موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ مرتضى البروجردي

ولا فرق في الإقامة في بلده عشرة بين أن تكون منويّة أو لا ، بل وكذا في غير بلده (*) أيضاً ، فمجرّد البقاء عشرة يوجب العود إلى القصر ، ولكن الأحوط مع الإقامة في غير بلده بلا نيّةٍ الجمعُ في السفر الأوّل بين القصر والتمام (١).

______________________________________________________

بالإضافة إليها بوجه كما هو ظاهر جدّاً.

(١) لا إشكال كما لا خلاف في عدم اعتبار كون العشرة منويّة فيما لو أقامها في بلده كما يقتضيه إطلاق النصّ ومعاقد الإجماعات.

وأمّا لو أقامها في غير بلده فالمشهور بل عن الشهيد الثاني في الروض (١) والعلّامة (٢) والمحدّث المجلسي (٣) دعوى الإجماع على اعتبار النيّة فيها ، فيفصّل بين البلد وغيره في اعتبار النيّة وعدمه ، فلا ينقطع حكم السفر بإقامة العشرة غير المنويّة في غير بلده.

وهذا هو الصحيح ، لا لأنّ ذلك هو مقتضى مناسبة الحكم والموضوع ، بدعوى أنّ المناسب لوقوعه عدلاً لحضور العشرة في بلده هي العشرة المنويّة في غير بلده ، فإنّها الموجب لترك التلبّس بالسفر الذي هو عمله ، لا مطلق المكث عشرة كيف ما كان.

وبعبارة اخرى : إقامة العشرة المذكورة في النصّ مسوقة لبيان ما يتحقّق به الخروج عن السفر ، وهذا يتحقّق بالإقامة في بلده مطلقاً وفي غيره مع النيّة. فالتفصيل ممّا يقتضيه تناسب الحكم والموضوع.

__________________

(*) الظاهر اعتبار كونها منويّة.

(١) الروض : ٣٩٢ السطر ١٠.

(٢) [لم نعثر عليه ، نعم اشترط ذلك كما في التذكرة ٤ : ٣٩٤ لكن لم يدع الإجماع].

(٣) البحار ٨٦ : ٢٥.

١٨١

.................................................................................................

______________________________________________________

ولا لأنّ ذلك هو مقتضى الانصراف ، بدعوى أنّ القاطع لحكم السفر والموجب لقلب القصر إلى التمام هو قصد إقامة عشرة أيام في غير بلده ، لا مطلق إقامتها فينصرف الذهن في المقام من إقامة العشرة إلى تلك العشرة المعهودة وهي المنويّة المقصودة.

وعلى الجملة : ليس الوجه في تخصيص العشرة في غير بلده بالعشرة المنويّة شيئاً من هذين الأمرين ، وإن كان كلّ منهما صالحاً للتأييد.

بل الوجه في ذلك استفادته من نفس صحيحة ابن سنان ، حيث عبّر في صدرها عن المكث في المنزل بالاستقرار ، فيعلم أنّ المدار فيه بمطلق القرار والبقاء الصادق مع النيّة وبدونها ، مضافاً إلى الإجماع على عدم اعتبار النيّة بالنسبة إليه كما سبق.

وأمّا بالإضافة إلى البلد الذي يذهب إليه فقد عبّر بلفظ المقام ، حيث قال (عليه السلام) : «فان كان له مقام ...» إلخ ، والمقام مشروب في مفهومه القصد والنيّة ، حيث إنّه من باب الإفعال من أقام يقيم ، ومعناه اتخاذ مكان محلّاً ومقرّاً له ، فمعنى أقام زيد في مكان كذا أنّه اتّخذه محلا ومسكناً له إمّا دائماً أو موقّتاً بوقت محدود ، ومن المعلوم أنّ الاتخاذ لا يتحقّق إلّا مع القصد والنيّة ، ولا يكاد يصدق على مجرّد المكث والبقاء كيف ما كان. فاختلاف التعبير بين الموردين بنفسه كاشف عن التفصيل المزبور بين البلد وغيره.

وإن أبيت عن ظهور الصحيحة فيما ادّعيناه فلا أقلّ من الاحتمال المورث للإجمال وتردّد لفظ المقام بين اعتبار النيّة في مفهومه وعدمه ، فيكون من موارد المخصّص المجمل الدائر بين الأقل والأكثر ، المحكوم بلزوم الاقتصار فيه على المقدار المتيقّن في الخروج عن عمومات التمام وهي العشرة المنوية ، فيرجع فيما عداها إلى عموم العام.

١٨٢

[٢٢٨١] مسألة ٥٠ : إذا لم يكن شغله وعمله السفر لكن عرض له عارض فسافر أسفاراً عديدة لا يلحقه حكم وجوب التمام (١) ، سواء كان كلّ سفرة بعد سابقها اتفاقياً ، أو كان من الأوّل قاصداً لأسفار عديدة ، فلو كان له طعام أو شي‌ء آخر في بعض مزارعه أو بعض القرى وأراد أن يجلبه إلى البلد فسافر ثلاث مرّات أو أزيد بدوابّه أو بدوابّ الغير لا يجب عليه التمام وكذا إذا أراد أن ينتقل من مكان إلى مكان فاحتاج إلى إسفار متعدِّدة في حمل أثقاله وأحماله.

______________________________________________________

وهذا هو عمدة الوجه في اعتبار النيّة في غير البلد ، وإلّا فالإجماع المدّعى في المقام غير صالح للاعتماد ، نظراً إلى أنّ المسألة لم تكن محرّرة ولا معنونة في كلمات الأصحاب ، بل لم يعرف من تعرّض لها إلى زمان المحقّق في النافع (١). فهي من المسائل المستحدثة في كتب المتأخّرين والمهملة لدى القدماء السابقين ومع هذا الإهمال والإعراض لم يبق وثوق بنقل الإجماع بحيث يعتمد عليه في رفع اليد عن إطلاق النصّ على تقدير ثبوته.

