موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ مرتضى البروجردي

وسفر الولد مع نهي الوالدين (*) (١) في غير الواجب ، وكما إذا كان السفر مضرّاً لبدنه (**) (٢) وكما إذا نذر عدم السفر مع رجحان تركه ونحو ذلك

______________________________________________________

زوجها لسفر أو حبس ونحو ذلك إلى زيارة أقاربها أو زيارة الحسين (عليه السلام) مع تستّرها وتحفّظها على بقيّة الجهات ، فانّ هذا ممّا لا دليل عليه بوجه.

(١) هذا أيضاً لا دليل على حرمته ما لم يبلغ حدّ الإيذاء ، إذ لم ينهض دليل على وجوب إطاعة الوالدين على سبيل الإطلاق على حدّ إطاعة العبد لسيِّده.

نعم ، تجب المعاشرة الحسنة والمصاحبة بالمعروف على ما نطقت به الآية المباركة (١) فلا يجوز العداء والإيذاء ، وأمّا الوجوب والتحريم بمجرّد الأمر والنهي فضلاً عن لزوم الاستئذان في كافّة الأفعال وإن لم يترتّب على تركه الإيذاء خصوصاً لو صدر من غير اطلاع منهما أصلاً ، فهو عارٍ عن الدليل.

أجل قد ورد في بعض النصوص أنّه «إن أمراك أن تخرج من أهلك ومالك فافعل» (٢) ، ولكنّ أحداً لا يستريب في أنّ هذا حكم أخلاقي ، وليس بتكليف شرعي كما هو واضح جدّاً.

(٢) وهذا أيضاً لا دليل على حرمته ما لم يبلغ حدّ الإلقاء في التهلكة المنهي عنه في الآية المباركة (٣) ، وإلّا فدون ذلك من الإضرار سيما إذا كان الضرر يسيراً كحمى يوم أو يومين ، ولا سيما إذا كان الغرض خطيراً من تجارة أو

__________________

(*) في كونه من المعصية على إطلاقه تأمّل بل منع.

(**) في إطلاقه إشكال بل منع.

(١) لقمان ٣١ : ١٥.

(٢) الوسائل ٢١ : ٤٨٩ / أبواب أحكام الأولاد ب ٩٢ ح ٤.

(٣) البقرة ٢ : ١٩٥.

١٠١

أو كان غايته أمراً محرّماً كما إذا سافر لقتل نفس محترمة أو للسرقة أو للزنا أو لإعانة ظالم أو لأخذ مال الناس ظلماً ونحو ذلك ، وأمّا إذا لم يكن لأجل المعصية لكن تتّفق في أثنائه مثل الغيبة وشرب الخمر والزنا ونحو ذلك ممّا ليس غاية للسفر ، فلا يجب التمام ، بل يجب معه القصر والإفطار (١).

______________________________________________________

زيارة ونحو ذلك ممّا كان مهمّاً عند العقلاء واستقرّ بناؤهم على الاقتحام وعدم الاعتناء بتلك الإضرار ، فلم تثبت حرمته بوجه كما لا يخفى.

هذا كلّه فيما إذا كان السفر محرّماً في نفسه.

(١) وأمّا ما كانت غايته محرّمة أعني القسم الثاني من سفر المعصية ، فلا إشكال في عدم التقصير فيه ، بل هو المتيقّن من الأخبار ، وقد ذكر كثير من الأمثلة في الروايات المتقدّمة حسبما عرفت.

وقد دلّ عليه صريحاً ما رواه الشيخ بإسناده عن أبي سعيد الخراساني قال : «دخل رجلان على أبي الحسن الرضا (عليه السلام) بخراسان فسألاه عن التقصير فقال لأحدهما : وجب عليك التقصير لأنّك قصدتني ، وقال للآخر : وجب عليك التمام لأنّك قصدت السلطان» (١).

هذا فيما إذا كان السفر لتلك الغاية المحرّمة ، وأمّا إذا لم يكن لأجلها بل اتّفق ارتكاب الحرام في الأثناء كما قد يتّفق في الحضر ، من دون أن يكون غاية للسفر من الكذب والغيبة وشرب الخمر ونحو ذلك فلا يستوجب التمام كما نبّه عليه في المتن ، لقصور الأدلّة عن الشمول له ، فيرجع إلى أصالة القصر على المسافر كما هو ظاهر.

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٤٧٨ / أبواب صلاة المسافر ب ٨ ح ٦ ، التهذيب ٤ : ٢٢٠ / ٦٤٢.

١٠٢

[٢٢٥٨] مسألة ٢٧ : إذا كان السفر مستلزماً لترك واجب كما إذا كان مديوناً وسافر مع مطالبة الديّان وإمكان الأداء في الحضر دون السفر (١) ونحو ذلك ، فهل يوجب التمام أم لا؟ الأقوى التفصيل بين ما إذا كان لأجل التوصّل إلى ترك الواجب أو لم يكن كذلك ، ففي الأوّل يجب التمام دون الثاني لكن الأحوط الجمع في الثاني.

______________________________________________________

(١) لا يخفى أنّ هذه المسألة لا تبتني على النزاع المعروف في مسألة الضد من أنّ أحدهما هل هو مقدّمة لترك الآخر ، أو أنّ عدمه مقدّمة لوجود الآخر أو لا ، بل يحكم بوجوب التمام في المقام فيما إذا سافر لغاية التوصل إلى ترك الواجب كما ذكره في المتن وإن أنكرنا المقدّمية في تلك المسألة رأساً.

