موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ مرتضى البروجردي

[٢٢٧١] مسألة ٤٠ : إذا كان سفره مباحاً لكن يقصد الغاية المحرّمة في حواشي الجادّة فيخرج عنها لمحرّم ويرجع إلى الجادّة (١) فإن كان السفر لهذا الغرض كان محرّماً موجباً للتمام ، وإن لم يكن كذلك وإنّما يعرض له قصد ذلك في الأثناء فما دام خارجاً عن الجادّة يتمّ وما دام عليها يقصر (*) ، كما أنّه إذا

______________________________________________________

وإذا لم يكن سفره معصية فلا يجب فيه التمام لانتفاء الموضوع ، فيلزم من شمول دليل التمام للمقام عدم الشمول.

أو فقل يلزم من فرض المخالفة عدمها ، وهو أمر غير معقول ، ولأجله يستحيل شمول أدلّة التمام للمقام ، فيبقى تحت إطلاقات القصر وإن كان عاصياً بسفره ويكون ذلك تخصيصاً في أدلّة التمام في سفر المعصية.

ومن هذا القبيل ما لو سافر لغاية محرّمة وهي إتمام الصلاة في السفر تشريعاً فانّ هذا وإن كان سفر معصية إلّا أنّه لا يمكن أن يشمله دليل الإتمام ، لعين المحذور المزبور ، إذ يلزم من الإتمام عدم التشريع ، ومن عدمه انتفاء المعصية وبانتفائها ينتفي التمام ، لوجوب القصر في السفر المباح.

وعلى الجملة : ففي كلّ مورد يلزم من فرض شمول الدليل عدم الشمول يستحيل الشمول ، وعليه فأدلّة التمام لا يعقل شمولها لأمثال المقام ، بل تبقى تحت إطلاقات القصر حسبما عرفت.

(١) لا ريب في وجوب التمام فيما لو كان السفر لأجل هذه الغاية ، لكونه من سفر المعصية كما ذكره (قدس سره) وهذا واضح ، وأمّا لو عرض القصد المزبور في الأثناء فعزم بعد ما قطع شطراً من الطريق على الخروج من الجادّة لغاية محرّمة.

__________________

(*) بشرط أن يكون الباقي بعد المحرّم مسافة كما تقدّم.

١٤١

كان السفر لغاية محرّمة وفي أثنائه يخرج عن الجادّة ويقطع المسافة أو أقلّ (*) لغرض آخر صحيح يقصّر ما دام خارجاً ، والأحوط الجمع في الصورتين.

______________________________________________________

فان كان الخروج قليلاً جدّاً بحيث لا ينقطع به عرفاً نفس السير الأوّل المباح كما لو عاداه شخص أثناء الطريق فنزل ليقتله ومشى لذلك خطوات خارج الجادة ، أو نزل في قرية ثمّ خرج إلى المواضع التي حولها ليسرق متاعاً أو يشرب ماءً غصباً ، أو خرج إلى بستان خارج القرية بغير إذن أهله ، ونحو ذلك من السير اليسير الذي لا يعتنى به ولا يضرّ بصدق كونه في سفر مباح ، فلا ريب في بقائه على التقصير خروجاً ورجوعاً كما هو ظاهر ، وهو خارج عن محلّ الكلام.

وأمّا إذا كان الخروج عن الجادة بمقدار يعدّ عرفاً جزءاً من السفر وقطعة من المسافة المحدودة فقد ذكر في المتن أنّه يتم ما دام خارجاً عن الجادة ، ويقصّر ما دام عليها.

وقد مرّ نظيره في المسألة الثالثة والثلاثين من جعل المدار في القصر والتمام على حال الطاعة والعصيان ، بناءً منه (قدس سره) على أنّ الإباحة قيد في الحكم بالترخّص لا في السفر الذي جعل موضوعاً له. وقد عرفت ما فيه وأنّه لا مناص من رجوعه إلى الموضوع.

وعليه فالحكم بالإتمام لدى خروجه عن الجادّة واضح ، لكونه من سفر المعصية وقتئذ.

وأمّا العود إلى القصر بعد رجوعه إلى الجادة فيتوقّف على كون الباقي مسافة ولو ملفّقة ، للقاعدة الكلّية التي أسلفناك غير مرّة من أنّ من حكم عليه بالتمام لا يعود إلى القصر إلّا مع قصد المسافة على ما يستفاد ذلك من مثل قوله : في

__________________

(*) تقدّم عدم التقصير فيما إذا كان الحلال أقل من المسافة.

١٤٢

[٢٢٧٢] مسألة ٤١ : إذا قصد مكاناً لغاية محرّمة فبعد الوصول إلى المقصد قبل حصول الغرض يتمّ (١) وأمّا بعده فحاله حال العود عن سفر المعصية (*) في أنّه لو تاب يقصّر ،

______________________________________________________

كم التقصير؟ قال (عليه السلام) : في بريدين (١) بالتقريب المتقدّم في محلّه (٢).

ومنه يظهر الحال في عكس ذلك أعني الفرض الثاني ، وهو ما لو كان السفر لغاية محرّمة وفي الأثناء يخرج عن الجادة لغاية مباحة ، كما لو سافر إلى بغداد بنيّة فاسدة وفي الأثناء ذهب إلى زيارة الحسين (عليه السلام) ثمّ عاد إلى الجادّة فقد ذكر في المتن أنّه يقصّر حينئذ ما دام خارجاً ، سواء قطع المسافة أم الأقل منها.

أمّا في الأقل فهو مبني على ما سبق من رجوع القيد إلى الحكم ، وكفاية كون المجموع مسافة ، وقد عرفت ما فيه. فلا تقصير فيما إذا كان الحلال أقل من المسافة.

