موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ مرتضى البروجردي

.................................................................................................

______________________________________________________

وغيرهم ، نظراً إلى صحّة أسانيدها ووضوح الدلالة فيها ، فلا وجه لطرحها أو صرفها عن ظهورها.

وما المانع من الالتزام بالتخفيف في حقّ مثل هذا الشخص الذي يجدّ في سيره أي يسرع زائداً على المقدار المتعارف ويقع من أجله في كلفة ومشقّة ، فكأنّ الشارع راعى حال هذا المتكلّف ، حيث إنّ المكاري كان بمنزلة مَن بيتُه معه ولأجله يتم ، ولكن إذا صادف مثل هذه الكيفية من السير يتسامح في حقّه بالترخّص. فتكون هذه الروايات مخصّصة لأدلّة التماميّة المفروضة على المكاري هذا.

ولكن الظاهر أنّه لا سبيل للأخذ بهذه النصوص رغم صحّة أسانيدها لمهجوريتها عند الأصحاب ، وعدم العامل بها إلى زمان صاحب المدارك والمعالم وبعدهما المحقّق الكاشاني (١) وصاحب الحدائق ، حتّى أنّ الكليني لم يعتن بها ولم يذكر شيئاً منها ، بل أشار إليها بقوله : وفي رواية أنّ «المكاري إذا جدّ به السير ...» إلخ ، المشعر بالتمريض والتوقّف وأنّها موهونة عنده ، وإلّا كان عليه أن يذكرها ولا سيما مع صحّة أسانيدها. فيفهم من التعبير عدم اعتنائه بشأنها هذا.

والمسألة كثيرة الدوران ومحلّ للابتلاء غالباً ، حتّى أنّ بعض أصحاب الأئمّة (عليه السلام) كان شغله ذلك كصفوان الجمال ، فلو كان القصر ثابتاً للمكاري المجدّ في السير لاشتهر وبان وشاع وذاع وكان من الواضحات ، كيف ولا قائل به إلى زمان صاحب المدارك كما عرفت.

__________________

(١) مفاتيح الشرائع ١ : ٢٤.

١٦١

والمدار على صدق اتخاذ السفر عملاً له عرفاً (١) ولو كان في سفرة واحدة لطولها وتكرّر ذلك منه من مكان غير بلده إلى مكان آخر ، فلا يعتبر تحقّق الكثرة بتعدّد السفر ثلاث مرّات أو مرّتين ، فمع الصدق في أثناء السفر الواحد أيضاً يلحق الحكم وهو وجوب الإتمام ، نعم إذا لم يتحقّق الصدق إلّا بالتعدّد يعتبر ذلك.

______________________________________________________

فيستكشف من هذه القرينة العامّة التي تكرّرت الإشارة إليها في مطاوي هذا الشرح وتمسّكنا بها في كثير من المقامات عدم ثبوت القصر للمكاري المزبور. إذن لا بدّ من ردّ علم هذه الروايات إلى أهله ، أو حملها على بعض المحامل المتقدّمة.

ولا ينافي هذا ما هو المعلوم من مسلكنا من عدم سقوط الصحيح بالإعراض عن درجة الاعتبار ، لعدم اندراج المقام تحت هذه الكبرى ، بل مندرجة تحت تلك الكبرى المشار إليها آنفاً بعد كون المسألة عامّة البلوى وكثيرة الدوران حسبما عرفت.

(١) قد عرفت أنّ من عمله السفر محكوم بالتمام ، وإنّما الكلام في محقّق هذا العنوان وأنّه هل ينوط بتكرّر السفر للعمل مرّتين أو ثلاث ، أو لا هذا ولا ذاك ، بل يدور مدار الصدق العرفي ولو كان ذلك في سفرة واحدة؟

احتمل الشهيد الثاني التكرار إلى ثلاث سفرات ، فلا يتم قبلها كما لا يقصّر بعدها ، مستدلّاً عليه بانصراف النصوص إلى الغالب المتعارف وهو هذا المقدار (١). وفيه : منع الانصراف المدّعى كما لا يخفى.

__________________

(١) الروض : ٣٨٩ السطر ١٨.

١٦٢

.................................................................................................

______________________________________________________

واختار العلّامة في المختلف اعتبار السفر تين ، لتوقّف صدق الاختلاف عليه (١). وهو أيضاً غير واضح.

واختار الماتن إناطة الأمر إلى الصدق العرفي ، وهو الصحيح.

وتفصيل الكلام : أنّ الروايات الواردة في المقام على طوائف ثلاث :

الاولى : ما علّق الحكم فيها على المكاري والجمال والملاح ونحو ذلك من العناوين الخاصّة.

الثانية : ما دلّت على ذلك بعناية كون السفر عملاً لهم.

الثالثة : ما دلّت على عنوان الاختلاف ، المقتضي لتكرار السفر على نحو يصدق معه الاختلاف والذهاب والإياب ، فلا تكفي الواحدة ، وهي صحيحة هشام عن أبي عبد الله (عليه السلام) «قال : المكاري والجمال الذي يختلف وليس له مقام يتم الصلاة ويصوم شهر رمضان» (٢).

وحينئذ نقول : لو كنّا نحن والطائفة الاولى لحكمنا بالتمام متى تحقّقت ذوات العناوين وإن لم يتصف المتلبّس بها بكونها عملاً له ، كمن كانت له سيارة يستعملها في حوائجه الشخصية فصادف أن شاهد في سفره كثرة الزوار مثلاً وغلاء الأُجرة فكارى سيارته في تلك السفرة ، فإنّه يطلق عليه المكاري في هذه الحالة وإن لم يكن ذلك عملاً له ، وهكذا الحال في سائر العناوين من الملاح والجمال ونحوهما.