فإنّ العقل كما يحكم بقبح المعصية وحسن الطاعة ولذلك كان الأمر والنهي المتعلّقان بهما إرشاديين ، كذلك يحكم بقبح تعجيز النفس عن أداء الواجب ، بأن يفعل ما يتعذّر معه الامتثال ، ويكون من قبيل أنّ الممتنع بالاختيار لا ينافي الاختيار.

وهذا كما لو ذهب إلى مكان يعلم بأنّ هناك من يصدّه عن صلاة الفريضة ، أو يجبره على ارتكاب الجريمة من شرب خمر ونحوه ، فانّ هذا كلّه قبيح عقلاً وإن كان التكليف في ظرفه ساقطاً شرعاً لقبح خطاب العاجز ، إلّا أنّ العقاب في محلّه ، لانتهائه إلى الاختيار حسبما عرفت.

وعليه فتعجيز النفس عن أداء الدين المطالب باختيار السفر مع التمكّن منه في الحضر قبيح عقلاً ، لكونه امتناعاً بسوء الاختيار ، ومعه لم يكن سفره مسير حقّ جزماً ، فلا جرم يكون مورداً لوجوب التمام ومشمولاً للأدلّة المتقدِّمة.

١٠٣

[٢٢٥٩] مسألة ٢٨ : إذا كان السفر مباحاً لكن ركب دابّة غصبية ، أو كان المشي في أرض مغصوبة فالأقوى فيه القصر ، وإن كان الأحوط الجمع (١).

______________________________________________________

هذا فيما إذا قصد بسفره ذلك ، أي التوصّل إلى ترك الواجب ، وأمّا لو لم يكن بهذا القصد ، بل لغاية أُخرى مباحة أو راجحة كزيارة الحسين (عليه السلام) فمجرّد التلازم الواقعي مع ترك الواجب لا يستوجب اتّصاف السير بالباطل ولا يخرجه عن مسير الحق ليكون مشمولاً لتلك الأدلّة ، فإنّ التعجيز القبيح وإن ترتّب في هذه الصورة أيضاً وتحقّق خارجاً إلّا أنّه لا ينطبق على نفس السفر ما لم يكن لتلك الغاية القبيحة. فالسفر إذن لم يكن معصية وقبيحاً لا بنفسه ولا بغايته ليكون مصداقاً للمسير بغير الحق ، بل هو باق تحت أصالة القصر حسبما عرفت.

ونتيجة ذلك كلّه : صحّة التفصيل المذكور في المتن ، وإن كان الاحتياط بالجمع في الصورة الثانية ممّا لا ينبغي تركه.

(١) قد عرفت (١) انتفاء القصر فيما إذا كان السفر بنفسه أو بغايته معصية.

وأمّا لو كان مقروناً بالمعصية كما لو ركب دابة غصبية ، أو مشى في أرض مغصوبة ، أو كان ثوبه أو محمول آخر أو نعل دابته غصبياً فهل الحكم هو التمام أيضاً في الجميع كما عن الجواهر (٢) ، أو يفصّل بين سلوك الأرض المغصوبة وبين غيره ويختصّ التمام بالأوّل كما عن المحقّق الهمداني (٣) ، أو يحكم بالتقصير مطلقاً كما قوّاه في المتن؟ وجوه ، أقواها الأخير.

__________________

(١) في ص ٩٤ وما بعدها.

(٢) الجواهر ١٤ : ٢٦٠.

(٣) مصباح الفقيه (الصلاة) : ٧٤٢ السطر ٨.

١٠٤

.................................................................................................

______________________________________________________

والوجه فيه : أنّ السفر بعنوانه الأوّلي أعني الابتعاد عن الوطن والانتقال ببدنه إلى خارج البلد لا يكون بما هو محرّماً ما لم ينطبق عليه بعض العناوين الموجبة لذلك من نهي الوالد أو الزوج ، أو الإلقاء في التهلكة وما شاكل ذلك ممّا تقدّم ، أو يكون لغاية محرّمة قد نهى الشارع عنها ، فيجب التمام في كلّ من هاتين الحالتين بمقتضى النصوص كما مرّ (١).

أمّا إذا لم يكن السفر مورداً لانطباق شي‌ء من الحالتين ، فلم يكن محرّماً لا بعنوانه الأوّلي أو الثانوي ، ولا بغايته ، بل كان مقارناً وملازماً لعنوان محرّم من غير انطباق عليه بوجه ، فهو خارج عن نطاق تلك الأدلّة ومحكوم بأصالة القصر.

ولا ريب أنّ الأمثلة المتقدّمة كلّها من هذا القبيل ، ضرورة أنّ الغصب إنّما ينطبق على التصرف في الدار ، أو الكون في الأرض الغصبية ، أو استصحاب مال الغير ، لا على نفس السفر والابتعاد عن الوطن أعني الحركة السيرية الخاصّة من بلد إلى بلد ، وإنّما هو عنوان مقارن معه ، ولا يسري حكم المقارن إلى مقارنة كما هو موضّح في الأُصول في مبحث اجتماع الأمر والنهي (٢).

وعلى الجملة : الركوب على الدابة أو الكون في المكان المغصوب الشاغل للمكان والفضاء شي‌ء ، والسفر والابتعاد وانتقال الجسد من مكان إلى مكان شي‌ء آخر. وليس السير تصرّفاً زائداً على نفس الكون ليكون بحياله مصداقاً للغصب. ولذلك قلنا بجواز الصلاة في المكان المغصوب للمحبوس فيه ، لعدم كون الهيئة الركوعية أو السجودية تصرّفاً آخر زائداً على إشغال الفضاء الذي لا بدّ منه على أيّ حال. وتمام الكلام في محلّه (٣).

__________________

(١) في ص ٩٤ وما بعدها.