وأمّا في قطع المسافة فلا ريب في القصر ، لأنّه قصد لسفر مباح ، ولكنّه يختصّ بما إذا كان الخروج بنفسه مسافة لا بضميمة الرجوع ، فلا يكفي التلفيق في المقام إذ هو في رجوعه يقصد الوصول إلى الغاية المحرّمة التي كان قصدها من الأوّل فهذا الرجوع بنفسه سفر المعصية ، ولأجله يسقط عن صلاحية الانضمام.

(١) من سافر إلى محلّ لغاية محرّمة فلا يخلو بعد الوصول إمّا أنّه ارتكبها أو أنّه بعدُ لم يرتكب.

__________________

(*) الظاهر وجوب التمام عليه ما لم يشرع في العود ، سواء أتاب أم لم يتب.

(١) الوسائل ٨ : ٤٥٣ / أبواب صلاة المسافر ب ١ ح ٨ (نقل بالمضمون).

(٢) في ص ٨١.

١٤٣

ولو لم يتب يمكن القول بوجوب التمام لعدّ المجموع سفراً واحداً ، والأحوط الجمع هنا وإن قلنا بوجوب القصر في العود ، بدعوى عدم عدّه مسافراً قبل أن يشرع في العود.

______________________________________________________

لا إشكال في البقاء على التمام في الثاني ، لصدق سفر المعصية ما لم ينته منها وقبل حصولها ، وهذا واضح.

وأمّا في الأوّل فقد مرّ (١) حكمه من حيث الرجوع وأنّه يقصّر إمّا مطلقاً أو في خصوص ما لو تاب على الخلاف المتقدّم.

وأمّا حال البقاء فهل هو ملحق بالعود لانتهاء سفر المعصية بانتهائها فيقصّر لو تاب ، وإلّا فيتم ، لعدّ المجموع سفراً واحداً كما ذكره في المتن ، أو أنّه يبقى على التمام ما لم يشرع في العود؟

الظاهر هو الثاني ، سواء أتاب أم لم يتب ، لما تقدّم (٢) من القاعدة الكلّية من أنّ من حكم عليه بالتمام لا ينقلب إلى القصر ما لم يقصد مسافة جديدة.

وما ذكره في المتن مبني على ما سلكه من رجوع شرطية الإباحة إلى الحكم فموضوع القصر محقّق لكن الحكم منوط بحال الطاعة ، وبعد الفراغ عن الحرام تعود هذه الحالة فيعود القصر.

وقد عرفت (٣) ضعفه وأنّ الإباحة شرط للموضوع نفسه ، فالمسافة التي قطعها حال المعصية لا أثر لها ، بل لا بدّ من استئناف قصد مسافة جديدة والتلبّس

__________________

(١) في ص ١٢٢.

(٢) في ص ٨٢.

(٣) في ص ١٢٨ ١٢٩.

١٤٤

[٢٢٧٣] مسألة ٤٢ : إذا كان السفر لغاية لكن عرض في أثناء الطريق قطع مقدار من المسافة لغرض محرّم منضمّاً إلى الغرض الأوّل (١) فالظاهر وجوب التمام في ذلك المقدار من المسافة ، لكون الغاية من ذلك المقدار ملفّقة من الطاعة والمعصية ، والأحوط الجمع خصوصاً إذا لم يكن (*) الباقي مسافة.

______________________________________________________

بالسير خارجاً في الانتقال إلى القصر ، فمتى شرع في العود مع كونه بنفسه مسافة يقصّر ، وإلّا بقي على التمام.

(١) حكم (قدس سره) حينئذ بوجوب التمام في القطعة الملفّقة من الطاعة والمعصية ، وهو الصحيح ، بناءً على ما تقدّم (١) من صدق سفر المعصية عليها.

كما أنّ ما صنعه (قدس سره) من الاحتياط الاستحبابي بالجمع في محلّه أيضاً لاحتمال اختصاص التمام بالغاية المنحصرة في العصيان وعدم شموله للملفّق وإن كان على خلاف التحقيق حسبما عرفت فيما سبق.

وأمّا ما يظهر من المتن من آكدية الاحتياط فيما إذا لم يكن الباقي مسافة حيث قال : خصوصاً إذا لم يكن ... إلخ ، فلم يظهر وجه لهذه الخصوصية.

والظاهر أنّ العبارة سهو من قلمه الشريف ، لعدم وضوح الفرق بينه وبين ما إذا كان الباقي مسافة فيما هو بصدده من الاحتياط في القطعة الملفّقة ، لعدم تأثير له في ذلك أبداً ، فإنّه مبني كما عرفت على الترديد في صدق سفر المعصية على الملفّق وعدمه ، ولا ربط لذلك بكمّية الباقي ، فمع الصدق يتم وإن كان الباقي مسافة ومع عدمه يقصّر وإن لم يكن الباقي مسافة.

__________________

(*) لم يظهر وجه الفرق بينه وبين ما إذا كان الباقي مسافة.

(١) في ص ١٣١.

١٤٥

[٢٢٧٤] مسألة ٤٣ : إذا كان السفر في الابتداء معصية فقصد الصوم ثمّ عدل في الأثناء إلى الطاعة (١) فإن كان العدول قبل الزوال وجب الإفطار (*) وإن كان بعده ففي صحّة الصوم ووجوب إتمامه إذا كان في شهر رمضان مثلاً وجهان ، والأحوط الإتمام والقضاء.

______________________________________________________

نعم ، هذه الخصوصية إنّما تنفع بالقياس إلى الاحتياط بالجمع في نفس الباقي فانّ في إلحاقه بما سبق إذا لم يكن بنفسه مسافة وعدم الإلحاق كلاماً قد سبق (١). ومن هنا يتّجه الاحتياط فيه ، وإن كان الأظهر التمام كما علم ممّا تقدّم. وأمّا إذا كان بنفسه مسافة فلا شكّ في وجوب القصر ، ولا يجري الاحتياط فيه حتّى استحبابا.