إلّا أنّ الطائفة الثانية خصّت هذه العناوين بمن كان السفر شغلاً وعملاً له.

__________________

(١) المختلف ٢ : ٥٣٢ ذيل المسألة ٣٩١.

(٢) الوسائل ٨ : ٤٨٤ / أبواب صلاة المسافر ب ١١ ح ١.

١٦٣

.................................................................................................

______________________________________________________

إذن فيدور الحكم مدار صدق هذا العنوان الذي ربما يتّفق بسفرة واحدة خصوصاً إذا كانت طويلة ، بل قد يتّفق في أثناء السفر الواحد لا من الأوّل ، كما لو سافر وصادف أنّه اشترى دوابا فكارى بها وبنى على الاشتغال بالمكاراة.

وربما لا يصدق إلّا لدى تعدّد السفرات كما هو الحال في سائر العناوين من الحرف والصناعات ، كما لو كانت له سيارة فكراها لا بقصد المزاولة للعمل بل لأجل غرض آخر ، ثمّ اتّفق بعد أيام كذلك ، ثمّ بعد أيام أُخرى كذلك ، فتكرّر منه العمل على حدٍّ صدق عليه المكاري عرفاً.

وعلى الجملة : يدور الحكم بعد لحاظ التقييد المزبور على الصدق العرفي الذي قد يتوقّف على التكرّر ، وقد لا يتوقّف حسبما عرفت.

إلّا أنّ الطائفة الثالثة اعتبرت عنوان الاختلاف ، المتقوّم بالتكرّر مع البناء على الاستمرار على ذلك كما لا يخفى ، ومن ثمّ قد يتوهّم المعارضة بينها وبين الطائفة المتقدّمة.

ولكنّ الصحيح عدم المعارضة ، لابنتائها على أن يكون للوصف أعني التقييد بالاختلاف مفهوم ، والمحقّق في محلّه عدمه ، فلا يدلّ على أنّ غير هذا المورد غير محكوم بهذا الحكم ليتنافى مع ما سبق.

نعم ، ذكرنا في الأُصول (١) أنّ له مفهوماً بمعنى آخر ، وهو الدلالة على عدم تعلّق الحكم بالطبيعي على إطلاقه وسريانه ، وإلّا لأصبح التقييد بالوصف لغواً محضاً ، وأمّا أنّ الحكم خاصّ بهذا المورد ومنفي عمّا عداه كما هو معنى المفهوم اصطلاحاً فكلا. فغايته أنّ طبيعي المكاري غير محكوم بالتمام ، لا أنّه خاصّ بمن يختلف ، ومن الجائز ثبوته لغير هذا الفرد كمن كان شغله السفر وإن لم يختلف

__________________

(١) محاضرات في أُصول الفقه ٥ : ١٣٣ وما بعدها.

١٦٤

[٢٢٧٦] مسألة ٤٥ : إذا سافر المكاري ونحوه ممّن شغله السفر سفراً ليس من عمله كما إذا سافر للحجّ أو للزيارة يقصّر (١) ، نعم لو حجّ أو زار لكن من حيث إنّه عمله كما إذا كرى دابته للحجّ أو الزيارة وحجّ أو زار بالتبع أتمّ.

______________________________________________________

فلا معارضة بين الطائفتين بوجه.

ونتيجة ذلك : عدم اعتبار صدق الاختلاف والتردّد بانياً عليه ، والاكتفاء بمجرّد صدق كون السفر شغله وعملاً له عرفاً ولو كان ذلك في سفرة واحدة أو في سفرات من غير نيّة الاستمرار ليصدق الاختلاف ، كما لو اتّفق أنّه كارى دابته أو سيارته بقصد مرّة واحدة من دون تكرار فاتّفق مرّة أُخرى واتّفق ثالثة وفي كلٍّ لا ينوي الاستمرار إلّا أنّه صادف مصادفة ، فإنّ هذا يصدق عليه طبعاً أنّ شغله السفر ، بحيث لو سئل عن عمله لأجاب بأنّه المكاراة ، وإن لم يكن بانياً عليها.

وهكذا لو لم يختلف ولم يتردّد ، بل كان ذلك في سفر واحد ولم يعد إليه أبداً كما لو كارى دابته أو سيارته لسفر طويل يستوعب سنة مثلاً وليس قصده إلّا هذه المرّة ، فإنّه يصدق عليه أنّ شغله في هذه السنة المكاراة ، وإن لم يشتمل على العود والتردّد والذهاب والإياب ليصدق الاختلاف.

فالعبرة إذن بالصدق العرفي بكون السفر عملاً له ومهنة ، لا بالاختلاف وعدمه حسبما عرفت.

(١) قد ظهر حال هذه المسألة من مطاوي ما سبق ، وعرفت أنّه في مجال السفر الجديد الخارج عن مهنته لا يصدق عليه كون هذا السفر عملاً له ، فيكون المرجع إذن إطلاقات القصر لكلّ مسافر.

١٦٥

[٢٢٧٧] مسألة ٤٦ : الظاهر (*) وجوب القصر على الحملدارية الذين يستعملون السفر في خصوص أشهر الحج ، بخلاف من كان متّخذاً ذلك عملاً له في تمام السنة ، كالّذين يكرون دوابّهم من الأمكنة البعيدة ذهاباً وإياباً على وجه يستغرق ذلك تمام السنة أو معظمها فإنّه يتمّ حينئذ (١).

