المترتّب عليه القصر ساقط فيعلم إجمالاً بالمخالفة في أحد الاستصحابين المترتّب عليه العلم الإجمالي بفساد إحدى الصلاتين بطبيعة الحال ، فماذا تقضيه القاعدة وما هي الوظيفة حينئذ؟ فنقول :

قد يفرض حصول العلم الإجمالي من أوّل الأمر كما لو علم عند شكّه في الذهاب بابتلائه بنفس هذا الشكّ في الإياب ، وأُخرى يفرض حصوله متأخّراً.

أمّا في الأوّل : فلا شبهة في تعارض الاستصحابين وتساقطهما ، بناءً على ما هو الصحيح من عدم الفرق في تنجيز العلم الإجمالي بين الدفعي والتدريجي وأنّ العبرة بفعلية الحكم ولو في ظرفه ، فلا مناص حينئذ من أحد الأمرين إمّا الجمع أو تأخير الصلاة إلى بلوغ الحدّ الجزمي ، رعاية للعلم الإجمالي المزبور بعد سقوط الاستصحابين بالمعارضة.

وأمّا في الثاني : كما لو شكّ في الذهاب ومن باب الاتفاق حصل له نفس ذلك الشكّ في الإياب من دون علم به من الأوّل ، فهو على قسمين : إذ قد

٢١٨

.................................................................................................

______________________________________________________

يفرض الكلام مع بقاء الوقت ، وأُخرى مع فواته.

أمّا الأوّل : كما لو صلّى الظهر في ذهابه تماماً ويريد أن يصلّي العصر في إيابه قصراً عملاً بالاستصحاب في كلٍّ منهما ، فلا ريب حينئذ في سقوط الاستصحابين بالمعارضة.

ولا مجال لتصحيح الظهر بقاعدة التجاوز ، لوضوح اختصاصها بالشكّ في الصحّة المستند إلى فعل المكلّف من احتمال ترك جزء أو شرط أو الإتيان بمانع دون ما هو خارج عن اختياره كما في المقام ، فإنّ صحّة الظهر الصادرة تماماً وفسادها مستند إلى كون ذلك المحلّ مصداقاً لحدِّ الترخّص وعدمه ، الذي لا مساس له بفعل المكلّف بوجه.

فلا مؤمّن لصحّة الظهر ، لانحصاره في الاستصحاب المفروض سقوطه بالمعارضة ، فلا مناص من الرجوع إلى قاعدة الاشتغال القاضية بلزوم إعادة الظهر قصراً والإتيان بالعصر قصراً وتماماً ، لعدم أصل يحرز به أحد الأمرين كما عرفت.

وأمّا الثاني : أعني فرض خروج الوقت كما لو كان رجوعه في اللّيل فكان شكّه بالنسبة إلى العشاءين ، والمفروض أنّه صلّى الظهرين في ذهابه تماماً عملاً بالاستصحاب.

فان بنينا على أنّ من أتمّ في موضع القصر لعذر من الأعذار من جهل أو نسيان متعلّق ببعض خصوصيات الحكم أو موضوعه مثل المقام ، ومثل ما لو أتم بزعم أنّ المسافة الكذائية لا تبلغ الثمانية فراسخ ونحو ذلك ، وجامعه غير العالم العامد ، ثمّ انكشف الخلاف خارج الوقت لا يجب عليه القضاء كما لا يبعد الالتزام به ، فعلى هذا المبنى لا أثر للعلم الإجمالي المزبور ، للعلم بصحّة ما صلاه تماماً على كلّ حال ، سواء أكان ذلك الموضع حدّا للترخّص أم لا ، فلا موقع

٢١٩

.................................................................................................

______________________________________________________

لذلك الاستصحاب ، إذ لا أثر له بعد العلم التفصيلي بصحّة التمام.

فيبقى الاستصحاب بلحاظ حال الإياب سليماً عن المعارض ، فيصلِّي العشاءين قصراً ولا شي‌ء عليه ، إذ لا يحدث من ذلك العلمُ الإجمالي ببطلان التمام أو القصر ، لصحّة الأوّل على كلّ تقدير كما عرفت.

وأمّا لو بنينا على وجوب القضاء لاختصاص دليل الاجتزاء بالجاهل بأصل الحكم دون خصوصياته أو الجاهل بالموضوع ، فلا محالة يتحقّق العلم الإجمالي ببطلان أحد الاستصحابين ، فانّ مقتضى الاستصحاب الأوّل صحّة التمام وعدم الحاجة إلى القضاء ، ومقتضى الثاني وجوب القصر وصحّته ، ولا يمكن الجمع ، وبعد سقوط الاستصحابين بالمعارضة تصل النوبة إلى الأُصول الأُخر.

وقد عرفت أنّ قاعدة التجاوز لا مجرى لها بالإضافة إلى الصلاة السابقة لاختصاصها باحتمال الخلل المستند إلى الفعل الاختياري ، المفقود في المقام.

كما لا مجال للرجوع إلى قاعدة الحيلولة ، لاختصاصها بالشكّ المتعلّق بأصل الإتيان بالصلاة ، دون من علم بأنّه صلّى تماماً وشكّ في صحّتها كما في المقام فينتهي الأمر إلى الأُصول العملية ، ومقتضاها البراءة عن قضاء السابقة والرجوع إلى قاعدة الاشتغال بالنسبة إلى الحاضرة.

أمّا الأوّل : فلأنّ القضاء بأمر جديد ، وموضوعه الفوت ، ولم يحرز لا وجداناً لجواز صحّة السابقة ووقوع التمام قبل بلوغ حدّ الترخّص واقعاً ، ولا تعبّداً لعدم أصل يحرز به الفوت ، فحيث إنّه مشكوك فيه فلا محالة يشك في تعلّق الأمر بالقضاء ، فيرجع إلى أصالة البراءة.

وأمّا الثاني : فلأنّ الشك في الحاضرة أعني العشاءين شكّ في الوقت وهو مورد لقاعدة الاشتغال بعد عدم المؤمّن عن شي‌ء من القصر والتمام

٢٢٠