(١) لا شك في لزوم الإفطار فيما إذا كان العدول قبل الزوال ، فانّ سفره حدوثاً وإن لم يكن شرعياً لفقد قيد الإباحة وعدم كونه مسير الحقّ ، ومن ثمّ كان يجب عليه الصيام كالإتمام آن ذاك ، إلّا أنّه بقاءً مصداق للسفر الشرعي.

فهو كمن سافر ابتداء لغاية محلّلة قبل الزوال ، المحكوم بوجوب الإفطار كتاباً وسنّة ، مضافاً إلى ما دلّ على الملازمة بين قصر الصلاة والإفطار ، وقد مرّ (٢) لزوم التقصير في مثل هذا الفرض فكذلك الإفطار.

إنّما الكلام فيما إذا كان العدول المزبور بعد الزوال ، فانّ في الإفطار وعدمه حينئذ تردّداً ينشأ من محكومية الصوم بالصحّة لدى الزوال ، لفقد قيد الإباحة وقتئذ ، الدخيل في موضوع السفر ، فحصوله بعدئذ بمنزلة الخروج إلى السفر بعد

__________________

(*) هذا فيما إذا كان الباقي مسافة وقد شرع في السير.

(١) في ص ١٣٠.

(٢) في ص ١٢٣.

١٤٦

ولو انعكس بأن كان طاعة في الابتداء وعدل إلى المعصية في الأثناء (١) ، فإن لم يأت بالمفطر وكان قبل الزوال صحّ صومه ، والأحوط قضاؤه أيضاً (*) وإن كان بعد الإتيان بالمفطر أو بعد الزوال بطل ، والأحوط إمساك بقيّة النهار تأدّباً إن كان من شهر رمضان.

______________________________________________________

الزوال ، المحكوم بإتمام الصوم بلا إشكال ، وإن وجب التقصير في الصلاة ، لانتفاء الملازمة بين التقصير والإفطار في خصوص هذا المورد بمقتضى النصوص.

ومن أنّ الظاهر من تلك النصوص إحداث السفر وإنشاؤه من البلد بعد الزوال ، فهو حكم للحاضر الذي خرج إلى السفر. ومجرّد كونه محكوماً بالتمام ولو في السفر لا يجعله بمنزلة الحاضر في الوطن. فإلحاق المقام بما لو سافر ابتداءً بعد الزوال قياس لا نقول به ، فاللّازم حينئذ الحكم بالإفطار عملاً بعموم ثبوته لكلّ مسافر ، المعتضد بما دلّ على الملازمة المذكورة وأنّه كلّما قصرت أفطرت (١).

وعلى الجملة : فالتردّد بين هذين الوجهين من غير ترجيح أوجب الإشكال في المسألة ، ولأجله كان مقتضى الاحتياط اللّازم الجمع بين الإتمام والقضاء كما ذكره في المتن ، وإن كانت دعوى الإلحاق المزبور غير بعيدة ، بل لعلّها مظنونة. وكيف ما كان ، فالاحتياط حسن في محلّه ، ولا ينبغي تركه.

(١) تارة يفرض العدول قبل قطع المسافة بنيّة سائغة ، وأُخرى بعده.

__________________

(*) هذا الاحتياط لا يترك ، هذا فيما إذا كان العدول إلى المعصية بعد المسافة ، وأمّا إذا كان قبلها فيتمّ صومه ولو كان بعد الزوال وبعد الإفطار ، غاية الأمر إذا كان بعد الإفطار يجب عليه القضاء أيضاً ، بل مطلقاً على الأحوط.

(١) كصحيحة معاوية بن وهب المتقدّمة في ص ١١٨.

١٤٧

.................................................................................................

______________________________________________________

لا ينبغي التأمل في لزوم البقاء على الصيام في الشق الأوّل ، لكشف عدوله عن عدم تحقّق السفر الشرعي ، وانتفاء موضوع القصر من أوّل الأمر ، إذ الموضوع للحكم لم يكن هو مجرّد القصد ، بل المتعقّب بقطع المسافة بنيّة صالحة ، المنفي حسب الفرض وإن تخيّل تحقّقه لدى تلبّسه بالسفر ، ولأجله كان معذوراً لو أفطر ، فهو محكوم بالصيام واقعاً سواء أفطر أم لم يفطر ، وسواء أكان عدوله قبل الزوال أم بعده.

ولعلّ عبارة الماتن غير ناظرة إلى هذه الصورة ، بل نظره (قدس سره) معطوف إلى الشقّ الثاني ، ولا ريب في بطلان الصوم حينئذ لو كان قد تناول المفطر ، أو كان العدول بعد الزوال.

أمّا الأوّل فواضح ، وكذا الثاني ، إذ هو بمثابة من سافر أوّل النهار وحضر بعد الزوال ، المحكوم بالإفطار بلا إشكال وإن لم يستعمل المفطر في سفره ، وهذا ظاهر.

إنّما الكلام فيما لو عدل قبل الزوال ولم يتناول المفطر ، فانّ في صحّة الصوم حينئذ تأمّلاً ، من أنّ العدول إلى الحرام بمنزلة الوصول إلى المنزل قبل الزوال ، إذ به ينعدم قيد الإباحة المعتبر في الترخّص أو في موضوعه على الخلاف المتقدّم (١) ، فيجب عليه حينئذ تجديد النيّة وإتمام الصوم كما هو الحال في الراجع إلى بلده قبل الزوال.