لكنّك عرفت عدم الإطلاق من أصله بالإضافة إلى غير البلد ، بل هو إمّا ظاهر في اعتبار النيّة أو لا أقل من الإجمال حسبما ذكرناه. ومنه تعرف ضعف ما في المتن من إلحاق غير البلد به في عدم اعتبار النيّة فلاحظ.

(١) إذ ليست العبرة في وجوب التمام بمجرّد الكثرة وتكرّر السفر مرّات عديدة ، بل المدار على صدق كون السفر عملاً وشغلاً له كما في النص (٢) المنوط عُرفاً باتخاذه حرفة وصنعة له كما في المكاري ونحوه ، وهو غير حاصل في

__________________

(١) المختصر النافع : ٥١.

(٢) المتقدم في ص ١٥١.

١٨٣

[٢٢٨٢] مسألة ٥١ : لا يُعتبر في مَن شغله السفر اتحاد كيفيات وخصوصيات أسفاره من حيث الطول والقصر ومن حيث الحمولة ومن حيث نوع الشغل (١) فلو كان يسافر إلى الأمكنة القريبة فسافر إلى البعيدة أو كانت دوابّه الحمير فبدّل بالبغال أو الجمال ، أو كان مكارياً فصار ملّاحاً أو بالعكس يلحقه الحكم وإن أعرض عن أحد النوعين إلى الآخر أو لفّق من النوعين ، نعم لو كان شغله المكاراة فاتّفق أنّه ركب السفينة للزيارة أو بالعكس قصّر ، لأنّه سفر في غير عمله ، بخلاف ما ذكرنا أوّلاً فإنّه مشتغل بعمل السفر ، غاية الأمر أنّه تبدّل خصوصية الشغل إلى خصوصية أُخرى فالمناط هو الاشتغال بالسفر وإن اختلف نوعه.

[٢٢٨٣] مسألة ٥٢ : السائح في الأرض الذي لم يتّخذ وطناً منها يتمّ (٢) والأحوط الجمع.

______________________________________________________

الفرضين المذكورين في المتن كما هو ظاهر جدّاً.

(١) فإنّ شيئاً من هذه الخصوصيات غير دخيل فيما هو موضوع الحكم من كون السفر شغله وعملاً له ، الصادق في جميع هذه الفروض على نحو صدقه في السفر السابق عليه.

فلو بدّل سفره الطويل بالقصير كما لو كان مكارياً من العراق إلى خراسان فأبدله إلى المكاراة بين النجف والحلّة ، أو كانت دوابه الحمير فأبدلها بالبغال أو الجمال ، أو كان مكارياً في يوم وجمّالاً في يوم آخر وملاحاً في يوم ثالث ، وكرياً في يوم رابع وهكذا ، أو أعرض عن نوع واشتغل بنوع آخر ففي جميع ذلك يجب عليه التمام ، لما عرفت من أنّ المناط هو الاشتغال بالسفر وكونه عملاً له وإن تبدّلت خصوصياته واختلفت أنواعه ، أخذاً بإطلاق الدليل كما هو ظاهر.

(٢) لاستفادة ذلك ممّا ورد في الأعراب وأهل البوادي من الحكم بالتمام

١٨٤

[٢٢٨٤] مسألة ٥٣ : الراعي الذي ليس له مكان مخصوص (*) يتم (١).

______________________________________________________

معلّلاً بأنّ بيوتهم معهم (١) ، فانّ المفهوم عرفاً من هذا الكلام أنّ المستند في التمام عدم توطّنهم في مكان معيّن ، وعدم اتخاذهم محلا خاصّاً مقراً ومستقراً لهم ، بل هم دائماً في نقل وانتقال يطلبون القطر ومنبت العشب ، وإلّا فنقل البيت معهم لا خصوصية له في هذا الحكم بوجه.

وهذا المعنى بعينه متحقّق في السائح في الأرض الذي لم يتّخذ وطناً منها سواء اتّخذ بيته معه أم لا ، بأن اتّخذ في كلّ منزل بيتاً ، وورد في كلّ بلد فندقاً فيجب عليه التمام بعين المناط المزبور.

والسرّ في ذلك كلّه عدم صدق عنوان المسافر لا على السائح ولا على الأعراب لاختصاص مفهومه بمن كان له حضر ومقر يستقر فيه فيخرج ويبرز عنه ، فانّ السفر هو البروز والخروج ، المتوقّف صدقه على أن يكون له وطن ومقر يسكن فيه لكي يبرز ويخرج عنه ، وهو منفي عن مثل السائح ونحوه كما عرفت.

(١) بلا إشكال ولا خلاف ، للروايات الكثيرة التي عدّ فيها الراعي ممّن يجب عليهم التمام في السفر معلّلاً بأنّ السفر عملهم ، التي منها صحيحة زرارة قال «قال أبو جعفر (عليه السلام) : أربعة قد يجب عليهم التمام ، في سفر كانوا أو حضر : المكاري والكري والراعي والاشتقان ، لأنّه عملهم» ونحوها غيرها (٢) هذا.

ومقتضى الإطلاق عدم الفرق بين أن يكون رعية في جهة خاصّة بأن يذهب للرعي إلى مكان مخصوص ويرجع ثمّ يذهب إليه ويعود وهكذا ، أو في جهات

__________________

(١) بل ولو كان له مكان مخصوص.

(٢) وقد تقدّم في ص ١٥٠.

(٣) الوسائل ٨ : ٤٨٥ / أبواب صلاة المسافر ب ١١ ح ٢ وغيره.

١٨٥

[٢٢٨٥] مسألة ٥٤ : التاجر الذي يدور في تجارته يتمّ (١).

[٢٢٨٦] مسألة ٥٥ : من سافر معرضاً عن وطنه لكنّه لم يتّخذ وطناً

______________________________________________________

عديدة فيذهب إلى مكان ثمّ إلى آخر ومنه إلى ثالث وهكذا ، لصدق الاشتغال بالرعي وأنّ السفر عمله في كلتا الصورتين.