______________________________________________________

(١) قد عرفت (١) أنّ المدار في الحكم بالتمام على صدق عنوان عمله السفر الذي قد يتحقّق بمرّة وأُخرى بمرّات حسب اختلاف الموارد ، وأنّه ليس المناط السفر الرابع كما عن الشهيد الثاني ، أو السفر الثالث كما عن العلّامة في المختلف (٢).

وعليه ففي المكاري إذا كانت الفترات بين سفراته يسيرة كيومين أو ثلاثة مثلاً لم تضرّ بصدق العنوان ، وأمّا إذا كانت كثيرة أو طويلة فربما يقدح في الصدق ، فيختلف الصدق باختلاف الفترات طولاً وقصراً قلّة وكثرة.

ومنه تعرف حكم الحملدارية ، وهي اصطلاح تطلق على أُولئك الأشخاص الذين يرافقون الحجّاج الكرام لبيت الله الحرام لتعليمهم مناسك حجّهم وإرشادهم في سفرهم بكلّ ما يحتاجون إليه ، فإنّ المدّة التي يستوعبها الحملدار في سفره على نحوين :

فتارة : تكون قصيرة كما في زماننا هذا ، حيث لا يتجاوز العشرين يوماً أو ما قارب ، ولا يصدق على مثل ذلك كون السفر عملاً له قطعاً ، ولذا يتعيّن عليه القصر بلا إشكال.

__________________

(*) هذا فيما إذا كان زمان سفرهم قليلاً كما هو الغالب في مَن يسافر جوّاً ، وإلّا ففي وجوبه إشكال ، والاحتياط بالجمع لا يترك.

(١) في ص ١٦٣.

(٢) وقد تقدّم في ص ١٦٢ ، ١٦٣.

١٦٦

.................................................................................................

______________________________________________________

وأُخرى : تطول المدّة ، ولربما استمرت إلى شهور عديدة كما في الأزمنة السابقة ويتكرّر منه العمل في كلّ سنة ، وحينئذ فيصدق على مثل هذا الحملدار أنّ عمله في السفر فيجب عليه التمام. إذن فيختلف هذا العنوان تبعاً لقلّة المدّة وكثرتها.

فإن علمنا بالحال وأحرزنا الصدق أو عدمه فلا كلام ، وأمّا لو شكّ في ذلك فقد تكون الشبهة موضوعية وأُخرى حكمية مفهومية.

أمّا في الموضوعية وهي فرض نادر كما لو شكّ في كيفية خروجه في هذه السفرة وأنّه هل خرج مكارياً أو حاجّاً؟ فلا شكّ في وجوب القصر لعدم إحراز انطباق عنوان المخصّص عليه ، والأصل عدمه ، فيدخل تحت عنوان كلّي المسافر المحكوم عليه بالقصر ، وهذا واضح.

وأمّا في الحكمية المستندة إلى الجهل بسعة المفهوم وضيقه ، المستوجب للشكّ في صدق عنوان عمله السفر كما في الحملدارية التي تستوعب من كلّ سنة ثلاثة أشهر مثلاً ، التي كانت تتّفق في الأزمنة السابقة من العراق إلى مكّة. فيحتمل أن يكون الحكم حينئذ هو القصر ، نظراً إلى الشكّ في التخصيص الزائد في أدلّة وجوب القصر الثابت لكلّ مسافر ، فانّ الخارج منها من كان عمله السفر ، ويشكّ في دائرة هذا العنوان سعة وضيقاً ، فيقتصر على المقدار المتيقّن ، ويرجع فيما عداه إلى عموم العام.

ويحتمل التمام ، ووجهه أنّ الخارج عن إطلاقات القصر عناوين خاصّة كالمكاري والجمال والملاح ونحوها ، وهذه العناوين المقيّدة في أنفسها مطلقة أيضاً غاية الأمر أنّها قيّدت بعنوان عمله السفر بمقتضى التعليل الوارد في صحيح زرارة (١) كما مرّ (٢) ، لأنّ العلّة تضيّق كما أنّها توسّع حسبما عرفت.

__________________

(١) المتقدّم في ص ١٥١.

(٢) في ص ١٦٣ ، ١٥٣.

١٦٧

[٢٢٧٨] مسألة ٤٧ : من كان شغله المكاراة في الصيف دون الشتاء أو بالعكس الظاهر وجوب التمام عليه ، ولكن الأحوط الجمع (١).

[٢٢٧٩] مسألة ٤٨ : من كان التردّد إلى ما دون المسافة عملاً له كالحطّاب ونحوه قصّر إذا سافر ولو للاحتطاب ، إلّا إذا كان يصدق عليه المسافر عُرفاً وإن لم يكن بحدّ المسافة الشرعية ، فإنّه يمكن أن يقال (*) بوجوب التمام عليه

______________________________________________________

وبما أنّ هذا المقيّد الثاني يشكّ في مفهومه سعة وضيقاً كما هو المفروض فلأجله يشكّ في تخصيص الخاص بالزائد على المقدار المعلوم ، فلا محيص حينئذ من الاقتصار على المقدار المتيقّن المحرز كونه مصداقاً لعملية السفر ، والرجوع فيما عداه إلى إطلاق عنوان الخاصّ من المكاري ونحوه ، ونتيجته الحكم بالتمام هذا.

ولأجل التردّد بين هذين الاحتمالين كتبنا في التعليقة أنّ فيه إشكال والاحتياط بالجمع لا يترك. وإن كان التمام أقرب الاحتمالين ، لأوجهية التقرير الثاني من الأوّل كما لا يخفى ، ومن ثمّ لو ضاق الوقت ولم يتمكّن من الجمع كان المتعيّن اختيار التمام.