ومن أنّ الصوم الشرعي هو الإمساك في مجموع النهار المسبوق بالنيّة قبل طلوع الفجر ، والاكتفاء بتجديدها قبل الزوال مخالف للقاعدة ، فيقتصر فيه على مقدار قيام النصّ (٢) ، ومورده المسافر الذي يصل بلده أو محلّ إقامته قبل زوال

__________________

(١) في ص ١٢٨ ١٢٩.

(٢) الوسائل ١٠ : ١٨٩ / أبواب من يصحّ منه الصوم ب ٦ ح ١ ، ٤ ، ٥ وغيرها.

١٤٨

[٢٢٧٥] مسألة ٤٤ : يجوز في سفر المعصية الإتيان بالصوم الندبي ، ولا تسقط عنه الجمعة ولا نوافل النهار والوتيرة ، فيجري عليه حكم الحاضر (١).

السادس : من الشرائط أن لا يكون ممّن بيته معه (٢) كأهل البوادي من العرب والعجم الذين لا مسكن لهم معيّناً ، بل يدورون في البراري وينزلون في محلّ العشب والكلأ ومواضع القطر واجتماع الماء ، لعدم صدق المسافر عليهم ، نعم لو سافروا لمقصد آخر من حجّ أو زيارة أو نحوهما قصّروا (*) ولو سافر أحدهم لاختيار منزل ، أو لطلب محلّ القطر أو العشب وكان مسافة ففي وجوب القصر أو التمام عليه إشكال (**) ، فلا يترك الاحتياط بالجمع.

______________________________________________________

الشمس. والتعدّي عنه إلى المقام قياس لا نقول به. فلا دليل على جواز التجديد فيما نحن فيه ، ومقتضى عموم منع الصيام في السفر البقاء على الإفطار.

ولأجل التردّد بين هذين الوجهين كان مقتضى الاحتياط اللّازم الجمع بين الصيام والقضاء كما نبّه عليه الأُستاذ (دام ظلّه) في تعليقته.

(١) لظهور ما دلّ على سقوط هذه الأحكام عن المسافر في خصوص السفر الشرعي المحكوم عليه بالقصر ، دون التمام ، فينصرف عن السفر الحرام ، ويؤيِّده قوله (عليه السلام) : «... يا بنيّ لو صلحت النافلة في السفر تمّت الفريضة» (١) فإنّه كالصريح في دوران السقوط مدار قصر الصلاة وعدمه.

(٢) وإلّا أتمّ صلاته ولو كان طيلة حياته في سفر ورحيل ، بلا خلاف فيه ويدلّ عليه مضافاً إلى عدم صدق المسافر عليه كما ذكره في المتن ، إذ السفر

__________________

(*) هذا إذا لم يصدق عليهم أنّ بيوتهم معهم ، ولعلّ هذا هو مراد الماتن (قدس سره).

(**) والأظهر وجوب التمام عليه إذا كان بيته معه ، وإلّا وجب عليه القصر.

(١) الوسائل ٤ : ٨٢ / أبواب أعداد الفرائض ونوافلها ب ٢١ ح ٤.

١٤٩

.................................................................................................

______________________________________________________

مأخوذ من السفور والبروز ، المتوقّف على فرض سكونة في البلد ، وأن يكون للشخص قرار واستقرار كي يصدق السفر متى خرج وبرز ، فلا يشمل دائم الحركة ومن لا مقرّ معيّن له.

موثّقة إسحاق بن عمار قال : «سألته عن الملّاحين والأعراب هل عليهم تقصير؟ قال قال : لا ، بيوتهم معهم» (١). ولا يضرّها الإضمار ، فانّ جلالة ابن عمار تأبى عن الرواية عن غير الإمام (عليه السلام).

المؤيّدة بمرسلة الجعفري : «الأعراب لا يقصّرون ، وذلك أنّ منازلهم معهم» (٢). وهذا الحكم في الجملة ممّا لا إشكال فيه.

إنّما الإشكال فيما لو خرج هذا الدوّار لغاية أُخرى كاختيار منزل يقيم فيه أياماً ، أو طلب محلّ القطر أو العشب ، أو لأمر واجب أو مستحب من حجّ أو زيارة وكان مسافة ، فهل يقصّر ، أو يتم ، أو يفصّل بين الغاية الدنيوية كتحصيل مكان فيه عشب فيتم ، والأُخروية كالزيارة فيقصّر؟

الظاهر هو التفصيل بين ما إذا كان بيته معه في هذه الحركة أيضاً كأن يجعل أحد موارد سيره الحجّ أو الزيارة مثلاً فيبقى حينئذ على التمام ، نظراً إلى أنّ وضعه الجديد بمسافته الجديدة لا يختلف عن السابق ، ويصدق عليه في كلتا الحالتين أنّ بيوتهم معهم ، المذكور في الموثّق. وبين ما لو أبقى بيته من خيم وفسطاط وأمتعة ونحوها وخرج بنفسه لمقصده كسائر المسافرين فيجب القصر لصدق عنوان السفر حينئذ ، وعدم شمول الموثّق له بعد أن لم يكن بيته معه. فهذا هو المناط في الحكم بالقصر أو التمام.

فرع : لو كان له مقرّ اتّخذه مسكناً ولكنّه حين السفر يأخذ بيته معه ، فله

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٤٨٥ / أبواب صلاة المسافر ب ١١ ح ٥.

(٢) الوسائل ٨ : ٤٨٦ / أبواب صلاة المسافر ب ١١ ح ٦.