كما كان هذا هو الحال في المكاري والجمال والملاح ونحو ذلك ، فإنّه يجب التمام سواء أكانت المكاراة في منطقة خاصّة كما بين النجف وكربلاء ، أو كان المكاري متجولاً في مناطق عديدة ، كلّ ذلك لإطلاق النصّ وصدق أنّ شغله السفر وأنّه عمله في الجميع بمناط واحد. فما في المتن من تقييد الرعي بعدم كونه في مكان مخصوص غير ظاهر الوجه.

نعم ، لا بدّ من تقييد الرعي ببلوغه حدّ المسافة الشرعية كي يتّصف بأنّ السفر عمله ، وأمّا من كان رعيه فيما دونها فاتفق خروجه إلى حدّ المسافة فإنّه يجب عليه التقصير كسائر المسافرين ، لعدم كون مثله ممّن شغله السفر كما هو ظاهر ، وتقدّمت الإشارة إليه سابقا (١).

(١) بلا خلاف ولا إشكال أيضاً كما دلّت عليه موثّقة السكوني حيث قال : سبعة لا يقصّرون الصلاة ، وعدّ منها التاجر الذي يدور في تجارته من سوق إلى سوق (٢).

فهو باعتبار دورانه في التجارة يكون من مصاديق من شغله السفر ، الذي يجب عليه التمام كالمكاري ونحوه.

__________________

(١) في ص ١٥٦.

(٢) الوسائل ٨ : ٤٨٦ / أبواب صلاة المسافر ب ١١ ح ٩.

١٨٦

غيره يقصّر (*) (١).

______________________________________________________

(١) لا بدّ وأن يكون مراده (قدس سره) من خرج معرضاً عن وطنه بانياً على اتخاذ وطن آخر ولم يستوطن بعد ، فإنّه يجب عليه التقصير ما لم يتّخذ الوطن الجديد ، لصدق عنوان المسافر عليه بالضرورة ، إذ لا فرق بين قِصَر السفر وطوله كما مرّ ، ومن الواضح عدم اندراجه في أحد العناوين الموجبة للتمام من كون بيته معه أو عمله السفر ونحو ذلك ، فحاله حال سائر المسافرين المحكوم عليهم بوجوب القصر كما هو واضح جدّا.

وأمّا لو أعرض بانياً على عدم اتخاذ الوطن رأساً بأن يكون سائحاً في الأرض فلا ينبغي التأمّل في وجوب التمام عليه ، لكونه في حكم من بيته معه إذ لا عبرة بالبيت كما مرّ (١) ، والماتن أيضاً لا يريده جزماً ، لتصريحه فيما مرّ (٢) بوجوب التمام على من يسيح في الأرض.

وبالجملة : لا يصدق اسم المسافر في مفروض المقام ، لاختصاصه بمن كان له وطن قد خرج عنه ، وهذا لا وطن له حقيقة ، بل مسكنه مجموع الكرة الأرضية فلا يندرج في عنوان المسافر ، وفي مثله لا مناص من الالتزام بالتمام ، هذا.

ولو تردّد المعرض المزبور في التوطّن وعدمه فخرج وهو لا يدري هل يتخذ وطناً جديداً أو لا ، فهل يحكم عليه بالقصر نظراً إلى أنّه خرج عن وطنه مسافراً أو التمام باعتبار عدم صدق اسم المسافر عليه ، لاختصاصه بمن كان له وطن يسافر عنه ويرجع إليه ، المنفي في المقام بعد فرض الإعراض؟ فيه وجهان.

__________________

(*) هذا فيما إذا لم يبن على عدم اتّخاذ الوطن.

(١) في ص ١٨٤ ١٨٥.

(٢) في المسألة [٢٢٨٣].

١٨٧

[٢٢٨٧] مسألة ٥٦ : من كان في أرض واسعة قد اتخذها مقراً إلّا أنّه كلّ سنة مثلاً في مكان منها يقصّر إذا سافر عن مقرّ سنته (١).

______________________________________________________

والأظهر الأوّل كما هو مقتضى إطلاق كلام الماتن (قدس سره) وذلك لصدق عنوان المسافر عليه حقيقة ، إذ لا يعتبر في الصدق المزبور العود إلى الوطن. فلو خرج عن وطنه بقصد التوطّن في مكان آخر ، أو خرج مجاهداً وهو يعلم أنّه يقتل لا إشكال في أنّه مسافر يجب عليه التقصير. فالعود والرجوع غير مأخوذ في مفهوم السفر قطعاً ، فإنّه مسافر وجداناً عاد أو لم يعد.

وحيث لم يرد دليل على التخصيص في المقام ، ولم يكن ممّن بيته معه ولا ممّن شغله السفر ، وقد عرفت كونه مسافراً بالوجدان بعد الخروج عن وطنه ، فلا مناص من الحكم بالتقصير.

(١) لو اتخذ أرضاً واسعة كجزيرة تستوعب عشرة فراسخ في عشرة مثلاً مقراً له ، إلّا أنّه يسكن كلّ سنة في ناحية منها فينتقل بعد السنة من شمالها إلى جنوبها أو من شرقها إلى غربها ، فلو سافر حينئذ من مقرّه الذي يسكن فيه وجب عليه القصر ، لصدق المسافر عليه حقيقة.

إذ لا يعتبر في صدق السفر إلّا الخروج عن مقرّه ومستقرّه ، سواء أكان ذلك وطنه أيضاً أم لا ، لعدم العبرة بالخروج عن الوطن بخصوصه في وجوب القصر بعد عدم وروده في شي‌ء من الأدلّة ، بل الميزان هو الخروج عن المنزل أو الأهل أو المقرّ كما تضمّنتها النصوص (١) ، وكلّ ذلك صادق في المقام ، غايته أنّ هنا

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٤٥٧ / أبواب صلاة المسافر ب ٢ ح ٤ ، ٤٧٣ / ب ٧ ح ٥. [وقد ذكر في هذه الأحاديث عنوان الخروج من المنزل ، وأمّا غيره ممّا ذكر فلم نعثر عليه ، نعم ورد عنوان «المصر» في الوسائل ٨ : ٥١٦ / أبواب صلاة المسافر ب ٢١ ح ١٢].