(٢) أشار إلى ذلك في محاضرات في أُصول الفقه ٤ : ١٨٣ ، ٢٦٥ ، ٢٦٩.

(٣) شرح العروة ١٣ : ٢٦.

١٠٥

[٢٢٦٠] مسألة ٢٩ : التابع للجائر إذا كان مجبوراً (١) أو مكرهاً على ذلك ، أو كان قصده دفع مظلمة أو نحوها من الأغراض الصحيحة المباحة أو الراجحة قصّر ، وأمّا إذا لم يكن كذلك بأن كان مختاراً وكانت تبعيّته إعانة للجائر في جوره وجب عليه التمام وإن كان سفر الجائر طاعة ، فإنّ التابع حينئذ يتمّ مع أنّ المتبوع يقصّر.

______________________________________________________

وعلى الجملة : فهما عنوانان متغايران مأخوذان من مقولتين متباينتين ، فلا انطباق ولا اتحاد ، بل مجرّد التقارن والتلازم ، ولا يسري حكم الملازم إلى صاحبه.

وأوضح حالاً مقارنة اللباس المغصوب مع المسافر ، أو حمل شي‌ء مغصوب معه ، فانّ هذا أجنبي عن مفهوم السفر بالكلّية ، فهو كالنظر إلى الأجنبية ، لا دخل له في الحقيقة بوجه ، ولا يرتبط بالسفر بتاتاً. فما يتحقّق به السفر مباح وسائغ وإن قورن بنقل مال الغير معه غصباً.

وأوضح مثال لذلك ما لو سافر مع صديق له يروي له قصصاً مكذوبة ، فهل يكون السفر محرّماً بذلك؟

وكلّ هذا يختلف عمّا لو كان السفر بنفسه مضرّاً للبدن ، فإنّه يكون محرّماً لانطباقه على نفس السفر ، بخلاف حمل المغصوب أو ركوبه أو الدخول في الأرض المغصوبة ، فإنّ ذلك كلّه أجنبي عن حقيقة السفر التي هي الابتعاد عن الوطن ولذلك وجب التمام في الأوّل دون الثاني حسبما عرفت.

(١) أي مضطرّاً إلى ذلك كما لو توقّفت معيشته على تبعيته ولم تكن له مندوحة أو كان مكرهاً ، أو كان من قصده دفع المظلمة كما كان موقف علي بن يقطين مع طاغوت عصره ، فإنّه يقصّر حينئذ ، لعدم كون سفره معصية لا بنفسه ولا بغايته كما هو ظاهر.

١٠٦

[٢٢٦١] مسألة ٣٠ : التابع للجائر المعدّ نفسه لامتثال أوامره بالسفر فسافر امتثالاً لأمره (١) فان عدّ سفره إعانة للظالم في ظلمة كان حراماً ووجب عليه التمام وإن كان من حيث هو مع قطع النظر عن كونه إعانة مباحاً ، والأحوط الجمع (*) وأمّا إذا لم يعدّ إعانة على الظلم فالواجب عليه القصر.

______________________________________________________

وأمّا لو انتفى كلّ ذلك فكان مختاراً في سفره ، واتصفت التبعية بكونها إعانة للجائر في جوره فكان التابع معدوداً من أعوان الظلمة لكونه كاتباً للجائر أو موجباً لمزيد شوكته مثلاً ، الذي هو محرّم بلا إشكال ، وجب التمام حينئذ على التابع ، لحرمة سفره وإن كان المتبوع بنفسه يقصّر لعدم قصده المعصية ، أو كون سفره طاعة كما لو كان في سبيل حجّ بيت الله الحرام.

(١) كما لو كان له خادم يخدمه في أُموره الشخصية فأمره بالسفر ، فتارة لا يرتبط السفر بجوره ولا يعدّ إعانة على ظلمه كما لو أمره بالحجّ عنه ، ففي مثله يجب القصر ، إذ لا معصية في سفره بوجه. وأُخرى يعدّ السفر المباح في حدّ ذاته إعانة للظالم في ظلمة المستوجب لحرمته الفعلية ، كما لو حكم بحكم جوري وبعث خادمه لإيصال هذا الحكم إلى البلد الفلاني لتنفيذه ، فيكون مثل هذا السفر معصية وحراماً ، ولا شكّ في وجوب التمام عندئذ.

ولا ندري ما هو وجه الاحتياط بالجمع المذكور في المتن ، فانّ السفر إن كان حراماً وجب التمام وإلّا فالقصر ، والمفروض في المقام هو الأوّل كما صرّح (قدس سره) به ، فما هو وجه الاحتياط بعد هذا.

__________________

(*) لم يظهر وجه الاحتياط بعد فرض حرمة السفر.

١٠٧

[٢٢٦٢] مسألة ٣١ : إذا سافر للصيد فان كان لقوته وقوت عياله قصّر بل وكذا لو كان للتجارة ، وإن كان الأحوط فيه الجمع ، وإن كان لهواً كما يستعمله أبناء الدُّنيا وجب عليه التمام (١).

______________________________________________________

(١) قسّم (قدس سره) سفر الصيد إلى ثلاثة أقسام :

الأوّل : أن يسافر للصيد لينتفع بثمنه ، ويعبّر عنه بالصيد للتجارة.

الثاني : أن يسافر للصيد لقوت نفسه وعياله وضيوفه.

الثالث : أن تكون الغاية من سفر الصيد التلهِّي ، لا الانتفاع بالثمن ولا التقوّت به ، وإنّما يقصد الترف والأُنس كما هو شأن الملوك والأُمراء وغيرهم من أبناء الدنيا ، ويسمّى بصيد اللهو.