١٥٠

السابع : أن لا يكون ممّن اتّخذ السفر عملاً وشغلاً له (١) كالمكاري والجمال والملاح والساعي والراعي ونحوهم ، فإنّ هؤلاء يتمّون الصلاة والصوم في سفرهم الذي هو عمل لهم وإن استعملوه لأنفسهم كحمل المكاري متاعه أو أهله من مكان إلى مكان آخر

______________________________________________________

بيت متنقّل سيار فيه من الأثاث ما يحتاج إليه من خيم وفراش ومتاع ونحوها من لوازم البيت ، ويسير لغاية دنيوية أو أُخروية ، فهل يقصّر في هذه الصورة ، أو يتم نظراً للبيت الذي استصحبه؟

الظاهر وجوب القصر ، لصدق اسم المسافر عليه عرفاً ، غايته أنّه مسافر متمكّن يأخذ معه جميع وسائل الراحة ، ومثله لا يكون مشمولاً للموثّق ولا للمرسل ، لظهورهما في من يكون بيته ومنزله معه ، لا من يأخذ معه ما يحتاج إليه في سفره ، فليس هذا ممّن بيته معه ، فإنّه منصرف عن ذلك كما لا يخفى.

نعم ، لو كان لهذا الشخص بيتان بيت مستقر وآخر غير مستقر ، فله مقرّ في الشتاء مثلاً ، ورحلة في الصيف يطلب العشب والكلأ ولا يستقر في مكان ، فهذا في حكم ذي الوطنين ، وهو في الحقيقة مورد لانطباق عنوانين ، عنوان المتوطِّن وعنوان من بيته معه حسب اختلاف الزمانين ، فيتم أيضاً إذا ارتحل من مقرّه فإنّه بعدُ في بيته ولكن في بيته الآخر ، ولأجله يجب التمام في كلا البيتين.

(١) كما دلّت عليه صحيحة زرارة ، قال «قال أبو جعفر (عليه السلام) : أربعة قد يجب عليهم التمام في سفر كانوا أو حضر : المكاري والكري والراعي والاشتقان لأنّه عملهم» (١) ورواه الصدوق في الخصال مثله إلّا أنّه ترك لفظ «قد» (٢) ولعلّه

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٤٨٥ / أبواب صلاة المسافر ب ١١ ح ٢.

(٢) الخصال : ٢٥٢ / ١٢٢.

١٥١

.................................................................................................

______________________________________________________

الأنسب.

وكيف ما كان ، فالحكم في الجملة ممّا لا إشكال فيه ولا خلاف ، وإن اختلفت كلماتهم في كيفية التعبير عن هذا الشرط.

فالمشهور عبّروا بأن لا يكون سفره أكثر من حضره ، وعبّر جمع آخرون بأن لا يكون كثير السفر ، ولعلّ المراد منهما واحد ، وإن كان التعبير الثاني أولى كما لا يخفى.

وعبّر غير واحد ومنهم الماتن بأن لا يكون السفر عملاً له ، وهذا التعبير هو المطابق للنص وهو الصحيح المتقدّم.

وأمّا كثرة السفر فلم ترد في شي‌ء من النصوص ، وبين العنوانين عموم من وجه ، إذ قد يكثر السفر للزيارة أو السياحة ونحوهما من غير أن يتّخذه عملاً له ، وربّما يكون عملاً ولكنّه يقلّ لاختصاصه بوقت خاص كفصل الربيع مثلاً وقد يجتمعان كما لو كان السفر عمله طول السنة.

فالتعبير الأخير موافق للتعليل الوارد في صحيحة زرارة المتقدّمة ، المنطبق على العناوين الأربعة المذكورة فيها من المكاري والكري والراعي والاشتقان فانّ السفر عمل لهؤلاء وشغل لهم على تأمل في بعضها كما سيأتي.

أمّا المكاري فهو الذي يكري دابته للسفر ، وأمّا الكري فهو الذي يكري نفسه للخدمة في السفر إمّا لشخص المكاري لأجل إصلاح دابّته ونحوها ، ويكون بمثابة الصانع لسائق السيارة في يومنا هذا ، أو لسائر المسافرين للقيام بحوائجهم في الطريق.

وأمّا الاشتقان فقد فسّره الصدوق بالبريد. ولم يعرف له وجه وإن ورد ذلك في مرفوعة ابن أبي عمير (١) ، إذ مضافاً إلى ضعف السند لم يتّضح كون التفسير

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٤٨٧ / أبواب صلاة المسافر ب ١١ ح ١٢.

١٥٢

.................................................................................................

______________________________________________________

من الإمام (عليه السلام) لجواز كونه تكملة من الصدوق نفسه لا منه (عليه السلام) ولا من ابن أبي عمير. والظاهر أنّ الكلمة غير عربية كما ذكره الشهيد وأنّها معرّب (دشت بان) أي أمير البيادر.

وكيف ما كان ، فالمستفاد من هذه الصحيحة المعلّلة لتمامية الصلاة بقوله (عليه السلام) : «لأنّه عملهم» أنّ الاعتبار في وجوب التمام بعنوان كون السفر عملاً ، فلا عبرة بكثرة السفر ولو تضمّن السنة كلّها ما لم يثبت العمل ، وهذا ممّا لا ينبغي الريب فيه.

كما لا ريب أيضاً في وجوب التمام في الموارد المنصوصة وإن لم يكن السفر عملاً لهم كالاشتقان في الصحيح المتقدّم ، وكالموارد المذكورة في معتبرة إسماعيل ابن أبي زياد عن جعفر عن أبيه ، قال : «سبعة لا يقصّرون الصلاة : الجابي الذي يدور في جبايته ، والأمير الذي يدور في أمارته ، والتاجر الذي يدور في تجارته من سوق إلى سوق ، والراعي ، والبدوي الذي يطلب مواضع القطر ومنبت الشجر والرجل الذي يطلب الصيد يريد به لهو الدنيا ، والمحارب الذي يقطع السبيل» (١).