١٨٨

[٢٢٨٨] مسألة ٥٧ : إذا شكّ في أنّه أقام في منزله أو بلد آخر عشرة أيام أو أقل بقي على التمام (١).

______________________________________________________

مقرّه الموقّت المحدود بسنة مثلاً لا المقر الدائمي ، ومن الواضح عدم الفرق بين المقر الموقّت والدائم من هذه الجهة بمقتضى إطلاق الدليل.

فلا يلحق ذلك بمن بيته معه كي لا يصدق عليه المسافر ، بل هو مسافر غايته من مقرِّه السنوي لا الدائمي. إذن فلا ينبغي التأمل في صحّة ما أفاده في المتن من وجوب القصر لدى سفره عن مقرّ سنته.

(١) لأن إقامة العشرة القاطعة لعملية السفر إمّا في خصوص المكاري أو الأعم منه بناءً على تعميم القاطعية لمطلق من شغله السفر كما تقدّم (١) مشكوك فيها ، والأصل عدمها ، ونتيجته البقاء على التمام كما ذكره (قدس سره) هذا.

ولا بدّ وأن يفرض محلّ كلامه (قدس سره) فيما إذا كان الشكّ في مبدأ الدخول في البلد الذي يشكّ في مقدار الإقامة فيه ، فانّ هذا هو الذي يشكّ فيه عادة كما لو خرج من كربلاء يوم عاشوراء ولا يدري أنّه دخلها أوّل محرّم كي يكون هذا يوم التاسع من إقامته ، أو أنّه دخلها قبل محرّم بيوم حتّى يكون هذا اليوم العاشر ، فيكون منشأ الشك في إقامة العشرة الترديد في اليوم الذي دخله.

ولا ريب أنّ المرجع حينئذ هو ما عرفت من أصالة عدم بقاء العشرة ، أي أصالة عدم الدخول في البلد فيما قبل محرّم ، فيرجع إلى عموم وجوب التمام على المكاري بعد نفي عنوان المخصّص بأصالة العدم.

وأمّا إذا فرضنا أنّ منشأ الشك الترديد في اليوم الأخير الذي خرج منه

__________________

(١) في ص ١٧٨.

١٨٩

الثامن : الوصول إلى حدّ الترخّص (١) ، وهو المكان الذي يتوارى عنه جدران بيوت البلد ويخفى عنه أذانه ، ويكفي تحقّق أحدهما مع عدم العلم بعدم تحقّق الآخر ، وأمّا مع العلم بعدم تحقّقه فالأحوط اجتماعهما ، بل الأحوط

______________________________________________________

وإن كان هذا مجرّد فرض لعلّه لا يكاد يتحقّق خارجاً إلّا نادراً كما لو شكّ بعد خروجه من كربلاء وقطعِه مقداراً من الطريق كأن بلغ خان النخيلة مثلاً وهو يعلم بدخوله البلد يوماً قبل محرّم وأنّ هذا هو اليوم العاشر منه في أنّ خروجه هل كان في هذا اليوم ليكون قد أكمل العشرة في كربلاء ، أو كان في اليوم السابق وقد بات الليلة الماضية في الخان المزبور لتكون إقامته تسعة أيام ففي مثله لا مانع من استصحاب البقاء في كربلاء إلى هذا اليوم ، فيحكم بتحقّق القاطع ولزوم القصر عليه في السفرة الأُولى.

لكن هذا مجرّد فرض بعيد التحقّق جدّاً ، لاستناد الشكّ المزبور إلى الترديد في مبدأ الدخول غالباً كما عرفت. فإطلاق كلام الماتن المنزّل على ما هو المعهود المتعارف من الشكّ في الحكم بالبقاء على التمام هو الصحيح.

هذا إذا لم نقل باعتبار النيّة في إقامة العشرة ، وأمّا لو قلنا بالاعتبار في غير بلده كما هو الصحيح على ما تقدّم (١) فشكّ في العشرة من أجل الشكّ في نيّتها كان المرجع حينئذ أصالة عدم النيّة بلا إشكال ، ويحكم بالبقاء على التمام قطعاً كما هو ظاهر جدّاً.

(١) المعروف والمشهور بل ادّعي الإجماع عليه في كلمات غير واحد أنّه يعتبر في التقصير أن يبلغ المسافر حدّ الترخّص ، فلا يجوز له التقصير كما لا يجوز له الإفطار قبل ذلك.

__________________

(١) في ص ١٨١.

١٩٠

مراعاة اجتماعهما مطلقاً ، فلو تحقّق أحدهما دون الآخر إمّا يجمع بين القصر والتمام وإمّا يؤخر الصلاة إلى أن يتحقّق الآخر.

______________________________________________________

ونسب الخلاف إلى ابن بابويه والد الصدوق (قدس سره) وأنّه يرى جواز التقصير حينما يخرج من منزله ، ولا يعتبر بلوغه الحدّ المزبور (١).

والذي يمكن أن يكون دليلاً له ومدركاً لهذا الحكم روايات ثلاث :

إحداها : مرسلة حماد عن أبي عبد الله (عليه السلام) : «في الرجل يخرج مسافراً قال : يقصّر إذا خرج من البيوت» (٢).

ثانيها : مرسلة ولده الصدوق قال : «روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنّه قال : إذا خرجت من منزلك فقصّر إلى أن تعود إليه» (٣) ، فانّ الصدوق قد وجدها في كتاب من الكتب بطبيعة الحال قبل أن يثبتها في الفقيه ، فيمكن أن يكون والده (قدس سره) أيضاً ظفر بها واستند إليها ، لا أنّه استند إلى مرسلة ولده كما هو ظاهر.