أمّا في القسم الأخير : فلا خلاف كما لا إشكال في عدم التقصير ، ولم ينسب الخلاف إلى أحد إلّا على تفصيل يأتي إن شاء الله تعالى (١).

وإنّما الكلام في أنّه حرام أيضاً ولأجله يتمّ ، أو أنّه تعبّد محض؟ نسب إلى المشهور كما عن السرائر الحرمة (٢).

وخالف المقدّس البغدادي فأنكر الحرمة ، لعدم الدليل على حرمة اللهو إلّا في موارد خاصّة من اللعب اللهوي كالقمار واستعمال النرد والشطرنج والمزمار ونحو ذلك من الموارد المنصوصة ، وأمّا غير ذلك ومنه صيد اللهو فلا دليل على حرمته.

__________________

(١) في ص ١١٩ وما بعدها.

(٢) [لاحظ السرائر ١ : ٣٢٧ ، حيث لم يحكِ الحرمة عن المشهور].

١٠٨

.................................................................................................

______________________________________________________

وجعل (قدس سره) ذلك بمثابة التنزّه في البساتين والتفرّج بالمناظر الجميلة وغيرها ممّا قضت السيرة القطعية بإباحتها ، فكما أنّ اللهو في غير الصيد مباح فكذا في الصيد.

وقد نقل صاحب الجواهر كلام المقدّس بطوله لكي يظهر أنّه بفتواه خالف النصّ والفتوى ، بل قال (قدس سره) : كأنه اجتهاد في مقابلة النص (١).

وادّعى المحقّق الهمداني (قدس سره) (٢) أنّ مقالة المقدس إنّما تخالف الفتاوى دون النصوص ، إذ النصوص إنّما دلّت على وجوب التمام فقط ، ولا ملازمة بينه وبين حرمة السفر.

وبعبارة اخرى : ليس في الأخبار ما يدل على التحريم عدا الإشعار في بعضها ، وهي صحيحة حماد الآتية ، لمكان اقتران الباغي بالسارق ، الكاشف عن الحرمة بمقتضى وحدة السياق.

ولا بدّ لنا من عرض الأخبار لنرى مدى دلالتها.

فمنها : ما رواه الكليني بإسناده عن حماد بن عثمان عن أبي عبد الله (عليه السلام) : «في قول الله عزّ وجلّ (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) قال : الباغي باغي الصيد ، والعادي السارق ، وليس لهما أن يأكلا الميتة إذا اضطرا إليها ، هي عليهما حرام ، ليس هي عليهما كما هي على المسلمين ، وليس لهما أن يقصِّرا في الصلاة» (٣).

وسند الرواية معتبر وإن اشتمل على معلّى بن محمد ، لوجوده في أسناد كامل

__________________

(١) الجواهر ١٤ : ٢٦٤.

(٢) مصباح الفقيه (الصلاة) : ٧٤٣ السطر ٣٣.

(٣) الوسائل ٨ : ٤٧٦ / أبواب صلاة المسافر ب ٨ ح ٢ ، الكافي ٣ : ٤٣٨ / ٧.

١٠٩

.................................................................................................

______________________________________________________

الزيارات ، نعم عبّر عنه النجاشي بأنّه مضطرب الحديث والمذهب (١).

ولكن اضطراب المذهب لا يضرّ بوثاقة الرجل كما لا يخفى ، وأمّا اضطراب الحديث فقد فسّره علماء الرجال بعدم الاستقامة ، وعدم كون الأحاديث على نسق واحد ، بل بعضها معروفة وبعضها منكرة غير مقبولة ، فهو يحدّث بكلّ ما سمع وعن أيّ شخص كان. وهذا لا يقتضي طعناً في وثاقه الرجل بنفسه بوجه كما هو ظاهر. إذن فتوثيق ابن قولويه سليم عن المعارض.

ومع الغضّ عن ذلك فهذه الرواية بعينها ينقلها الشيخ في التهذيب في أبواب الأطعمة المحرّمة بسند صحيح لا إشكال فيه (٢).

وأمّا الدلالة فالظاهر أنّها قاصرة ، لأنّ الباغي إن كان من البغي بمعنى الظلم فهو مفسّر في بعض الروايات بالخروج على الإمام ، فيخرج من محلّ الكلام ولا يمكن إرادته في المقام ، إذ لا معنى لظالم الصيد ، فلا بدّ وأن يكون من البغية بمعنى الطلب ، أي طالب الصيد ، ولكنّه لا يدلّ على الحرمة.

ووقوعه في سياق السارق المحكوم بحرمة عمله لا يقتضيها نظراً إلى الحكم عليهما الباغي والعادي بمنع أكل الميتة حتّى حال الاضطرار. ومعلوم أنّ ذلك ليس بمناط التحريم ليدّعى اشتراكهما فيه بمقتضى وحدة السياق ، وإلّا فمن البديهي أنّ القاتل أعظم إثماً من السارق ، وشارب الخمر أشدّ فسقاً من طالب الصيد ، وهكذا من يرتكب سائر المحرّمات في السفر أو الحضر ، ومع ذلك لا يمنع من أكل الميتة لدى الاضطرار بلا خلاف فيه ولا إشكال.

فيعلم من ذلك بوضوح أنّ هذا حكم تعبّدي خاص بهذين الموردين

__________________

(١) رجال النجاشي : ٤١٨ / ١١١٧.

(٢) الوسائل ٢٤ : ٢١٥ / أبواب الأطعمة المحرّمة ب ٥٦ ح ٢ ، التهذيب ٩ : ٧٨ / ٣٣٤.

١١٠

.................................................................................................