فانّ من المعلوم انّ هؤلاء ليس شغلهم السفر ، وإنّما السفر مقدّمة لأعمالهم. فهذه العناوين المذكورة في الروايات ملحقة بمن شغله السفر في وجوب التمام بلا كلام ، سواء أصدق عليهم أنّ نفس السفر عملهم أم لا ، وكأنهم بمنزلة من بيته معه.

وإنّما الكلام في أنّ الحكم هل يختصّ بذلك أو يعمّ كلّ من كان له عمل خاص وكان السفر مقدّمة له كالطبيب الذي يذهب كلّ يوم إلى بلد للطبابة ، والمعلم أو المتعلّم الذي يذهب كلّ يوم أو كلّ أُسبوع للدراسة ويرجع ، وكذا البناء والمعمار ونحوهم ممّن شغلهم في السفر ، لا أنّ شغلهم السفر كما في المكاري والملّاح ، فهل

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٤٨٦ / أبواب صلاة المسافر ب ١١ ح ٩.

١٥٣

.................................................................................................

______________________________________________________

يجب عليهم التمام أيضاً مع فرض بلوغ سفرهم حدّ المسافة الشرعية ، أو أنّهم يقصّرون ولا يتعدّى عن الموارد المنصوصة؟

قد يقال بالاختصاص وعدم التعدِّي ، رعاية للتعليل الوارد في صحيح زرارة واقتصاراً في غير مورده على مقدار قيام النص ، فيرجع فيما عدا ذلك ممّن كان السفر مقدّمة لعمله إلى إطلاقات القصر لكلّ مسافر.

وقد يقال بالتعميم والتعدِّي ، نظراً إلى الارتكاز العرفي ، وفهم عدم خصوصية للجابي والتاجر ونحوهما ممّن ورد اسمه في النص ، وأنّ ذلك ليس إلّا من أجل إلحاق من كان السفر مقدّمة لعمله بمن كان السفر عملاً له ، وحينئذ فكلّ من كان على هذه الشاكلة يتم صلاته.

وغير خفي أنّ التعدّي استناداً إلى ما ذكر من الارتكاز وفهم عدم الخصوصية في غاية الإشكال والصعوبة ، وعهدة هذه الدعوى على مدّعيها ، فإنّ أقصى ما يمكن إخراجه من تحت إطلاقات القصر هو عنوان العمل ومن جاء اسمه في الخبر ، ولعلّ هناك خصوصية لا نفهمها ، فكيف يمكننا التعدّي إلى الفاقد لها بعد جهلنا بمناطات الأحكام.

ومع ذلك كلّه فالأظهر هو التعدّي.

أمّا أوّلاً : فلقرب دعوى صدق عنوان من عمله السفر الوارد في النصّ على من عمله في السفر ، فمثلاً لا يبعد أن يقال عرفاً للطبيب الذي يسافر كلّ يوم لبلد آخر لطبابته أنّ السفر عمل له ، ولو كان ذلك الإطلاق بنحو من العناية غير البعيدة عن الفهم العرفي. فلا ندّعي الإلحاق بل ندّعي التوسعة في الإطلاق وأنّ المقام بنفسه مشمول للنصّ. وكم فرق بين الأمرين كما هو واضح.

وثانياً : لو أغمضنا النظر عن ذلك بدعوى أنّ الصدق المزبور مسامحي لا يعبأ به ، فنستظهر من نفس صحيحة زرارة بالرغم من اشتمالها على التعليل أنّ موضوع

١٥٤

ولا فرق بين من كان عنده بعض الدواب يكريها إلى الأماكن القريبة من بلاده فكراها إلى غير ذلك من البلدان البعيدة وغيره (١)

______________________________________________________

الحكم أعم ، وذلك من أجل تضمّنها ذكر أشخاص لا يكون السفر إلّا مقدّمة لعملهم ، ولم يكن بنفسه عملاً لهم كالراعي ، فانّ شغله الرعي وطلب الماء والعشب للغنم ، ومكانه غالباً ولا سيما في القرى معيّن ، فيذهب كلّ يوم إلى ذلك المكان لأجل رعي غنمه ، كما يذهب الطبيب أو المعلّم إلى بلد خاص لطبابته ودراسته.

وكذا الاشتقان ، فإنّه على ما فسّرناه يقصد بسفره أمارة البيادر وحفظها والنظر عليها ، فليس السفر بنفسه شغلاً لا للراعي ولا للاشتقان ، بل هو مقدّمة للعمل ، ومع ذلك نرى أنّ الإمام (عليه السلام) يطلق على هؤلاء بأنّ السفر عمل لهم ، ويعلّل التمام بذلك. فيعلم منه بوضوح أنّه (عليه السلام) وسّع موضوع حكم التمام وجعله شاملاً لما كان السفر مقدّمة للعمل ، من دون أن يقتصر على ما كان بنفسه عملاً.

وبالجملة : ما هو الفرق بين الراعي الذي يبحث عن العشب ليرعى غنمه ويعود ليلاً إلى بلده ، وبين الطبيب الذي يخرج إلى مكان طبابته كلّ يوم ويعود؟ فإنّهما يشتركان بالضرورة في أنّ شغلهم في السفر ، لا أنّ شغلهم السفر. فالحكم بالتمام يعمّهما بمناط واحد حسبما عرفت.

(١) لا ريب في وجوب البقاء على التمام مع تحقّق المسافة الشرعية بالسفر الذي هو شغله أو مقدّمة لشغله وقد سافر بهذا العنوان إلى البلدان البعيدة كالمكاري الذي يكري دابته أو سيارته ما بين النجف وكربلاء فاتّفق أن أكراها إلى البصرة أو الحجّ فسافر إلى تلك البلاد النائية بعنوان كونه مكارياً ، فلا يلزم انحفاظ شخص السفر ، بل يبقى على التمام وإن تبدّل القريب بالبعيد أو بالعكس

١٥٥

.................................................................................................