ثالثها : ما رواه الشيخ بإسناده عن علي بن يقطين عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) : «في الرجل يسافر في شهر رمضان أيفطر في منزله؟ قال : إذا حدّث نفسه في الليل بالسفر أفطر إذا خرج من منزله ...» إلخ (٤).

فهذه الروايات الثلاث يمكن أن تكون سنداً للقول المحكي عن ابن بابويه.

__________________

(١) حكاه عنه في المختلف ٢ : ٥٣٤ المسألة ٣٩٢.

(٢) الوسائل ٨ : ٤٧٣ / أبواب صلاة المسافر ب ٦ ح ٩.

(٣) الوسائل ٨ : ٤٧٥ / أبواب صلاة المسافر ب ٧ ح ٥ ، الفقيه ١ : ٢٧٩ / ١٢٦٨.

(٤) الوسائل ١٠ : ١٨٧ / أبواب من يصح منه الصوم ب ٥ ح ١٠ ، التهذيب ٤ : ٢٢٨ / ٦٦٩.

١٩١

.................................................................................................

______________________________________________________

والمنسوب إليه أنّه (قدس سره) يرى جواز الإفطار والتقصير من حين الخروج من المنزل وإن لم يخرج بعد من البلد.

فإن أراد (قدس سره) هذا المعنى فتدلّ عليه روايتان من الروايات الثلاث وهما مرسلة الصدوق ورواية ابن يقطين ، المصرّح فيهما بالخروج من المنزل.

ولكن الروايتين مضافاً إلى ضعف سند الاولى منهما للإرسال مقطوعتا البطلان في حدّ أنفسهما ولو مع الغضّ عن السند ، ولعلّ ابن بابويه أيضاً لا يقول بذلك ضرورة أنّ الإفطار والتقصير من أحكام المسافر ، ومن لم يخرج من البلد لم يتلبّس بعد بالسفر ولم يتّصف بكونه مسافراً ، فانّ السفر من السفور بمعنى البروز والخروج والظهور من البلد ، فالخارج من منزله ما لم يخرج من بلده لا يحتمل اتصافه بعنوان المسافر فكيف يشمله حكمه. فهذا الاحتمال مقطوع البطلان.

وإن أراد (قدس سره) جواز الإفطار والتقصير من حين الخروج من البلد فهذا ممكن في حدّ نفسه ، لصدق المسافر عليه بمجرّد ذلك ، وتدلّ عليه مرسلة حماد المتقدّمة ، لمكان التعبير بالخروج من البيوت ، المساوق للخروج من البلد.

ولكنّها من جهة إرسالها لا يمكن الاعتماد عليها في مقابل صحيحتي عبد الله ابن سنان ومحمد بن مسلم (١) وغيرهما من الروايات المعتبرة الدالّة على اعتبار حدّ الترخص. فامّا أن تلغى الرواية وتحمل على التقية كما نسب مضمونها إلى بعض العامّة (٢) ، أو تقيّد بما إذا كان خروجه من البيوت بمقدار يبلغ الحدّ المزبور أي لا يسمع الأذان أو تخفى عليه الجدران كما تضمّنته تلك النصوص الدالّة على اعتبار حدّ الترخص.

__________________

(١) الآتيتين في ص ١٩٤ ، ٢٠٥.

(٢) المغني ٢ : ٩٧ ٩٨ ، الشرح الكبير ٢ : ٩٨ ، المجموع ٤ : ٣٤٩.

١٩٢

.................................................................................................

______________________________________________________

والعمدة أنّ الرواية في حدّ نفسها ضعيفة من جهة الإرسال ، فهي مطروحة على كلّ حال. فلا ينبغي التأمّل في سقوط هذا القول ولزوم اعتبار حدّ الترخّص.

إنّما الكلام في بيان هذا الحدّ وتحقيق مقداره. المعروف والمشهور بين القدماء بل قيل بين القدماء والمتأخِّرين أنّه عبارة عن أحد الأمرين : من عدم سماع الأذان أو خفاء الجدران ، أي الاستتار عن البيوت بحيث لا يميّز بعضها عن بعض وإن رأى شبحاً منها.

ونسب إلى جماعة من المتأخِّرين اعتبار الأمرين معاً من الخفاء وعدم السماع.

ونسب إلى الشيخ الصدوق في كتاب المقنع اعتبار خفاء الجدران فقط (١). ونسب إلى الشيخ المفيد (٢) وسلار (٣) وجماعة اعتبار خفاء الأذان فقط. ففي المسألة وجوه وأقوال.

والذي ينبغي أن يقال أوّلاً : إنّ عنوان خفاء الجدران لم يرد بهذا اللّفظ في شي‌ء من الروايات ، وإنّما هو مذكور في كلمات الفقهاء (قدس سرهم) فالتعبير لهم. وأمّا المذكور في الروايات فهو التواري عن البيوت كما في صحيحة محمد ابن مسلم (٤) أي تواري المسافر عن أهل البيوت بحيث لا يرونه.

ومن المعلوم أنّ معرفة هذا الأمر متعذّر بالإضافة إلى المسافر ، إذ لا طريق له إلى إحراز أنّهم يرونه أو لا يرونه ، ولأجل ذلك عبّر الفقهاء بلازم هذا الأمر وهو خفاء الجدران ، حيث إنّ المسافر إذا نظر إلى جدران البيوت فلم يرها وخفيت عنه يظهر له بوضوح أنّ أهل البيوت أيضاً لا يرونه ، وأنّه متستر

__________________

(١) المقنع : ١٢٥.

(٢) المقنعة : ٣٥٠.

(٣) المراسم : ٧٥.

(٤) الوسائل ٨ : ٤٧٠ / أبواب صلاة المسافر ب ٦ ح ١ ، وستأتي في ص ٢٠٥.