______________________________________________________

طالب الصيد والسارق فلا تدلّ على الحرمة بوجه ، بل لا إشعار فضلاً عن الدلالة كما لا يخفى.

ومنها : رواية ابن بكير قال : «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يتصيّد اليوم واليومين والثلاثة أيقصّر الصلاة؟ قال : لا ، إلّا أن يشيّع الرجل أخاه في الدين ، فان التصيّد (الصيد) مسير باطل لا تقصّر الصلاة فيه ، وقال : يقصّر إذا شيّع أخاه» (١).

دلّت على أنّ عدم قصر الصلاة ليس حكماً تعبّدياً ، بل من أجل أنّه باطل وظاهر البطلان الحرمة ، وإلّا فالبطلان في الفعل الخارجي لا معنى له بعد وضوح عدم إرادة البطلان في باب العقود والإيقاعات. فالمسير الباطل أي ليس بحقّ المساوق لقولنا : ليس بجائز ، وهو معنى الحرمة. فهي من حيث الدلالة تامّة لكن السند سقيم بسهل بن زياد ، فلا تصلح للاستناد.

ومنها : موثّقة عبيد بن زرارة قال : «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يخرج إلى الصيد أيقصّر أو يتم؟ قال : يتم ، لأنّه ليس بمسير حقّ» (٢).

ولا نقاش في سندها ، كما لا ينبغي التأمّل في دلالتها ، حيث دلّت على أنّ الإتمام ليس لعنوان الصيد ، بل من أجل أنّه ليس بحقّ ، المساوق لكونه معصية.

ولا أدري كيف عبّر المحقّق الهمداني عن مفادها بالإشعار (٣) بعد وضوح دلالتها بصراحة التعليل كما عرفت في أنّ عدم التقصير ليس لموضوعية للصيد ، بل من أجل عدم كونه مسير الحقّ ، أي ليس بسائغ مرخّص فيه فيكون حراماً بطبيعة الحال.

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٤٨٠ / أبواب صلاة المسافر ب ٩ ح ٧.

(٢) الوسائل ٨ : ٤٧٩ / أبواب صلاة المسافر ب ٩ ح ٤.

(٣) مصباح الفقيه (الصلاة) : ٧٤٣ السطر ٣٣.

١١١

.................................................................................................

______________________________________________________

ولا بعد في الالتزام بذلك كما أشار إليه في الجواهر حيث قال : إنّ البغدادي استبعد ما لا بعد فيه ، إذ أيّ مانع من الالتزام بالتفكيك بين الصيد وغيره من سائر أقسام اللهو ممّا قام الإجماع والسيرة بل الضرورة على جوازه بعد مساعدة النصّ ، فيبنى على استثناء هذا الفرد من سائر أقسامه (١).

ولا يبعد أن يكون السبب أنّ قتل الحيوان غير المؤذي جزافاً وبلا سبب سدّ لباب الانتفاع به للآخرين في مجال القوت أو الاتجار ، ففيه نوع من التبذير والتضييع ، فلا يقاس بسائر أنواع اللهو.

وكيف ما كان ، فما ذكره المشهور من حرمة صيد اللهو ودخوله في سفر المعصية هو الصحيح.

وأمّا القسم الثاني : أعني السفر الذي يتصيّد فيه لقوت نفسه وعياله ، فلا إشكال في جوازه ، ولم يستشكل فيه أحد ، بل الآية المباركة قد نطقت بجوازه صريحاً ، قال تعالى (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ) (٢).

والروايات الدالّة على ذلك كثيرة جدّاً ، مذكورة في باب الصيد والذباحة بل ربما يكون واجباً لو توقّف القوت أو الإنفاق الواجب عليه. كما لا إشكال في تقصير الصلاة فيه.

وتدلّنا على ذلك جملة من الروايات التي تستوجب ارتكاب التقييد فيما سبق من المطلقات من صحيحتي حماد وعمار بن مروان (٣) وغيرهما ممّا دلّ على الإتمام في سفر الصيد ، بحملها على غير هذا النوع من الصيد جمعاً.

فمنها : موثّقة عبيد بن زرارة المتقدّمة : «عن الرجل يخرج إلى الصيد أيقصّر

__________________

(١) الجواهر ٤ : ٢٦٤.

(٢) المائدة ٥ : ٩٦.

(٣) المتقدّمتين في ص ١٠٩ ، ٩٥.

١١٢

.................................................................................................

______________________________________________________

أو يتم؟ قال : يتم ، لأنّه ليس بمسير حقّ» (١).

فانّ التعليل يخصّص كما أنّه يعمّم ، ويستفاد منه اختصاص المقام بمسير ليس بحقّ ، وأمّا الحقّ السائغ كما في المقام فيجب التقصير فيه ، وبه تقيّد تلك المطلقات.

ومنها : صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : «سألته عمّن يخرج عن أهله بالصقورة والبزاة والكلاب يتنزّه الليلة والليلتين والثلاثة هل يقصّر من صلاته أو لا؟ قال : إنّما خرج في لهو ، لا يقصّر» (٢) ، فانّ كلمة «إنّما» تفيد الحصر ، فتدلّ على ثبوت التقصير في الصيد لغير اللهو كما في المقام.

ومنها : ما رواه الشيخ بإسناده عن إسماعيل بن أبي زياد عن جعفر عن أبيه قال : «سبعة لا يقصّرون إلى أن قال : والرجل يطلب الصيد يريد به لهو الدنيا ، والمحارب الذي يقطع السبيل» (٣).