(١) قد ظهر الحال في هذه المسألة من مطاوي ما قدّمناه ، فإنّه يجب التمام لصدق أنّ عمله السفر حال الاشتغال بالمكاراة ، وإن لم يصدق في الحالة الأُخرى فيشمله إطلاق الأدلّة بعد وضوح أنّ كون السفر عملاً غير متوقّف على قصد الدوام والاستمرار ، فلو كان بمقدار يتحقّق معه الصدق العرفي كفى وإن كان موقّتاً ، ولكن الاحتياط بالجمع حسن على كلّ حال كما ذكره في المتن.

__________________

(*) لكنّه بعيد ، والأظهر وجوب القصر عليه في الفرض المزبور.

١٦٨

إذا سافر (١) بحدّ المسافة خصوصاً فيما هو شغله من الاحتطاب مثلاً.

[٢٢٨٠] مسألة ٤٩ : يعتبر في استمرار من شغله السفر على التمام أن لا يقيم في بلده أو غيره عشرة أيام (٢) ،

______________________________________________________

(١) ولكنّه بعيد كما مرّت الإشارة إليه في أوائل هذا الشرط (١) ، وعرفت أنّ الأظهر وجوب القصر في هذا الفرض أيضاً ، نظراً إلى أنّ المستفاد من أدلّة المقام بعد ملاحظة أنّ لسانها لسان الاستثناء من أدلّة القصر أنّ التمام حكم من كان عمله السفر الموجب للقصر في حدّ نفسه أي لولا كونه عملاً له فيختصّ طبعاً بالسفر الشرعي البالغ حدّ المسافة ، ولا يعمّ ما دون ذلك ، ولا أثر للسفر العرفي بوجه.

إذن لا فرق في من كان عمله التردّد إلى ما دون المسافة بين من صدق عليه المسافر عرفاً وبين من لم يصدق في وجوب القصر لو سافر على التقديرين.

(٢) المشهور أنّ المكاري ونحوه ممّن شغله السفر يشترط في بقائه على التمام أن لا يقيم في بلده أو غيره عشرة أيام ، وإلّا انقطع عنه حكم عملية السفر وأصبح كسائر المسافرين ، فيقصّر في السفرة الاولى ، بل الثانية والثالثة على خلاف في الأخيرتين :

ويستدلّ له بوجوه :

أحدها : صحيحة هشام بن الحكم عن أبي عبد الله (عليه السلام) «قال : المكاري والجمال الذي يختلف وليس له مقام يتم الصلاة ويصوم شهر رمضان» (٢) بدعوى أنّ المراد بالتقييد بعدم الإقامة هي الإقامة الشرعية التي حدّها عشرة أيام

__________________

(١) في ص ١٥٦.

(٢) الوسائل ٨ : ٤٨٤ / أبواب صلاة المسافر ب ١١ ح ١.

١٦٩

.................................................................................................

______________________________________________________

لا مطلق الإقامة ولو في الجملة ، لتحققها من كلّ مكارٍ غالباً ولو يوماً أو بعض اليوم.

ويندفع : بأنّ المنسبق إلى الذهن من مثل هذه العبارة أنّ قوله (عليه السلام) : «وليس له مقام» بيان لقوله : «الذي يختلف» وتفسير له ، لا أنّه تقييد آخر زائداً على ما تقدّمه. والمقصود اختصاص الحكم بالتمام بالمكاري الذي يتّصف فعلاً بصفة المكاراة ، وهو الذي يختلف في سيره ويتردّد في سفره فلم يكن له مقر ولا مقام ، في قبال من يكون مستقراً ومقيماً في مكان واحد ولم يسافر إلّا أحياناً واتفاقاً. فالرواية ناظرة إلى جهة أُخرى ، وأجنبية عمّا نحن فيه كما لا يخفى.

ثانيها : ما رواه الشيخ بإسناده عن يونس عن بعض رجاله عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : «سألته عن حدّ المكاري الذي يصوم ويتم ، قال : أيّما مكارٍ أقام في منزله أو في البلد الذي يدخله أقل من مقام عشرة أيام وجب عليه الصيام والتمام أبداً ، وإن كان مقامه في منزله أو في البلد الذي يدخله أكثر من عشرة أيّام فعليه التقصير والإفطار» (١).

والخدش في دلالتها بظهورها في اعتبار الأكثر من عشرة أيام في انقطاع حكم عملية السفر وهو خلاف المدعى من كفاية العشرة نفسها ، مدفوع بظهور الشرطية الثانية في كونها تصريحاً بمفهوم الشرطية الأُولى ، فتعم العشرة وما فوقها.

وقد ورد نظير هذا التعبير في الذكر الحكيم قال تعالى (فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ) (٢) أي الثنتان فما زاد ، ونظيره أيضاً ما ورد من عدم العفو عن الدم

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٤٨٨ / أبواب صلاة المسافر ب ١٢ ح ١ ، التهذيب ٤ : ٢١٩ / ٦٣٩.

(٢) النِّساء ٤ : ١١.

١٧٠

.................................................................................................