١٩٣

.................................................................................................

______________________________________________________

ومتوار عنهم ، لما بينهما من الملازمة ، فجعلوا هذا معرّفاً لذلك. ولا بأس به.

وعلى أي حال فيقع الكلام في أنّ هذين الأمرين أعني عدم سماع الأذان والتواري عن البيوت الذي معرّفة خفاء الجدران كما عرفت هل يعتبران معاً ، أو أحدهما مخيّراً ، أو معيّناً؟

قد وقع الخلاف في ذلك كما سمعت ، لأجل اختلاف الأخبار ، إذ هي بين ما اعتبر فيها التواري عن البيوت كما في صحيحة ابن مسلم المتقدّمة ، وبين ما اعتبر فيها عدم سماع الأذان كما في صحيحة ابن سنان ، قال : «سألته عن التقصير ، قال : إذا كنت في الموضع الذي تسمع فيه الأذان فأتمّ ، وإذا كنت في الموضع الذي لا تسمع فيه الأذان فقصّر ، وإذا قدمت من سفرك فمثل ذلك» (١) ونحوها غيرها ممّا دلّت عليه مفهوماً ومنطوقاً ، أي من حيث القصر والتمام.

وقد أدرجوا المقام في باب الشرطيتين المتعارضتين ، ولأجله مثلوا في الأُصول بذلك ، حيث إنّ مفهوم قوله : إذا لم تسمع الأذان فقصّر ، عدم التقصير مع سماع الأذان ، سواء أخفيت الجدران أم لا ، كما أنّ مفهوم قوله : إذا خفيت الجدران فقصّر ، عدم التقصير مع عدم الخفاء ، سواء أسمع الأذان أم لا ، فتقع المعارضة بينهما لا محالة ، أي بين منطوق كلّ منهما ومفهوم الآخر.

فذكروا أنّ القاعدة هل تقتضي تقييد مفهوم كلّ منهما بمنطوق الآخر ، أم أنّها تقتضي تقييد منطوق كلّ منهما بمنطوق الآخر ، ليرجع المعنى إلى قولنا : إذا خفي الأذان وخفي الجدران فقصّر ، الذي لازمه اعتبار كلا الأمرين في التقصير ، لأجل رفع اليد عن إطلاق كلّ من المنطوقين.

ونظير ذلك ما ورد في تذكية الحيوان تارة ما مضمونه أنّه إذا تحرّكت الذبيحة

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٤٧٢ / أبواب صلاة المسافر ب ٦ ح ٣.

١٩٤

.................................................................................................

______________________________________________________

فكل ، وأُخرى أنّه إذا خرج الدم الكثير فكل (١) ، فطبعاً تقع المنافاة بين مفهوم كلّ منهما مع الآخر. فهل المعتبر كلا الأمرين ، أو أنّ المعتبر أحدهما فقط دون الآخر.

وقد ذكرنا في الأُصول (٢) أنّه لا تعارض بين المنطوقين أنفسهما بوجه ، إذ لا تنافي بين ثبوت التقصير لدى خفاء الأذان وبين ثبوته عند خفاء الجدران أيضاً ، وإنّما المعارضة نشأت من انعقاد المفهوم ودلالة القضيّة الشرطية على العلّية المنحصرة ، حيث دلّت إحداهما على انحصار علّة الجزاء في هذا الشرط الذي لازمه انتفاؤه لدى انتفائه ، والمفروض إنّ الأُخرى أثبتت الجزاء لدى تحقّق الشرط الآخر ، فتتعارضان لا محالة.

ففي الحقيقة لا معارضة بين نفس المنطوقين وإن اندفعت المعارضة بتقييد كلّ من المنطوقين بالآخر. إلّا أنّه لا مقتضي لذلك ، لما عرفت من عدم المعارضة بينهما. فرفع اليد عن إطلاق كلّ من المنطوقين بلا وجه.

وعلى الجملة : فالمعارضة ليست إلّا بين منطوق كلّ منهما ومفهوم الآخر ، أي إطلاق المفهوم لا أصله كما لا يخفى. فنرفع اليد عن إطلاقه في كلّ منهما ونقيّده بمنطوق الآخر ، فيكون مفهوم قوله (عليه السلام) : إذا خفي الأذان فقصّر (٣) بعد ارتكاب التقييد المزبور أنّه إذا لم يخف الأذان لا تقصّر إلّا إذا خفيت الجدران.

ونتيجة ذلك اعتبار أحد الأمرين من خفاء الأذان أو خفاء الجدران في الحكم بالتقصير ، إذ التقييد المذكور لا يستدعي إلّا التقييد بـ (أو) لا بالواو. فلا وجه لتقييد المنطوق بالمنطوق المستلزم للعطف بالواو كي ترجع النتيجة إلى

__________________

(١) الوسائل ٢٤ : ٢٤ / أبواب الذبائح ب ١٢.

(٢) محاضرات في أُصول الفقه ٥ : ١٠٥.

(٣) الوسائل ٨ : ٤٧٢ / أبواب صلاة المسافر ب ٦ ح ٣ (وقد نقل بالمضمون).

١٩٥

.................................................................................................

______________________________________________________

اعتبار الأمرين معاً ، فانّ هذا بلا موجب كما عرفت.

ولكن هذا أعني تقييد مفهوم كلّ منهما بمنطوق الآخر ، وبيان أنّه لا معارضة إلّا بالإطلاق والتقييد إنّما يتّجه فيما إذا كانت القضيتان مسوقتين لبيان موضوع الحكم كما في مثال الذبيحة المتقدّم ، حيث أُنيطت الحلّية في أحد الدليلين بإراقة الدم الكثير ، وفي الآخر بحركة الذبيحة كما ورد ذلك عن علي (عليه السلام) فجعل موضوع التذكية في أحدهما الإراقة وفي الآخر الحركة ، فتقع المعارضة حينئذ بين منطوق كلّ منهما ومفهوم الآخر ، فيجري الكلام المتقدّم من التقييد بـ (أو) أو بالواو على النحو الذي عرفت.