______________________________________________________

بمقتضى إطلاق الأدلّة.

وهذا واضح لا سترة عليه ، وسيشير الماتن إليه في مطاوي المسائل الآتية (١). وإنّما البحث يقع في موردين :

أحدهما : أنّه لو كان مكارياً أو سائقاً داخل البلد فقط أو خارجه ، ولكن في توابع البلد وضواحيه ممّا يلحق به ، بحيث لا يصدق معه اسم السفر حتّى عرفاً ، كالسائق ما بين النجف والكوفة مثلاً ، فاتّفق أن أكرى دابته أو سيارته خارج البلد متجاوزاً حدّ المسافة الشرعية كما لو أكراها إلى كربلاء ، فهل يقصّر حينئذ أو يبقى على التمام باعتبار ما تلبّس به من عنوان المكاراة أو السياقة؟

الظاهر لزوم التقصير عليه ، بل لا ينبغي التأمّل فيه ، لخروجه عن موضوع التمام ، فإنّه كما عرفت عبارة عمّن عمله السفر أو عمله في السفر ، والمكاراة المفروضة خارجة عن كلا العنوانين ، فإنّها وإن كانت شغلاً له إلّا أنّه ليس سفراً ولا في السفر ، فلا يشملها الحكم ، وهذا واضح.

المورد الثاني : ما لو كان السفر شغلاً له ولكنّه سفر عرفي لا شرعي ، لكونه فيما دون حدّ المسافة الشرعية الامتدادية أو التلفيقية ، كالمكاري بين النجف إلى خان النصف مع كونه أحد منزليه أو يقيم فيه عشرة أيام ، فتكون المسافة أقل من ثمانية ، أو إلى مكان آخر أقل من الأربعة كالخان الأوّل مع قصد الرجوع وعدم المنزل ، فاتّفق السفر لمثل هذا الشخص إلى المسافة الشرعية ، فهل يتم حينئذ بنفس الملاك السابق من احتمال كون عنوان المكاري ممّا يفرض عليه التمامية ، أو يقصّر لأنّ السفر الذي هو عمله ليس من السفر الشرعي ، بل عرفي على الفرض؟

تعرّض الماتن (قدس سره) لمثل هذه الصورة في المسألة الثامنة والأربعين

__________________

(١) كالمسألة [٢٢٨٢].

١٥٦

.................................................................................................

______________________________________________________

الآتية بالنسبة لمن يكون عمله الاحتطاب فيما دون حدّ المسافة على نحو يصدق عليه السفر العرفي ، فاختار لزوم التمام فيما لو تجاوز حدّ المسافة.

ولكن الظاهر وجوب القصر في كلا الموردين ، لأنّ ما دلّ على وجوب التمام لمن عمله السفر بما أنّه بمثابة الاستثناء عن عموم وجوب القصر ، فهو لا جرم ظاهر في السفر الذي يكون موضوعاً للقصر لولا كونه عملاً المختص بالسفر الشرعي البالغ حدّ المسافة ، ولا يعمّ العرفي بوجه ، ففي مثله كما في المقام وكذا الحطاب لا بدّ من التقصير لو تحقّق السفر الشرعي ، عملاً بعمومات القصر لكلّ مسافر.

وربما تشهد لذلك موثّقتان لإسحاق بن عمار :

الاولى : قال فيها : «سألت أبا إبراهيم عن الذين يكرون الدواب يختلفون كلّ الأيام ، أعليهم التقصير إذا كانوا في سفر؟ قال : نعم» (١).

والثانية : عنه قال : «سألته عن المكارين الذين يكرون الدواب وقلت : يختلفون كلّ أيام ، كلّما جاءهم شي‌ء اختلفوا ، فقال : عليهم التقصير إذا سافروا» (٢). والمراد بالاختلاف الذهاب والإياب كلّما جاءهم شي‌ء ، أي عرضهم شغل وحاجة.

والظاهر منهما أنّ السؤال ناظر إلى المكارين الذين يختلفون أطراف البلد لدون المسافة ، بحيث لا يصدق عليهم المسافر شرعاً ، ولذلك سئل عن حالهم فيما لو كانوا في سفر شرعي غير الذي هم عليه كلّ يوم ، فيكون منطبقاً على محلِّ الكلام.

وحملهما على فرض حصول الإقامة عشرة أيام فصاعداً كما في الوسائل ، أو على ما إذا سافر لقصد آخر غير المكاراة كسفر زيارة ونحوها كما في الحدائق (٣)

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٤٨٨ / أبواب صلاة المسافر ب ١٢ ح ٢.

(٢) الوسائل ٨ : ٤٨٨ / أبواب صلاة المسافر ب ١٢ ح ٣.

(٣) الحدائق ١١ : ٣٩٤.

١٥٧

وكذا لا فرق بين من جدّ في سفره بأن جعل المنزلين منزلاً واحداً وبين من لم يكن كذلك (١) ،

______________________________________________________

بعيد جدّاً ، إذ لا شاهد على شي‌ء منهما ، بل الصحيح هو المعنى الذي بيّناه ، غير البعيد عن سياق الكلام حسبما عرفت فلاحظ.

(١) قد وردت في المسألة روايات كثيرة ، ثلاث منها نقيّة السند وهي :

صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام) قال : «المكاري والجمال إذا جدّ بهما السير فليقصّروا» (١).

وصحيحة الفضل بن عبد الملك قال : «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن المكارين الذين يختلفون ، فقال : إذا جدّوا السير فليقصّروا» (٢).

وصحيحة علي بن جعفر في كتابه عن أخيه قال : «سألته عن المكارين الذين يختلفون إلى النيل هل عليهم إتمام الصلاة؟ قال : إذا كان مختلفهم فليصوموا وليتمّوا الصلاة ، إلّا أنّ يجدّ بهم السير فليفطروا وليقصّروا» (٣).