______________________________________________________

الزائد على الدرهم ، المراد به الدرهم فما زاد ، كما تعرّض إليه صاحب الجواهر (قدس سره) في بحث النجاسات (١) ، ومثل هذا التعبير شائع متعارف كما لا يخفى. فدلالتها على المدعي تامّة ، غير أنّها ضعيفة السند من وجهين :

أحدهما : من حيث اشتماله على إسماعيل بن مرار ، ولم يوثّق. وربما يجاب عنه بأنّه من رجال نوادر الحكمة لمحمد بن أحمد بن يحيى ، فإنّ هذه الرواية قد رواها الشيخ في التهذيب من كتابه ، وقد استثنى ابن الوليد شيخ الصدوق وتبعه القميون من رجال النوادر جماعة ، فصرّح بعدم العمل برواياتهم (٢) ، بل قد صرّح الصدوق بضعف بعضهم ولم يذكر الرجل في تلك الجماعة ، فعدم الاستثناء يكشف عن الاعتماد برواياته المستلزم بطبيعة الحال لتوثيقه.

ويندفع : بأنّ عدم الاستثناء وإن دلّ على العمل بروايات الرجل كما ذكر إلّا أنّه لا يدلّ على توثيقه بنفسه ، لجواز أن يكون مبنى ابن الوليد على أصالة العدالة كما هو مسلك العلّامة ، إذ لم يظهر لنا مبناه في هذا الباب.

وعلى الجملة : العمل بمجرّده أعم من التوثيق بعد تطرّق الاحتمال المزبور ، فلا يجدي ذلك لمن يرى كما هو الصحيح اعتبار وثاقة الراوي في العمل بروايته.

ثانيهما : من حيث الإرسال ، فإنّ يونس يرويها عن بعض رجاله ، وهو مجهول.

ودعوى أنّه من أصحاب الإجماع الذين أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنهم قد تقدّم الجواب عنها مراراً ، وقلنا إنّه ليس المراد من معقد هذا الإجماع الذي ادّعاه الكشي (٣) عدم النظر إلى مَن بعد هؤلاء ممّن وقع في السند بحيث يعامل معه معاملة الصحيح وإن كان الراوي مجهولاً أو كذاباً ، فانّ هذا

__________________

(١) الجواهر ٦ : ١١٠.

(٢) كما حكاه النجاشي في رجاله : ٣٤٨ / ٩٣٩.

(٣) رجال الكشي : ٥٥٦ / ١٠٥٠.

١٧١

.................................................................................................

______________________________________________________

غير مراد جزماً.

بل المراد اتفاق الكلّ على جلالة هؤلاء ووثاقتهم ، بحيث لم يختلف في ذلك اثنان ، وبذلك يمتازون عن غير أصحاب الإجماع ، فلا يتأمل في الرواية من ناحيتهم ، لا أنّه يعمل بالرواية ويحكم بصحّتها على الإطلاق ، كيف وقد ظفرنا على رواية هؤلاء عمّن هو مشهور بالكذب والضعف كما أشرنا إلى جملة من ذلك في كتابنا معجم الرجال (١) فراجع إن شئت.

نعم ، لو تمّ ما ادّعاه الشيخ في العدّة من الإجماع على أنّ مراسيل ابن أبي عمير وأضرابه بمنزلة المسانيد ، بدعوى أنّ هؤلاء لا يروون إلّا عن الثقة (٢) حكم في المقام بصحّة الرواية. لكنّه لا يتم ، كيف والشيخ (قدس سره) نفسه لم يعمل بمراسيل ابن أبي عمير في كتاب التهذيب (٣). فيظهر أنّ تلك الدعوى اجتهاد منه كما نبّهنا عليه في الكتاب المزبور (٤).

فتحصّل من جميع ما ذكرناه : أنّ الرواية وإن كانت تامّة الدلالة إلّا أنّها ضعيفة السند من جهة إسماعيل بن مرار أوّلاً ، ومن جهة الإرسال ثانياً ، هذا.

ولكن المناقشة من الجهة الأُولى قابلة للدفع ، نظراً إلى أنّ إسماعيل بن مرار مذكور في أسانيد كتاب التفسير لعلي بن إبراهيم ، وقد التزم هو في تفسيره (٥) كجعفر بن محمد بن قولويه في كامله (٦) بأن لا يروي إلّا عن الثقة ، فكانت

__________________

(١) معجم رجال الحديث ١ : ٦٣ ٦٦.

(٢) عدّة الأُصول ١ : ٥٨ السطر ٧.

(٣) التهذيب ٨ : ٢٥٧ / ٩٣٢.

(٤) معجم رجال الحديث ١ : ٦٢.

(٥) تفسير القمي ١ : ٤.

(٦) كامل الزيارات : ٤.

١٧٢

.................................................................................................

______________________________________________________

هذه منه شهادة عامّة بتوثيق كلّ من وقع في أسناد التفسير ، ولا بدّ من الأخذ به ، فإنّه لا يقلّ عن توثيق مثل النجاشي ، بل هو أعظم ، لكون عهده أقرب.

نعم ، المذكور في الطبعة الجديدة من التفسير المذكور : إسماعيل بن ضرار في موضع (١) ، وإسماعيل بن فرار في موضع آخر (٢) ، وكلاهما غلط من الناسخ ، والصحيح إسماعيل بن مرار كما في الطبعة القديمة منه.

فالعمدة في المناقشة السندية إنّما هي الجهة الثانية أعني الإرسال ، وإلّا فالرواية معتبرة من غير هذه الناحية.

ثالثها : ما رواه الشيخ أيضاً بإسناده عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) «قال : المكاري إذا لم يستقر في منزله إلّا خمسة أيام أو أقل قصّر في سفره بالنهار وأتمّ صلاة الليل وعليه صيام شهر رمضان ، فان كان له مقام في البلد الذي يذهب إليه عشرة أيام أو أكثر قصّر في سفره وأفطر» (٣).