وأمّا إذا فرضنا أنّ المذكور في الشرطيتين لم يكن بنفسه موضوعاً للحكم وإنّما هو بيان ومعرّف لحدّ يكون هو الموضوع واقعاً كما هو الحال في المقام فلا يجري فيه ما ذكر.

وبيانه : أنّ الأخبار تشير إلى بيان حدّ خاصّ من الابتعاد يكون هو المبدأ للتقصير والإفطار ، فانّ مبدأ احتساب المسافة وإن كان هو البلد نفسه كما تقدّم ويتّصف المسافر بكونه مسافراً من لدن خروجه عن البلد ، حيث إنّه مسافر حينئذ حقيقة ، إذ السفر هو البروز والظهور عن البلد ، وهذا قد برز وخرج ، إلّا أنّ فعلية الحكم المزبور منوطة ببلوغه مقداراً خاصاً من البعد ، وكأنّه من أجل أنّ توابع البلد ملحق به ، فلا يقصّر إلّا لدى الابتعاد عن البلد ونواحيه بحيث ينقطع عن البلد رأساً ، فحدّد له حدّ خاصّ من البعد.

فالنصوص مسوقة لبيان كمّية البعد ، وجعل الخفاء أو عدم السماع علامة وكاشفاً عن بلوغ تلك الكمّية ، وإلّا فسماع الأذان أو خفاء الجدران لا خصوصية ولا موضوعية لشي‌ء منهما في الحكم ، إذ قد لا يكون للبلد مؤذّن ، أو يقع السفر في غير موقع الأذان كما هو الغالب ، أو قد يقع السفر في الليل فيتوارى عن

١٩٦

.................................................................................................

______________________________________________________

البيوت وتخفى الجدران بعد سير خطوات قليلة ، أو يكون المسافر أعمى ، أو يوجد غيم غليظ يمنع عن الرؤية وغير ذلك من الفروض التي لا يتحقّق معها السماع ولا الخفاء ، ومع ذلك يثبت الإفطار والتقصير جزماً.

فليس لهذين العنوانين بما هما كذلك مدخلية في الحكم قطعاً ، بل هما معرّفان لبلوغ الموضع الخاصّ من البعد الذي هو الحدّ والموضوع الواقعي ، أعني الابتعاد من البلد بمقدار لا يسمع الأذان أو تخفى الجدران ، كما يظهر ذلك بوضوح من قوله في رواية إسحاق بن عمار : «أ ليس قد بلغوا الموضع الذي لا يسمعون فيه أذان مصرهم الذي خرجوا منه» (١) ، حيث دلّ صريحاً على أنّ العبرة ببلوغ موضع لا يسمع الأذان ، أي بهذا المقدار من الابتعاد.

نعم ، الرواية ضعيفة السند وإن عبّر عنها بالموثّقة في كلام جماعة ، لأنّ في سندها محمد بن علي الكوفي الملقّب بأبي سمينة ، ولم يوثق ، فلا تصلح إلّا للتأييد.

وكيف ما كان ، فلا ينبغي التأمل في أنّ الروايات في مقام بيان الحد. وعليه لا يجري في مثله الكلام المتقدّم ، أعني تقييد مفهوم كلّ منهما بمنطوق الآخر لتكون العبرة بأحدهما ، إذ لا يمكن أن يكون للشي‌ء حدّان إلّا إذا فرضنا تطابقهما في الصدق بحيث لا ينفكّ أحدهما عن الآخر.

ومن الضروري اختلافهما في المقام ، وحصول أحدهما وهو عدم سماع الأذان قبل خفاء الجدران دائماً ، فانّ شعاع البصر ومدى إبصاره أبعد بكثير من مدى الأمواج الصوتية ، ولذا ربما يرى الإنسان في البيداء شخصاً من بعيد ويناديه بأعلى صوته فلا يسمع ، وهذا واضح لكلّ أحد.

على أنّ الأذان لم يعهد وقوعه في آخر البلد ، بل يقع بطبيعة الحال في وسطه أو في المسجد الواقع في وسط المحلّة الأخيرة. فنفس البلد يشغل مقداراً من

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٤٦٦ / أبواب صلاة المسافر ب ٣ ح ١١ [ولا يخفى أنّه من كلام السائل].

١٩٧

.................................................................................................

______________________________________________________

البعد لا محالة ، ولو فرض وقوعه في مصر كما هو مورد الرواية المتقدّمة سيما إذا كان من البلدان الكبيرة فربما لا يصل الصوت إلى آخر البلد فضلاً عن خارجه أو أنّه ينقطع لدى الابتعاد عنه قليلاً كمائة متر أو مائتين ، مع أنّ الجدران أو البيوت بعد ظاهرة لا تخفى إلّا بعد طيّ مسافة بعيدة.

والحاصل : أنّه لا ينبغي التأمّل في أنّ شعاع الصوت أقصر من شعاع البصر فينقطع السماع أوّلاً ثمّ بعد مدّة تخفى الجدران ويتوارى عن البيوت.

فعليه لا يمكن الالتزام بأنّ الحدّ أحد الأمرين ، إذ مرجعه إلى أنّ العبرة بالأوّل أعني عدم السماع. كما لا يمكن الالتزام بأنّه مجموع الأمرين ، إذ مرجعه إلى أنّ العبرة بالأخير ، وهو التواري والخفاء ، بل لا بدّ وأن يكون الحدّ إمّا هذا أو ذاك فطبعاً تقع المعارضة بين الدليلين ، لتعذّر الجمع بينهما بارتكاب التقييد في المفهوم أو المنطوق لا بنحو العطف بالواو ، ولا بنحو العطف بـ (أو) فلا بدّ من العلاج.