وظاهر هذه النصوص اختصاص التمام الثابت في من شغله السفر بمن لم يجدّ به السير ، وإلّا فحكمه القصر ، فتكون منافية للنصوص المتقدّمة المتضمّنة لوجوب التمام على سبيل الإطلاق.

وقد حملت على محامل عديدة كلّها بعيدة عن الصواب.

منها : ما عن العلّامة (قدس سره) من الحمل على ما لو قصد المكاري إقامة

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٤٩٠ / أبواب صلاة المسافر ب ١٣ ح ١.

(٢) الوسائل ٨ : ٤٩٠ / أبواب صلاة المسافر ب ١٣ ح ٢.

(٣) الوسائل ٨ : ٤٩١ / أبواب صلاة المسافر ب ١٣ ح ٥ ، مسائل علي بن جعفر : ١١٥ / ٤٦.

١٥٨

.................................................................................................

______________________________________________________

عشرة أيام (١) ، نظراً إلى أنّه بعد هذه الفترة المستوجبة للاعتياد على الراحة يصعب عليه المسير بعدئذ ، فطبعاً يجدّ به السير لو بدأ به ، ويكون عسراً وشاقّاً فلأجله يقصّر ، فيكون المراد السفرة الأُولى بعد العشرة ، لاختصاص الجدّ بها كما لا يخفى.

وهذا كما ترى حمل بعيد عن ظاهر النصوص ، لا نعرف له وجهاً أبداً.

ومنها : ما عن الشهيد في الذكرى من الحمل تارة على ما لو أنشأ المكاري والجمال سفراً غير صنعتهما كالحجّ مثلاً بغير مكاراة أو ما شاكل ذلك ممّا لا يكون في نطاق عمله فيجدّ في السير ، وأُخرى على ما إذا كانت المكاراة فيما دون المسافة ويكون جدّ السير بمعنى قصد المسافة (٢).

ومنها : ما عن الشهيد في الروض من الحمل على المكاري أوّل اشتغاله بالمكاراة فيقصد المسافة قبل تحقّق الكثرة (٣) ، ولأجله يجهد عليه السير ويتعب.

ومنها : ما عن الشيخ والكليني (قدس سرهما) (٤) من حمل ذلك على ما إذا أسرع في السير فجعل المنزلين منزلاً فسار سيراً غير عادي ، ولأجله وقع في جدّ وجهد.

واستشهد الشيخ (قدس سره) لذلك بأمرين :

أحدهما : ما رواه في الكافي ، قال : وفي رواية أُخرى : «المكاري إذا جدّ به السير فليقصّر ، قال : ومعنى جدّ به السير جعل المنزلين منزلاً» (٥).

__________________

(١) المختلف ٢ : ٥٣١ المسألة ٣٩١.

(٢) الذكرى ٤ : ٣١٧.

(٣) الروض : ٣٩٠ السطر ٢٢.

(٤) التهذيب ٣ : ٢١٥ ذيل ح ٥٢٩ [حيث حكى ذلك عن الكليني وارتضاه ، وربما يستفاد من الكافي ٣ : ٤٣٧ ذيل ح ٢].

(٥) الوسائل ٨ : ٤٩١ / أبواب صلاة المسافر ب ١٣ ح ٤ ، الكافي ٣ : ٤٣٧ ذيل ح ٢.

١٥٩

.................................................................................................

______________________________________________________

الثاني : مرفوعة عمران بن محمد عن أبي عبد الله (عليه السلام) «قال : الجمال والمكاري إذا جدّ بهما السير فليقصّرا فيما بين المنزلين ويتما في المنزل» (١).

وفي كلا الأمرين ما لا يخفى.

فإنّ الأوّل اجتهاد من الكليني نفسه (٢) ، فهو دراية لا رواية ، فلا شهادة فيه ولم يتّضح مستنده في هذا التفسير ، فانّ «الجدّ» لغة بمعنى الشدّة (٣) ، وأحد مصاديقها في المقام جعل المنزلين منزلاً ، لا أنّها تختصّ به ، وربما يكون جدّ السير من أجل الحر أو البرد ، أو كون الطريق وعراً أو مخوفاً ونحو ذلك.

والثاني : مضافاً إلى ضعف السند من أجل الرفع والإرسال وجهالة حميد بن محمد (٤) قاصر الدلالة ، لعدم التعرّض لتفسير الجدّ بجعل المنزلين منزلاً ، بل غايته التفصيل بالتقصير فيما بين المنزلين والإتمام في نفس المنزل ، وهذا كما ترى أجنبي عمّا نحن بصدده.

وعلى الجملة : فهذه الوجوه كلّها بعيدة وخلاف الظاهر جدّاً ، ولعلّه لذلك عمل بظاهرها جماعة من المتأخّرين كصاحب المدارك (٥) والحدائق (٦) والمعالم (٧)

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٤٩١ / أبواب صلاة المسافر ب ١٣ ح ٣.

(٢) كون التفسير من الكليني نفسه غير واضح وإن أوهمه عبارة الوسائل ، بل ظاهر الكافي ٣ : ٤٣٧ ذيل ح ٢ خلافه.

(٣) المنجد : ٨٠ مادّة جدّ.

(٤) [لم يرد حميد بن محمد في السند ، فيحتمل إرادة عمران بن محمد ، وقد وثّقه الشيخ في رجاله : ٣٦٠ / ٥٣٣٥ ، راجع معجم رجال الحديث ١٤ : ١٦١ / ٩٠٦٩].

(٥) المدارك ٤ : ٤٥٦.

(٦) الحدائق ١١ : ٣٩٣.

(٧) منتقى الجمان ٢ : ١٧٧.

١٦٠