ومحلّ الاستشهاد ذيل الرواية أعني قوله : «فان كان له مقام ...» إلخ ، وأمّا صدرها المشتمل على التفصيل بين النهار واللّيل لدى الاستقرار خمسة أيام فسيقع الكلام حول ذلك قريباً إن شاء الله تعالى (٤).

وقد دلّ الذيل بوضوح على انقطاع الحكم لدى الإقامة عشرة أيام ، وأنّ الواجب حينئذ التقصير في سفره والإفطار كسائر المسافرين.

نعم ، قد يناقش في دلالتها بأنّ ظاهرها التقصير والإفطار في السفر إلى البلد الذي يقيم فيه عشرة أيام ، لا في السفر من البلد الذي أقام فيه عشرة الذي هو

__________________

(١) تفسير القمي ١ : ٢٠٥ ، ٢٨.

(٢) تفسير القمي ١ : ٢٠٥ ، ٢٨.

(٣) الوسائل ٨ : ٤٩٠ / أبواب صلاة المسافر ب ١٢ ح ٦ ، التهذيب ٣ : ٢١٦ / ٥٣١.

(٤) في ص ١٧٩.

١٧٣

.................................................................................................

______________________________________________________

محلّ الكلام. فما هو ظاهر الرواية من التقصير والإفطار في السفر الذي يتعقّب بإقامة العشرة لا قائل به ، بل هو مقطوع البطلان ومخالف للإجماع ، إذ لم يتحقّق بعدُ ما يوجب انقطاع حكم عملية السفر كما هو واضح ، وما هو محلّ الكلام من قاطعية العشرة لحكم التمام ، أي وجوب التقصير والإفطار في السفر الواقع بعد ذلك لا تدلّ عليه الرواية بوجه.

ولكنّ هذه المناقشة لعلّها واضحة الدفع ، فانّ هذه الشرطية أعني قوله : «فان كان له مقام ...» إلخ في مقابل الشرطية الأُولى المذكورة في الصدر ، وظاهر المقابلة أنّه لا اختلاف بين الصدر والذيل إلّا من حيث الإقامة خمسة وعشرة فهما ينظران إلى موضوع واحد.

وبما أنّ المراد من السفر في الصدر السفر من البلد الذي أقام فيه خمسة بالضرورة لا إلى ذلك البلد ، فكذا الحال في الذيل ، فيراد به التقصير في سفره من البلد الذي يذهب إليه ويقيم عشرة ، كما يؤيّده التعبير بقوله : «فان كان له مقام ...» إلخ بصيغة الماضي ، أي عند ما أقام في ذلك البلد عشرة أيام قصّر بعدئذ في سفره ، فلا يراد إلّا السفر الحاصل بعد تلك الإقامة لا قبلها كما هو ظاهر.

فالإنصاف : أنّ الرواية واضحة الدلالة على المطلوب من قاطعية الإقامة عشرة أيام لحكم عملية السفر.

وأمّا من حيث السند فقد عرفت أنّ إسماعيل بن مرار الواقع في السند موثّق بتوثيق علي بن إبراهيم ، ولأجله يحكم بصحة الرواية.

ومع الغض عن ذلك فتكفينا هذه الرواية على طريق الصدوق ، المحكومة حينئذ بالصحّة جزماً ، فإنّه (قدس سره) قد رواها بعين المتن المتقدّم عن الشيخ غير أنّه أضاف بعد قوله : «عشرة أيام أو أكثر» قوله : «وينصرف إلى منزله

١٧٤

وإلّا انقطع حكم عملية السفر وعاد إلى القصر في السفرة الأُولى خاصّة دون الثانية فضلاً عن الثالثة ، وإن كان الأحوط الجمع فيهما (١).

______________________________________________________

ويكون له مقام عشرة أيام أو أكثر» (١).

والظاهر أنّ هذه الإضافة ناظرة إلى اختلاف المورد من حيث الذهاب إلى بلد آخر أو الرجوع إلى منزله ، فتعتبر الإقامة عشرة أيام فيما لو ذهب إلى بلد آخر ، أو الإقامة كذلك فيما لو انصرف ورجع إلى منزله ، لا أنّه يعتبر في الحكم بالانقطاع مجموع الأمرين معاً.

والمتحصّل من جميع ما ذكرناه أنّ الحكم بالانقطاع بإقامة عشرة أيام ممّا لا ينبغي التأمل فيه ، لصحيحة عبد الله بن سنان بطريقي الشيخ والصدوق.

(١) لا إشكال في الانقطاع والرجوع إلى القصر في السفرة الأُولى ، فإنّها القدر المتيقّن من النص ، كما لا إشكال في عدمه والرجوع إلى التمام في الرابعة وما زاد.

إنّما الكلام في السفرة الثانية ، بل الثالثة على ما نسب الخلاف فيها أيضاً إلى بعضهم ، فذهب جماعة ومنهم الماتن (قدس سره) إلى الرجوع في الثانية فضلاً عن الثالثة إلى التمام ، واختصاص الحكم بالسفرة الأُولى التي هي المتيقّن من مورد النص ، ويرجع فيما عداها إلى عموم وجوب التمام. ونسب التعميم إلى جماعة آخرين.

والأقوى هو الأوّل ، ويدلّنا عليه :

أوّلاً : إطلاق قوله (عليه السلام) في صحيحة عبد الله بن سنان : «المكاري إذا لم يستقر في منزله إلّا خمسة أيام أو أقل ...» إلخ ، فإنّ هذه الشرطية بإطلاقها

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٤٨٩ / أبواب صلاة المسافر ب ١٢ ح ٥ ، الفقيه ١ : ٢٨١ / ١٢٧٨.