وملخّص الكلام : أنّ الروايات ظاهرة في أنّها مسوقة لبيان المعرّف ، وأنّ العبرة بنفس البعد كما فهمه الفقهاء ، ولا عبرة بالتواري الأصلي منه والتبعي من جبل أو غيم أو ظلمة أو عمى ونحو ذلك ، كما لا عبرة بعدم السماع. وبما أنّه يحصل قبل الخفاء دائماً فيقع التنافي بين الحدّين والمعارضة بين الدليلين ، فلا بدّ من التصدّي لعلاجها.

فنقول : يمكن أن يقال في مقام الجمع بين الأخبار : إنّ الحدّ الواقعي هو بلوغ البعد بمقدار لا يسمع الأذان كما تضمّنته النصوص الكثيرة ، إلّا أنّ معرفة ذلك وتشخيصه لكلّ أحد ممّا لا يتيسّر غالباً ، فانّ السفر في وقت الأذان نادر جدّاً ولا سيما في الأزمنة السابقة التي كان السير فيها بواسطة الدواب والجمال ، مع أنّه ليس كلّ بلد يؤذّن فيه بحيث يسمع أذانه من دون مانع من ريح عاصف أو مطر هاطل ونحوهما.

١٩٨

.................................................................................................

______________________________________________________

وحيث إنّ فهم الحدّ المزبور وأنّ هذا موضع يسمع فيه الأذان أو لا يسمع صعب على المسافر جدّاً ، كان التعليق على عدم السماع قليل الجدوى ، لكونه من التعليق على أمر لا يقع خارجاً غالباً.

فمن ثمّ ذكر في صحيح ابن مسلم ضابط آخر يسهل تناوله لكلّ أحد ، ويكون كاشفاً قطعيّاً عن حصول ذلك الحدّ ، لكونه القدر المتيقّن من البُعد اللّازم رعايته وهو التواري عن البيوت الذي هو أخصّ من عدم سماع الأذان ، لكون البعد في مورده أزيد كما مرّ.

فاذا بلغ المسافر موضعاً خفيت عليه الجدران وتوارى عن البيوت إذا نظر إليها وهذا شي‌ء يعرفه كلّ أحد فقد أحرز بلوغه بل وتجاوزه عن الموضع الذي لا يسمع فيه الأذان ، الذي هو الحدّ الواقعي للترخّص. وبذلك تندفع المعارضة بين هذه الصحيحة وبين تلك الأخبار التي جعل فيها المدار على عدم سماع الأذان.

فإن أمكن الجمع بهذا النحو فهو ، وإلّا فتصل النوبة إلى المعارضة. ولا ينبغي الشكّ حينئذ في تقديم تلك الأخبار لكثرتها وشهرتها ، بل ومعروفية التحديد بخفاء الأذان ومغروسيته في الأذهان عند أصحاب الأئمة ، بحيث كان أمراً مسلّماً مفروغاً عنه كما يظهر من رواية إسحاق بن عمار المتقدّمة ، المشتملة على قول السائل : «أ ليس قد بلغوا الموضع الذي لا يسمعون فيه أذان مصرهم» وإن كانت الرواية ضعيفة السند كما مرّ ، فلا تصلح إلّا للتأييد ، هذا.

مع أنّ تلك الأخبار موافقة للنصوص الكثيرة المتضمّنة لوجوب التقصير على كلّ مسافر ، للزوم الاقتصار في مقام التخصيص على المقدار المتيقّن ، وهو بلوغ الموضع الذي لا يسمع فيه الأذان ، إذ لا ريب أنّ تلك الأخبار بمثابة التخصيص في أدلّة عموم القصر لكلّ مسافر. ومن ثمّ لو لم يرد دليل على اعتبار حدّ الترخّص لقلنا بوجوب التقصير من أوّل خروج المسافر من البلد أخذاً

١٩٩

وفي العود عن السفر أيضاً ينقطع حكم القصر إذا وصل إلى حدّ الترخّص (١)

______________________________________________________

بتلك العمومات ، لصدق المسافر عليه من لدن خروجه.

فاذا عارض المخصّص دليل آخر أعم ، وهو ما دلّ على اعتبار المواراة التي تتحقّق دائماً بعد خفاء الأذان كما عرفت يقتصر في التخصيص على المقدار المتيقّن ، للشكّ في وجوب التمام في المقدار المتخلّل ما بين خفاء الأذان وخفاء الجدران زائداً على المقدار المعلوم ثبوته وحصول التخصيص به وهو ما قبل خفاء الأذان ، فيكون الترجيح بحسب النتيجة مع أخبار الأذان ، لمطابقتها مع السنّة القطعية ، أعني عمومات التقصير.

فلا ينبغي التأمل في أنّ الاعتبار بالابتعاد حدّا لا يسمع معه الأذان ، فيقصّر المسافر متى بلغ هذا الحدّ ، وإن لم يكن بعدُ متوارياً عن البيوت.

(١) قد عرفت اعتبار حدّ الترخّص في الذهاب ، فهل يعتبر ذلك في الإياب أيضاً ، وعلى تقدير الاعتبار فهل هو نفس الحدّ المعتبر في الذهاب أو أنّه يفترق عنه؟

المعروف والمشهور اعتباره في الإياب كالذهاب ، وخالف فيه جماعة منهم صاحب الحدائق (١) حيث خصّ الاعتبار بالذهاب ، أمّا في الإياب فوافق ابن بابويه (٢) في إنكار اعتبار الحد.

وذهب جماعة منهم صاحبا المدارك (٣) والذخيرة (٤) إلى التخيير بين القصر

__________________

(١) الحدائق ١١ : ٤١٢.

(٢) حكاه عنه في المختلف ٢ : ٥٣٥ المسألة ٣٩٣.

(٣) المدارك ٤ : ٤٥٩ [قال : ولو قيل بالتخيير بعد الوصول إلى موضع يسمع فيه الأذان بين القصر والتمام إلى أن يدخل البلد كان وجهاً حسنا].

(٤) الذخيرة : ٤١١ السطر ٢٤.

٢٠٠