فانّ الوصف وإن لم يكن له مفهوم بالمعنى المصطلح إلّا أنّه يدلّ على عدم تعلّق الحكم بالطبيعة المطلقة ، وإلّا لأصبح القيد لغواً ، فلا يكون مطلق الصيد موجباً للتمام ، بل خصوص اللهوي ، ويبقى غيره تحت أصالة القصر للمسافر.

وتؤيِّده مرسلة عمران بن محمد بن عمران القمّي عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال «قلت له : الرجل يخرج إلى الصيد مسيرة يوم أو يومين أو ثلاثة أيقصِّر أو يتم؟ فقال : إن خرج لقوته وقوت عياله فليفطر وليقصّر وإن خرج لطلب الفضول فلا ولا كرامة» (٤).

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٤٧٩ / أبواب صلاة المسافر ب ٩ ح ٤.

(٢) الوسائل ٨ : ٤٧٨ / أبواب صلاة المسافر ٩ ح ١.

(٣) الوسائل ٨ : ٤٧٧ / أبواب صلاة المسافر ب ٨ ح ٥ ، التهذيب ٣ : ٢١٤ / ٥٢٤.

(٤) الوسائل ٨ : ٤٨٠ / أبواب صلاة المسافر ب ٩ ح ٥.

١١٣

.................................................................................................

______________________________________________________

فإنّها صريحة في المطلوب ، وإن لم تصلح للاستدلال من جهة الإرسال. وبهذه النصوص يرتكب التقييد في المطلقات المتقدّمة وتحمل على غير الصيد للقوت حسبما عرفت.

وأمّا القسم الأوّل : أعني سفر الصيد للتجارة فلا إشكال في جوازه كما ظهر ممّا مرّ ، وإنّما الكلام في أنّه هل يقصّر ويفطر ، أو يتمّ ويصوم ، أو يفصّل بينهما فيتمّ الصلاة ويفطر؟ فيه وجوه :

أمّا الإتمام والصوم فلا قائل به أصلاً ، وإن كان موجوداً في الفقه الرضوي (١). ولكنّه لا يعتنى به كما سنبيِّن (٢).

ولكن التفصيل منسوب إلى ثلّة من الأكابر من قدماء الأصحاب ، فقد نقله العلّامة في المختلف (٣) عن الشيخ في النهاية (٤) والمبسوط (٥) والمفيد (٦) والصدوق (٧) وابن البراج (٨) وابن حمزة (٩) وابن إدريس (١٠).

__________________

(١) فقه الرضا : ١٦١.

(٢) في ص ١١٨.

(٣) المختلف ٢ : ٥٢١ / المسألة ٣٨٨.

(٤) النهاية : ١٢٢.

(٥) المبسوط ١ : ١٣٦.

(٦) المقنعة : ٣٤٩.

(٧) [والمقصود هنا هو علي بن بابويه].

(٨) المهذّب ١ : ١٠٦ [وفيه : فقد ورد أنّه يتم الصلاة ويفطر الصوم].

(٩) لاحظ الوسيلة : ١٠٩ [حيث قال فيها : ويلزمه التقصير في الصلاة دون الصوم].

(١٠) السرائر ١ : ٣٢٧ ٣٢٨.

١١٤

.................................................................................................

______________________________________________________

ونَسَبَ التقصير في الصلاة والصوم إلى السيِّد المرتضى (١) وابن أبي عقيل وسلار (٢) واختاره هو بنفسه ، وهو المشهور بين المتأخّرين ، فيعلم من ذلك أنّ المسألة خلافية وليست باجماعية ، وإن كان القائل بالتفصيل من القدماء أكثر هذا.

وقد نقل العلّامة في المختلف عن ابن إدريس أنّه روى أصحابنا بأجمعهم أنّه يتم الصلاة ويقصّر الصوم ، وحكى نظيره عن المبسوط وأنّه قال : إذا كان للتجارة دون الحاجة فقد روى أصحابنا أنّه يتمّ الصلاة ويفطر الصوم.

وقد تعرّض العلّامة لهذه المسألة في غير المختلف أيضاً كالتحرير (٣) والمنتهى (٤) ولكنّه تعرّض إليها في هذا الكتاب تفصيلاً وبنطاق أوسع.

أقول : يقع الكلام أوّلاً في أنّ ما حكاه الشيخ وابن إدريس من أنّه روى أصحابنا هل هذه رواية مرسلة كي يلتزم بحجّيتها بناءً على مسلك الجبر بالعمل أو أنّه ليست هناك رواية مرسلة أصلاً.

الظاهر هو الثاني ، لأنّ ابن إدريس أسند الرواية إلى جميع الأصحاب مصرّحاً بكلمة (بأجمعهم) وكذا الشيخ على ما يقتضيه التعبير بالجمع المضاف ، مع أنّها لم توجد في شي‌ء من الكتب لا الحديثية ولا الاستدلالية ، حتّى أنّ الشيخ بنفسه أيضاً لم يذكرها لا في التهذيب ولا الاستبصار ولا غيرهما ، وكيف تنسب رواية إلى الكلّ وإلى جميع الأصحاب وهي لا توجد في مصدر من المصادر ولم ينقلها

__________________

(١) جمل العلم والعمل (رسائل الشريف المرتضى ٣) : ٤٧ [حيث لم يفصّل بين الصيد وغيره].

(٢) المراسم : ٧٤ ٧٥ [حيث لم يفصّل بين الصيد وغيره].

(٣) التحرير : ٥٦ السطر ١١.

(٤) المنتهي ١ : ٣٩٢ السطر ٣٠.

١١٥

.................................................................................................

______________________________________________________

ولا واحد منهم ، وهل هذا إلّا صريح الكذب المنزّهة عنه ساحتهم المقدّسة.