١٧٥

.................................................................................................

______________________________________________________

تشمل السفرة الثانية والثالثة وهكذا.

والمذكور فيها من التفصيل بين الصوم والصلاة وبين صلاة الليل والنهار وإن كان محمولاً على التقية أو على النوافل أو غير ذلك ممّا ستعرف ، فلم تكن من هذه الناحية خالية عن الإجمال ، إلّا أنّها على أيّ حال دالّة على أنّ الحكم الثابت في مفروض الشرطية الثانية أعني التقصير والإفطار لدى إقامة عشرة أيام لم يكن ثابتاً في مورد الشرطية الأُولى أي إقامة الخمسة أو أقل ، فإنّها في هذا المقدار من الدلالة ظاهرة بل صريحة.

ومقتضى الإطلاق كما عرفت شموله للسفرة الثانية أيضاً فيما إذا تحقّقت بعد إقامة خمسة أيام أو أقل ، وأمّا إذا وقعت بعد إقامة عشرة أيام أُخرى فهي بنفسها تعدّ من السفرة الأُولى كما لا يخفى.

وثانياً : أنّ الصحيحة المتقدّمة بنفسها دالّة على الاختصاص بالسفرة الأُولى لأنّ ظاهر قوله (عليه السلام) في الشرطية الثانية : «قصّر في سفره وأفطر» إرادة السفرة الواقعة عقيب إقامة العشرة وتلوها ، لا كلّ سفر حيثما تحقّق.

ومع الغض عن ذلك وتسليم الإجمال من هذه الناحية فالمرجع عموم وجوب التمام الثابت لكلّ مكارٍ ، لأنّ هذه الصحيحة بمثابة التخصيص لذلك العام ، ومن المقرّر في محلّه لزوم الاقتصار في المخصّص المجمل الدائر بين الأقل والأكثر على المقدار المتيقّن (١) ، الذي هو السفر الأوّل في المقام ، فيرجع فيما عداه إلى عموم العام المتضمّن لوجوب التمام ، هذا.

وربما يستدلّ لوجوب التمام في السفرة الثانية بالاستصحاب ، بدعوى أنّه

__________________

(١) محاضرات في أُصول الفقه ٥ : ١٨٠ وما بعدها.

١٧٦

ولا فرق في الحكم المزبور بين المكاري والملّاح والساعي (*) وغيرهم ممّن عمله السفر (١).

______________________________________________________

بعد ما عاد من السفرة الاولى إلى وطنه حكم عليه بالتمام بلا كلام ، وبعد ما خرج منه إلى السفرة الثانية يشكّ في انقلابه إلى القصر فيستصحب.

وفيه أوّلاً : أنّه من الاستصحاب في الشبهات الحكمية ، ولا نقول به.

وثانياً : أنّ هذا من قبيل القسم الثالث من استصحاب الكلّي ، فإنّ التمام الثابت آن ذاك إنّما هو بعنوان كونه في الوطن ، وهذا الفرد من كلّي وجوب التمام قد زال وارتفع بالخروج إلى السفرة الثانية قطعاً ، ولو ثبت الوجوب بعدئذ فهو بعنوان كونه مكارياً ، الذي هو تخصيص في أدلّة وجوب القصر ، وهذا فرد آخر من التمام مغاير لما كان ثابتاً سابقاً ، يشكّ في حدوثه مقارناً لارتفاع الفرد السابق.

فذاك الفرد المتيقّن معلوم الارتفاع ، وهذا الفرد مشكوك الحدوث ، والكلِّي الجامع بينهما غير قابل للاستصحاب ، لما عرفت من كونه من قبيل القسم الثالث من استصحاب الكلّي ، والمقرّر في محلّه عدم جريانه (١).

فتحصّل : أنّ الأظهر هو الاختصاص بالسفرة الاولى ، ووجوب التمام فيما عداها لا للاستصحاب ، بل للدليل اللفظي حسبما عرفت.

(١) لا يخفى أنّ مقتضى الإطلاق في الأدلّة الأوّلية وجوب التقصير على كلّ مسافر ، خرجنا عن ذلك في المكاري ونحوه ممّن شغله السفر بمقتضى النصوص الدالّة على وجوب التمام عليهم كما سبق ، فكان هذا تخصيصاً في الدليل الأوّلي.

__________________

(*) الأظهر اختصاص الحكم بالمكاري دون غيره.

(١) مصباح الأُصول ٣ : ١١٤.

١٧٧

.................................................................................................

______________________________________________________

وقد ورد على هذا المخصّص مخصّص آخر في خصوص المكاري ، وأنّه إذا سافر بعد إقامة عشرة أيام وجب عليه القصر والإفطار ، فانّ هذا من التخصيص دون التخصّص ، لوضوح عدم خروج المكاري بإقامة العشرة عن كونه مكارياً ، ولا سيما في الأزمنة السابقة التي كانت تطول فيها مدّة الأسفار فكان المكاري يسافر من العراق إلى خراسان مدّة شهرين تقريباً ، وبعد عوده إلى بلده يبقى لعلّه شهراً ثمّ يأخذ في السفرة الأُخرى وهكذا.

وعلى الجملة : دليل انقطاع عملية السفر بإقامة العشرة وهي صحيحة عبد الله بن سنان المتقدّمة ليس إلّا تخصيصاً في دليل وجوب التمام كما عرفت.