وعلى الجملة : لو عبّرا بمثل أنّه روي كذا ، أو وردت رواية ، أو روى بعض الأصحاب ، ونحو ذلك ، لأمكن أن يقال : إنّ هناك رواية دلّت على التفصيل بين الصلاة والصيام ولم تصل إلينا ، ولكن مع ذلك التعبير ولا سيما التأكيد بكلمة (بأجمعهم) في كلام ابن إدريس لا يمكن أن لا تروى ولا تذكر في شي‌ء من الكتب.

فلأجل هذه القرينة القاطعة ، وكذا بعد ملاحظة المختلف يظهر أنّ الشيخ وابن إدريس استدلّا بهذه الروايات الموجودة بأيدينا ، المضبوطة في الكتب الأربعة وغيرها ، ولأجله صحّ أن يقال إنّه روى أصحابنا بأجمعهم.

وكيف ما كان ، فقد استدلّ بعدّة من الروايات :

منها : مرسلة عمران بن محمد بن عمران القمي قال «قلت له الرجل يخرج إلى الصيد مسيرة يوم أو يومين أو ثلاثة يقصّر أو يتم؟ فقال : إن خرج لقوته وقوت عياله فليفطر وليقصّر ، وإن خرج طلب الفضول فلا ولا كرامة» (١).

يقول العلّامة (٢) : إنّ الشيخ (قدس سره) استدلّ بهذه الرواية على التفصيل المذكور ، نظراً إلى أنّ مفهومها انتفاء التقصير فيما إذا لم يكن خروجه لقوته وقوت عياله ، الشامل لما إذا كان للتجارة بمقتضى الإطلاق.

ولكنّه (قدس سره) لم يتعرّض للجزء الآخر من الدعوى وهو الإفطار ، بل اقتصر على إتمام الصلاة فقط.

ولا بدّ من تتميمه بأن يقال : إنّ مفهوم القضيّة الشرطية وإن كان هو انتفاء التقصير والإفطار معاً إلّا أنّ الثاني ثابت قطعاً بمقتضى الإجماع ، إذ لا قائل

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٤٨٠ / أبواب صلاة المسافر ب ٩ ح ٥.

(٢) المختلف ٢ : ٥٢٤ المسألة ٣٨٨.

١١٦

.................................................................................................

______________________________________________________

بوجوب الصيام في سفر الصيد للتجارة ، فلأجله يرفع اليد عن المفهوم بالإضافة إلى الصوم ويقتصر على الصلاة.

وعليه فيصحّ أن يقول الشيخ وابن إدريس : إنّه روى أصحابنا بأجمعهم يعني في خصوص الصلاة ، للرواية الموجودة ، وأمّا الإفطار فللإجماع.

ولكن الاستدلال واضح الضعف ، أوّلاً : لإرسال الرواية.

وثانياً : أنّ مفهوم قوله (عليه السلام) : «إن خرج لقوته وقوت عياله» إلخ ، أنّ خروجه إن كان لغير القوت فلا يفطر ولا يقصّر ، وهذا مطلق يشمل الخروج للهو وللتجارة ، فليقيّد بالأوّل ويراد من الخروج للفضول هو اللهو فقط. وبذلك قد تحفّظنا على إطلاق الجزاء ، وأخذنا بكلا الجزأين ، وراعينا الملازمة بين الصلاة والصيام وأبقيناها على حالها.

ولا بشاعة في هذا التقييد بعد أن قيّدنا إطلاقات الإتمام في سفر الصيد بما إذا لم يكن للقوت ، لأجل التعليل بعدم كونه مسير الحقّ كما مرّ.

ويشهد له في المقام قوله (عليه السلام) : «فلا ولا كرامة» إذ لا موجب لنفي الكرامة عن التجارة وهي محبوبة ومرغوب فيها وراجحة شرعاً ، بل قد تجب لو توقّف الإنفاق عليها. فهذا التعبير يكشف عن أنّ المراد خصوص صيد اللهو كما ذكرنا ، إذن فلا دلالة في هذه الرواية على التفصيل في صيد التجارة بوجه.

فالاستدلال ضعيف جدّاً وإن صحّ قول الشيخ : إنّه روى أصحابنا ، كما عرفت ، غاية الأمر أنّه اعتقد أنّها تدلّ على التفصيل المزبور ، ولا نقول به.

ومنها : موثّقة عبيد بن زرارة المتقدّمة : «عن الرجل يخرج إلى الصيد أيقصّر أو يتم؟ قال (عليه السلام) : يتم ، لأنّه ليس بمسير حقّ» (١).

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٤٧٩ / أبواب صلاة المسافر ب ٩ ح ٤.

١١٧

.................................................................................................

______________________________________________________

وقد ادّعى العلّامة (قدس سره) (١) دلالتها على الإتمام في سفر الصيد مطلقاً ولكن خرج ما كان لأجل القوت إمّا للإجماع القطعي أو لخبر عمران القمّي المتقدّم ، فيبقى الباقي محكوماً بالتمام ومنه سفر التجارة. غير أنّه (قدس سره) ناقش بضعف السند نظراً إلى أنّ ابن بكير فطحي.

ولكن الأمر بالعكس ، فإنّها نقية السند ، لوثاقة الرجل وإن كان فطحياً فاسد المذهب ، إلّا أنّها قاصرة الدلالة ، إذ التعليل ببطلان المسير يستدعي التخصيص بصيد اللهو المحكوم بالحرمة ، فلا تعمّ التجارة التي هي محلّ الكلام.