وبما أنّ مورده المكاري بخصوصه فمقتضى الجمود على مورد النص الاقتصار عليه في الحكم بالتقصير ، دون التعدّي إلى مطلق من عمله السفر كالملاح والساعي ونحوهما ، بل اللازم في مثل ذلك التمام وإن أقاموا عشرة أيام ، إلّا أن يكون هناك إجماع على الملازمة بين المكاري وغيره كما ادّعي ، وأنّ كلّ من كان عمله السفر وظيفته التقصير بعد إقامة عشرة أيام ، وإنّما ذكر المكاري في النصّ من باب المثال دون خصوصية فيه.

لكن الشأن في إثبات الإجماع وإن ادّعاه صاحب الجواهر (١) وغيره ، فإنّ المسألة لم تكن محرّرة في كلمات القدماء ، وإنّما تعرّض لها المتأخّرون. فالقول بالاختصاص بالمكاري الذي حكاه المحقّق في الشرائع (٢) وإن لم يعرف قائله هو الأوفق بالجمود على مقتضى ظاهر النص.

ومع التنزّل فلا أقلّ من إجمال النصّ وتردّده بين أن يكون المراد خصوص المكاري أو مطلق من عمله السفر ، ومن المعلوم لزوم الاقتصار في المخصّص

__________________

(١) الجواهر ١٤ : ٢٨٣.

(٢) الشرائع ١ : ١٦٠.

١٧٨

أمّا إذا أقام أقل من عشرة أيام بقي على التمام (١) ، وإن كان الأحوط مع إقامة الخمسة الجمع (*).

______________________________________________________

المجمل الدائر بين الأقل والأكثر على المقدار المتيقّن الذي هو المكاري ، والرجوع فيما عداه إلى عموم وجوب التمام على من شغله السفر حسبما عرفت من أنّ النصّ المزبور مخصّص لذلك العموم ، وليس من التخصّص في شي‌ء ، لوضوح عدم التنافي بين إقامة العشرة وبين كون شغله السفر.

(١) إذا أقام المكاري أو غيره بناءً على تعميم الحكم لمطلق من شغله السفر أقل من عشرة أيّام فالمشهور وجوب التمام ، استناداً إلى عمومات التمام عليهم ، وخصوص صحيحة ابن سنان التي أُنيط التقصير فيها بإقامة العشرة المستلزم لوجوب التمام لو أقام دونها.

وحكي عن الإسكافي أنّ إقامة الخمسة كالعشرة موجبة للتقصير والإفطار (١) وهذا لم يعرف له مستند أصلاً.

ونسب إلى الشيخ (٢) وأتباعه وإلى الوسيلة (٣) والنهاية (٤) أنّه لو أقام خمسة أيام قصّر في صلاته نهاراً دون صومه (٥) وأتمّ ليلاً ، واستدلّ له بما في صدر صحيحة ابن سنان : «المكاري إذا لم يستقر في منزله إلّا خمسة أيام أو أقل قصّر

__________________

(*) مورد الاحتياط هي الصلاة النهارية ، وأمّا اللّيلية فالحكم فيها وجوب التمام بلا إشكال.

(١) حكاه عنه في المهذّب البارع ١ : ٤٨٦.

(٢) المبسوط ١ : ١٤١.

(٣) الوسيلة : ١٠٨.

(٤) لاحظ نهاية الإحكام ٢ : ١٧٩.

(٥) [لم نعثر على تصريح بإتمام الصوم].

١٧٩

.................................................................................................

______________________________________________________

في سفره بالنهار وأتمّ صلاة الليل ، وعليه صيام شهر رمضان ...» إلخ (١).

وفيه : أنّ ظاهر الصحيحة جريان الحكم المزبور حتّى في إقامة الأقل من خمسة أيام كثلاثة أو يومين ، ولم يقل به أحد من الأصحاب حتّى الشيخ نفسه فإنّه اعتبر الخمسة ولم يكتف بالأقل. فما هو ظاهر الصحيحة لا قائل به ، وما يقول به الشيخ لا دليل عليه ، فلا بدّ من ردّ علم الصحيحة في هذه الفقرة إلى أهله لشذوذها ، بل ومخالفتها لما دلّ من النصوص الكثيرة على الملازمة بين التقصير والإفطار. فهي من هذه الناحية مجملة.

ويمكن حملها على التقية حيث نسب مضمونها إلى بعض العامّة (٢) ، أو حملها على إرادة النوافل وأنّه يقصّر في نوافل النهار ويتم في النوافل اللّيلية.

وكيف ما كان ، فما اشتمل مضمونها من التفصيل بين الصوم والصلاة والتفصيل بين صلاة النهار واللّيل مطروح أو مأوّل ، فلا تصلح للاستدلال في قبال عمومات التمام ، هذا.

وقد احتاط الماتن (قدس سره) بالجمع لدى إقامة الخمسة حذراً عن شبهة الخلاف المتقدّم ، لكن كان الأولى والأحسن بل المتعيّن تخصيص الاحتياط المزبور بالصلوات النهارية ، أمّا الليلية فلا وجه للاحتياط فيها ، بل يتعيّن التمام كما هو صريح الصحيحة المتقدّمة.

وبالجملة : مورد الخلاف الموجب للاحتياط إنّما هي الصلوات النهارية التي يجب فيها التمام بمقتضى العمومات وعليه المشهور ، والقصر بمقتضى الصحيحة وعليه الشيخ وأتباعه ، أمّا اللّيلية فالمتعيّن فيها التمام على كلّ حال ، سواء أخذنا بالصحيحة أم لا ، والشيخ أيضاً لا يقول بالقصر فيها ، فلا مقتضي للاحتياط

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٤٩٠ / أبواب صلاة المسافر ب ١٢ ح ٦.

(٢) [لم نعثر عليه].

١٨٠