ومنها : رواية ابن بكير المتقدّمة أيضاً : «عن الرجل يتصيّد اليوم واليومين والثلاثة أيقصّر الصلاة؟ قال : لا إلى أن قال : فانّ التصيّد مسير باطل ...» إلخ (٢) بعين التقريب المتقدّم مع جوابه ، مضافاً إلى أنّها ضعيفة السند بسهل بن زياد.

فهذه الروايات الثلاث لا يتم الاستدلال بشي‌ء منها.

أضف إلى ذلك كلّه ما دلّ على الملازمة بين القصر والإفطار كما في صحيحة معاوية بن وهب : «إذا قصّرت أفطرت ، وإذا أفطرت قصّرت» (٣) أثبتت التلازم بين الأمرين ، إلّا أن يدلّ دليل على التخصيص ، ولا دليل عليه في المقام ، لعدم نهوض رواية تدلّ على التفصيل.

نعم ، هو موجود في الفقه الرضوي كما مرّت الإشارة إليه ، فقد تعرّض لصيد التجارة في موضعين ، وذكر في أحدهما التفصيل المذكور ، وفي موضع آخر قال :

__________________

(١) لاحظ المختلف ٢ : ٥٢٤ ٥٢٥ المسألة ٣٨٨.

(٢) الوسائل ٨ : ٤٨٠ / أبواب صلاة المسافر ب ٩ ح ٧.

(٣) الوسائل ١٠ : ١٨٤ / أبواب من يصح منه الصوم ب ٤ ح ١.

١١٨

ولا فرق بين صيد البر والبحر (١) ،

______________________________________________________

إنّه يتمّ صلاته ويصوم (١).

ولكن الاستدلال به في غاية الضعف ، أوّلاً : للتدافع والتناقض في نفس الكتاب بين مورديه حسبما عرفت.

وثانياً : ما أشرنا إليه مراراً من عدم الاعتبار بهذا الكتاب بتاتاً ، إذ لم يثبت كونه رواية فضلاً عن حجّيتها.

ولا يحتمل أن يكون هذا مدركاً للقول بالتفصيل في المسألة جزماً ، كيف وقد عبّر ابن إدريس بأنّه روى أصحابنا بأجمعهم ، وكذا الشيخ كما مرّ ، ولم يجمع الأصحاب على رواية الفقه الرضوي بالضرورة ، بل إنّ الشيخ بنفسه لم يستند إليها في شي‌ء من كتبه ، وكذا ابن إدريس وغير واحد من الأصحاب.

والمتحصّل من جميع ما قدّمناه : أنّ الأقوى ما عليه جميع المتأخّرين وبعض المتقدّمين كالمرتضى وسلار من الحكم بالتقصير صلاة وصياماً في سفر الصيد للتجارة كالقوت ، لأنّهما مسير حقّ ، فيبقيان تحت أصالة القصر حسبما عرفت.

(١) أمّا في الصيد للقوت أو التجارة فلا إشكال فيه لإطلاق الأدلّة ، وأمّا في الصيد اللهوي فربّما يدعى الاختصاص بالأوّل كما احتمله في الجواهر ، نظراً إلى أنّ ذلك هو المتعارف بين المترفين والأُمراء وأبناء الدنيا الذين يخرجون مع الصقور والبزاة والكلاب (٢) ، فيكون ذلك موجباً لانصراف النصوص إليه. فالمقتضي قاصر بالإضافة إلى صيد البحر.

__________________

(١) فقه الرضا : ١٦٢ ، ١٦١.

(٢) الجواهر ١٤ : ٢٦٧.

١١٩

كما لا فرق بعد فرض كونه سفراً بين كونه دائراً حول البلد وبين التباعد عنه (١)

______________________________________________________

ويندفع بما هو المقرّر في محلّه من أنّ التعارف الخارجي لا يستوجب الانصراف المانع عن التمسّك بالإطلاق (١).

ونصوص المقام وإن كان مورد بعضها خصوص البرّ كما في صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : «سألته عمّن يخرج عن أهله بالصقورة والبزاة والكلاب» إلخ (٢) إلّا أنّ جملة أُخرى منها مطلقة تشمل البرّ والبحر كصحيحة عمار بن مروان وموثّقة عبيد بن زرارة (٣) وغيرهما. فاطلاقات النصوص محكّمة.

مضافاً إلى ما في بعضها من التعليل بأنّه ليس بمسير حقّ ، المشترك بين البرّ والبحر. فلا فرق في وجوب التمام بين الأمرين.

(١) المستند في هذا التفصيل المنسوب إلى بعض الفقهاء صحيحتان ، إحداهما : صحيحة عبد الله بن سنان : «عن الرجل يتصيّد ، فقال : إن كان يدور حوله فلا يقصّر ، وإن كان تجاوز الوقت فليقصر» والأُخرى : صحيحة العيص بن القاسم التي هي بنفس المضمون (٤).

ولكنّه كما ترى ، فانّ المراد من الدورانِ الدورانُ حول البلد الذي لا يبلغ حدّ المسافة كما هو المتعارف كثيراً في الصيد حول البلد ، ولأجله يتمّ الصلاة ، في مقابل الشق الثاني المشار إليه بقوله : «وإن كان تجاوز الوقت» أي تجاوز الحدّ المعيّن في الشرع والميقات المضروب للسفر ، أعني المسافة المقرّرة التي هي ثمانية

__________________

(١) محاضرات في أُصول الفقه ٥ : ٣٧٣.

(٢) الوسائل ٨ : ٤٧٨ / أبواب صلاة المسافر ب ٩ ح ١.

(٣) المتقدّمتين في ص ٩٥ ، ١١٧.

(٤) الوسائل ٨ : ٤٧٩ / أبواب صلاة المسافر ب ٩ ح ٢ ، ٨.

١٢٠